بطل «تبة الشجرة» يفتح خزائن ذكرياته
اللواء طلبة رضوان
اللواء طلبة رضوان، قائد سرية فى الكتيبة 12 مشاة، التى استولت على الموقع الحصين "تبة الشجرة"، يفتح خزائن ذكرياته، ويأخذنا معه فى رحلة لأيام الهَول، ليضع أيدينا على عظمة المقاتل المصرى، وكيف تمكّن من تحقيق الانتصار على نفسه أولا وحبّه للحياة، من ثم كان الانتصار على العوائق الطبيعية والجيوش فيما بعد أمرا أكثر سهولة.
يحكى اللواء رضوان:
الجندى الذى تنبأ بموته
النقيب متولى حسين دياب، من الدفعة السابقة لى فى الكلية الحربية، ورسب فى ترم متوسط، وتخرج معى كضابط مدفعية، وتخصص فى الصواريخ الفهد، علاوة على أنه ابن حتتى.
انضم لكتيبة الفهد لقيادة الفرقة الثانية المشاة، معى، مع بدء التدريب على العبور، اتفقت معه على تثبيت فصيلة الفهد التى تدعمنى دائما فى المشروعات التى نجريها، فنفّذ ذلك، ما أدى لخلق روح الفريق بيننا وبين هذه الفصيلة التى كان قائدها الملازم أول احتياط محمد محمد عكرمة.
فى الواحدة من ظهر يوم 14 أكتوبر، ونحن فى زحمة التصدى لهجوم مدرعات العدو، فوجئت به يحضر إلى موقعى، ودون كلام يناولنى محفظته ودبلة خطوبته، ولما سألته: إيه ده يا متولى؟ رد قائلا: وصّل دول لأمى "والده متوفى"، فدهشت وقلت له: ليه كده؟ فردّ ضاحكا: لأني هموت النهارده.
كان رحمه الله ذو قدرات خاصة جدا، حتى ونحن فى الكلية الحربية، يرى أشياء تبعد كثيرا عن رؤية البشر، وقد رأيت ذلك بنفسى، وتحقق أمامى كل ما يقول، حتى إننى خفت منه، وخشيته أيامها.
وبعد ذهابه بنحو 3 ساعات، فى الرابعة عصرا، وصلنى نبأ استشهاده بقنبلة 1000 رطل، وقعت على حفرته مباشرة، فلم يجدوا من جسده شيئا، رحمه الله.
القلم بـ10 قروش والشلوت بـ15 قرشا
جنودنا أذكياء جدا، يراقبون قائدهم طوال الوقت، ويدرسون طبائعه وسماته الشخصية، ويتعاملون معه طبقا لذلك. عندما توليت قياده السرية الأولى من الكتيبة 12 المشاة، كان جنودها يتميزون بالشراسة الشديدة والعنف، حتى فى هزارهم مع بعض، وكان معظمهم قدامى تجنيد عام 64، ولما حدثت نكسة 67، لم يخرجوا من الخدمة، واستُبقوا فى الجيش، وخاضوا حرب الاستنزاف بكاملها، فتولدت لديهم هذه الشراسة وهذا العنف.
فكرت فى كيفية احتواء هذه الشراسة، فهدانى ربى العظيم للتعامل معهم مثلما يتعامل الأب مع أبنائه، والأخ مع أخيه، حتى أثبتّ فى يقينهم أننى الكبير بتاعهم، علاوة على فرض حمايتى عليهم من أى تدخل خارج السرية، وفى نفس الوقت العقاب الأبوى الصارم لمن يخطئ منهم.
ومن الطبيعى أن تكون هناك أخطاء، فكنت أصبر على المخطئ صبر أيوب، ولكن لمّا يفيض بي الكيل منه، ألطشه بالقلم، أو أضربه بالشلوت، ثم بعد ساعة أستدعيه وأعتذر له، وأطيّب خاطره، وعقابا لنفسى، أعطيه 10 قروش من جيبى الخاص فى حال لطشه بالقلم، و15 قرشا إذا كان شلوتا.
عرف جنودى هذا عنى، وارتضوا به، ليس خوفا بل يقينا أننى أنقذه من محاكمة عسكرية، يمكن أن تهدم مستقبله، أو تدخله السجن الحربى لمدة طويلة، ولم يحدث مطلقا أن اشتكى منى جندى واحد طوال فترة خدمت معهم، حتى إن قائدي العظيم كان يعلم ذلك ويتعجب منه.
فى أحد الأيام، صحوت من النوم ولدى صداع شديد، لأنى لم أحصل على كفايتى من النوم، وبمجرد فتح باب الملجأ، حتى وجدت الجندى "محمود"، واقفا أمام الباب، فسألته: فيه حاجة يا محمود؟
فلم يرد، فيه إيه يا ابنى؟، لم يرد.
حد عمل لك حاجة؟....لا رد...يا ابنى فيه إيه؟! لا رد.
طيب امشى من قدّامى.
لم يرد، ولم يتحرك..
فقلت له: "تلاتة بالله العظيم لو ما مشيتش من قدامى لأضربك".
فردّ مبتسما وعيونه الثعلبية تلمع، وفرحة الانتصار واضحة على وجهه: يا ريت يا فندم، بس عايزهم قلمين وشلّوتين.
ضحكت حتى كدت أقع على ظهرى من الضحك، وأعطيته جنيها كاملا، هدية منى، لأن صداعى راح من الضحك، كان يريد 50 قرشا، أرأيتم كيف يستدرج الجندى قائده لما يريد؟!
موعد مع المسيح
فى أعقاب الغارة المشؤومة على سريّتى، يوم 16 اكتوبر عام 73، التى خلفت 9 شهداء و16 جريحا، استهلكت جميع مواد الإسعاف الموجودة بالسرية، وأبلغت قائدي العظيم باحتياجي لإعادة استكمال ما استهلك منها، فأمر ضابط شؤون إدارية الكتيبة بإمدادي بالمواد الطبية التى أحتاجها، وفعلا فى اليوم التالى وصل إلىّ كل ما طلبته، وما سوف أحتاجه.
وكان هناك بعض الجنود الذين أصيبوا، قد رفضوا الذهاب للمستشفى، وظلوا في الموقع، وظهرت لدى مشكلة كيفية علاجهم.
أى نعم جروحهم بسيطة، لكن تحتاج لغيار يوميا، وبالفعل استهلك الغيار يوميا ما تم إمدادى به.
فى يوم 21 أكتوبر، أبلغت قائدى العظيم باحتياجى للإمداد بالمواد الطبية مرة أخرى، فتعجب، ولما شرحت له الموقف، رد علىّ: سأرسل لك ما تحتاجه ومعه طبيب الكتيبة الملازم أول رشاد مرزوق تواضروس، وحضر فعلا بعد قليل، وعاين الإصابات، وأجرى اللازم.
وجلسنا بعض الوقت نتحدث عن الحرب، وفجأة نقل الحديث عن حياته وخطيبته التى يحبها ويعشقها، وما سوف يفعله لها بعد خروجه من الخدمة، وخيل إلىّ أن الكلام يسقط من فمه، ولحظتها جاءنى شعور غريب.
المهم، فى النهاية تمنيت له التوفيق، وتحقيق كل ما يتمنى، وودّعته، وانصرف إلى منطقة الشؤون الإدارية حيث موقعه، وفى الرابعة عصرا، حدثت غارة جوية لأول مرة منذ بدء القتال على منطقة الشؤون الإدارية، واستشهد الملازم أول رشاد مرزوق تواضروس، ودفنت معه أحلامه وأمانيه. مع المسيح ذاك أفضل جدا.
اجتماع الكتيبة 12 مشاة فى 2014 بدار المشاة
زمزم.. زمزم
الرقيب مجند مستدعى محمد حمزة عبدالحميد، ليس من سريتى، ولكنه من السرية المجاورة لى كنت أعرفه وأحترمه لعسكريته الصارمة (عسكرية ناشفة)، وهيبته وسط جنوده.
كان بسيطا فى تعامله مع الجميع، لكن لا يتنازل مطلقا عن حقوق الجيش، أحببته، وكأن بيننا حبل من الود، وعندما أراه نحيى بعضنا بشوق ومودّة.
فى مساء يوم 8 أكتوبر 73، استدعانى قائدى العظيم، المقدم رجب عثمان، قائلا لى:
"جهّز سريتك للدفع للاشتباك عند مهاجمة تبة الشجرة، وبعدين تعالى امشى معايا فى قيادة الكتيبة وخلّى الملازم شوقى بدير يسيطر على السرية لحين الهجوم".
نفّذت فى الحال، وجهزت السرية، وأعطيت التعليمات لشوقى، وتوجهت لقيادة الكتيبة.
وفى أثناء التقدم قام العدو بقصف جوى شديد، استخدم فيه قنابل شديدة الانفجار وقنابل النابالم، وبعد انتهائه استكملنا التقدم.
وفى أثناء سيرى، سمعت صوتا ينادينى، فتوجّهت ناحيته، فإذا بالرقيب حمزه يرقد على الأرض، وحوله بركة من الدم، وأحشاؤه بكاملها خارج جسمه على الرمل، وهو يحاول إدخالها مرة أخرى!
وعند وصولى إليه بادرنى قائلا: "هى إصابتى جامدة؟" فرددت عليه: "لا يا حمزة دى إصابة بسيطة".
كذبت عليه، فقال: "أنا نفسى أشرب ميّه". كذبت عليه مرة أخرى وقلت له: "أنا زمزميتى فاضية، هروح أجيب لك ميّه" (لأنى أعلم تماما أن إصابات البطن ممنوع عنها المياه) لم أغادره، ووقفت خلفه، ودار حوار بينى وبين نفسى، ركن الخوف عليه يمنعنى، وركن الرحمة يرد، وأخيرا انتصر ركن الرحمة.
ارتكزت على ركبتى، ورفعته عليها، وأخرجت الزمزمية، ووضعتها على فمه، فشرب، وأنا أرى المياه التى يشربها تسقط من فمه على الأرض مباشرة!
بعد انتهائه، وجدت شفتيه تتحركان دون صوت، فقرّبت أذنى من فمه.
كان يتكلم بحروف لم أستطع تمييز شيء منها، سوى كلمتين فقط، هما "زمزم.. زمزم".
لم أعلم إذا كان يقصد نفسه أو يقصدنى، وصعدت روحه إلى بارئها.
أنزلته من على ركبتى، وقرأت له الفاتحة، وتكلمت فى اللاسلكى مع الملازم شوقى، وأمرته بإرسال 4 جنود، لدفن الرقيب حمزة فى مكانه (نقل فيما بعد إلى مقابر الشهداء في الإسماعيلية)، واستكملت المسير إلى قيادة الكتيبة، وأبلغت قائدى باستشهاد حمزة، فقرأ له الفاتحة.
ومرت الأيام والسنين، وذهبت لأداء أول عمرة فى حياتى، وكنت برتبة عقيد، وقائدا لكتيبة مشاة.
وما إن هممت بشرب ماء زمزم، حتى طنّ فى أذنى نفس الهمس الذى قاله الرقيب محمد حمزة "زمزم.. زمزم"، فأكملت العمرة واسترحت قليلا، قبل أن أؤدى عمرة جديدة لروح حمزة.
http://www.mobtada.com/details.php?ID=333421اللواء طلبة رضوان
اللواء طلبة رضوان، قائد سرية فى الكتيبة 12 مشاة، التى استولت على الموقع الحصين "تبة الشجرة"، يفتح خزائن ذكرياته، ويأخذنا معه فى رحلة لأيام الهَول، ليضع أيدينا على عظمة المقاتل المصرى، وكيف تمكّن من تحقيق الانتصار على نفسه أولا وحبّه للحياة، من ثم كان الانتصار على العوائق الطبيعية والجيوش فيما بعد أمرا أكثر سهولة.
يحكى اللواء رضوان:
الجندى الذى تنبأ بموته
النقيب متولى حسين دياب، من الدفعة السابقة لى فى الكلية الحربية، ورسب فى ترم متوسط، وتخرج معى كضابط مدفعية، وتخصص فى الصواريخ الفهد، علاوة على أنه ابن حتتى.
انضم لكتيبة الفهد لقيادة الفرقة الثانية المشاة، معى، مع بدء التدريب على العبور، اتفقت معه على تثبيت فصيلة الفهد التى تدعمنى دائما فى المشروعات التى نجريها، فنفّذ ذلك، ما أدى لخلق روح الفريق بيننا وبين هذه الفصيلة التى كان قائدها الملازم أول احتياط محمد محمد عكرمة.
فى الواحدة من ظهر يوم 14 أكتوبر، ونحن فى زحمة التصدى لهجوم مدرعات العدو، فوجئت به يحضر إلى موقعى، ودون كلام يناولنى محفظته ودبلة خطوبته، ولما سألته: إيه ده يا متولى؟ رد قائلا: وصّل دول لأمى "والده متوفى"، فدهشت وقلت له: ليه كده؟ فردّ ضاحكا: لأني هموت النهارده.
كان رحمه الله ذو قدرات خاصة جدا، حتى ونحن فى الكلية الحربية، يرى أشياء تبعد كثيرا عن رؤية البشر، وقد رأيت ذلك بنفسى، وتحقق أمامى كل ما يقول، حتى إننى خفت منه، وخشيته أيامها.
وبعد ذهابه بنحو 3 ساعات، فى الرابعة عصرا، وصلنى نبأ استشهاده بقنبلة 1000 رطل، وقعت على حفرته مباشرة، فلم يجدوا من جسده شيئا، رحمه الله.
القلم بـ10 قروش والشلوت بـ15 قرشا
جنودنا أذكياء جدا، يراقبون قائدهم طوال الوقت، ويدرسون طبائعه وسماته الشخصية، ويتعاملون معه طبقا لذلك. عندما توليت قياده السرية الأولى من الكتيبة 12 المشاة، كان جنودها يتميزون بالشراسة الشديدة والعنف، حتى فى هزارهم مع بعض، وكان معظمهم قدامى تجنيد عام 64، ولما حدثت نكسة 67، لم يخرجوا من الخدمة، واستُبقوا فى الجيش، وخاضوا حرب الاستنزاف بكاملها، فتولدت لديهم هذه الشراسة وهذا العنف.
فكرت فى كيفية احتواء هذه الشراسة، فهدانى ربى العظيم للتعامل معهم مثلما يتعامل الأب مع أبنائه، والأخ مع أخيه، حتى أثبتّ فى يقينهم أننى الكبير بتاعهم، علاوة على فرض حمايتى عليهم من أى تدخل خارج السرية، وفى نفس الوقت العقاب الأبوى الصارم لمن يخطئ منهم.
ومن الطبيعى أن تكون هناك أخطاء، فكنت أصبر على المخطئ صبر أيوب، ولكن لمّا يفيض بي الكيل منه، ألطشه بالقلم، أو أضربه بالشلوت، ثم بعد ساعة أستدعيه وأعتذر له، وأطيّب خاطره، وعقابا لنفسى، أعطيه 10 قروش من جيبى الخاص فى حال لطشه بالقلم، و15 قرشا إذا كان شلوتا.
عرف جنودى هذا عنى، وارتضوا به، ليس خوفا بل يقينا أننى أنقذه من محاكمة عسكرية، يمكن أن تهدم مستقبله، أو تدخله السجن الحربى لمدة طويلة، ولم يحدث مطلقا أن اشتكى منى جندى واحد طوال فترة خدمت معهم، حتى إن قائدي العظيم كان يعلم ذلك ويتعجب منه.
فى أحد الأيام، صحوت من النوم ولدى صداع شديد، لأنى لم أحصل على كفايتى من النوم، وبمجرد فتح باب الملجأ، حتى وجدت الجندى "محمود"، واقفا أمام الباب، فسألته: فيه حاجة يا محمود؟
فلم يرد، فيه إيه يا ابنى؟، لم يرد.
حد عمل لك حاجة؟....لا رد...يا ابنى فيه إيه؟! لا رد.
طيب امشى من قدّامى.
لم يرد، ولم يتحرك..
فقلت له: "تلاتة بالله العظيم لو ما مشيتش من قدامى لأضربك".
فردّ مبتسما وعيونه الثعلبية تلمع، وفرحة الانتصار واضحة على وجهه: يا ريت يا فندم، بس عايزهم قلمين وشلّوتين.
ضحكت حتى كدت أقع على ظهرى من الضحك، وأعطيته جنيها كاملا، هدية منى، لأن صداعى راح من الضحك، كان يريد 50 قرشا، أرأيتم كيف يستدرج الجندى قائده لما يريد؟!
موعد مع المسيح
فى أعقاب الغارة المشؤومة على سريّتى، يوم 16 اكتوبر عام 73، التى خلفت 9 شهداء و16 جريحا، استهلكت جميع مواد الإسعاف الموجودة بالسرية، وأبلغت قائدي العظيم باحتياجي لإعادة استكمال ما استهلك منها، فأمر ضابط شؤون إدارية الكتيبة بإمدادي بالمواد الطبية التى أحتاجها، وفعلا فى اليوم التالى وصل إلىّ كل ما طلبته، وما سوف أحتاجه.
وكان هناك بعض الجنود الذين أصيبوا، قد رفضوا الذهاب للمستشفى، وظلوا في الموقع، وظهرت لدى مشكلة كيفية علاجهم.
أى نعم جروحهم بسيطة، لكن تحتاج لغيار يوميا، وبالفعل استهلك الغيار يوميا ما تم إمدادى به.
فى يوم 21 أكتوبر، أبلغت قائدى العظيم باحتياجى للإمداد بالمواد الطبية مرة أخرى، فتعجب، ولما شرحت له الموقف، رد علىّ: سأرسل لك ما تحتاجه ومعه طبيب الكتيبة الملازم أول رشاد مرزوق تواضروس، وحضر فعلا بعد قليل، وعاين الإصابات، وأجرى اللازم.
وجلسنا بعض الوقت نتحدث عن الحرب، وفجأة نقل الحديث عن حياته وخطيبته التى يحبها ويعشقها، وما سوف يفعله لها بعد خروجه من الخدمة، وخيل إلىّ أن الكلام يسقط من فمه، ولحظتها جاءنى شعور غريب.
المهم، فى النهاية تمنيت له التوفيق، وتحقيق كل ما يتمنى، وودّعته، وانصرف إلى منطقة الشؤون الإدارية حيث موقعه، وفى الرابعة عصرا، حدثت غارة جوية لأول مرة منذ بدء القتال على منطقة الشؤون الإدارية، واستشهد الملازم أول رشاد مرزوق تواضروس، ودفنت معه أحلامه وأمانيه. مع المسيح ذاك أفضل جدا.
اجتماع الكتيبة 12 مشاة فى 2014 بدار المشاة
زمزم.. زمزم
الرقيب مجند مستدعى محمد حمزة عبدالحميد، ليس من سريتى، ولكنه من السرية المجاورة لى كنت أعرفه وأحترمه لعسكريته الصارمة (عسكرية ناشفة)، وهيبته وسط جنوده.
كان بسيطا فى تعامله مع الجميع، لكن لا يتنازل مطلقا عن حقوق الجيش، أحببته، وكأن بيننا حبل من الود، وعندما أراه نحيى بعضنا بشوق ومودّة.
فى مساء يوم 8 أكتوبر 73، استدعانى قائدى العظيم، المقدم رجب عثمان، قائلا لى:
"جهّز سريتك للدفع للاشتباك عند مهاجمة تبة الشجرة، وبعدين تعالى امشى معايا فى قيادة الكتيبة وخلّى الملازم شوقى بدير يسيطر على السرية لحين الهجوم".
نفّذت فى الحال، وجهزت السرية، وأعطيت التعليمات لشوقى، وتوجهت لقيادة الكتيبة.
وفى أثناء التقدم قام العدو بقصف جوى شديد، استخدم فيه قنابل شديدة الانفجار وقنابل النابالم، وبعد انتهائه استكملنا التقدم.
وفى أثناء سيرى، سمعت صوتا ينادينى، فتوجّهت ناحيته، فإذا بالرقيب حمزه يرقد على الأرض، وحوله بركة من الدم، وأحشاؤه بكاملها خارج جسمه على الرمل، وهو يحاول إدخالها مرة أخرى!
وعند وصولى إليه بادرنى قائلا: "هى إصابتى جامدة؟" فرددت عليه: "لا يا حمزة دى إصابة بسيطة".
كذبت عليه، فقال: "أنا نفسى أشرب ميّه". كذبت عليه مرة أخرى وقلت له: "أنا زمزميتى فاضية، هروح أجيب لك ميّه" (لأنى أعلم تماما أن إصابات البطن ممنوع عنها المياه) لم أغادره، ووقفت خلفه، ودار حوار بينى وبين نفسى، ركن الخوف عليه يمنعنى، وركن الرحمة يرد، وأخيرا انتصر ركن الرحمة.
ارتكزت على ركبتى، ورفعته عليها، وأخرجت الزمزمية، ووضعتها على فمه، فشرب، وأنا أرى المياه التى يشربها تسقط من فمه على الأرض مباشرة!
بعد انتهائه، وجدت شفتيه تتحركان دون صوت، فقرّبت أذنى من فمه.
كان يتكلم بحروف لم أستطع تمييز شيء منها، سوى كلمتين فقط، هما "زمزم.. زمزم".
لم أعلم إذا كان يقصد نفسه أو يقصدنى، وصعدت روحه إلى بارئها.
أنزلته من على ركبتى، وقرأت له الفاتحة، وتكلمت فى اللاسلكى مع الملازم شوقى، وأمرته بإرسال 4 جنود، لدفن الرقيب حمزة فى مكانه (نقل فيما بعد إلى مقابر الشهداء في الإسماعيلية)، واستكملت المسير إلى قيادة الكتيبة، وأبلغت قائدى باستشهاد حمزة، فقرأ له الفاتحة.
ومرت الأيام والسنين، وذهبت لأداء أول عمرة فى حياتى، وكنت برتبة عقيد، وقائدا لكتيبة مشاة.
وما إن هممت بشرب ماء زمزم، حتى طنّ فى أذنى نفس الهمس الذى قاله الرقيب محمد حمزة "زمزم.. زمزم"، فأكملت العمرة واسترحت قليلا، قبل أن أؤدى عمرة جديدة لروح حمزة.