عاصمة عثمانية قديمة تظهر في رومانيا
لم أكن أعلم أن واحدة من الساحات المفضلة لدي في رومانيا تخفي سرا وراء واجهتها الأوروبية الحديثة.
لقد سمعت شائعات عن أن ميدان الحرية في مدينة تيمشوارا كان موقعا لحمام تركي رائع خلال العهد العثماني (1552-1716). لكني لم أر أي مؤشر على وجود ذلك العالم باستثناء لوحة صغيرة مكتوبة بالعربية على جدار مبنى مجاور.
فيما بعد، وفي سبتمبر / أيلول من عام 2014 عدت إلى المدينة الواقعة على الحدود الغربية لرومانيا، واكتشفت شيئا مثيرا: لقد اكتشف علماء الآثار حماما عاما عمره 400 عام كان يعرف باسم "الحمام الكبير".
كانت أعمال الحفر مستمرة، إلا أنني لم أتمكن من الانتظار لاستكشاف الكنوز التي كُشف عنها. وبدأت في التحري وعلمت أن علماء الآثار وجدوا آثارا أخرى وليس الحمام الكبير فحسب.
وكانت طواقم من العمال تحفر في مناطق متعددة في المركز التاريخي للمدينة، وكان الماضي الشرقي للمدينة يظهر من الأرض حرفيا. وصراحة، فقد أصبت بالدوار. فمن المثير أن تكون شاهدا على مدينة عرفتها عن قرب وهي تكشف عن وجه جديد تماما لها، وعن مجموعة من الأماكن الجديدة التي يجري استكشافها. لقد شعرت بأنني أسافر عبر الزمن.
جانب من الحمام التركي المكتشف أسفل ميدان الحرية (ليبرتي سكوير)
لقد احتلت الامبراطورية العثمانية تيمشوارا في يوليو / تموز عام 1552. وتحت قيادة قرة أحمد باشا الذي ولد في ألبانيا، استولى ما يقرب من 16.000 جندي على المدينة، وحولوها فورا إلى عاصمة لإقليم "بانات".
وحكم السلطان العثماني مدينة تيمشوارا بشكل مباشر لمدة 160 عاما. وكانت المدينة تتصدر النزاع بين الإمبراطورية العثمانية والامبراطورية النمساوية المجرية على الأراضي التي شكلت المنطقة لقرون لاحقة.
بينما كنت واقفا في منطقة حفر الحمام الكبير، استطعت رؤية آثار مناطق الغرف القديمة والممرات التي تسمح للهواء بالدوران، والتي كان يجري العمل على ترميمها ببطء. فكرت في عشرات المرات التي زرت فيها ساحة الحرية وأنا أجهل تماما ما يقع تحتها.
وتوجد الساحة في موقع مركزي بين ساحة الاتحاد، وهو نقطة التقاء شعبية يوجد فيها حانات ومقاهي، وساحة الأوبرا، التي تستضيف أهم النشاطات الاجتماعية والثقافية في المدينة.
ولعل الساحتين اللتين يسودهما الضجيج حاليا يجعلان ساحة الحرية تبدو وكأنها واحة من الهدوء النسبي، وتوفر أشجارها ظلالا لكل من يهمه الجلوس ومراقبة الحياة تجري أمام ناظريه.
ساحة الاتحاد في مدينة تيمشوارا
لا بد أن ساحة الحرية كانت موقعا مثاليا لمراقبة الناس في القرن السابع عشر أيضا. ولا تزال الحمامات التركية في أماكن مختلفة من العالم تعتبر أكثر من مجرد أماكن للاستحمام والاسترخاء. فهي تقوم بدور في الحياة المدنية من خلال جمع الناس في أجواء حميمة، إضافة إلى دورها الديني في تنقية الروح.
وقد كشفت الحفريات أن الحمام الكبير كان يحتوي على 15 غرفة مرتبة حول قاعة مركزية كبيرة. وكانت أرضية الحمامات معلقة على أعمدة مربعة من الطوب للسماح للهواء الساخن بالدوران، وهو الهواء الذي كانت تنتجه غرفة الفرن.
وكانت كل غرفة مجهزة بممرات للهواء وبمداخن. وفي الخارج، كانت المنطقة محاطة بالحدائق وقاعات الاجتماعات الداخلية للمباني المجاورة، مما كان يخلق أجواء خاصة وهادئة ومثالية لتجاذب أطراف الحديث.
وأنا واقف في الساحة في صباح يوم ربيعي بارد في زيارة سابقة، تمنيت لو أن الحمام لا يزال هناك حتى أتمكن من تدفئة نفسي بالبخار في داخله. أردت استكشاف الآثار التي تغير وجه المدينة أكثر، فتجولت في ساحة سانت جورج، على بعد أقل من 100 متر غربا.
قاعدة منزل من القرون الوسطى في ميدان سانت جورج.
وساحة سانت جورج هي عبارة عن ميدان صغير يقع وسط مبان تشبه تلك المبينة على طراز مدينة فيينا. وخلال زياراتي السابقة إلى تيمشوارا، كنت دائما أمر به وأنا في طريقي لتناول وجبة خفيفة من محلات بيع الكعك الجاف المملح، وأتوقف على الطريق لتصفح الكتب الإنجليزية المعروضة للبيع على رفوف مؤقتة.
ولكن مؤخرا اكتشفت آثار جديدة في ساحة سانت جورج أيضا مما حدا بعالم الآثار الروماني فلورين دراسوفيان إلى وصف الموقع بأنه "عالم الآلهة، عالم الأحياء والأموات".
في النصف الأول من القرن الثامن عشر، رسم القائد في الجيش النمساوي الإمبريالي فرانسوا بيريت خريطة لتيمشوارا حدد عليها عددا من المعالم الرئيسية من العهد العثماني. من أهم هذه المعالم كان مسجد تيمشوارا الكبير.
وقد وصف ايليا سيليبي (1611-1682)، وهو كاتب رحلات مشهور من الحقبة العثمانية، ذلك الجامع بأنه محراب عظيم للصلاة.
بعد استيلاء النمسا على المدينة عام 1716، حول المسجد إلى كنيسة هدمت في وقت لاحق. وبنيت كنيسة جديدة في الموقع ذاته، مما أدى إلى محو كل آثار المسجد تقريبا حتى إجراء عمليات التنقيب عام 2014.
وبعد قرون من الغياب، بدأت أساسات المسجد وقطع أثرية منه تظهر أخيراً، مما ممكن دراسوفيان من إعادة اكتشاف ما أطلق عليه اسم "عالم الآلهة".
ليس ذلك كل شيء. بالإضافة إلى المسجد، اكتشف علماء الآثار الذين كانوا ينقبون في ساحة سانت جورج بقايا بيوت خشبية وقنوات. وكانت القنوات من بين أول أنظمة إدارة المياه في المناطق الحضرية التي تم إنشاؤها في رومانيا.
وبينما لم يبن الأتراك تلك القنوات بالأصل، إلا أنهم نظموها لإمداد المباني العامة بالمياه. أما البيوت الخشبية، فيعود تاريخها إلى فترة العصور الوسطى قبل وصول الأتراك، وقد تمت صيانتها إلى أن بدأ النمساويون في تحديث المدينة في القرن الثامن عشر.
وقد أظهرت عمليات التنقيب أيضا 160 قبرا حول المسجد، يعود معظمها لأناس من عامة الشعب كانت قد لفت جثثهم بقطعة واحدة من القماش حسب التقاليد الإسلامية.
وكان الأتراك، وبهدف الحفاظ على السلام والهيمنة السياسية خلال الحكم العثماني، قد قبلوا أناسا من كافة الأديان والعرقيات، ولم يتدخلوا في حياة المواطنين المحليين. وبينما أبقى ذلك على تيمشوارا مدينة آمنة من الداخل، إلا أنها ظلت تواجه تهديدات من الخارج.
لذا، عزز الأتراك دفاعات المدينة. واستغلوا الأنهار القريبة من بيغا وتيميس، وحفروا خنادق مائية حول المدينة إضافة إلى بناء قلعة. وارتفعت فوق المياه جدران بسمك ثلاثة أمتار كان يحرسها جنود عثمانيون.
وكانت دفاعات تيمشوارا فعالة جدا لدرجة أنه عندما استولى جيش يوجين من سافوي على المدينة عام 1716، نتج ذلك عن استسلام الأتراك بعد حصار طويل، وفي ظروف جوية سيئة على غير العادة.
ويعتقد علماء الآثار أن اكتشافاتهم الأخيرة ليست إلا البداية. ويعود تاريخ تيمشوارا إلى العصور القديمة، ويتحتم الكشف عن أسرار عديدة لاحقا- مما سيعطينا جميعا سببا جيدا آخر لزيارة تيمشوارا التي ترحب بالزوار.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.
لم أكن أعلم أن واحدة من الساحات المفضلة لدي في رومانيا تخفي سرا وراء واجهتها الأوروبية الحديثة.
لقد سمعت شائعات عن أن ميدان الحرية في مدينة تيمشوارا كان موقعا لحمام تركي رائع خلال العهد العثماني (1552-1716). لكني لم أر أي مؤشر على وجود ذلك العالم باستثناء لوحة صغيرة مكتوبة بالعربية على جدار مبنى مجاور.
فيما بعد، وفي سبتمبر / أيلول من عام 2014 عدت إلى المدينة الواقعة على الحدود الغربية لرومانيا، واكتشفت شيئا مثيرا: لقد اكتشف علماء الآثار حماما عاما عمره 400 عام كان يعرف باسم "الحمام الكبير".
كانت أعمال الحفر مستمرة، إلا أنني لم أتمكن من الانتظار لاستكشاف الكنوز التي كُشف عنها. وبدأت في التحري وعلمت أن علماء الآثار وجدوا آثارا أخرى وليس الحمام الكبير فحسب.
وكانت طواقم من العمال تحفر في مناطق متعددة في المركز التاريخي للمدينة، وكان الماضي الشرقي للمدينة يظهر من الأرض حرفيا. وصراحة، فقد أصبت بالدوار. فمن المثير أن تكون شاهدا على مدينة عرفتها عن قرب وهي تكشف عن وجه جديد تماما لها، وعن مجموعة من الأماكن الجديدة التي يجري استكشافها. لقد شعرت بأنني أسافر عبر الزمن.
جانب من الحمام التركي المكتشف أسفل ميدان الحرية (ليبرتي سكوير)
لقد احتلت الامبراطورية العثمانية تيمشوارا في يوليو / تموز عام 1552. وتحت قيادة قرة أحمد باشا الذي ولد في ألبانيا، استولى ما يقرب من 16.000 جندي على المدينة، وحولوها فورا إلى عاصمة لإقليم "بانات".
وحكم السلطان العثماني مدينة تيمشوارا بشكل مباشر لمدة 160 عاما. وكانت المدينة تتصدر النزاع بين الإمبراطورية العثمانية والامبراطورية النمساوية المجرية على الأراضي التي شكلت المنطقة لقرون لاحقة.
بينما كنت واقفا في منطقة حفر الحمام الكبير، استطعت رؤية آثار مناطق الغرف القديمة والممرات التي تسمح للهواء بالدوران، والتي كان يجري العمل على ترميمها ببطء. فكرت في عشرات المرات التي زرت فيها ساحة الحرية وأنا أجهل تماما ما يقع تحتها.
وتوجد الساحة في موقع مركزي بين ساحة الاتحاد، وهو نقطة التقاء شعبية يوجد فيها حانات ومقاهي، وساحة الأوبرا، التي تستضيف أهم النشاطات الاجتماعية والثقافية في المدينة.
ولعل الساحتين اللتين يسودهما الضجيج حاليا يجعلان ساحة الحرية تبدو وكأنها واحة من الهدوء النسبي، وتوفر أشجارها ظلالا لكل من يهمه الجلوس ومراقبة الحياة تجري أمام ناظريه.
ساحة الاتحاد في مدينة تيمشوارا
لا بد أن ساحة الحرية كانت موقعا مثاليا لمراقبة الناس في القرن السابع عشر أيضا. ولا تزال الحمامات التركية في أماكن مختلفة من العالم تعتبر أكثر من مجرد أماكن للاستحمام والاسترخاء. فهي تقوم بدور في الحياة المدنية من خلال جمع الناس في أجواء حميمة، إضافة إلى دورها الديني في تنقية الروح.
وقد كشفت الحفريات أن الحمام الكبير كان يحتوي على 15 غرفة مرتبة حول قاعة مركزية كبيرة. وكانت أرضية الحمامات معلقة على أعمدة مربعة من الطوب للسماح للهواء الساخن بالدوران، وهو الهواء الذي كانت تنتجه غرفة الفرن.
وكانت كل غرفة مجهزة بممرات للهواء وبمداخن. وفي الخارج، كانت المنطقة محاطة بالحدائق وقاعات الاجتماعات الداخلية للمباني المجاورة، مما كان يخلق أجواء خاصة وهادئة ومثالية لتجاذب أطراف الحديث.
وأنا واقف في الساحة في صباح يوم ربيعي بارد في زيارة سابقة، تمنيت لو أن الحمام لا يزال هناك حتى أتمكن من تدفئة نفسي بالبخار في داخله. أردت استكشاف الآثار التي تغير وجه المدينة أكثر، فتجولت في ساحة سانت جورج، على بعد أقل من 100 متر غربا.
قاعدة منزل من القرون الوسطى في ميدان سانت جورج.
وساحة سانت جورج هي عبارة عن ميدان صغير يقع وسط مبان تشبه تلك المبينة على طراز مدينة فيينا. وخلال زياراتي السابقة إلى تيمشوارا، كنت دائما أمر به وأنا في طريقي لتناول وجبة خفيفة من محلات بيع الكعك الجاف المملح، وأتوقف على الطريق لتصفح الكتب الإنجليزية المعروضة للبيع على رفوف مؤقتة.
ولكن مؤخرا اكتشفت آثار جديدة في ساحة سانت جورج أيضا مما حدا بعالم الآثار الروماني فلورين دراسوفيان إلى وصف الموقع بأنه "عالم الآلهة، عالم الأحياء والأموات".
في النصف الأول من القرن الثامن عشر، رسم القائد في الجيش النمساوي الإمبريالي فرانسوا بيريت خريطة لتيمشوارا حدد عليها عددا من المعالم الرئيسية من العهد العثماني. من أهم هذه المعالم كان مسجد تيمشوارا الكبير.
وقد وصف ايليا سيليبي (1611-1682)، وهو كاتب رحلات مشهور من الحقبة العثمانية، ذلك الجامع بأنه محراب عظيم للصلاة.
بعد استيلاء النمسا على المدينة عام 1716، حول المسجد إلى كنيسة هدمت في وقت لاحق. وبنيت كنيسة جديدة في الموقع ذاته، مما أدى إلى محو كل آثار المسجد تقريبا حتى إجراء عمليات التنقيب عام 2014.
وبعد قرون من الغياب، بدأت أساسات المسجد وقطع أثرية منه تظهر أخيراً، مما ممكن دراسوفيان من إعادة اكتشاف ما أطلق عليه اسم "عالم الآلهة".
ليس ذلك كل شيء. بالإضافة إلى المسجد، اكتشف علماء الآثار الذين كانوا ينقبون في ساحة سانت جورج بقايا بيوت خشبية وقنوات. وكانت القنوات من بين أول أنظمة إدارة المياه في المناطق الحضرية التي تم إنشاؤها في رومانيا.
وبينما لم يبن الأتراك تلك القنوات بالأصل، إلا أنهم نظموها لإمداد المباني العامة بالمياه. أما البيوت الخشبية، فيعود تاريخها إلى فترة العصور الوسطى قبل وصول الأتراك، وقد تمت صيانتها إلى أن بدأ النمساويون في تحديث المدينة في القرن الثامن عشر.
وقد أظهرت عمليات التنقيب أيضا 160 قبرا حول المسجد، يعود معظمها لأناس من عامة الشعب كانت قد لفت جثثهم بقطعة واحدة من القماش حسب التقاليد الإسلامية.
وكان الأتراك، وبهدف الحفاظ على السلام والهيمنة السياسية خلال الحكم العثماني، قد قبلوا أناسا من كافة الأديان والعرقيات، ولم يتدخلوا في حياة المواطنين المحليين. وبينما أبقى ذلك على تيمشوارا مدينة آمنة من الداخل، إلا أنها ظلت تواجه تهديدات من الخارج.
لذا، عزز الأتراك دفاعات المدينة. واستغلوا الأنهار القريبة من بيغا وتيميس، وحفروا خنادق مائية حول المدينة إضافة إلى بناء قلعة. وارتفعت فوق المياه جدران بسمك ثلاثة أمتار كان يحرسها جنود عثمانيون.
وكانت دفاعات تيمشوارا فعالة جدا لدرجة أنه عندما استولى جيش يوجين من سافوي على المدينة عام 1716، نتج ذلك عن استسلام الأتراك بعد حصار طويل، وفي ظروف جوية سيئة على غير العادة.
ويعتقد علماء الآثار أن اكتشافاتهم الأخيرة ليست إلا البداية. ويعود تاريخ تيمشوارا إلى العصور القديمة، ويتحتم الكشف عن أسرار عديدة لاحقا- مما سيعطينا جميعا سببا جيدا آخر لزيارة تيمشوارا التي ترحب بالزوار.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.