كتاب صور من تأذي النبي في القرآن/د.عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,783
التفاعل
17,901 114 0
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي
المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين ، وسيد الخلق أجمعين.. سيدنا محمد الأمين، أدى الرسالة ، وبلّغ الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة .. نشهد بذلك ونسأل الله أن يحشرنا تحت لوائه ويسقينا من حوضه، إنه سميع مجيب.
إنه لمن الفضل الله تعالى عليّ أن الأخ الكريم الدكتور-طلال الدرويش- من لبنان يدرس معي اللغة العربية في ثانوية دبي، في الإمارات العربية المتحدة اقترح أن يكتب كل منّا موضوعا يفيد المسلمين، ويكون ذخرا له يوم القيامة.
كان اقتراحه مثار اهتمامي .. لكنْ ماذا أكتب، وأيَّ موضوع اختار؟.. وحين آذن الله تعالى بالأمر جاءت الفكرة دون عناء.. فقد قصدتُ المسجد الذي أصلي فيه منذ وطئت قدماي أرضَ الإمارات منذ ثلاثة عشر عاماً.
مسجد عمر بن الخطاب في الشارقة فإمامه الشيخ أحمد نصر حفظه الله، أكرمه الله بحفظ القرآن الكريم فآياته تجري على لسانه كما يجري المَعينُ العذب البارد متحدراً يدغدغ المشاعر ويشنف الآذان بأعذب الألحان وأفصح الألفاظ.. يحرص على تسلسل القراءة فيبدأ بسورة البقرة.. وينتهي في بضعة أشهر بسورة الناس.
وفي أواخر الشهر الماضي أكتوبر، تشرين الأول من عام خمسةٍ وتسعينَ وتسعِ مائةٍ وألف للميلاد كان يقرأ من سورة التوبة الآيات 56- 66.
{ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}،

{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُم ...(61)ْ} .

ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..
وهكذا كان.

وأنا إذ أقدم هذا الكتاب إلى الإخوة الأحباب أنبّه إلى أنني استعنت بعدة تفاسير على رأسها تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، و" في ظلال القرآن " للشهيد سيد قطب، وأذكر أنني نقلت صفحاتٍ من تفسير سيد قطب ونوَّهتُ إلى ذلك.. فليس المهم أن تكون الكتابة بأسلوبي- وستجده إن شاء الله أسلوبا أدبيا- أو هكذا أظن.. لكنَّ الأهم أن تصل الفكرة إليك مصوِّرة تصويراً واضحاً ما عرَض للرسول الكريم، فتكونَ نبراسا يقودك إلى التأسي به والسير على خطواته.. فهو سيدنا وقائدنا.
من التزم منهجه رشد، ومن اهتدى بهديه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم.
والله من وراء القصد.
عثمان قدري مكانسي
1 /12 / 1995

طريقة العرض

1 - أكتب الآيات التي أبغي تناولها في رأس الموضوع.
2- القضايا المكررة أمثال التكذيب والافتراء والاستهزاء، والسحر تناولتها موضوعاً خاصاً لا علاقة له بحادثة معينة.
3- الحادثة الخاصة التي تتكرر في موضوعها مرةً أو مرتين تناولتها مرة واحدة، ونوهت إلى مكانها كحفظ الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة، وسورة يس.

يتبع













 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)
الدكتور عثمان قدري مكانسي

(1) سورة البقرة/ الآيات [104- 108]


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهَ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}.


تذكر الروايات أن السبب في نهي الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم "راعنا"، أن اليهود كانوا يُميلون ألسنتهم في نطق هذا اللفظ وهم يوجهونه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى يؤدي معنى آخر مشتقاً من الرعونة والطيش، فقد كانوا يخشون أن يشتموا النبي صلى الله عليه وسلم مواجهة فيحتالون في سبه- صلوات الله عليه وسلامه- عن هذا الطريق الملتوي الذي لا يسلكه إلاّ صغار السفهاء، ومن ثم جاء النهيُ للمؤمنين عن اللفظ الذي يتخذه اليهودُ ذريعة، وأمروا أن يستبدلوا به مرادفه في المعنى { انظرنا }، الذي لا يملك السفهاء تحريفه وإمالته فيفوّتون على اليهود غرضهم الدنيء، الذي يدل على مدى غيظهم وحقدهم ويشي بسوء أدبهم وخِسّة وسيلتهم وانحطاط سلوكهم.

والنهيُ الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله تعالى لنبيه وللجماعة المسلمة ودفاعه- سبحانه- عن أوليائه من كل كيد وقصدٍ شرّير من أعدائهم الماكرين، فقد اختص الله تعالى المسلمين بفضل عظيم هو الإيمان به والعمل في سبيله ونشر شريعته فامتلأتْ صدورُ اليهود بالحقد عليهم والعداء لهم، فليحذروا أعداءهم وليتمسكوا بما يحسدهم عليه هؤلاء الأعداء من الإيمان وليشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه.
ويجمع القرآنُ بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر، وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة، فهما على قَدَمٍ سواء من هذه الناحية، وكلاهُما يُضمر للمؤمنين الحقد والضغينة ولا يود لهم الخير، وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين وأن يختارهم الله لهذا الخير، وينزل عليهم هذا القرآن، ويَحْبُوهم بهذه النعمة، ويعهد إليهم بأمانة العقيدة في الأرض، وهي الأمانة الكبرى في الوجود، ونرى اليهود لخبثهم ودهائهم يشكِّكون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ويشكِّكون بقبول الله تعالى لصلاتهم وعبادتهم قائلين: هذا نبيكم فرض عليكم الصلاة إلى المسجد الأقصى سنةً ونصف السنة أو أكثر ثم رأى أن تتجهوا إلى مكة حيث البيت الحرام، فلعل صلاتكم السابقة إلى القدس غيرُ مقبولة. وقد رأى محمدٌ - متردداً- أن يحصرها أخيراً في المسجد الحرام فها أنتم معشر المسلمين ضيّعتم زمناً من عمركم في صلاتكم إلى المسجد الأقصى.

ويبدو أن هذه الحملة الخبيثة آتتْ ثمرتها الكريهة في نفوس بعض المسلمين، فأخذوا يسالون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلق وزعزعة، ويطلبون الأدلة والبراهين، الأمر الذي لا يتفق مع الطمأنينة المطلقة إلى القيادة، والثقة المطلقة بمصدر العقيدة، فنزل القرآن يبين لهم أن نسخ بعض الأوامر والآيات يتبع حكمة الله الذي يختار الأحسن لعباده، ويعلم ما يصح لهم في كل موقف، ويبين لهم أن هدف المرجفين من اليهود ردّهم عن دينهم إن استطاعوا .

ويحرك الله تعالى نفوس المؤمنين وقلوبهم للاتجاه في الطريق الصحيح الذي يُرضي الله تعالى وهو الإذعان لأوامر الله وعدم إزعاج رسوله الكريم بكثرة الأسئلة التي اتسم اليهود بالإكثار منها لرسول الله موسى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ } ؟

فهو استنكارٌ لتشبّه بعض المؤمنين بقوم مرسى في تعنتهم، وطلبهم للبراهين والخوارق، وإعناتِهم لرسولهم كلما أمرهم بأمر أو كلفهم بتكليف، على نحو ما حكى القرآن عنهم في مواقفَ كثيرة.
فكثرةُ القيل والقال والإلحافُ بالسؤال يبدل الإيمان كفراً وهو الضلال البعيد:
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }.
وما أشده من تحذيرٍ، وما أسوأ الضلال من نهاية، هده النهاية التي صار إلها بنو إسرائيل،
نسال الله تعالى الهدى والعافية
يتبع
 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

(2) سورة البقرة / [ الآيات 146- 147]​


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }(147)


معرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة، وهي مثل يُضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه .
وروي أن عمرَ رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمداً صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ قال: نعم، وأكثر .
بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنَعْته، فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه.
فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكذبونه؟! ولم يكتمون الحق الذي جاء به
وهم يعلمون صِدقه وصدق ما جاء به، فلئن أمرهم أن يجعلوا قبلتهم الأولى القدسَ لقد صدق فيما أمره به ربُّه ولئن أعادهم إلى القِبلة الثانية لقد صدق فيما أمره به ربه، بقي على المسلمين أن يعرفوا الحكمة من ذلك :
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ (143)}(البقرة) .

فالتوجه إلى القبلة الأولى- المسجد الأقصى- كان اختباراً لإيمان المسلمين من العرب! الذين لا يرضَون عن المسجد الحرام بديلاً إلَّاّ إذا أخلصوا دينهم لله، فإنْ فعلوا ذلك نجحوا في الاختبار وصاروا أهلاً لحمل دينه ونشره في بقاع الأرض، واللهُ تعالى يعرف إخلاصهم قبل أن يختبرهم فهو يعلم السر وأخفى، ولكنه تعالى يريد أن يظهر المكنون من الناس حتى يحاسبهم عليه ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم- لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم بلْ على ما يصدر منهم بالفعل.
ولن يستطع الانسلاخ من الرواسب الشعورية إلاّ المخلصُ في عبوديته لله، المنصهر في دعوته.. وقد نجح المسلمون في هذا الاختبار فأعيدوا إلى قبلتهم الأولى ليس لأنها الأولى، إنما لأنها الرمز الجديد والقبلة الجديدة لهذا الدين العظيم.
إذاً فالحق من الله . والمؤمن لا يمتري ولا يجادل فيما يأمره الله به، والنهي عن الامتراء للمؤمنين يدنيهم من الرضا والسكينة، وقد خوطبوا في شخص نبيهم العظيم، وحاشا لرسول الله أن يمتري أو يشك يوماً، فحين قال له ربه في آية أخرى :
{ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)}(يونس) .
قال لا أشك ولا أسأل.
فلا ينبغي لمسلم أن يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم وليس له أن يأخذ من هؤلاء الذين يستيقنون الحق، ثم يكتمونه شيئاً من أمر دينهم الذي يأتيهم به الصادق الأمين.
إنّ اليهود خاصة وأهل الكتاب عامة يدسّون السموم في دراستهم لقرآننا وسيرة نبينا وشريعة ديننا.
فكيف نتلقى عنهم تاريخنا الذي شوهوه، ونأمنهم على القول في تراثنا وسيرة أوائلنا، ونرسل إليهم طلابنا يدرسون على أيديهم علم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم تم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير .
إنّ القرآن يحذرنا منهم ومن تخرصاتهم، ويصرفنا عن الاستماع إليهم والثقة بهم، فلنا طريقنا ولهم طريقهم .
يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن، المجلد الثاني، ص 1061 :
إنّ أهل الكتاب يعلمون جيداً الحقيقة في هذا الدين، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهم -جيلاً بعد جيل- يدرسون هذا الدين دراسة عميقة، ويُنقِّبون عن أسرار قوته، وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها، ويبحثون بجدٍ كيف يستطيعون أن يفسدوا القوةَ الموجِّهة في هذا الدين ؟ كيف يُلقونَ بالريب والشكوك في قلوب أهله ؟ كيف يحرِّفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدُّون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركةٍ دافعةٍ ، تحطم الباطل والجاهلية، وتسترِدُّ سلطانَ الله في الأرض، وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله لله، إلى حركة ثقافية باردة، والى بحوث نظرية مّيتةٍ، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ ؟ كيف يفرِّغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه، مدمِّرة له، مع إيهام أهله أنَّ عقيدتهم محترمة مصونة؟
كيف، في النهاية، يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى ليُجْهِزُوا على الجذورِ العاطفية الباقية في العقيدة الباهتة؟
إن أهل هذا الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة، ليس لأنهم يبحثون عن الحقيقة، كما يتوهم السُذَّجُ من أهل الدين! ولا ليُنْصِفُوا هذا الدين وأهلَه، كما يتصور بعضُ المخدوعين حين يرون اعترافاً من باحث أو مستشرق بجانبٍ طيب من هذا الدين: كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة لأنهم ييحثون عن مقتلٍ لهذا الدين ! لانهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدُّوها، أو يُميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها !! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها !
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك .. وأدن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا!!

يتبع
 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

(3) سورة البقرة / [ الآيات 217- 218]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}.

- "حصاة يجعلُ منها أعداءُ الله قُبّةٌ ".
- "وقَشّةٌ – على ظنهم – قَصَمَتْ ظَهْرَ البَعيرِ ".
أوليس الذي فعل هذا بعضُ المسلمين على حسن نيّةٍ؟!
فليضعها المشركون تحت المجهر وليكبروها ما شاء لهم أن يكبروا، وليجعلوها سَمَرَ الناس وأحاديثهم لينالوا من المسلمين ونبيهم.. وحين نزل القرآن ذهبت هذه الحملة الظالمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أدراج الرياح، فالشمس حين تَسْطعُ تختفي الدياجير، والنور إذ ينبثق تأوي الخفافيش إلى جحورها.
هذا دأب الباطل يزهو منتفشاً فإذا ظهر الحق ذاب الباطل.. كأن شيئاً لم يكن.
.. وإليك القصة..

جاء في روايات متعددة أنّ سريةٌ لعبد الله بن جحش رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه في ثمانية من المهاجرين، ليس فيهم أحد من الأنصار باتجاه مكة، ومعه كتاب مغلق، وكلّفَهُ أن لا يفتحه حتى يمضي ليلتين.. لماذا لا يفتح الكتاب إلاّ بعد ليلتين؟!.. تدريبٌ على الانضباط والجندية، فلما فتحه وجد فيه:
إذا نظرتَ كتابي هذا فامض حتى تنزل ببطن نخلة، بين مكة والطائف، ترصد قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ولا تُكرهَنَّ أحداً على المسير معك من أصحابك ".
فالرصد ومتابعة أخبار العدو يجعل الجيش المسلم أقربَ إلى تقدير الموقف الصحيح لقوة الأعداء ويبث الثقة في الجندي المسلم، كما أن الأمر لا يُؤتي أُكُلَه إلاّ إذا كان القائم عليه مختاراً له طائعاً من نفسه لايُكْرَهُ عليه، فالإنسان إذا أكرهَ على أمرٍ لم يحسنه، وتفلّت منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة.. والمسلم إذا أتاه أمرٌ من الله ورسوله قال سمعتُ وأطعت، هذا هو الإيمان الحق، ولا يكون مسلماً إلا بهذا التسليم وهذه الطاعة، ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى بطن نخلة أرصُد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن أستكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فانا ماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تخيير.. فالأمر يتطلب تحمل المسؤولية والشعور بعظمة تحمل التباعات، والجهادُ أمانة لا يحملها إلاّ القادر الراغب.. أما الذي يساق دون رغبة منه فلا يمكنه تحمَّل تلك المسؤولية.. ومع التخيير تحريك للعواطف وشحذ للهمم.

إنها- والله- للشهادة التي تطلبون، ولقاء الله الذي ترغبون، وإليه تسعون.. وقال الجميع: نحن لها فقد آتت هذه القيادة الحكيمة أُكُلَها.. لم يتخلف أحدٌ منهم.. حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرَّت عيرٌ لقريش تحمل تجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون، فقتلت السرية عَمْراً بن الحضرمي، وأسرت اثنين، وفَرّ الرابع، وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة، فإذا هي في اليوم الأول من رجب- الشهر الحرام- الذي تعظِّمه العرب وبقيةَ الأشهر الحرم، وقد عظمها الإسلام وأقرّ حرمتها.
فلما قدمت السرِيَّة بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " فوقف العيرَ والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين.
أما أبواق الكفر فإنها بدأت تعزف لحن التشهير برسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. قد استحل محمدٌ وأصحابُه الشهر الحرام.. سفكوا دماء الآمنين.. أسروا الرجال المسالمين.. سلبوا الأموال.. فعلوا عكس ما ادّعوا من حرمة الأشهر الحرم.. إنهم يدْعون إلى السلام ويشنُّون الغارات..
أما اليهود فرقصت طرباً، وشهّرَتْ بالمسلمين، وتفاءلت بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم فقالت: قتل الحضرميَّ عبد الله بن واقد: وقدت الحرب.
وعَمروٌ: عمرت الحرب- والحضرمي: حضرت الحرب.

وتسارعت الدعاية المضللة تُروِّج للحادثة في البيئة العربية، وتُظهر محمداً وأصحابَه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب وينكر مقدساته هو عند ظهور المصلحة!! ونسي هؤلاء المشركون أنهم بدأوا المسلمين العداء، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل.. وصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم:
" يرى أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه ".
نسوا أنهم عذّبوا المسلمين، وآذَوهم، وقتلوا كثيراً ممن آمن منهم ! وألجأوهم إلى الهجرة، وحجزوا دورهم وأموالهم، ومنعوا الضعفاء من السفر، وأذاقوهم الهوان ألواناً.. نسوا أنهم كذَّبوا نبيهم، وألَّبُوا العرب عليه، ووصفوه بشتى الصفات القبيحة .. شانهم شأن أعداء الله في كل مكان وكل زمان، فهم نسخة تتكرر على مر العصور،وكَرِّ الدهور، لا يَرْعَوُنَ إلَّاً ولا ذمة.
ونزلت الآية الكريمة تشد أَزْرَ المسلمين وتُقرَّر أن القتال في الشهر الحرام كبيرة، نعم! لا شك في ذلك.. لكنَّ صدَّ المشركين المسلمين عن البيت الحرام ،والصدُّ عن سبيل الله والكفرُ به وإخراجُ المسلمين من مكة.. أكبرُ عند الله، وما فعله المشركون فتنة كله.. والفتنة أشد من القتل.

إن المشركين بغاة، انتهكوا المقدسات، واعتدوا على حرمات الله، وآذَوا أولياءه فهم المعتدون ابتداءً، وكان على المسلمين قتالهم، أنَّى ثقفوهم.
وكان على المسلمين ألا يَدَعوهم يحتمون بستار زائف من الحُرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة!!.
لقد كانت كلمة المشركين التي شددت النكير على المسلمين في قتل الحضرمي وأَسْرِ رفيقه كلمةَ حقٍ أُريد بها باطل- وكان التلويحُ بحرمة الشهر الحرام مجردَ ستارٍ يحتمون خلفه لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.

"إن التاريخ يعيد نفسه فاليوم يشن أعداء الإسلام حملة شعواء على الملتزمين بدينهم، الداعين إلى تحكيم شرع ربهم، المنافحين عن عقيدتهم، الباذلين دماءهم وأموالَهم وراحتهم لدين الله، ويَصِموُنهم بأقذعِ الكلمات، ويَصفونهم بأسوأ الصفات، ويتناسون أنهم هم قد انحرفوا عن دين الله، وباعوا أنفسهم للشيطان والمشركين من أهل الكتاب.
والقرآن يقرر أن أعداء الله، مجتمعين، مصممون على قتال المسلمين، وإيذائهم، ليردُّوهم عن دينهم.. إن استطاعوا.. ولكن هيهات أن يعود من ذاق حلاوة الإيمان، وامتزج بنور اليقين، وعرف سعادة التقوى، هيهات أن يعود المبصرُ أعمى، والسميعُ أصمَّ، والسليمُ سقيماً، فلن تستطيع قوة الأرض مجتمعة أن تنال من عقيدة المؤمن أو تزحزحه عنها.
أما ضعاف الإيمان والمتعلقون بأوهام الدنيا، وأوضار المادة، إن سقطوا في حمأة الكفر، فإن مصيرهم نارٌ تلظى لا يصلاها إلَّا الأشقى.
إن المؤمنين الذين هجروا الدنيا وملذاتها، وتشوقوا للجنة ونعيمها، وجاهدوا في الله حق جهاده يضعون نصب أعينهم رضا الله ورحمته، فيسلَّمون أمرهم إليه، ويتوكلون عليه، وهو الرحيم بهم، الغفور لسيئاتهم، البَرُّ بهم.. وما أعظمَ أن يلجأَ الإنسان في مسيرته إلى الله.. أن يلجأ .. إلى الله..
ولم يقصر عبد الله بن جحش، رضي الله عنه، في توبيخ أعداء الله فيرد عليهم رداً استقاه من القرآن الكريم فأدى وأحسن:

تعُدُّون قتلاً في الحرام عظيمةٌ * وأعظمُ منه لو يرى الرشدَ راشدُ

صدُودُكمُ عما يقول محمدٌ * وكفرٌ به، والله راءٍ وشاهدُ

وإخراجُكم من مسجدِ اللهِ أهلَهُ * لئلا يُرى لله في البيت ساجدُ

فإنَّا وإنْ عيرتمونا بقتله * وأرْجف بالإسلامِ باغٍ وحاسدُ

سقَيْنَا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلةَ لما أوقد الحربَ "واقد"

دماً وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا * ينازعه غُلٌ من القِدِّ عاندُ (1)​

(1) الأبيات من تفسير القرطبي، الجزء الثالث، الصفحة 46.

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة آل عمران (1) / [الآيات 23 - 25]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}.

قال ابن عباس: نزلت الآية الأولى بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتاً فيه جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، وهكذا يفعل الدعاة في كل مكان ينزلونه لأنهم هداة إلى الله يدفعون الناس إلى طاعته في الدنيا، وجنته في الآخرة،
فقال له أحدهم: على أي دين أنت يا محمد؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّي على ملة إبراهيم "

فقال اليهودي مجادلاً: إن إبراهيم كان يهودياً..
ونسي أو تناسى أن دين اليهود على ملة موسى وشرع موسى، وبينه وبين إبراهيم عليهما السلام مئات القرون؟! إن هذا افتئات وادعاءٌ لا لبس فيه، علمه رسول الله فرمى الكرة في هدفهم إذ قال عليه الصلاة والسلام: " فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم

لكنهم لجهالتهم وسوء طويتهم- وأقصد الجالسين جميعاً- أبَوا أن يعودوا إلى التوراة.. ألا ترون الأمر عجيباً أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يدْعُهم إلى القرآن ابتداءً، فهم كافرون به لا يحتكمون إليه، فاختصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف ودعاهم إلى توراتهم، ففيها أن إبراهيم لم يكن يهودياً، وأنهم يرون في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد جادلوا حُبَّاً في الجدال، وأنكروا رغبة في الإِنكار، لم يكن البحث عن الحقيقة رائدَهم ولا التماسُ الحق هدفَهم، فهم يعرفون الحق ولا يريدونه.

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ.. }

سؤال التعجيب والتشهير من الموقف المتناقض الغريب، موقفِ الذين أُوتوا الكتاب الذي أُنْزِلَ على موسى، وهو نصيب من الكتاب، باعتبار كتاب الله هو كلَّ ما أنزَلَ على رُسُله، وقرَّر فيه وحدة ألوهيته وربوبيته، فهو كتابٌ واحد في حقيقته، أُوتِيَ اليهود نصيباً منه والنصارى نصيباً منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول دين الله الواحد.
تعجبٌ من الذين لا يحتكمون إلى شريعتهم ويدّعون أنهم ينتمون إليها!! يُعرضون عنها بأفعالهم على الرغم من تخرصاتهم بأنهم يؤمنون بها.
وهنا لا بد لنا أن نتعجب أكثر من الذين يدَّعون الإسلام ثم يُخْرِجونَ شريعة الله من حياتهم ويَظلون يزعمون أنهم مسلمون.
فهذا المثل الذي ضربه الله في اليهود وتعجب منهم ووبخهم فيه، ينطبق تمام الانطباق على مسلمي القول، كافري الفعل، فالنورُ بل الضياء في كتابهم، وقرآنهم مَلَكَ القلوب وملأ الآفاق، فالعجبُ منهم أشدُّ من العجب من اليهود.

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ }.

ويزداد العجب من يهود، أنهم يُصرُّون على عدم الاحتكام إلى شريعة موسى، وأن الله حين يعذبهم يكتفي أن يدخلهم النارَ أياماً معدودات ثم يعفو عنهم ويدخلهم جنته ونتساءل هنا:
1 - هل أخذوا عهداً من الله أن لا يعذبهم إلَّا أياماً قليلة أم إنه افتراء !!؟
2- وهل يصبر هؤلاء على عذاب هذه المدة، بل على ساعةٍ من عذابٍ بلهَ على لحظةٍ من عذاب النار؟! بلهَ على الاقتراب منها وهي تغلي وتفور، وتأكل مَن فيها وتقول: هل من مزيد؟ بل على النظر إليها دون أن يذوبوا كمداً وحسرةً ويحترقوا بشواظها قبل الوصول إليها؟!! كفرعجيب.
3- ولماذا لا يحتكمون إلى الله إن كانوا موقنين بعدله حقاً؟!!
4 - ولماذا ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين؟ وما يفعل ذلك إلا الذين ملكَتْهم شهواتُهم وأضاعوا عقلهم وعاشوا كالأنعام، بل كانوا أضل سبيلاً..
إنهم ما يقولون هذا إلا افتراءً وضلالاً، فهم غير جادين في إيمانهم، يدَّعونه.
والقولُ نفسه نقوله للمسلمين الذين يدَّعون الإسلام ويزعمون أنهم مسلمون.

{ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

قاعدة عظيمة يسوقها القرآن الكريم: لا يجتمع في قلب واحد[ الخوفُ من الآخرة والحياءُ من الله] ، و [ الإعراضُ عن شرع الله والتبجحُ والوقاحة]،

{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }

وأعتقد أن هذا التهديد وإن كان يُقصد به هؤلاء المفترون الجاحدون إلا أنه تقريرٌ لحالهم وبيانٌ لنهايتهم، فهو سواء هُددوا أم لم يُهدّدوا لن يؤثر في مجرى حياتهم، فقد طُبِع على قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يشعرون. وهو تهديد وتنبيه للعاقلين أن لا يزلوا في مستنقع تحكيم الشهوات وإيثار الهوى.

يتبع
 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة آل عمران (2) / [الآيات 59 - 61]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}.


المباهلة: الملاعنة، والاجتهاد في الدعاء :
قد ينساق الإنسان وراء فكرة فتملك عليه لبه، وينافح عنها ويتخذها عقيدة.. وإلى هنا لا يوجد ضررٌ كبيرٌ من ذلك، إلَّا إذا كانت عقيدة، ينتج عنها مواقف تمسُّ الدين والمبدأ، وتخالف المألوف، وتعاكس المنطق والعقل.. إذ ذاك يجب توضيح الأمر، وبسط القول فيه، ليعود الإنسان
إلى صوابه، فإن توضح له الحق وعرف أنه كان على خطأ وجب عليه العودة إليه، والفَيْءُ إلى جادة الصواب، فإنْ فعل، عفا الله عمّا مضى وبدأت صفحة جديدة مضيئة تجُبُّ ما قبلها.. وانْ ركب الإنسان رأسه بعدما ظهر الحق، فهنا الطامة الكبرى.
فحين زار رفد نصارى نجران مدينةَ النبي صلى الله عليه وسلم، قابلوه عليه الصلاة والسلام، وحادثوه، وحين قال في حق عيسى عليه السلام: إن عيسى عبد الله وكلمته،
أنكروا عليه ذلك، فعيسى لا أب له، وهو بذلك، على حد زعمهم، ليس كالبشر وانْ خرج من بطن امرأة وما دام عيسى كلمةَ الله، فهو- حاشاه- ابنه، وحسبوا أنهم على حق وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غَمَطَ أخاه عيسى حقه، فبدؤوه قائلين: أرنا عبداً خلق من غير أب؟!. . سبحان الله..
وهو القادر على كل شيء.. كان سؤالهم هذا محرجاً.. نعم محرجاً لهم، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أجابهم بسؤال أشد وقعاً على نفوسهم من النبال.. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آدم من كان أبوه؟ أعجبتم من عيسى لا أب له؟! فآدم ليس له أب ولا أم ".
إنَّ على عقولهم القاصرة التي اعتقدت أن عيسى ابن الله لكونه لا أب له، أن يجعلوا من آدم عليه السلام إلهاً - والعياذ بالله- فلا أب له ولا أم.. ولم يهتدوا إلى أن الله إذا أراد شيئاً قال له كن، فيكون.
وذلك قوله تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ـ أي عيسى ـ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ـ أي آدم ـ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}(الفرقان) .

بُهِتَ القوم فما حاروا جواباً.. وأنَّى لدعاة الباطل أن ينطقوا إذا تجلى صوتُ الحق.. وهذه طريقة "الذكر الحكيم " في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري البسيط في أعقد القضايا.. هكذا وبسرعة وبساطة تتجلى حقيقة عيسى وحقيقة آدم.. كيف ثار الجدل حول عيسى؟ وهو جَارٍ وفق السنةِ
الكبرى في يسرٍ ووضوحٍ؟! سنة الخلق والنشأة جميعاً؟!!
إنها النفخة الإلهية، والروح الإلهي، والأمر الإلهي لكلا النبيَّيْن سلام الله عليهما، فلا شبهات، ولا تلبيس، ولا ضلالات..
وحين دعاهم صلوات الله وسلامه عليه إلى الإسلام قالوا متبجحين: قد كنا قبلك مسلمين.. أيُّ صفاقة هذه؟ أليس في إنجيلكم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكنتم- معشر يهود- تنتظرونه لتؤمنوا به؟ ها هو قد جاء، وعرفه سيدكم وكبيركم - العاقب-.
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جابههم مؤكداً ضلالهم:
" كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث:
ا- قولكم اتخذَ اللهُ ولداً
2- وأَكْلَكُمُ الخنزيرَ
3- وسُجُودُكم للصليب ".
ومن الافتراء على الله أن يولد له ولدٌ، وأن يقتله اليهود، وأن يرضى بما فعلوه دون أن يدافع عن ولده.. حاشاه فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد.
وتعجبني هذه الأبياتُ :

عجباً للمسيحِ بينَ النصارى * والى اللهِ والداً نسبوهُ

أسْلَموه إلى اليهودِ وقالوا * إنَّهم بعد قَتْلِهِ صلبُوهُ

فإذا كانَ ما يقولون حقاً * فسلوهم وأين كان أبوهُ؟

فإذا كان راضياً بقضاهم * فاشكروهم لأجلِ ما صنعوهُ

وإذا كان ساخطاً بقضاهم * فاعبدوهم لأنَّهم غَلبُوهُ​

وما زال الناس حتى يومنا هذا يجادلون في الخنزير، وهو بذاته مُنَفِّر للطبع القويم، وقد حرَّمه الله تعالى قبل أن يكشف العلم الحديث أن في دمه ولحمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة (الدودة الشريطية)، وأنه يأكل القاذوراتِ والفضلات الآدميةَ، وأنه دُيوث، إن أراد مواقعةَ أُنْثَاهُ دَعَا كلَّ الخنازير إليها فإن فرغت منها أتاها.
وقد أثبت الطبُّ أن الإنسان يتأثر بلحم ما يأكله سلباً وإيجاباً.
وهذا الصليب يعلق على صدور النصارى ويُتبارك به وهو علم على كنائسهم وشعار لأعلامهم، وكأن الرائي يحسب أنهم فرحون بصلبه، وهو لم يصلب وسيكسر الصليب، ويُقاتل أهله، ويحكم بشريعة الإسلام آخر الزمان.
ولعلم الله تعالى أن النصارى مُجادلون مُمارون، طلب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتجنب المماراة، وما كان صلى الله عليه وسلم ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عن ربه في لحظة من لحظات حياته، وإنما هو التثبيت على الحق للرسول ولأمته من بعده.
ولكي ينهي القرآن الكريم الجدلَ والمناظرةَ حول هذه القضية، أمر اللهُ فيه الرسول الكريم أن يدعو النصارى إلى المباهلة، فيجمعَ الطرفان أبناءهم ونساءهم، ويقفا متقابلَيْن.. جمع النصارى أمام آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، إن كان النصارى موقنين بصدق دعواهم وهم ليسوا كذلك.. فيجأر الجميع بالدعوة إلى الله أن يحفظ الفريق الصادق، ويبيد الكاذبين.. فريق المشركين الضالين الذين أساءوا إلى الذات الإلهية، فوصفوها بالضعف حيث أحاجوها إلى ولدٍ يعضد أباه ويساعده.وفريق المؤمنين الذين يعرفون حق المعرفة ربَّهم بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى. وحين أَزِفَ موعد المباهلة ورأى المشركون أنهم قاب قوسين أو أدنى من الهلاك، وأن الوادي سيضطرم عليهم ناراً، فمحمدٌ نبي مرسل، هكذا اعترف أحبارهم، وأنه قد جاء بالفصل في أمر عيسى تركوا المباهلة، ورضوا أن يَسلموا في الدنيا، ويسلمَ لأحبارهم جاهُهم وسلطانهم، ولو كانوا في الآخرة حطبَ جهنم.. رضوا بالسلامة في الدنيا على أن يدفعوا لرسول الله الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
وهذا دأب المشركين، فهم حين يحاربون المسلمين ينفسون عليهم إيمانهم لأنه نور يهدي إلى الدرب القويم، وينفسون عليهم طمأنينتهم وهدوءهم لأنها نتاج التسليم إلى الله.. وهم حين يحاربون المسلمين يدافعون عن سلطانهم ومصالحهم الدنيوية ومطامعهم وأهوائهم.

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة آل عمران (3) / [ الآية 72 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }​


إنَّ الحربَ غيرَ المعلنة أشد وقعاً من الحرب المعلنة، والكيد العملي غير المصادم أشد إيذاءً من المجابهة الصدامية.
لقد لجأ اليهود الذين رأوا ازدياد عدد المسلمين وشدة تمسكهم بدينهم وحبهم لله ورسوله إلى طريقة ماكرة لئيمة، فأمروا سفلتهم بإظهار الإيمان ثم الرجوع عنه.. مما يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول، وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته في بلبلة واضطراب، وبخاصة العرب الأميين الذين يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب، فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدَّون حسبوا أن ارتدادهم بسبب اطلاعهم على خبيئةٍ ونقصٍ في هذا الدين، فتأرجحوا ودخل الشك في قلوبهم، فلم يخلصوا لهذا الدين، وكانوا منه على حَرْفٍ، وهؤلاء يعتبرون عبئاً على الدين فلا هم أعداؤه ولا هم منه.
يقول سيد قطب رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى، في الظلال، الجزء الأول، ص 415-416:
"ما تزال هذه الخدعة تُتَّخَذُ حتى اليوم في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل، ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة. إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء، في صور أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين، وأحياناً كتاباً وشعراء وفنانين وصحفيين، يحملون أسماء المسلمين لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة، وبعضهم من "علماء" المسلمين.
هذا الجيش من العملاء مُوجَّه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفنٍّ وصحافة، وتوهين قواعدها من الأساس، والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء، وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتواصل على"رجعيتها، وتطُّرفها وتزمتها" والدعوة إلى التفلت منها، وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقاً عليها من الحياة أو إشفاقاً على الحياة منها، وابتداع تصورات ومُثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها، وتزيينِ تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية وإطلاق الشهوات من عقالها، وسحق القاعدة الخُلقية التي تستوي على العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً: ويشوّهون التاريخ كُلَّه ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟! وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره..
ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم، لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم.

وكأن أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض، تظاهروا بالإسلام أول النهار، واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم، وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه، ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم.. ".

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النساء(1) / [ الآيتان 78- 79 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}
في هاتين الآيتين الكريمتين وقفات هي :
1 - أن الموت حق على المخلوقات لا ينجو منه أحد.
2- أن المسلمين من ضعاف الإيمان وإن كانوا لا يستطيعون أن ينسبوا إلى الذات العلية إلَّا كل خير فإنهم ،وإن كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتسبوا شفافية الروح وعمق الإيمان، فالشفافية وعمق الإيمان رزق من الله تعالى، فهم يتجرؤون على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيتهمونه زوراً- أنه سبب بلائهم من الناس، إذ طلب إليهم الجهاد في كل جهة، والمشركون من حولهم، وكأنه يرمي بهم إلى الموت.
3- أن على كل مسلم مؤمن بالله تعالى أن يعتقد أنه لا يضر ولا ينفع إلَّا الله تعالى، فهو سبحانه خالق الضّرِ والنفع وبيده مقاليد الأمور، فالمؤمن الحق لا يتهم الدعاة المخلصين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بهم.. فكل ما يصيب المؤمن يرفع درجاته ويعظم له أجراً.
4- أن من يرفع عقيرته فيتهم أولياء الله والدعاة إليه إنما يتهم نفسه بضعف العقل وقلَّة الفهم، بل إنهم لا يكادون يفقهون ما يُلقى إليهم من الآيات التي تعزو كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر لعلم الله.
5- وأن من يجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخلصين الدعاة إلى الله، يشير إلى نفسه بضعف الإيمان، وإلى الناس بان يحذروه، ويشكوا فيه.
6- وأن التجريح برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتشاؤم به، والتطير به وبمن يسير على طريقته، وصمٌ لهؤلاء المتشائمين بالضلال والانحراف والبعد عن الدين.
ومن جاءهم بهذا الدين؟! أليس هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يتشاءمون به ويتطيرون به وينسبون إليه صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به من عصمة ورحمة وخلق عظيم ويُمنه وبركة؟!! فأقل ما يوصمون به النفاق والمروق من الدين.
7- أن الحسنة من الله تصيب الإنسان حين يلتزم بشرع الله تعالى ويعمل به ويُحكِّمه في حياته، وأن السيئة تصيب الإنسان حين يبتعد عن شرع الله، فيظلم نفسه ويتيه في دياجير الشك والفساد.
8- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبلِّغ أمر ربِّه، ويدعو إليه وفق شريعة الله، وكان من الواجب أن ينظر إليه أنه هادٍ بذل نفسه لله ولا يسأل الناس أجراً على ما يفعل**** { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر ...}(الفرقان86/ص57) فالشؤم أبعد ما يكون عنه، والطيرة أبعد ما تكون عنه وهل رأيت عقلاء يتطيرون بمن يفتح عقولهم وقلوبهم إلى الخير والهدى.. إن يكن الناس جحدوا فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله شاهد على حسن أداء رسول الله صلى الله عليه وسلم للرسالة، وكفى بشهادة الله للنبي فخراً، ولمن يسير على دربه عِزَّاً.

إن الموت الذي يفرُّ منه الإنسان مُدركه، ولا علاقة له بسلم أو حرب، فالكثرة الساحقة من الموتى. انتهت حياتهم على فراشهم، لا يؤخر الموت بُعْدٌ عن ساحة المعركة ولا يُقرِّبهُ خوضها.. وما أعظم أن يتمثل المسلم بقول خالد رضي الله عنه: لقد خضت زهاء ثمانين معركة وما في جسمي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح.. وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}(الأعراف) .
لكن ضعاف العقل، ضعاف التفكير، يحسبون خوض المعارك دنواً من الموت فهم لا يريدونه، ويصبُّون جام غضبهم على من يدعوهم إلى القتال.. ويعتبرونه أسَّ المساوىء.. والقرآن يدعوهم إلى الجهاد ولكنهم لا يرون فيه سوى إزهاق الأرواح وكأنهم لا يموتون، ولن يموتوا،
وتناسوا القضاء والقدر، والفاعل الحقيقي في الموت والحياة، الله تعالى.
وتناسوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول الله لا يُحْدث ولا يُنْشىء ولا يشارك الله تعالى في مسؤولية أو ألوهية.. إنه يُبلِّغ ما يأمره الله به، فطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله.
والمؤمنون الأتقياء هم الذين يعرفون فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوبهم ثانياً، أمَّا أولاً فمكانته عند الله لا تدانيها مكانة.
ماذا عن الطِيَرَةِ؟ إن العربي قديماً كان إذا أراد أمراً أمسك طيراً ثم رماه إلى أعلى فإن طار يميناً تفاءل وإن طار يساراً تشاءم وتطيّر، وهذا يدل على جهل.. فما علاقة الطير وطيرانِه يميناً وشمالاً بالأمر الذي يريده أحدهم.. إنها الأوهام والأساطير التي يبني الناس حياتهم ومعتقداتهم
عليها..
والإيذاء الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم من تَطَيُّرِ ضعاف الإيمان واليهود، هو، هو الذي لحق بموسى من قبل : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131)}(الأعراف) .

فملة الكفر واحدة والتفكير الجاهلي واحد، والتعليل الجاهلي واحد، فإنما ينطلق الجميع من أهوائهم وخرافاتهم .. إن يد الله منعت عن فرعون وقومه الخير :
{ ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}(الأعراف) ، ولكنهم لا يدركون أن الله تعالى أراد عقابهم لجمودهم وكفرهم وأرسل عليهم إذلالاً لهم وجزاءً - على كفرهم- وفاقاً- أرسل الطوفان- والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات.. فهل ثابوا وتابوا ورجعوا إلى ربهم؟!.. كلا.. وأنَّى لهم أن يرجعوا وهم أصحاب القلوب الجوفاء، والأفئدة الصم التي طبع الله عليها بسبب ضلالهم وكفرهم..

والقول واحد في هؤلاء المُتَطيِّرِيْنَ.. في كل زمان ومكان. فهؤلاء أصحاب القرية يتطيرون بثلاثة من الأنبياء :
{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)}(يس)

فيرد عليهم أنبياؤهم موضحين أن كفرهم وعنادهم سبب الشؤم والتطير
{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (19)}(يس)

لأنهم أسرفوا في العناد والكفر.. ومادوا في الضلال.. إنها مسيرة التاريخ، والأسباب تؤدي إلى النتائج.. من عمل خيراً فلنفسه ومن أساء فعليه

يتبع

 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النساء (2) / [ الآيات 105- 109 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)}

ما أعظمك يا رب؟!! وما أعظم تربيتك للمسلمين، تأمرهم أن ينصفوا أعداءهم وأعداؤهم يتربصون بهم الدوائر!! ويحيكون لهم المؤامرات ويمكرون بهم، تُعلمُنا أن نعدل بين الناس، فنحفظ حقوقهم، وهم يريدون لنا الموت الزؤام، ويرسمون الخطط للإيقاع بالمسلمين، فينشرون الأكاذيب، ويؤلبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويطلقون الإشاعات حول النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحاولون تفسيخ المجتمع الإسلامي.
في ظل هذا المكر الشديد من اليهود نزلت آية تنصف يهودياً اتُّهم ظلماً بسرقة، وتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة، والأنصار يومئذٍ عُدَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجُنْدُهُ في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة.
لقد شرّف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعظّمه حين فوض إليه الحكم بين المسلمين واليهود..
ثلاثة إخوة من الأنصار بشر وبشير ومبشر وابن عم لهم يسرقون سلاحاً وطعاماً لرفاعة بن زيد أحد المسلمين في المدينة، فلما اتهمهم وأثبت ذلك طرح بشيرٌ السلاحَ في بئرٍ لأحد اليهود، واسمه زيد بن السمين، وأخذت منه (من بئره) وبرّأ الرسول ساحة بشر، والتصقت التهمة بزيدٍ هذا،
ولكن الله تعالى أراد أن يعلم رسوله والمسلمين من ورائه،
أن هذا الدين لا يحابي أحداً من أتباعه على حساب الآخرين، ولو كان من أعدائه.. فالحق حق، أما القرابة والمصلحة، والمتابعة في الرأي والدين فلا مكان لها أمام الحق والعدل، وإلَّا كان المسلمون كغيرهم، لا يفترقون عنهم في صغير ولا كبير.
كشف الله المستور، وعرَّف نبيه ما فعله بشرٌ وأخواه وبرّأ اليهوديَّ، فهرب بشر إلى مكة ثم إلى خيبر مرتداً ومات كافراً..
وظلت الآية تُتْلى، وتظلُّ تتلى إلى يوم القيامة دليلاً على إنصاف الإسلام والمسلمين، ودليلاً على حُبِّهم للحق والعدل مهما كان صاحبه صديقاً أو عدواً، فالعبرة للمبدأ لا للمصلحة، وللقيم لا للأهواء، والهدى لا للضلالة.
وتُعلِّمنا الآيات التي نزلت بهذا الخصوص أموراً كثيرة منها.

1- أن الله شرَّف رسوله بالرسالة والدين القويم ليحكم بالحق، ويقيم العدل.
2- أن لا ندافع عن الخائنين مهما كانوا، فالحق أولى أن نتبعه.
3- أن نستغفر الله، فالإنسان لضعفه قد يتصرف بما لا يلائم ما يحمل من قيم ومبادئ، وقد يتبع هواه لحظة ثم ينتبه إلى خطئه فيعمل على إصلاحه ويطلب المغفرة من الله، والله أهل للمغفرة.
4- أنه كان على هؤلاء الذين أخطأوا أن يعدلوا إلى الحقّ فور إحساسهم بالذنب، وأن لا يتمادوا في باطلهم، إن كانوا مؤمنين، والمؤمن لا يقنط من رحمة الله بل يلجأ إليه منيباً تائباً.
5- أن الخائن ليس من المسلمين وليسوا منه، إذ الغش والإفساد ليس من سمة المسلمين.
6- أن المؤمن يشعر دائماً بمعية الله فهو يراه ويراقبه فلا يعصيه، وما أجمل وصية لقمان لابنه: (يا بني اعص الله في مكان لا يراك فيه)، أما الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله فهناك دخل في إيمانهم، ينبغي أن يصفّوا من هذا الدخل.
7- أن تكون سريرة المؤمن كعلانيته، فمن أحس بمعصية الله كان مع الناس واضحاً لأنه يرضي الله بذلك ويرغب في مثوبته.
8- أن العقاب في الدنيا زائل بزوالها، أما العقاب في الآخرة فإنه كبير ودائم- إن لم يعف الله تعالى ويغفر- ولا جرم أن المؤمن يرضى بالعقوبة الزائلة عن العقوبة الدائمة.
9- أن إيذاء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والإِرصاد له لا يمنعه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالعدل بينهم لأنه رُبِّيَ على عين الله ورعايته فزكَّاه الله عقلاً وقلباً وجسماً ومدح خُلُقَهُ فقال :
{ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}(القلم).


يتبع


 
التعديل الأخير:
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المنافقين والكفار وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين)
الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النساء(3) / [ الآية 153]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً }.

نلمح القرآن الكريم يندد دائماً بمواقف أهل الكتاب من اليهود من الرسل والرسالات، فهم دائماً متعنتون معه في طلب الدلائل على نبوتهم، ورسالاتهم.. ولَيْتهم بعد ذلك يؤمنون.. فهم لا يؤمنون بل يهزأون ويسخرون ثم يقتلون الأنبياء.
وفي هذا الموقف، في هذه الآية ، يعاجزون النبي صلى الله عليه وسلم ، فيسألونه أن ينزل عليهم كتاباً من السماء.. يريدون أن يلمسوه بأيديهم بعد أن يرَوه يدنو منهم نازلاً من السماء.. ويرى النبي عليه الصلاة والسلام من سؤالهم هذا وقاحة ما بعدها وقاحة، فالإيمان لا يعتمد على الحواس فقط، إنما يعتمد على التصديق بالعقل، والثبات في القلب، إنما هو عمل بالأركان وقناعة الجنان وتفاعل الوجدان.
لكنهم في مسيرتهم، منذ أن وُجِدوا إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة يُكذِّبون الرسل والدعاة، ويسخرون منهم ويبطشون بهم، ويطلبون منهم ما لا يطلبه عاقل.. ولَيْتهم بعد طلبهم هذا يؤمنون.. ولكنهم خبثاء، طويّاتهم فاسدة، مَرَدوا على الفساد ومخالفة الحق، والبحث عن الباطل بين ظلمات الأحابيل الشيطانية.
فلا تأْسَ - يا رسول الله- ولا تحزن، فلك بموسى عليه السلام ومن بعده مواساة، ولعله إن عرفت ما فعلوه مع موسى والأنبياء بعد- وهذا غيض من فيض- تأكدْتَ .، أن أحفاد القردة والخنازير، جُبِلُوا على المراوغة، والكذب والإيذاء والكفر، لقد سألوا موسى عليه السلام أكبر مما سألوك، فسألوه أن يروا الله جهرة، وهم الذين يدعون أنهم آمنوا به، فهو نبيهم وقائدهم ومنقذهم، فهم غلاظ لا يؤمنون إلَّا بالمحسوسات، مُتَعنِّتون فلا يُسلمون إلا تحت القهر والضغط.
يغدرون إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكيف يرون الله؟! وهل يستطيع الكليل الضعيف، أعشى البصر، أن يحيط بالنور الباهر والضوء الساطع؟ !! وهل يحيط مَنْ هو جزء من الوجود أن يحيط بمن أوجد الوجود؟! وأنَّى للضعيف أن يعرف الكمال المطلق؟! لكنهم لِجهلِهم واستكبارهم سألوه أن يروا الله عياناً، فكان الجوابُ لتطاولهم صاعقةً أحرقتهم، ولا جواب لمن لا يعرف حدوده فيتجاوزها ظلماً وعلواً إلَّا أن يعاقب العقاب الأليم جزاءً وفاقاً، وفي رواية أخرى أنهم أصيبوا بالرَجْفة.
أما إخوانهم وأبناؤهم فلم يستطيعوا الارتفاع إلى مقام التوحيد، لِلُصوقهم بالأرض وأوحالها، وحقارة نفوسهم، فعبدوا العجل الذي صنعه السَّامريُّ، فهم لا يؤمنون كما ذكرنا إلا بالمحسوسات- إن آمنوا- فكان عاقبة المجرم الأول، السامري، أن مات شريداً طريداً لا يمسُّ شيئاً، ولا يمسه شيء، إلا أخذته الرجفة، وأصابته القشعريرة، فهو ينادي بملء صوته أينما ذهب، وحيثما حل، لا مساس، لا مساس. وما أسوأها من حياة!!
وشملهم الله دونه، بعفوه وكرمه، فسامحهم وتجاوز عن خطأهم، ويا له من خطأ فهو الإشراك بالله بعد أن جاءهم نبيهم بالبينات والشريعة الواضحة.. لكنَّ الدونية التي رضعوها وجبلوا بها لا يستطيعون عنها فكاكاً.

واليهود لهم طبعٌ متمردٌ، ونفس لا تلتزم إلَّا إذا قُهرت وأُخذت بالقوة، فآتى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام سلطاناً عليهم، يخافونه، وزرع في قلوبهم المهابةَ له، والرضوخَ أمامه، وسخَّر له كثيراً من أدوات القهر الحسي.
فهذه الألواح التي حملها معه حين قفل راجعاً من لقاء ربه جل وعلا، لم يستسلموا لها ويرضوا بالعمل بها إلا حين رأوا الجبل العظيم، وقيل الصخرة العظيمة، معلقاً فوق رؤوسهم يهددهم بالوقوع عليهم، إذا هم لم يستسلموا، ولم يتعهدوا بأخذ ما أعطاهم الله من العهد، وما كتب عليهم من التكاليف في الألواح. عندئٍذ فقط استسلموا وأخذوا العهد، وأعطوا الميثاق المغلَّظ الموثَّقَ أن يدخلوا بيت المقدس سُجّداً، وأن يعظموا السبت الذي طلبوا أن يكون لهم عيداً.
فماذا كان منهم بمجرد أن ذهب عنهم الخوف وغاب عنهم القهر؟!! لقد تملصوا من الميثاق الغليظ الذي أُخذ عليهم ونقضوه، وحرَّفوا الآيات وكفروا بها.. وقتلوا أنبياء الله بغير حق، وتبجحوا حين قالوا: نحن لا نقبل الموعظة، فهي لا تصل إلى قلوبنا، لأن القلوب مغلقة ،بل إنها بعد الغلق مقفلة، فلا ينفذ إليها شيء مما يقوله الأنبياء.
هذه المقولة: " قلوبنا غُلف " التي قالوها بسوء أدب وإصرارٍ على المعصية، وضربٍ بكل العظات والعبر عرض الحائط أورثتهم غضب الله تعالى، فطبع على قلوبهم فصاروا كفاراً لا يعرفون للإيمان سبيلاً إلا من رحم الله وهم قليل، خالفوا طريق اليهود المعوج، وفتحوا قلوبهم للحق فكتب الله لهم الإيمان، وزينه في قلوبهم.
وهناك- بعد ذلك- أسباب عديدة استحقوا بسببها ما استحقوا من تحريم الطيبات عليهم في الدنيا ووعيد بالنار التي تنتظرهم في الآخرة، وساء المآل... منها:

ا- أنهم كفروا بنبوة عيسى عليه السلام حين جاءهم يصحح معتقداتهم ويخفف عنهم- بإذن الله- بعض ما عوقبوا به، كفروا بعيسى ووصفوا أمَّه الصِّدِّيقة بالزنا.. ذلك القول الذي يكررونه مع الأنبياء العظام، فيعقوب عليه السلام رمَوه بالزنا بزوج ابنه، بعد أن شرب الخمر، فسكر.. حاشاه أن يكون كذلك، فهو عبد الله و رسوله.
ولوطٌ سقته بنتاه الخمر فزنا بهما فولدتا سفاحاً.. وهل يقول بحق الأنبياء هذه المقالة الخبيثة إلا من سفه نفسه؟!!
أفلا يرمون الصديقة، وهذه عادتهم لعنة الله عليهم؟! وإذا كان الأبرار الأطهار والعفيفات الطاهرات لم يسلموا من أذى اليهود فما ظنك بسائر البشر!!!

2- لم يكتفوا بان كفروا برسالة عيسى، إنما حاولوا قتله، وكادوا يظفرون به لولا العناية الربانية التي رفعته إلى السماء، ليكون في حرز حريز. وأنَّى يصلون إليه، وقد كتب الله في سابق علمه أنه سيعود آخر الزمان يَدكُّ معاقلهم، ويحاربهم، ويقتلهم، ويفرض عليه الإيمان به نبياً يحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام؟! هذه الشريعة التي يكيدون لها، ولن يفلحوا ما دامت السموات والأرض، فالله حفظها بحفظه، وكلأها برعايته، وإنَّ مما يثلج الصدر أنه ما من كتابي يموت إلَّا وهو في حشرجة الروح يعرض عليه كفره فيموت مغموماً مهموماً يندب حظه العاثر، وكفره الذي أودى به المهالك.

3- أنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم، فاستحقوا غضب الله وناره، وظلموا غيرهم حين صدّوهم عن سبيل الله بالإرهاب المادي، والإغراء المعنوي، فهم يلمزون المؤمنين، ويسبُّونهم، ويشتمونهم، ويدفعون الأموال لأعوانهم وأزلامهم ثمناً لإبادة المسلمين، أو التضييق عليهم..

4- كما أنهم حاربوا الله علانية، إذ تعاملوا بالربا، وقد نهاهم الله عنه، بل يرون من العمل بالدّين- الدّين اليهودي المحرَّف- أن يقرضوا غير اليهودي بالربا، وأن يأكلوا أمواله بالباطل، وبكل طريقة، مهما كانت مجحفة وظالمة.

وهكذا يكشف الله تعالى حقيقة اليهود، ويفضح خبث طويتهم، وعداءهم للدين ورسله على مرِّ الدهور وكرِّ العصور.
ويوضح للمسلمين الطريق السديد في تعاملهم مع هذا الصنف الماكر، فلا يأمنون له، ولا يتعاملون معه إلَّا بالحذر والحيطة...أليسوا أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين؟!!
5- كما يؤكد سبحانه أن موقف اليهود من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم نبُوَّته هو موقفهم من سائر الأنبياء والرسل، وهذا لا يضير الرسول الكريم.
وإذا أتتك مَذمَّتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كاملٌ
ويرفع الله مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكره في مقدمة الأنبياء والمرسلين، فهو أعظمهم وإن جاء آخرَهم، فهو الخاتم لبناء التوحيد، وهو صاحب الدين الذي ارتضاه الله لعباده.
وهو صاحب الدين الذي لا يقبل الله إيمان عبده وإسلامه إلَّا به. { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } .
والله يشهد أنَّ محمداً رسوله.. وهل بعد شهادة الله شهادة، اللهم آمنا بك رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً فتقبل منا إنك أنت السميع العليم.

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة المائدة / [ الآيتان 51- 52 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)


هل تجوز موالاة اليهود والنصارى؟ إن من يقول بهذا يَدمُج نفسه فيهم، ويقف معهم في خندق واحد لأنه صار منهم وصاروا منه..
وما أشبه الليلة بالبارحة، إنها النفس الإنسانية الخاوية، الخالية من الإيمان التي ترى الدنيا أولاً، وترى الدنيا آخراً، تنظر إلى أمام أنفها ولا تستطيع النفاذ إلى حقيقة الحياة وحقيقة أن اليهود والنصارى بعضهم من بعض، وأن المسلم متميِّزٌ عنهم فهو عبد الله موحد له، وهو يعلم أن سفره إلى الآخرة حقٌّ لا تشوبه شائبة، وأن السفر يستتبع الزاد، وأن الزاد يجب أن يكون مبرأ من الهوى وحظ النفس.. وأن خير الزاد التقوى. وأين موالاة أهل الكتاب- أعدائنا- من التقوى؟!!
إن البراء من الشرك والمشركين أول الدرب إلى الله تعالى والوصول إليه سبحانه، وهل تكون موالاة من عبدوا عزيراً ومن عبدوا المسيح طريقاً إلى الله وقد رضوا أن يكونوا مشركين كفاراً :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}(التوبة).

قال محمد بن إسحاق:
كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قَدِمت بجَلَب "ببضاعة" لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها،
فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين إلى الصائغ فقتله، وكان الصائغ يهودياً، وشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه.. فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال يا محمد أحسِنْ في مواليَّ !
فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ !
فاعرض عنه، فأدخل ابنُ سلولٍ يدَه في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي لامس صدره وشدد) فقال له (رسول الله): أرسلني (اتركني)،
وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً (تغير وجهه لغضبه) ثم قال: ويحك، أرسلني.
قال: لا، والله: لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع. قد منعوني من الأحمر والأسود (من العرب والعجم) تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر (سوء المنقلب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك.
ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم من حِلْفه مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ إلى الله عزَّ وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم. ففيه، وفي ابن سلول نزلت هذه القصة.

إن دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)(19)}(آل عمران)
ومنهجه هو المنهج الكامل المنفرد بقدرته على معالجة مشاكل الحياة إلى يوم القيامة ولا لقاء بينه وبين التشريعات الأخرى، ولا مقاربة، وإلَّا لم تكن هناك حاجة إليه إذا كانت الشرائع قريبة منه.. فموقف الإسلام حاسمٌ وفاصلٌ من التشريعات الأخرى.
والذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فَهْمَ معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين الأخير المقبول عند الله (الإسلامُ)، ولا تسامح في ذلك.. إنما التسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور
الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي،
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ (85)}(آل عمران).
أما الذين يرون اليهود والنصارى أكثر قوة من المسلمين، وأكثرَ عدداً، فيميلون إليهم، فإيمانهم ضعيف، والذين يرونهم أكثر غنى، والمصالح الاقتصادية أوفر حظاً معهم، إيمانهم ضعيف. والذين يقفون معهم ضد المسلمين، لأن المسلمين يريدون تحكيم القرآن وشريعة الله في الحياة، هؤلاء خرجوا عن الإسلام، ولو كانت أسماؤهم أسماءَ المسلمين، فالنصر من عند الله، وهل هناك من هو أقوى من الله؟!! والعزة من عنده والغنى بيده سبحانه، ولا ينسى هذا كلَّه إلا الضعيفُ المتهالك، الذي يرى نفسه دون أهل الكتاب.
وَوَصْفُ الله تعالى هذا الصنف الموالي لأهل الكتاب، أنهم " في قلوبهم مرض"، والسقيم المريض يتصرف بحمق، ويسيء التصرف، لأنه لا يعرف الخير من الشر إلا من زاويةٍ قاصرةٍ، ولو كان يعرف الله حق المعرفة، ويؤمن به حق الإيمان، تبرأ من موالاتهم واتخذهم أعداء.. لأنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً وتربصوا بنا الدوائر، ومكروا بنا وأعلنوا عدواتهم لنا.. فما الذي يجمعنا وإياهم؟!
إنه البراء والولاء.. البراء من الكافرين والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وليس من دون ذلك بصَّةٌ من إيمان.

ليس في قلبي سوى * الإيمانِ باللهِ العظيم
فهوربِّي وهوحَسْبِي * وهو بي البَرُّالرحيم
لا أُوالي في حياتي * غيرمولاي الكريم
لا أوالي غير دين * المصطفى خيرِ الأنام
فهو حِبي، نورُ عيني * وله مني السلام (1)​

ما الذي يجمعنا وإياهم؟ والمفاصلة حدَّدها الله تعالى في قرآنه الكريم يعلنها على الملأ إلى قيام الساعة.. يعلنها منادياً المؤمنين أن يحذروا أهل الكتاب: *{ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء (89)}(النساء) .
ومنادياً المسلمين الالتزام بالدين القويم، فالالتزام به يورث ثبات الإيمان، ودوامَ حب الله لهم، وزرْعَ حبِّه في قلوبهم، ويهبهم العزّة والمنَعة، ويجعلهم بالجهاد- سادة الدنيا وقادتها، فيدكون معاقل الكفر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ويتفضل عليهم بنعمه الكثيرة فهو واسع النعم.

ومنادياً المؤمنين موضحاً أنَّ اليهود أعداءٌ، اتخذوا الصلاة، قيامَها وركوعَها وسجودها مجالاً للسخرية من المسلمين والاستهزاء بهم، فأي ولايةٍ ولايتُهم؟؟!! وماذا يتبقى للمسلمين من كرامة وإيمان إن ارتضوا أهل الكتاب أولياء؟! إنها نداءات ثلاثة حريٌّ بالمسلمين أن يَعُوْهَا وأن يعملوا بها..

فلا لقاء بين المؤمنين الملتزمين بشرع الله.. وأبناء القردة والخنازير وعبدة الطواغيت، الذين غضب الله عليهم ولعنهم لعناً كبيراً، أبناء القردة والخنازير الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت.
أبناء القردة والخنازير الذين أساءوا إلى الذات الإلهية فوصفوا الله بالفقر والبخل وترفعوا عن ذلك..
أبناء القردة والخنازير الذين يسعون في الأرض فساداً ويؤجِّجون الحروب، ويسعِّرون نارها.
لا لقاء بينا وبينهم ،فالولاءَ الولاءَ، والبراءَ البراءَ.

(1) الأبيات للكاتب
يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة الأنعام / [الآية 33 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }.

يجلس النبي صلى الله عليه وسلم في زاوية من زوايا المسجد الحرام بمكة مغموماً حزيناً مهموماً، ينظر إلى الكعبة المشرفة، ويخاطب ربه.. أنت تعلم يا رب أني ما آليت جهداً في دعوة القوم إلى توحيدك وعبادتك، وبذلت غاية وسعي أُذكِّرهم بخالقهم، وأُعرِّفهم بآياته، أنذرهم عقابه، وأرغِّبهم في ثوابه.. ولكنهم ينظرون إليَّ مغضبين، تطير من أعينهم الشرر، وتنبعث من قلوبهم موجاتُ الكره والغضب، يسمعونني قارص الكلام، ويصمونني بالكذب تارة..والجنون أخرى.. والسحر ثالثة.. وقد كانوا يدعونني الصادقَ الأمين.. الصادقَ في كل ما أحدثهم، الأمينَ فيما يودعونه عندي من الودائع التي لا يأمنون أن يودعوها أبناءهم وآباءهم وأمهاتِهم وإخوانَهم.. إنَّ كثيراً ممن يكذبونني ويتقوَّلون عليَّ الأقاويل لهم عندي أمانات لا يطمئنون إلى تركها في بيوتهم..

كانت نفس الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه، هذه النفس الشفَّافة التي تتحمل الجبال في قوتها الرقيقة، التي تستعذب العذاب في إيصال دعوة الله إلى قريش وجيرانها، الصافية التي تستقبل شوائب أذى الكافرين بإيمان قوي وعزيمةٍ لا تتضعضع، تتأثر من انصراف قريش ذوي القلوب القاسية عن تقبل هذا الدين العظيم، وترمي صاحبه بأسوأ الصفات.. وهم يعرفونه مثال الرجل الكامل، والإنسان القدوة.
أليس هذا مما يثير الآلام والأحزان؟!! ويجعل الهموم تجثم على القلب الشريف جثوم الجبال الرواسي..
وهنا يُرطِّب الَّلهُ تعالى خاطر رسوله، وتمرُّ يد الرحمة والعناية على قلبه الشريف، وتمسح عنه همومه وتغسل عنه أساه.. إنهم يا رسول الله يعرفونك صادقاً أميناً كريماً طيباً لطيفاً.. ما شكُّوا يوماً أنك كذلك.. ولكنه الركونُ إلى الأرض والالتصاقُ بأوحالها.. إنك تدعوهم إلى الاعتقاد الصحيح، والطُهْرِ من أدران الجاهلية، وقد تعوَّدوا التيهَ في الضلال والغي، والسقوط في أوحال الوثنية، لا يريدون الخروج من الظلام الذي ألِفُوهُ إلى النورِ الساطع، وهل يرى الأعشى بهاء النهار وجمالَ الكون فيه..؟!!

إنهم لا يكذبونك يا رسول الله، لكن سادتهم وكبراءهم تلك الطبقة التي تتزعم المعارضة ولا تشك- أبداً- في صدق رسالتك، وأن هذا القرآن ليس من كلام البشر ولا يملك البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن.. هذه الطبقة- على الرغم من ذلك- يرفضون إظهار التصديق بك ، وبدعوتك، ويرفضون اتِّباعَ هذا الدين الجليل والدخولَ فيه!!! إنهم لم يرفضوا لأنك كاذب- حاشاك يا رسول الله- لكنْ لأنَّ في دعوتك خطراً على مكانتهم وخطراً على نفوذهم، وخطراً على مكاسبهم.. من أجل ذلك صدّوا عن الإسلام وقرَّروا الجحود بآيات الله والبقاء على كفرهم، وعنادهم، وشركهم.

والأخبارُ التي تقرر الأسباب الحقيقية لموقف قريش هذا، وحقيقة ظنِّهم بهذا القرآن كثيرةٌ.
روى ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري:
أنه حُدِّثَ أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليفَ بني زهرة. خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كلّ رجلٍ منهم مجلسا يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الصبح تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة، أخذ كل رجل منهم فجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس بن شُريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟
فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: ماذا سمعت؟.. تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرَسَي رهان، قالوا: منَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه.. فقام عنه الأخنس وتركه..

وروى ابن جرير- من طريق أسباط عن السدي- في قوله عز وجل :
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ...}.
لمَّا كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة إنَّ محمداً ابنُ اختكم، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن اخته، فان كان نبياً لَمْ تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كفَّ عن ابن أخته، قفوا حتى أَلقى أبا الحكم، فإن غَلَبَ محمدٌ رجعتم سالمين، وإن غُلِبَ محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سُمِّي الأخنس وكان اسمه أُبيَّاً، فالتقى الأخنس بابي جهل، فخلا به، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا.. فقال أبو جهل: ويحك ! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمدٌ قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله تعالى:
{... فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }

وبغض النظر عن أن الآية مكية، وحادثة الأخنس مدنية في بدر، فقد قُرِن النص بالحادثة ليس بسبب النزول ولكن بسبب انطباق مدلولها على الحادث، وقصةُ عتبةَ بنِ ربيعة الذي عرض على قومه- وكان سيداً فيهم- أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض عليه أموراً، لعله يقبل بعضها، فيعطونه إياها، فيكُفَّ عن دعوته، وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: نَعمْ أبا الوليد، قم إليه فكلمه.. فقام إليه فعرض عليه الزعامة، والمال وأجمل النساء و..
فلما انتهى من عرضه قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول سورة حم فصّلت.. فأنصت إليه عتبة مأخوذاً، فقام عتبة إلى قريش بوجه غير الذي ذهب به فلما سألوه قال:
سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي.. خلوا بين الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ، فإن تصبه العرب كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكله ملككـم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به.. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدالكم..
وقيل في الحادثة أنه لمَّا سمع قول الله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}(فصلت) أمسك عتبة على فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرَّحم أن يسكت، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم.. إلى آخره. ولما حدثوه في هذا قال: أمسكت بفيه، وناشدته الرَّحِمَ أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب..
إنهم يعرفون صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، فأبو جهل يؤكد في الرواية الأسبق، أن رسول الله صادق، ويعلل كفره.. وهذا عتبة يعرف صدق رسول الله، فأسكته ناشداً إياه الرَّحم..
وفي قصة الوليد بن المغيرة الذي نزلت فيه أوائل سورة المدثر:
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)}
إذ ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، وعرض عليه، فقال يصف الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم :
لا والله ما هو بكاهن: لقد رأينا الكهان فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
وما هو بشاعر: ولقد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه. وما هو بساحر: لقد رأينا السُّحَار وسحرهم، فما هو بنفثهم، ولا عقدهم. والله إنَّ لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر وإنَّ أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلَّا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر.. جاء بقولٍ هو سحرٌ،. يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته..
فهؤلاء لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يرفضون تحكيم شريعة الله، والعمل بها لأنها تسلب سلطانهم، وتذيب طغيانهم.. فقد كانوا يجحدون آياتِ الله، وهم يعرفون اللغة جيداً، هُم أهلها، لأنها تجعل الحاكمية لله تعالى، فليس لهم من أسباب الزعامة- بعد ذلك- شيء.
وما كذَّبوا الرسل قبله- صلوات الله عليهم جميعاً- على مرِّ العصور وكرِّ الدهور إلَّا لأنهم لايتخلَّوْن عن سلطانهم الكاذب الذي اغتصبوه.
فاطمئن بالاً يا رسول الله ، وثابر على الدعوة إلى الله إنْ عليك الَّا البلاغ المبين..
وكِّلْ أمرهم إلى الله، فإليه عما قليل يصيرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..

يتبع





 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة التوبة(1) / [ الآية 58 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }

المنافقون هم المنافقون يبحثون دائماً عن فوائد لهم، يريدونها خالصة لهم ،وعلى أقل تقدير يريدون الأكثر لهم.. سواء قدموا الخدمة لهؤلاء وهؤلاء، أم لم يفعلوا ذلك.. همهم الأاكبر جرُّ المنفعة إليهم، بالحق..بالجور.. لا يبالون بذلك.. فإن لم يصبهم شيء بدأوا يقدحون، وأخذوا يذمون.. باسم العدل تارة، وباسم الحق تارة أخرى، وباسم الرحمة ثالثة..

وفي هذه الآية نجد وصفاً دقيقاً لهم، فهم يسالون النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الزكاة.. والرسول صلى الله عليه وسلم يعطي من له الحق ويمنع من ليس له ذلك، وفي المجتمع كثير من الناس يحتاجون، لكنَّ نفوسهم كبيرة وكرامتهم عليهم عزيزة، لا يطلبون وهمُ المحتاجون، ويتعففون وهم أشدُّ ما يكونون فقراً { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ (273)}(البقرة)
لماذا لأنهم لا يلحفون بالسؤال، بينما تجد الطامعين مزّقوا غلالة الحياء ومدُّوا أيديهم بالسؤال ولسانهم بالجلد لمن يقصِّر عنهم.
وهكذا حال المنافقين الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم أَوْلى بذلك، فإن أعطوا ذَكَرُوا رسول الله والإسلام بكل خير، لأنهم انتفعوا.. أما إذا منعهم أظهروا سخطهم ولمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم وغمزوا فيه، فلا حرمة لأحد إلَّا إذا مدَّ يده إلى أفواههم فملأها، وإلى أيديهم فحمَّلها، والى عيونهم فبهرها..
وردت روايات متعددة عن سبب نزول هـذه الآية الكريمة، تقصُّ أحداثاً معينة عن أشخاصٍ بأعيانهم لمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدالة التوزيع.


روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، سمعتُ رجلاً يقول: هذه قسمة ما أُريْدَ بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: رحمة الله على موسى، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر.
ونزلت : { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ }.

وقال قتادة في- قوله الآية- يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات، وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بالمدينة.. أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟!!!.

وروى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يقسم قسْماً إذ جاءه ذو الخويصر التميمي، فقال: إعدل يا رسول الله
فقال: " ويلك ومن ذا يعدل إذا لم أعدل؟ !!
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ائذن لي، فأضرب عنقه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دَعْهُ فإن له أصحاباً يحقر أحدكُم صلاته مع صلاتهم وصيامَه مع صيامهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية".
قال أبو سعيد:" فنزلت فيهم: { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ }.

وروى ابن جرير عن داود عن أبي عاصم قال: أُتي النبي الله صلى عليه وسلم بصدقة، فقسمها هاهنا، وهاهنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل فنزلت الآية.

فهؤلاء المنافقون لا يقولون هذه القالة حرصاً على الدين ورغبة في الحق، ولكنْ غضباً على حظ أنفسهم، وغيظاً أن ليس لهم نصيب.. وهذا يدل على صريح نفاقهم.. فهل يشك أحد ممن لامس الإيمانُ قلبَه والنورُ بصيرته أن يلمز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانته وصدقه، وهو الملقب قبل بعثته بالصادق الأمين؟!! إنه النفاق في أوضح صوره، والكره للدين وصاحبه في أشدِّ بيانه.
لو رضوا بما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ذوي أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان لهم الأجر العظيم والمكانة الأسمى مِنْ لِعاع الدنيا ومتاعها الزائل.

لمّا وجد الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وزع الغنائم في حنين على أهل قريش.. جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال:
أوَجَدْتم يا معشر الأنصار في عَرَض من أعراض الدنيا تألفت بها قلوب قوم دخلوا الإسلام جديداً.. ووكَّلتُكم إلى دينكم وإيمانكم وحبكم لله ورسوله؟؟ !! أَمَا ترضَون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟
تعودون بحبيبكم ونبيكم فهو قسمتكم.. ويا لها من قسمة.. وما أعظمها من نصيب، وما أجملها من فوز عظيم..!!
وهنا بكى الأنصار واخضلَّتْ لحاهم، وسالت دموعهم تغسل ما علق في قلوبهم من الدنيا وشكوكهم - إن وُجِدت- برسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: رضينا برسول الله حظاً.. رضينا برسول الله قسمة. رضينا برسول الله نصيباً..
وهنا رقَّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ذو القلب الرقيق والفؤاد الرحيم.. فدعا لهم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار.. وأبناء أبناء الأنصار..

هذا حال المؤمنين.. فلو أن المنافقين كانوا مثلهم وعرفوا حدودهم، رضوا بقَسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوا الله أن يرزقهم من فضله العميم.. وجأروا بالدعاء إليه.. والذي يجأر إلى الله بالدعاء لا يطلب من العباد إلَّا حقه، ثم يسال ربَّ العباد أنْ يكرمه الإكرام الزائد.. ويتفضل عليه التفضل العميم، فيرغب عما في أيدي الناس إلى ما في خزائن رب العباد.

والمسلم يمتاز بالأدب الرفيع، أدب النفس، وأدب اللسان وأدب الإيمان.. يرضى بقسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا التسليم والقناعة لا رضا القهر والغلب.

قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ (59)}(التوبة)
أين جواب لو.. الجواب في أعماق النفس المؤمنة.. الجواب في ضمير المؤمن العارف بالله المحب رسوله.. الجواب في شفافية القلب الذي استنار بنور الإسلام واستضاء بضياء الإيمان.. إنَّ الجواب واضح في رضا الله ورعايته وفضله وكرمه.. ونِعمَ كرمُ الله وحبذا فضلُ الله.

يتبع









 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة التوبة(2) / [ الآية 61 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.



من بين المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يدعى نبتل بن الحارث، وكان دميماً، مشوَّه الخلقة سِّيىء الأدب ،قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.
كان هذا المنافق يبسط لسانه في أذيَّة النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إن عاتبني حلفت له بأني ما قلت هذا، فيقبله، فإنه أذن سامعة !!

إنها صورة من صور سوء الأدب مع الرسول الكريم في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. ولماذا يؤذونه ؟!! إن الذي لا يستطيع أن يعيش إلَّا في الماء الآسن والوحل والقاذورات لن يطيب له العيش في الأرض المرتفعة حيث الهواء النقي والماء العذب والنظافة.. والذي يستمع إلى أدبٍ رفيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعوده.. يستنكر هذا الأدب الرفيع.. ويصفه بغير حقيقته.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع للصادق في صدقه حتى إذا فرغ شيَّعه بالدعاء وبشَّ في وجهه، ويستمع للكاذب في كذبه حتى إذا فرغ لم يجبهه بل شيَّعه بكلماتٍ تعلمه الأدب دون أن يجرح نفسه لأنه المربِّي.. القدوة.. وأصحاب الأدب الرفيع يحمدون له هذه الصفة، فلا يُجِّل الكريمَ الَّا الكريمُ.. أما اللئيم فيحسب لخساسةِ نفسه وسوءِ طبعه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمَّاعٌ لكل قولٍ، يصدٍّق كلَّ انسانٍ، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة ولا يفطن إلى غش القول وزوره، ومن حَلَفَ له صدَّقه، ومن دسَّ عليه قولاً قبله، يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً أن يكشف النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أمرهم أو يفطن إلى نفاقهم، ويقولونه طعناً على النبي في تصديقه المؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول والمسلمين.
ويأخذ القرآن كلامهم ليجعل منه ردا..

{ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ }(1) نعم.. ولكن:
{*قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } (2) أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم، وفيه خيركم، وصلاحكم، وأذنُ خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم، ولا يرميكم بخداعكم، ولا يأخذكم بريائكم،
{ يُؤْمِنُ بِاللّهِ } (3) فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم
{ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ }* (4) فيطمئن إليهم ويثق بهم، لأنه يعلم منهم صدقَ الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء..
{ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } (5) يأخذ بيدهم إلى الخير..
{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(6) فالله يغار على رسوله أن يؤذى، وهو رسول الله..
"من ظلال القرآن بتصرف".

يقولون ما يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتون إلى المسلمين يحلفون لهم أنهم ما ذكروا الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء.. وهم كاذبون.. فكما يكذبون على صاحب الدعوة يكذبون على أتباعه .. {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ (62)}(التوبة) .
لماذا يحلفون؟ أيريدون إرضاء الناس.. فرضاء الله أولى، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى،*
{ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62)}(التوبة) وإني لأعجب من الأسلوب القرآني الوحيد الذي استعمل (الهاء المفردة) في يرضوه للدلالة على أنَّ إرضاء الرسول مِنْ إرضاءِ الله تعالى.
فلو كانوا مؤمنين، وهذه الصفة هم بعيدون عنها، ما أساءوا إلى رسول الله الذي بُعث رحمةً للعالمين، وماذا يكون الناس، مهما بلغوا من قوة وعظمة، إلى قوة الله؟! لكنَّ الكافر بالله لا يعرف مقدار الله
{ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (91) }(الأنعام)/( 67)(الزمر) .
ولو كان الكافر يعرف قدر الله لآمن به وأحب الرسول، وذاب في العمل بشريعته. لكنه مادي، لا يرقى إلى الفهم الصحيح ، فيحسب حساب العباد، ولا يعنو للمعبود. يذل ويخضع للعباد، ويجهل مقدار رب العباد، ويعرض عنه جهلاً وسفاهة.
إنهم حين يؤذون رسول الله، يؤذون المؤمنين، وينسَون أن الله تعالى الذي أرسل رسوله، يغضب أن يساء إليه، وينصره، ويدافع عنه، فمقام الرسول من مقام من أرسله..
لذلك كان التوبيخ والتأنيب،.. لذلك كان التهديد والوعيد.
{ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}(التوبة) .
إنَّ جهنم في انتظار هؤلاء، تستقبلهم بالويل والثُّبور وعظائم الأمور.. فليس لهم كرامة، وليس لهم سوى العذاب الشديد الأبدي، في نار وقودها الناس والحجارة.. نار تشويهم، وتحرق جلودهم.. كلما نضجت هذه الجلود بدَّلها اللهُ جلوداً أخرى، ليذوقوا العذاب..


يا رب إني مؤمنٌ * أرجوك أن تغفرَ لي
أحب أن تعفو عن * ما قد بدا من زللي
وحبُّ طه واتباعُ * الحق يحيي أملي
إنني إليه أنتمـي * فهبني حسن العمل(1)

(1) الأبيات للكاتب​


يتبع


 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

الكذب والإقتراء

الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف الحقيقة.
والافتراء: الكذب، واختلاق الأمور.
فالكذب والافتراء إذاً.. شيء واحد، لا يرضاه الطبع الكريم، وصفة تأباها النفوس الشريفة. وقد يقع المسلم في أخطاءٍ كثيرةٍ ويغضُّ الشرع عنها ويسامح أصحابها إنْ اجترحوها. أما الكذب فليس من صفات المؤمن وهو بعيد عنه كل البعد.
قال تعالى : { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ }.
وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :
".. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّابا".
" متفق عليه "

لماذا يكذب الإنسان؟ : إن من أسباب الكذب :

1- ضعف الإيمان:
فلو كان الإنسان يعلم علم اليقين أنَّ حياته وأجله ورزقه مقدر عليه، وأنَّ الله تعالى حين خلقه كتب له من ذلك ما أراد.. لم يكذب بل كان صادقاً مع نفسه أولاً، ومع الآخرين ثانياً.

2- الخوف من الأذى :
وهذا له علاقة بالسبب الأول.. وقد يقع الإنسان في مأزق، أو يتصرف تصرفاً يشعر بعده أنه تورط.. وما إلى ذلك، فخاف على نفسه وضعفت نفسه، فانجرف إلى الكذب عَلَّهُ ينجو! ولا نجاة من الكذب،وقد قال الأقدمون : إن كان الكذب ينجي فالصدق أنجى.

3- النفاق:
وهو صفة مَن ضعفت أخلاقه أو عَدِمَها فرأى التزلف والتملق أقرب السبل إلى الوصول إلى الهدف، فانزلق في الكذب والافتراء، وحسب أن الطمأنينة والسعادة يحوزها حين يتخلى عن صدْقِه، ويلجأ إلى الافتراء والكذب، فيغوص في أوحالها، ولم يَدْرِ أنه غاص كذلك في نار جهنم.

4- التنصل من التبعات:
وهذا دأب الكافرين والمشركين الذين رأوا أن تصديق الرسل يعني الالتزام بعقيدةٍ يجب أن ينافحوا عنها، وشرعٍ يجب عليهم أن يلتزموه في حياتهم، ونمطِ من السلوك لا يقدرون عليه لضعفٍ في نفوسهم وخسارةٍ لمكاسب دنيوية يتمسكون بها ويحاربون الناس عليه.

لماذا لا يجوز على الأنبياء الكذب؟ :

ا- لأن الله تعالى فضَّلهم على عباده واختارهم منهم، فهم النخبة من خلقه أنشأهم على عينه { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } (1).
عصمهم الله عن الخطأ، وحَبَاهم العلم والمعرفة..
بل إنَّ الله فضَّل بعضهم على بعض: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ }(2).
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } (3).

2- لأن الأنبياء أصحاب رسالات والرسول مؤتمن.. ولا يكون أميناً إلَّا إذا كان مثال الإنسان الكامل في صفاته، يستطيع أداء الرسالة المكلف بها أداءً صحيحاً.. وكلمة واحدة تزرع الشك في نفوس أتباعه فضلاً عن الآخرين والأعداء المتربصين له، الذين يحصون عليه حركاته وسكناته، ويكيدون له، ويمكرون به.

3- لأنهم قدوة، ولا يكون الإنسان قدوة لغيره إلَّا إذا ملأ عينه، وفرض بتصرفاته وأعماله احترامه له، ولا بد أن تكون شخصية القدوة متكاملة في كل جانب من جوانب الحياة، سامقة كقمم الجبال، ترنو إليها العيون، وتتطلع إليها العقول، وتجِبُ لها القلوب، فتقلدها في أفعالها وأقوالها وإشارتها ولذلك كان الأنبياء الأسوة الحسنة لمن دعوهم، وقد مدح رب العزة رسوله الكريم فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (1).
وزكَّى نفسه وسمعه وبصره ولسانه وقلبه وعقله وجعله الرجل الكامل.. لماذا؟!!
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (1).
والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أنه ما من نبي الَّا كذَّبه قومُه :
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } (2).

{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } (3).

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ } (4).

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} (5) .

{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ } (6) .

وقد ذكر القرآن تكذيب الأقوام رسلهم جملة واحدة.
{ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } (7) .

{ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } (8).

إذاً فما من نبي جاء قومه إلَّا كذبوه.. وكأنهم تواصوا بذلك، ومردوا عليه :
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } (1) .
ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام بِدعاً من الرسل فكذبه قومه وآذوه : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } (2)
ولم يألُ القرآن الكريم أنْ ردّ على افتراءات الكفار وتكذيبهم، بل عضّد موقف النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع عنه ووصفه بالصدق، وردَّ على افتراءات الكفار (3).
{ وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } (4).
بل هاجم القرآنُ المفترين المكذبين، وتحداهم أن يأتوا بمثله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } (5) .
ولن يستطيعوا لأنه كتاب الله العزيز العليم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

بعض أسباب التكذيب والافتراء :
لو استعرضنا آيات القرآن الكريم، باحثين عن الأسباب التي دعت الناس إلى تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لوقفنا على كثير منها.. ولسنا هنا في صدد إحصائها، إنما نحب أن نلقي ضوءا على أهمها.

ا- الشرك:
فهو الطامَّةُ الكبرى التي تؤدي بصاحبها إلى جهنم وساءت مصيراً، وقبل ذلك إلى غضبِ الله تعالى، فحياة الشرك، والرغبة في البقاء في حمأتها ووحلها تجعل المشرك يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله صلوات الله عليهم { وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيما }(1).

2- المكابرة:
تؤدي بصاحبها في مستنقع الضلال وحفرة الإشراك والكفر ألم يقل الحكماء " العناد يورث الكفر" والمكابرة تشحن صاحبها أنْ يجد ثغرة للتفلت، وتعميه عن رؤية الحق، وتسول له العناد والتحدي، ورجلٌ هذه صفاته وهذه طريقته في الحياة لا يرى ضياء الإيمان ولا يريد أن يراه فيكذّبُ صاحبه ويتقول عليه الأقاويل :
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ } (1).
{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً } (2) .
كما أن الجحود- كما مرَّ معنا- يؤدي إلى التكذيب : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } (3).

3- ضعف الأيمان وعدمه:
ومن أين لفاقد الشيء أن يشعر بلذته، إن الإيمان إذا لامس شَغاف القلب حرك مشاعره، وأوْقدَ حبه لله ورسوله فصدَّق كتابه وحفظه علماً وعملاً وطبّقه فكان قرآناً يمشي على الأرض، أما فراغ القلب من الإيمان والعقل من التفكر فيورث التكذيب والافتراء: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (4) .

بعض نتائج الافتراء والتكذيب :
إن نتائجها متعددة، وإحصاؤها يستدعي الكثير من الانتباه والتفكر, وإليك أخي المؤمنَ بعضَها، نسأل الله تعالى أن يكتب لنا الإيمان، ويزينه في قلوبنا، ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقائه سبحانه:

1- السقوط في غضب الله ولعنته أبد الآبدين :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }(1).

2- العذاب الشديد: والسؤال الاستنكاري :
{ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ }(2)
{ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى }(3) .
فما أشدَّ هذا العذاب الذي توعده الله الكافرين وما أعظم تدميره الذي لا يُبقي ولا يذر، سببه تكذيب المرسلين والافتراء على الله سبحانه.
{تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ } (1).
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه من نوقش الحساب فقد هلك
يقول الله تعالى: يا عبدي أرسلت إليك محمداً صلى الله عليه وسلم فلم تؤمن، بل كذّبته ورميته بالافتراء وقلت ما أنزل الله من شيء..خلقت لك العقل تفكر به، فعشت كالأنعام لا تستعمل عقلك إلَّا بما يرضي شهواتك.. وضّحتُ لك الطريق إليَّ، وزرعته بعلامات الأمان، ولوحات التوجيه، لتصل إلى مرضاتي سالماً، وأنرتُه بالشريعة السمحاء تساعدك على الرؤية الواضحة فلا تصطدم بمعوقات الشهوات، وذلَّلْت لك الطريق ومهّدته تمهيداً، فأزلت الجنادل وصغار المثبطات.. فأعرضتَ عن هذا كله، وركبت رأسك، واتبعت سفاسف الأمر فليس لك عندي جزاء سوى النار
نعوذ بالله من غضبه وسخطه.

3- الكذب على النفس أولاً وخسارة الأنفس :
إن الإنسان حين يكذب يسعى إلى مصلحة نفسه - كما يظن- ويعمل لنفعها فيسلك سبيل الكذب والتكذيب ويسمح لنفسه أن يفتري على الله والناس،
وأول من يكذب عليهم الكذابُ نفسه، فيُضلها ويُرديها في شر أعماله:
{ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } (1)
فهو في البداية يعرف نفسه كذاباً، ويعمل لطمس الحقيقة، وعلى مرّ الأيام لا يرى الحقيقة التي طمسها، إنما يرى كذبه نَمَا وطغى حتى ما عاد يرى غيره، فيضِلُّ معتقداً أنه على الحق.. وبذلك يخسر نفسه :
{قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}(2)
ومن خسر نفسه فلن يرى خسارة أشد منها، ولا يفلح أبدا
{ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }(3).
وكيف يفلح من يكذب على الله، ويكذّب رسوله؟!!
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ }(4).

4- التبكيت والتوبيخ :
يحاسب المكذب الكافر يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، من غير ستر يحجبه عن عيون العباد.. فلا حرمة في الآخرة لمن لم يَرْعَ حرمة الله، ولا كرامة لمن جرح كرامة الرسل والأنبياء، وكذبهم، وشهَّر بهم.. فالعقاب يوم القيامة من جنس العمل.
{ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }(1)
فتنظر إليهم الخلائق لاعنة لهم، متبرئة منهم، ويوبِّخه الله تعالى، والجميع يسمعون، قبل طرحه في النار قائلاً :
{ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ( 60)} (2) .
ويشتدُّ القرآن في توبيخهم حتى لا يجد الكافر أمامه إلاَّ العذاب والنار الحارقة، فأين المفر من عذاب الله؟! وأين الأمل في الإفلات والنجاة؟! ولعلك تشعر بموقفهم المَهين في هذا التصوير البديع :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } (3)
وهل يعقل أن يتسع خرم الإبرة لحجم الجمل الضخم؟!! نسأل الله حسن الخاتمة.

بعض طرائف عذاب المكذبين والمفترين في الدنيا :
لئن كان مثوى الكافرين يوم القيامة النار، خالدين فيها أبداً، فإن الله تعالى عجّل لهم العقوبة في الدنيا ليذوقوا العذاب مرتين فيشعروا بطعم مرارة الكفر في آخر عهدهم من الدنيا، وفي الآخرة..

1- فهؤلاء قوم نوح عليهم السلام، حين كفروا أرسل الله تعالى عليهم الطوفان فأغرقهم، فأدخلهم النار { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً }(1) والعطف بالفاء يدل على الترتيب والتعقيب. فما أن أغرقهم الله حتى أدخلهم النار، فخرجوا من عذاب إلى عذاب.
وهذا فرعون وجيشه، خرج يتبع موسى عليه السلام وقومه ليمنعهم من الفرار بدينهم، وليقتلهم، فابتلعه اليمّ، ثم نجاه الله ببدنه ليكون عبرة للأجيال إلى يومنا هذا.
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (2) .

2- وحين كذبت عادٌ نبيَّها هوداً عليه السلام ، أهلكها بالريح الشديدة الصرصر:
{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } (الحاقة) فلم يبق منهم أحد
وقد وصف الله تعالى هذا اليوم بأنه :
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21)}(1) .

3- وحين كذبت ثمود نبيها صالحاً عليه السلام، أهلكها الله بالطاغية، وهي الصيحة المجاوزة للحد في الشدة،
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } (2) ،
{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } (3) ،
الله أكبر صيحة واحدة تجعلهم كالعشب اليابس المتفتت من شجر الحظيرة؟!! إنها قوة الله!! وجبروت الله!! وانتقام الله!!

4- أما النبي لوط عليه السلام فإن قومه كانوا مكذبين ضالين يأتون في ناديهم المنكر، ويتّبعون غير سنة الله في الحياة.. شاذين يأتي الرجالُ الرجالَ.. فكان عقابهم الأول أنْ أرسل الله عليهم حاصباً، وهي ريح ترميهم بالحصباء، ثم أمر الملك فقلب المدينة بهم رأساً على عقب { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا }(1).

وطرائق العذاب في الدنيا كثيرة في هؤلاء الذين كذبوا على الله، وكذّبوا أنبياءه، منها أن ينصر الله المسلمين عليهم، فيعذبهم بأيدي المسلمين، ويتملكهم الخزي في القتل وذلة الأسر والتبعية،
{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } (2) .

والعدو لا تنكسر شرته، ولا تخضد شوكته، إلَّا بجهاده والاستنفار لقتاله، والتجهز لمحاربته.. ولئن وصف النصارى واليهودُ المسلمين بالإرهاب، لهذه الصفةُ من مناقب الشانئين وسماتهم، ولا يضير المسلمينَ ما يدعيه الأعداء إذ يمدحهم الله عز وجل: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (3)
فإرهاب العدو فرض، فرضه الله على المسلمين. وقد أمرنا الله أن نثخن في الأرض، فهي اللغة التي يفهمها أعداؤنا
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } (1)
بل إن الرسول الكريم يَسُنُّ لنا شريعة نعامل بها أعداءنا الذين يمكرون بنا دائماً، فقد كان من وصيته صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين ولاه قيادة الجيش إلى بلاد الشام، أن ينزل على أعداء الله في عِماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلاً ، وأن يحرقهم بالنار (يحرق بيوتهم)، ومن وصية الصديق رضي الله عنه لأسامة حين شيعه، أن يخفق المقاتلين بالسيف خفقاً، وقد طلب رضي الله عنه إلى أحد قادته في قتال المرتدين أن لا يُبقي على أحد منهم قدِرَ عليه، وأن يحرقهم بالنيران، ويقتلهم كلَّ قِتله.. إن أعداءنا - إن ظهروا علينا- لا يرقبوا في مؤمن إلاً ولا ذمة
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ }(2).

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة الحِجر / [ الآيتان 94، 95 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}.
الاستهزاء والسخرية :
إن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بدعوة التوحيد.. وكذلك الأنبياء عليهم الصلوات والسلام عليهم أن يبلغوا رسالات ربهم وأن يوضحوها للناس ويخرجوهم- بإذن ربهم- إلى الصراط المستقيم والمحجة البيضاء ليلُها كنهارها..
والأنبياء والمرسلون لا يكلفون بذلك إلَّا حينما يميل الناس إلى الباطل بشهواتهم، ورغباتهم، وينحرفون إلى فساد العقيدة، وفساد التصور، وفساد التصرف فيعيشون خبط َعشواء، لا يدرون لِمَ يعيشون؟ ولِمَ خلقوا؟ وهل يبعثون؟ ولماذا يبعثون؟

فإذا كانت هذه حالهم فسدَتْ فطرتُهم، وفساد الفطرة أمر خطير يجعل صاحبه يعيش كالبهائم بل أضل.. فالبهائم لاعقل لها تفكر به، ولا نور في قلبها يدفعانها إلى الهداية.. أما الإِنسان إذا فسدت فطرته كان له عقلٌ لا يفكر به، ونورٌ طمس في قلبه، وبصيرة حجبها الران، وطولُ الزمان يصيِّرُه أكثر ضلالاً من البهائم، لأنه أرقى منها مستوى بعقله وقلبه فنزل إلى مستواها بمحض إرادته- وكان يستطيع أن يرتفع- ولئن كانت البهائم مخلوقة هكذا، فلها عذرها، أما هو فقد حفر لنفسه وأساءها فكان أحط منها.

ولأن الكافرين هذه صفاتهم، فإن الرسل وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يصدعون بالتوحيد ويدعون الناس إلى عبادة ربهم يجدون عداوة شديدةً منهم وإيذاءً..وسخريةً واستهزاءً .. وهم يتحملون لأنَّ صاحب الرسالة يعرف سلفاً أن دعوته تجد معارضين من ذوي الأهواء، والمصالح الآنيّة الدنيوية والمفسدين الذين يعيشون متفلتين، لا ضابط يردعهم، ولا مانع يوقفهم، ولا شريعة تضبط تصرفاتهم.. هم يعلمون أن الضياء يتفلت قليلاً من حلكة الظلام، وأن النور يتقدم بطيئاً، لكنهما يثبتان في نفوس الناس بالصبر والحلم والأناة.

ولكنَّ الرسلَ بشرٌ، لهم عواطفهم وقدراتهم في تحمل سماجة السمجين، وبداوة المكذبين وحِلفَ المتكبرين وسخرية الساخرين وهزء الهازئين.. والله تعالى لايتركهم لبشريتهم وضعفهم بل يقوّى أنفسهم ويشدُّ من أزرهم. ويدافع عنهم :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } (1).

روى القرطبي في الجزء العاشر ص 62 في الجامع لأحكام القرآن عن عبد الله بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أمِر بالجهر خرج هو وأصحابه غير مبالين بالمشركين معرضين عنهم.

وقال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل الله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر..)ُ (2) الآية، والمعنى أنَّ الله كافيك هؤلاء المشركين المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة ،
وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاصُ بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعاً قبل يوم بدر في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار.
ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار جبريل إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات حَبَناً " بطنه عظمت بالماء الأصفر"
ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجرُّ سَبَلَهُ (ثوبه المسبل اختيالاً وفخراً) وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَربش نبلاً له، فعلق سهم من نبله بإزار المغيرة فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء فانتقض به فقتله.
ومرّ به العاص بن وائل فأشار جبريل إلى أخمص رجله، فخرج على حمار يريد الطائف فربض به على شِبرِقة ( نبت حجازي يؤكل، وله شوك) فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.
ومرّ به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً (سال وخرج) فقتله، وذمَّهم إذ قال تعالى : {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)}(الحجر) .
وقد علم الله تعالى أن الاستهزاء يؤثر في النفس البشرية وأكثر تأثراً به الأنبياء، وأولهم تأثراً سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فيضيق صدره حزناً وألماً بما يقولون من تكذيب وسخرية، فأمره الله تعالى معلماً ومربياً أن يكثر من التسبيح والصلاة، ليذهب همه وحزنه.
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}(الحجر) .
وقد كان رسول الله إذا حزبه أمرٌ نادى على مؤذنه بلال قائلاً : " أرحنا بها يا بلال ". وكان يقول عليه الصلاة والسلام : وجعلت قرة عيني في الصلاة.

فالصلاة قربٌ من الله، وبُعدٌ عن سفساف الحياة الدنيا، ولجوءُ الضعيف إلى الله القوي، واستمدادُ العون منه والمساعدة، إنها رمز العبودية لله، وهي أقصى الدرجات التي يحلم بها العبد المتقرب من مولاه.

من أفعال المستهزئين الساخرين :
1- تكذيبهم بآيات الله والسخرية بها والاستهزاء بصحتها وصحة مصدرها:
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون } (1) .
وجعلوا التندر بآيات الله تسلية وإزجاء لفراغهم.
{ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً } (2) .

2- السخرية من رسول الله وأصحابه والمؤمنين:
إنها المحاربة النفسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليكف عن دعوته أو يهادنهم، وهيهات هيهات، فالمؤمنُ بقضيةٍ عَشِقَها، وامتزجت بقلبه، وخالطت جسمه، لا يترك دعوته، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ،ولو ملّكوه الأرض وما عليها وأغرقوه بالأموال والشهوات.
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } (3) .

وما من نبي أرسل إلى الكافرين إلًّا استهزؤوا به، فهذا دأبهم منذ القديم
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } (1) .

3- الاستهزاء والسخرية من الصلاة وأصحابها:
فهم يشيرون إلى المصلين إشارة تدل على قذارة أنفسهم، وخبث مكرهم
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِبا } (2) ،
وهذه الآية وإن كانت في المنافقين فالمنافقون كفّارٌ
يصرحون أنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم مع الكافرين، فهم في خندق واحد ضد المسلمين :
{ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } (3) .
وليندمَنَّ الساخرون يوم القيامة حين يرون العذاب على ما فعلوه وما فرَّطوا في جنب الله وليقولُن نادمين حيث لا ينفع الندم، آسفين حين لا ينفع الأسف.
{ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين } (4) .
وسيندمون حين يُحيط بهم العذاب، ويعرفون تمام المعرفة، ويتيقنون تمام اليقين أنهم ماكثون في العذاب الأليم:
{ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } (1) .
{ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } (2) .

ولكن ما بال الذين يرون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم يسخرون من الدين وأهله، ويصفونه بالرجعية، والبعد عن الحقيقة المعيشية، والحقيقة العلمية؟!! ويتقولون على الله الأقاويل، ويسخرون من المؤمنين، فيصفونهم تارة بالتطرف، -ولا متطرف إلَّا من ابتعد عن شرع الله وتطرف عنه- وتارة بالأصولية، ويقصدون التجمد عند النصوص والفهم الخاطىء لها، والأصولية حقيقةً عودة إلى كتاب الله وسنة نبيه، والتزامٌ بالشرع وعملٌ به، فهي إذاً صفة يتمنى جميع المسلمين الواعين أن يتصفوا بها، ما بال هؤلاء المسلمين يتخذون من هؤلاء الذين سخروا منهم ومن دينهم، من أهل الكتاب، والمشركين أولياء.. يتولونهم؟!! ألم يعلموا أن الله نهاهم عن ذلك، فالمسلم متميز عنهم؟!! إن الله يناديهم معلماً ومربياً، ومحذراً ؟!
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (1) .
بل أمَرَنا مولانا سبحانه أنْ إذا سمعْنا الكفارَ يستهزئون بالدين وشعائره وأهله، أن نسخر منهم ثم لا نجالسهم فليسوا منا ولسنا منهم. فكما أن الله يستهزىء منهم ويسخر،
{ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون } (2)
فنحن نسخر منهم ونهزأ، فالرد بمثل الهجوم وأكثر منه أولى بالمؤمنين
{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } (3) .

وأما أعظم التعبير عن المفاصلة بيننا وبين الكافرين، فقد وضَّح الله تعالى هذه المفاصلة أبْيَنَ الوضوح، فأمر المسلمين أن لا يجالسوهم لأنهم يكونون إذ ذاك مثلهم، وإذا حلت اللعنة عليهم والمسلمون بينهم ساكتون، خرس لا يمتعضون ولا يردون، وكأنهم غير موجودين، فقد تحلُ بهم. ومن كثَّر سوادَ قوم فهو منهم..!!
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } (1)

هكذا إذاً!! المفاصلة.. ولا يقصد بالمفاصلة عدم التعامل معهم تجاريّاً وعلميّاً.. فلا بد من ذلك فهي الحياة الدنيا تجمع بين الأطراف.. ولكنها المفاصلة في الروح والعقل، المفاصلة في الحب والود، والبغض والكُره، المفاصلة في المعتقد والإيمان، المفاصلة في الأمن والأمان.. فهم أعداء الله ونحن أحباؤه.. ولا اجتماع بين نقيضين..

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النحل [الآية 103]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }.

منذ القديم وإلى هذه اللحظة يفتري الكافرون على نبي الإسلام ما يفترون، ويدّعون ما يدّعون، ويرمونه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن ليس من الله، وليس من عنده، فقد تعلمه من غيره ..
ومما يضحك له الإنسان- من ألم- أن هذا الادعاء صبياني، لا يقول به عاقل، ومتى كان الكافرون عاقلين، لأن الحجة التي بنوا عليها ادعاءهم تافهة لا وزن لها - كبقية الاتهامات الأخرى- لكن تفاهة هذا الادعاء ناتجة عن أن الصغير لا يقبل بها، ويسخر من سردها.
فقد روى ابن إسحاق أنه كان في مكة فتى أعجميٌّ قُربَ الصفا، يبيع بعض السلع البسيطة، يمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم كما يمر عليه الناس، ويكلمه كما يكلمه الآخرون، ولم يكن هذا الأعجمي ليتكلم من العربية سوى كلماتٍ وجملٍ يكاد لا يبينها ولا يحسن نطقها ادعى كفار مكة أنه علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن والحكمة!!.
وعلى الرغم من أن هذا الادعاء لا وزن له إلا أنه ينبغي أن نشير إليه رادّين على تخرصاتهم :

1- لو كان هذا الغلام ذا حكمة وفهمٍ، ما وضع نفسه في الموضع الذي هو فيه، يمرُّ عليه الجميع من كبارٍ، وصغارٍ، وينظر إليه الكثير منهم نظرة ازدراء.
2- أنَّى لهذا الفتى أن يُعلِّم الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن والحكمة، على فرض وجودها عنده، وأداة التعليم واللغة وحسن البيان ليست فيه؟! وفاقد الشيء لا يعطيه.
3- كان أحرى بهذا الأعجمي- الذي اتصف بالعلم والحكمة على حد قول الكفار- أن ينسب القرآن إلى نفسه، فيفخر بذلك على أهل مكة ومن حولها، ويتبوأ فيهم مركز الصدارة، لا خانة النسيان!!
4- لِمَ تكاسل هؤلاء جميعاً فلم يتعلموا منه- إن صح زعمهم- فأفادوا واستفادوا، ونافسوا محمداً صلى الله عليه وسلم في دعوته؟!!.
5- وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم - حسب ادعاء الكافرين- تعلَّم من ذلك الأعجمي القرآن والحكمة، ثم صاغ ذلك بأسلوب عربي مبين.. أما كان أهل قريش - وهم أفصح العرب- أن يصوغوا الأفكار بقالبٍ سامٍ من البلاغة.. مثَلُهم مثَلُ النبي صلى الله عليه وسلم ؟!! لقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله.. فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بعشر سورة مثله- مفتريات- فعجزوا.. وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا..

أمة مشهورة بالبلاغة والفصاحة يأتيها رجلٌ بكلامٍ من كلامهم ويتحداهم أن يكونوا مثله في حُسن البلاغة والبيان فلا يستطيعون.. وينبهرون حين يقرأ عليهم، وتتلى آياته فيهم، فيصمتون إعجاباً.. أحرى بها أن تصدق أنه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم..

ولئن اجتمع الماديون الملحدون في روسيا الشيوعية عام أربعة وخمسين وتسع مائةٍ وألف في مؤتمر المستشرقين يدّعون أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عمل فرد واحد- وهو محمد عليه الصلاة والسلام- بل من عمل جماعة كبيرة، وأنه لا يمكن أن يكون قد كتب في الجزيرة العربية بل إن بعض أجزائه كتب خارجها!!

لَهذا الافتراءُ الجاهليُّ في القرن العشرين الجاهلي!! أقلُّ خطأ من خطأ الجاهليين أهل مكة.. وكل أقوالهم خطأ.. لكنّ جاهليّي القرن العشرين أقرُّوا أنَّ رجلاً واحداً بل إن رجلين أو أكثر لا يستطيعون تأليف كتاب يتضمن قواعد الحياة وأسسها إلى يوم القيامة.. وغاب عن عقول ملاحدة القرن العشرين أن العالم كلّه ماضيه وحاضره لا يستطيع أن يأتي بمثله أنسهم مع جنّهم.. لأنه كلام الله الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}(فصلت) .

يتبع
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة الإسراء / [الآيات 90 - 93 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93)}

قال القرطبي:
نزلت هذه الآيات في رؤساء قريش، مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان، والنضر بن الحارث، وأبي جهل، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، وأبي البختري، والوليد بن المغيرة.. وغيرهم.
وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن، ولم يرضَوا به معجزة، وهذا من العناد إذ إنهم حاولوا معارضته، وأنَّى لهم ذلك فهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلِّموه، وخاصموه، حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه أنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فأتهم.. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ قومه، ويحرص على هداهم، فجاءهم وهو يظن أنْ قد بدا لهم فيما كلمهم بَدْوٌ..
فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعِبت الآلهـة، وشتمت الدين وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة.. فما بقي أمر قبيح الَّا قد جئته !!! وقالوا له كلاماً يدل على جهلهم وسفههم. ثم عرضوا عليه المال الوفير، والزعامة، والشرف والملك، وأجمل النساء وعرضوا عليه الطبَّ إن كان ما يأتيه رئِيَّا من الجن، عرضوا كل هذا ليترك الدعوة إلى الله.. وهذا ما يفعله أعداء الله بالدعاة الآن.. فالطريقة في إبعاد الناس عن الدين واحدة في كل زمان ومكان..
فكان رده صلى الله عليه وسلم ، ردّ الداعية الواثق بدعوته، المؤمن بها، الذي لا يبيعها بعرض من الحياة الدنيا مهما كثر، فما عند الله خير وأبقى..

قال صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون، ما جئتُ بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرفَ فيكم، ولا المُلْكَ عليكم.. ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم.

فلما أجابهم بهذه العبارة القوية، وحدّد لهم هدفه دون خوف أو مواربة، بل كان واضح الحجة بيِّنَ الأفكار، احتدّوا وبدأوا يتنطعون في الحديث يعاجزون، فهذا يقول: إنك لم تقبل منا ما أكرمناك به، أوَ ما علمت يا محمد أنه ليس من الناس أحدٌ أضيقَ بلداً، ولا أقلَّ ماء، ولا أشدَّ عيشاً منا؟! فَسَلْ لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به !! فليُسَيّر عنا هذه الجبال، التي ضيّقت علينا، وليَبْسُط لنا بلادنا، وليخرُق لنا فيها أنهاراً كأنهار الشام، وليبعث لنا ما مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قصيَّ بن كلاب، فإنه شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحقٌّ هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولاً كما تقول،

فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه : ما بهذا بعثت إليكم.. إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم،
قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك ! سَلْ ربك أن يبعث معك مَلَكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله أن يجعل لك جِنَانَاً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولاً كما تزعم؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت بهذا إليكم، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراًّ،
قالوا: فاسقط السماء علينا كِسَفاً كما زعمت أنَّ ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلَّا أن تفعل،
فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل.
وقالوا: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ً
وقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم من إصرارهم على الكفر.. وقام معه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا منزلتك من الله، فيصدقوك ويؤمنوا بك فلم تفعل ثم سألوك أن تعجِّل لهم بعض العذاب، فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها، ثم تأتي بِصَكِّ معه أربعة ملائكة يشهدون لك ما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً، كاسف البال مهموماً مغموماً.

أيُّ بشر هؤلاء الذين يُكذِّبون رسول الله، وهم يعلمون صدقه وأمانته؟!!
وهل تفجير ينابيع الأرض أكبرُ من خلق السماء والأرض؟ ؟!!
هل إيجاد جنة فيها نخيل وعنب وماء كثير أشدُّ من النظام الكوني الباهر وسباحة الكواكب في السماء بنظام وترتيب،
أفلا ينظرون إلى ما حولهم من المخلوقات تدّب على الأرض فيأكلون بعضها ويركبون الآخر، أفلا ينظرون إلى أنفسهم نقد خلقهم الله في أحسن تقويم!!

لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لإسعاد البشرية، والأخذ بيدها إلى الأمان والاطمئنان.. إلى الإشراق والنور.. فبدلاً من اتباعه وشكر هذه النعمة يتحدّون ويستكبرون، ويسوء أدبهم؟!
بل هذه صفتهم الدائمة، فيسألون أن تنزل عليهم السماء قطعاً قطعاً.. ولو نزلتْ لما نجا أحد ولهلكوا.. كان حَرِيّاً بهم أن يتذكروا ما فعله الله بأبرهة الحبشي، وما أَمْرُه ببعيد عنهم حين أرسل عليه وعلى جيشه طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم هشيماً تذروه الرياح، وبقايا جيش مقهور، أيريدون أن يروا الملائكة تأتيهم من السماء؟!!
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً }(الفرقان) .

فما جاءت الملائكة إلى الأرض- كما يريدون- إلَّا لنصرة الأنبياء و إبادة المشركين.. فأين هم إذْ تقتعلهم الملائكة وتستأصلهم؟!! أيريدون رؤية الله تعالى؟! وما استوعب الحقيرُ الجليلَ؟!! والصغيرُ الكبيرَ؟!! إن الله تعالى حين تجلى للجبل جعله دكاً، وخرَّ موسى عليه السلام صَعِقَاً.. كيف ترى العيون الكليلة والمخلوقات القاصرة نورَ الأنوار، وهو الذي لا يحده زمان ولا يحيط به مكان؟!!.

ما هذه الطلبات وهذه التساؤلات المادية؟! بيت من زخرف، صعود إلى السماء، عودة إلى الأرض! كتاب يُحمل.. أناس يقرؤونه، ملائكة تشهد عليه!!
إن الإِيمان تصديق القلب والعقل وعملٌ بالجوارح.. أما التفكير المادي فلم يكن يوماً من الأيام طريقة سليمة إلى الله تعالى..

ولم يكن الرسل في يوم من الأيام سوى بشر مثلنا، أكرمهم الله بالنبوة، وعصمهم بالرسالة، فكانوا هداة مهديين، ينيرون لنا مصابيح الهدى، يؤدّون واجبهم بإخلاص لله تعالى لا تشوبه شائبة، ودأبٌ لا يكلِّ ولا يملّ .. وما عليهم إلَّا البلاغ فإن آمن الناس كان حظهم طيباً والَّا فلا يلوموا إلَّا أنفسهم
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ }(النساء) .
فلا تحزن يا رسول الله صلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك.. بلّغتَ الرسالة، وأدَّيتَ الأمانة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة.. ولا تحمل نفسك الهمّ والغمّ
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } (الكهف)
ولكنَّ رحمتك بالناس هي التي تستنفر مشاعرك، ورغبتك في ذبّهم عن النار هدفك الأول والأخير
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة) .

إنْ جئت ربَّك ترجو منه مغفرةً * فابدأ دعاءَك بالصلاةِ على النبي

واسألهُ أنْ يحيي فؤادكَ دائماً * فحياةُ قلبكَ بالصلاةِ على النبي

واسأله أنْ يسمو مقامك في الدنى * فَعَلاءُ مجدكَ بالصلاةِ على النبي

واسأله فردوسَ السعادةِ، واللقا * فدخولكَ الفردوسَ من فضلِ النبي

صلَّى عليك اللهُ ما شعَّ الضيا * في كل قلبِ بالصلاة على النبي​

يتبع











 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النور / [ الآية 11 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
القسم الأول


حديث الإفك
إن من شناعة الجرم وبشاعته أن يتناول المنافقون بيتَ النبي الكريم وعرضَه الطاهرَ الشريف بالإِفك وهو عليه الصلاة والسلام أكرم إنسان على الله، وعِرضُ صاحبه الصديق رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله- صلى الله عليه وسلم .. وعرضُ رجل من الصحابة صفوان بن المعطل، يشهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف عليه إلَّا خيراً، هذا الإفك الذي شغل المسلمين في المدينة شهراً كاملاً.. كان هذا الشهر ثقيلاً جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين.. هذا الإفك الذي كاد يعصف بالمجتمع المسلم، لولا فضل الله تعالى الذي أعاد إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطمأنينة والسكينة، ولجم أفواه المنافقين ومن انجرف معهم من المسلمين، الذين ثابوا بعد ذلك إلى رشدهم، وعرفوا عظم ما جنوه، في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق أهل بيته الطاهرات..
هذا الحادث.. حادث الإفك قد كلّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلّف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل- وعلَّقَ قلبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقلبَ زوجته التي يحبها، وقلبَ أبي بكر الصديق وزوجته، وقلبَ صفوان بن المعطل، شهراً كاملاً علَّقها بحبال الشك والقلق، والألم الذي لايطاق.
فلندع عائشة رضي الله عنها تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات.

عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة- رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهنَّ خرج سهمُها خرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أُحمل في هودج، وأنزل فيه. فسِرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة
آذن ليلةً بالرحيل؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش. فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عِقدٌ لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنّي فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنّ اللحم؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفةَ الهودج، فحملوه؛ وكنت جارية حديثة السن؛ فبعثوا الجمل وساروا،
فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس أحد منهم، فتيممت منزلي، الذي كنت فيه. وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت.
وكان صفوانُ بن المعطل السُّلَميُّ. ثم الذكوانيُّ. قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي؛ فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي؛ والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته، فوطىء على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا معرِّسين. قالت: فهلك في شأني من هلك. وكان الذي تولى كبر الإِثم عبد الله بن أبي بن سلول؛
فقدمنا المدينة؛ فاشتكيت بها شهراً؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يَريبني في وجعي أنّي لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطفَ الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشرِّ حتى نقهت، فخرجت أنا وأمُّ مِسطَح قِبَل المناصع- وهو متبرزناً- وكنا لا نخرج إلَّا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنُفَ، وأمرُنا أمْرُ العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بنِ عامر خالةُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابنها مسطح بنُ أثاثة بن عباد بن المطلب- حين فرغنا من شاننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئسما قلت. أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ - فقالت: يا هِنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبويَّ. وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبرَ من قِبَلِهما. فأذن لي، فأتيت أبويَّ، فقلت لأمي: ياأمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت يا بنيةُ هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأةٌ قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلَّا أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت: فبكَيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحتُ أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأمّا أسامةُ فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلَّا خيراً. وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أيْ بريرة. هل رأيت فيها شيئاً يَريبك؟
فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبياً إن رأيتُ منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن (1) فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال وهو على المنبر:
من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلَّا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلَّا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلَّا معي.
قالت: فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكنْ أخذته الحمية. فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه، وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لايرقا لي دمع ولا أكتحل بنوم. فاصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين
ويوماً، أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيَّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً لايوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس، ثم قال:
" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله تعالى عليه ".
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسُّ منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلمز قالت: وأنا جارية حديثة السنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدث الناس به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به. فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقُنَّني. فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف) . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وَحْياً يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلم الله تعالى فيّ بأمر يتلى؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، فسُرِّيَ عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:
يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك.
فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلَّا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي. فانزل الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ.. } " العشر الآيات". فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة
لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة رضي الله عنها. فانزل الله تعالى:
{ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(النور 22)
فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى والله لأحب أن يغفر الله لي، فرَجع إلى مسطح النفقةَ التي كان يُجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: " يا زينب. ما علمت وما رأيت؟ "
فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلَّا خيراً. وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع.
قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

وتعالَ نعِشْ- أخي الحبيب - في ظلال هذه القصة بقلم الشهيد الأستاذ سيد قطب إذ يقول في تفسير آياتها في سورة النور ما يلي:
وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته. وعاش أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته. وعاش صفوان بن المعطل.وعاش المسلمون جميعاً هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات.

وإن الإنسان ليقف متململاً أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة، زوجه المقربة. وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة. تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيفة. فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة.
ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها،
ها هي ذي تُرمي في أعز ماتعتز به.
تُرمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع.
وترمى في أمانتها. وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم.
وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير..
ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإِسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة. وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارَّة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؟ فلا تجد ما يبرئها إلَّا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحيَ يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً، وهي في مثل هذا العذاب. ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح. وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى؛ وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسأل: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم!
فتقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فتجيبها أمها كذلك: نعم!.
ويالله ورسول الله نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه، يقول لها:
" أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه "..
فتعلم أنه شاكٌّ فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربُّه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن برائتها التي تعلمها ولكن لاتملك إثباتها؛ فتُمسي وتصبح وهي تهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلّها في سويدائه!.
وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه الألم، وهو يُرمى في عرضه. في ابنته زوج محمدٍ صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلاً من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر
المحتسب القوي على الألم، فيقول: والله ما رمينا بهذا في جاهلية. أفنرضى به في الإِسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل. حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم!.
وأم رومان زوج الصديق رضي الله عنهما وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء. المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالقٌ كبِدها: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلَّا أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك
يتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! .
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل. وهو يرمى بخيانة نبيه في زوجه. فيُرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حميته. وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء. وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبُه بريء من تصوره،
فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به. ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم، وهو منهِيٌّ عنه، أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!.
ثم ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم..
ها هو ذا يُرمى في بيته. وفي من؟ في عائشة التي حلّت من قلبه في مكان الابنة والزوج والحبيبة.
وها هو ذا يُرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة.
وها هو ذا يُرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرامات في أمته.
وها هو ذا يُرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.
ها هو صلى الله عليه وسلم يُرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي الله عنها،
يرمى في فراشه وعِرضه، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي، وكل ما يعتز به نبي..
هاهو ذا يرمى في هذا كله؛
ويتحدث الناس به في المدينة
شهراً كاملاً، فلا يملك أن يضع لهذا كلّه حداً. والله يريد لحكمةٍ يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً لا يبين فيه بياناً.
ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم. يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة. الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشك يعمل في قلبه مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله، ولكنه لا يطمئن نهائياً إلى هذه القرائن ،والفريةُ تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك. لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر. وزوج لا يطيق أن يمس فراشه. ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.

وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد. حبه القريب إلى قلبه.. ويبعث إلى علي بن أبي طالب. ابن عمه وسنده. يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله ،فهو يشير بان الله لم يضيق عليه. ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الأفاكين.
ورسول الله في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مدداً وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورموا أهله، ورموا رجلاً من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور
وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خُدِشت قداسة القيادة.
ويحز هذا في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها، يصارحها بما يقول الناس؟ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!
وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؟ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.

ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل: " وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئى ببراءتي. ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقرُ من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها "..
ولكن الأمر- كما يبدو من ذلك الاستعراض- لم يكن أمرَ عائشة رضي الله عنها، ولا قاصراً على شخصها. فلقد تجاوزها شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووظيفته في الجماعة يومها. بل تجاوز إلى صلته بربه ورسالته كلها. وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها..
من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلَّا الله:
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيم } .

فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً إنما هم " عصبة " متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي ذلك أطلق الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية. وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة.
ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه. وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن تُرجَف به المدينة شهراً كاملاً، وأن تتداولهُ الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!.

وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
خيرٌ.. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
فهي عندئذٍ لا تقف عند حدٍ. إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.

وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.
أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن تجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء !. أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة:
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ.. } ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. ما اكتسبوا، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيم } يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.
والذي تولى كِبْرَهُ، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول. رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أن الله كان من ورائه محيطاً، وكان لدينه حافظاً، ولرسوله عاصماً، وللجماعة المسلمة راعياً..

يتبع القسم الثاني والأخير
 
كتاب صور من تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم
(من المشركين واليهود والنصارى وضعاف الإيمان من المسلمين)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

سورة النور / [ الآية 11 ]

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

القسم الثاني والأخير

ولقد روي أنه لما مرَّ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابنُ سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها.. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال:امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت؛ ثم جاء يقودها!. وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة من الفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرائن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً. وهي الفرية الجديرة بان تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.

وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة. حينذاك، وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق!.
لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلامُ معركةً ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره. فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام التي تناوشه
لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها تاريخه.
ولو استشار كل مسلم قلبَه يومها لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:
{ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ } .
نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في ظل هذا الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم. فظن الخير بهما أولى. لكن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلَّا خيراً..
كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما روى الإمام محمد بن إسحاق:
أن أبا أيوب قالت له امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟
قال: نعم. وذلك الكذبُ. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟
قالت: لا والله ما كانت لأفعله.
قال فعائشة والله خير منك..
ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: " الكشاف :
" أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟
فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟
قال: لا.
قالت: ولو وكنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك..

وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!.
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني الوجداني.
فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي :
{ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة؛ وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد
ولا دليل: " لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ! " وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن. كاذبون عند الله الذي لا يُبدَّل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقابها.

هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبت بالبينة والدليل غفَلَ عنهما المؤمنون في حادث الإفك؛ وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمر عظيم لولا لطفُ الله لمسَّ الجماعة كلها البلاءُ العظيم. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم:
{ لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (1) .

لقد احتسبها الله للجماعة المسلمة الناشئة درساً قاسياً. فأدركهم بفضله ورحمته ولم يمسهم بعقابه وعذابه. فهي فعلة تستحق العذاب العظيم. الذي يتناسب مع العذاب الذي سببوه للرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي لا يعلم عليه إلَّا خيراً. والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع؛ ومس كل المقدسات التي تقوم عليها حياة الجماعة، والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادته عصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهم وأنفسهم طوال شهر كامل، حافل بالقلق والقلقلة والحيرة بلا يقين! ولكن فضل الله تدارك الجماعة الناشئة، ورحمته شملت المخطئين، بعد الدرس الأليم.

والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقاييس، واضطربت فيها القيم، وضاعت فيها الأصول:
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ }

وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام:
" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ"، (لسان يتلقى عن لسان) بلا تدبر ولا فحص ولا إنعام نظر. حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب!
" وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ".. بأفواهكم لا بوعْيِكم ولا بقلبكم. إنما هي كلمات تقذف بها افواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول..
" وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً " أن تقذفوا عرض رسول الله، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يُرْمَ في الجاهلية؛ وأن تتهموا صحابياً مجاهداً في سبيل الله. وأن تمسوا عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلته بربه، ورعاية الله له.. "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً.. "
" وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ".. وما يعظم عند الله إلَّا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء.

ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه، من مجرد النطق به، وأن تُنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث؛ وأن تتوجه إلى الله تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا؛ وأن تقذف بهذا الإفك بعيداً عن ذلك الجو الطاهر الكريم:
{ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } .
وعندما تصل هذه اللسمة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت.. عندئذٍ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم:
{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
" يَعِظُكُمُ ".. في اسلوب التربية المؤثر. في أنسب الظروف للسمع والطاعة والاعتبار. مع تضمين اللفظ معنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان:
" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ".. ومع تعليق إيمانهم على الانتفاع بتلك العظة:
" إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ".. فالمؤمنون لا يمكن أن يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف. وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير، ثم يعودوا إليه وهم مؤمنون:
{ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
" وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ".. على مثال مابين في حديث الإفك، وكشف عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء:
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " يعلم البواعث والنوايا والغايات والأهداف؛ ويعلم مداخل القلوب. ومسارب النفوس. وهو حكيم في علاجها. وتدبير أمرها. ووضع النظم والحدود التي تصلح بها..

ثم يمضي في التعقيب على حديث الإفك؛ وما تخلف عنه من آثار؛ مكرراً التحذير من مثله. مذكراً بفضل الله ورحمته، متوعداً من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي الله عنه من قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
والذين يرمون المحصنات- وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم- إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالة التحرج من إرتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بان الفاحشة شائعة فيها.. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والأخرة. وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيُّفِ مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثَمَّ يعقب بقوله:
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " .. ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلَّا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلَّا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلَّا العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكِّرُ المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته:
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } .
إن الحدث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء. ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته.. ذلك ما وقاهم السوء.. ومن ثم يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً أن يصيبهم جميعاً، لولا فضل الله ورحمته، صوّرَ لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان. وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم. وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه. وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان، وأن يسلكوا طريقاً غير طريقه المشؤوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن. ويرتجف لها وجدانه. ويقشعر لها خياله! ورسْمُ هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية:
" وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ".. وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه. وهو نموذج منفر شنيع. وإن الإنسان لضعيف. معرض للنزعات. عرضة للتلوث. إلَّا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه.
ولولا فضل الله ورحمته لم يُزكَّ من أحد ولم يتطهر. والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد " وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "..
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض- كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب-:
{ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
نزلت في أبي بكر رضي الله عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة. وقد عرف أن مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه قريبه. وهو من فقراء المهاجرين. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه. فآلى على نفسه لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً.
نزلت هذه الآية تذكر أبا بكر، وتذكر المؤمنين، بأنهم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم بعضهم مع بعض بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا..
وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله. أفق يشرق في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبي بكر الذي مسّه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه. فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛ وما يكاد يلمس وجدانُه ذلك السؤال الموحي:
" أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ لكم؟ " حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على مناطق البيئة، وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله. في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي. ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبداً. ذلك في مقابل ما حلف: والله لا أنفعه بنافعة أبداً.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبداً نظيفاً طاهراً زكياً، مشرقاً بالنور..
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به. إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبَيٍّ فلا سماحة ولا عفو. ولو افلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
{ إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}(النور) .
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها؛ وهو يصورها رمياً للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارّات، غير آخذات حذرهنَّ من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرْن شيئاً، لأنهن لم يأتين شيئاً يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله عليهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة.
ثم يرسم ذلك المشهد الأخّاذ: " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ".. فإذا بعضهم يتهم بعضاً بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإِفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.
" يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ".. ويجزيهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق. ويومئذٍ يستيقنون مما كانوا يستريبون:
" وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ "..

ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس. وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة. وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج.
وما كان يمكن أن تكون عائشة رضي الله عنها كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض:
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
ولقد أحبت نفسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حباً عظيماً. فما كان يمكن أن يُحبّبَها الله لنبيه المعصوم، إن لم تكن طاهرة، هذا الحب العظيم.
أولئك الطيبون والطيبات " مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ " بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل.
" لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ".. مغفرة عما يقع منهم من أخطاء. ورزق كريم. دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم.
بذلك ينتهي حديث الإفك. ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة. إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول، وفي عصمته الله لنبيه أن لا يجعل في بيته إلَّا العنصر الطاهر الكريم. وقد جعلها الله معرضاً لتربية الجماعة المسلمة، تشف وترف؛ وترتفع إلى آفاق النور.. في سورة النور.

انتهى القسم الثاني والأخير

يتبع
 
عودة
أعلى