المشاهد الأخيرة في حياة عبدالمنعم رياض: «احتفظ برصاصة في مسدسه للانتحار في الوقت المناسب» (ح 1)
ذات يوم سُمع رجل هادئ الطباع شديد الخلق يقول ربما في إحدى جلساته الخاصة عبارة تبدو أنها هامة بقدر أهمية الرجل ذاته حين قال: «لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، وعندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد وإنما أعني شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة».
هذا الشرف الذي تحدث عنه شديد الخلق ذاك هو الأمر الذي عاش به ومات لأجله وخُلدت ذكراه بسببه ووثق التاريخ ذاكره لذلك السبب الذي لا يضاهيه سبب آخر مهما بلغت درجة قوته، وكما ذكرته أجيال مضت وتذكره أجيال حالية سيتذكرها أيضًا أجيال قادمة ستتعلم درسًا هامًا يقول إنه «لا شرف لهذا البلد بلا معركة».
ذلك الرجل هو الشهيد الذي يتصدر تمثاله أهم ميادين وسط القاهرة، تحت عنوان «ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض»، القائد العسكري الذي مات على الجبهة وسط جنوده في شرف، صباح 9 مارس 1969، في الموقع رقم 6.
وفي ذكرى وفاته، تقدم «المصري لايت» مشاهد من حياة عبدالمنعم رياض في شكل حلقات، كتبها الكاتب محمد حسنين هيكل، في مقال له بجريدة الأهرام المصرية، في 10 مارس 1969، عقب وفاة الشهيد بيوم واحد، ونقلها موقع «مجموعة 73 مؤرخين».
المشهد الأول: حين وضع عبدالمنعم رياض روحه على كفيه
الزمان: 27 مايو سنة 1967.
المكان: الأراضي الإسرائيلية.
الحدث: دوريات مصرية دخلت الأراضي الإسرائيلية للاستكشاف.
الرتبة العسكرية للفريق عبدالمنعم رياض: رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة.
الوضع العسكري: قبل أن تبدأ معارك يونيو سنة 1967 بأيام قليلة، والتوتر شديد على خط الحدود المصرية وعلى خطوط الهدنة، بينما قواتنا تحتشد في سيناء، وقوات العدو تتدفق إلى النقب الجنوبي، والصدام المسلح محتمل في أي ساعة.
تفاصيل المشهد:
يقول «هيكل»: «فجأة في ظهر يوم 27 مايو سنة 1967، سمعت نبأ بدا وكأنه كارثة، حاول من نقله إلىَّ أن يعطيه لي على جرعات، قال أولًا هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف في الأرض الإسرائيلية، قلت: معقول، ومفهوم، قال: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات، قلت: هذه مخاطرة لا لزوم لها، ولكن الذروة جاءت حين قال لي محدثي في ذلك الوقت: لقد أعلن العدو حالًا أن إحدى الدوريات التي دخلت وقعت في كمين لهم، ومن المحتمل كثيراً أن تكون تلك هي دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير في نفس هذه المنطقة، وقلت وأنا أكاد أفقد أعصابي: هذا غير معقول ولا مفهوم».
يحكي «هيكل» أن ذلك الخبر وقع عليه وآخرون كالصاعقة وظل القلق يساور الجميع لساعات خوفًا من أن تكون تلك الدورية التي وقعت في يد الإسرائيليين هي دورية «الفريق رياض»، ويقول الكاتب في مقاله في وصف تلك الساعات: «مضت ساعات والقلق فيها يعصر قلبي وقلوب غيري ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذي يمكن أن يتحقق في أي ثانية إذا ما أعلن العدو عن أسماء الضباط من أفراد الدورية التي وقعت في الكمين الذي نصبه، وأذكر يومها، أنني كنت على موعد مع محمود رياض وزير الخارجية، وكنت أريد أن أناقش معه بعض تطورات الموقف السياسي، لكننا قضينا معًا أكثر من ساعتين في ذلك اليوم وليس بيننا حديث غير حديث القلق على عبد المنعم رياض: هل كان ضمن الدورية التي وقعت في أسر العدو أو أنه لم يكن».
ومن وجهة نظر «هيكل» فإن تلك الجسارة المذهلة التي يتمته بها «الفريق رياض» والتي تجعله يسير وسط مناطق حشد العدو لم تشفع له حين عرف أصدقاء له في القاهرة بالخبر الصدمة حيث عانى الجميع خوفًا من أن يكون رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة في يد الجنود الإسرائيليين الآن، بينما يقبع جنوده على الجبهة في انتظاره، لكن الأمر قد زالت وطأته حين أعلنت إسرائيل أسماء ضباط وجنود الدورية التي أسرتها، ولم تكن دورية عبدالمنعم رياض.
مر الليل بهدوء حذر حتى جاء اليوم التالي وتلقى «هيكل» مكالمة هامة قال فيها المتصل بضحكة وصفها الكاتب بـ«المرحة»: «بلغني أنك كنت عصبيًا أمس»، فرد «هيكل»: «لم أكن عصبيًا فقط، ولكني كدت أجن»، فما كان من المتصل إلا أن استمر بضحكاته.
كان المتصل هو «الفريق رياض» بذاته من القاهرة يطمئن «هيكل» أنه مازال في عمره بقية لتفقد الجبهة، وراح الكاتب يشرح وجهة نظره للقائد العسكري، قائلًا: «انتظرني أقول لك وجهة نظري، لم يكن تفكيري شخصيًا في كل ما شعرت به، لكنني لم أكن أتصور أن ينجح العدو – قبل أن يبدأ أي قتال – في أسر رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، هل تتصور أثر ذلك على الروح المعنوية العربية عمومًا، هل تتصور ما كان يمكن أن يحصل العدو عليه من معلومات منك، وأنت تعرف أن هناك حدًا لصمود أي بشر أمام وسائل التعذيب الحديثة؟».
في رد أشبه إلى رجاحة عقل القائد العسكري، قال «الفريق رياض»: «لم يكن ذلك كله غائبًا عن بالي عندما خرجت مع دورية الاستكشاف، لكني أحسست بضرورة الخروج هذه الأيام الثلاثة مع الدورية، ولقد كان مسدسي في يدي طول الوقت، ولم تغمض عيناي ثانية واحدة، ولو أحسست باحتمال أن نلتقي بقوات للعدو، فلقد كان حتمًا أن نقاتل حتى الطلقة ما قبل الأخيرة، لأني كنت سأحتفظ بالطلقة الأخيرة ذاتها لنفسي، أفرغها في رأسي قبل أن يحاول العدو أن يأخذ مني نتفة معلومات واحدة».
وبرر «الفريق رياض» بأسباب منطقية ما رآه «هيكل» مخاطرة كادت أن تصيبه بالجنون، وقال في اتصاله التليفوني: «كان يجب أن أخرج مع هذه الدورية بنفسي لأسباب، أريد أن أرى الأرض التي ستجري من فوقها المعركة، ومع أني أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمي بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف، فلا شيء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التي ستعمل عليها، والتي على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت».
وأضاف: «من ناحية أخرى، فإنه في بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف، وفضلًا عن أية معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو في بداية مواجهة خطيرة معه، ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفترق المسألة كثيرًا إذا أحسوا أن القواد معهم في المخاطرة، إلى جانب أنهم رأوا مثلهم ويستطيعون المراجعة عليهم».
وأنهى «الفريق رياض» مكالمته بجملة تنم عن حماس قائد عسكري وحنكة عسكرية لا مثيل لها وشجاعة تفوق شجاعة الفرسان، قائلًا: «إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب في القاهرة فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة».
يقول «هيكل» واصفا نفسه بـ«المستسلم» بعد سماع حُجة «الفريق»: «مهما يكن، فقد حبست الدم في عروقنا ساعات!»، فرد القائد العسكري الشهيد ضاحكًا: «تعيش وتأخذ غيرها!».
http://lite.almasryalyoum.com/tag/نكسة-1967/
ذات يوم سُمع رجل هادئ الطباع شديد الخلق يقول ربما في إحدى جلساته الخاصة عبارة تبدو أنها هامة بقدر أهمية الرجل ذاته حين قال: «لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، وعندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد وإنما أعني شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة».
هذا الشرف الذي تحدث عنه شديد الخلق ذاك هو الأمر الذي عاش به ومات لأجله وخُلدت ذكراه بسببه ووثق التاريخ ذاكره لذلك السبب الذي لا يضاهيه سبب آخر مهما بلغت درجة قوته، وكما ذكرته أجيال مضت وتذكره أجيال حالية سيتذكرها أيضًا أجيال قادمة ستتعلم درسًا هامًا يقول إنه «لا شرف لهذا البلد بلا معركة».
ذلك الرجل هو الشهيد الذي يتصدر تمثاله أهم ميادين وسط القاهرة، تحت عنوان «ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض»، القائد العسكري الذي مات على الجبهة وسط جنوده في شرف، صباح 9 مارس 1969، في الموقع رقم 6.
وفي ذكرى وفاته، تقدم «المصري لايت» مشاهد من حياة عبدالمنعم رياض في شكل حلقات، كتبها الكاتب محمد حسنين هيكل، في مقال له بجريدة الأهرام المصرية، في 10 مارس 1969، عقب وفاة الشهيد بيوم واحد، ونقلها موقع «مجموعة 73 مؤرخين».
المشهد الأول: حين وضع عبدالمنعم رياض روحه على كفيه
الزمان: 27 مايو سنة 1967.
المكان: الأراضي الإسرائيلية.
الحدث: دوريات مصرية دخلت الأراضي الإسرائيلية للاستكشاف.
الرتبة العسكرية للفريق عبدالمنعم رياض: رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة.
الوضع العسكري: قبل أن تبدأ معارك يونيو سنة 1967 بأيام قليلة، والتوتر شديد على خط الحدود المصرية وعلى خطوط الهدنة، بينما قواتنا تحتشد في سيناء، وقوات العدو تتدفق إلى النقب الجنوبي، والصدام المسلح محتمل في أي ساعة.
تفاصيل المشهد:
يقول «هيكل»: «فجأة في ظهر يوم 27 مايو سنة 1967، سمعت نبأ بدا وكأنه كارثة، حاول من نقله إلىَّ أن يعطيه لي على جرعات، قال أولًا هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف في الأرض الإسرائيلية، قلت: معقول، ومفهوم، قال: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات، قلت: هذه مخاطرة لا لزوم لها، ولكن الذروة جاءت حين قال لي محدثي في ذلك الوقت: لقد أعلن العدو حالًا أن إحدى الدوريات التي دخلت وقعت في كمين لهم، ومن المحتمل كثيراً أن تكون تلك هي دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير في نفس هذه المنطقة، وقلت وأنا أكاد أفقد أعصابي: هذا غير معقول ولا مفهوم».
يحكي «هيكل» أن ذلك الخبر وقع عليه وآخرون كالصاعقة وظل القلق يساور الجميع لساعات خوفًا من أن تكون تلك الدورية التي وقعت في يد الإسرائيليين هي دورية «الفريق رياض»، ويقول الكاتب في مقاله في وصف تلك الساعات: «مضت ساعات والقلق فيها يعصر قلبي وقلوب غيري ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذي يمكن أن يتحقق في أي ثانية إذا ما أعلن العدو عن أسماء الضباط من أفراد الدورية التي وقعت في الكمين الذي نصبه، وأذكر يومها، أنني كنت على موعد مع محمود رياض وزير الخارجية، وكنت أريد أن أناقش معه بعض تطورات الموقف السياسي، لكننا قضينا معًا أكثر من ساعتين في ذلك اليوم وليس بيننا حديث غير حديث القلق على عبد المنعم رياض: هل كان ضمن الدورية التي وقعت في أسر العدو أو أنه لم يكن».
ومن وجهة نظر «هيكل» فإن تلك الجسارة المذهلة التي يتمته بها «الفريق رياض» والتي تجعله يسير وسط مناطق حشد العدو لم تشفع له حين عرف أصدقاء له في القاهرة بالخبر الصدمة حيث عانى الجميع خوفًا من أن يكون رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة في يد الجنود الإسرائيليين الآن، بينما يقبع جنوده على الجبهة في انتظاره، لكن الأمر قد زالت وطأته حين أعلنت إسرائيل أسماء ضباط وجنود الدورية التي أسرتها، ولم تكن دورية عبدالمنعم رياض.
مر الليل بهدوء حذر حتى جاء اليوم التالي وتلقى «هيكل» مكالمة هامة قال فيها المتصل بضحكة وصفها الكاتب بـ«المرحة»: «بلغني أنك كنت عصبيًا أمس»، فرد «هيكل»: «لم أكن عصبيًا فقط، ولكني كدت أجن»، فما كان من المتصل إلا أن استمر بضحكاته.
كان المتصل هو «الفريق رياض» بذاته من القاهرة يطمئن «هيكل» أنه مازال في عمره بقية لتفقد الجبهة، وراح الكاتب يشرح وجهة نظره للقائد العسكري، قائلًا: «انتظرني أقول لك وجهة نظري، لم يكن تفكيري شخصيًا في كل ما شعرت به، لكنني لم أكن أتصور أن ينجح العدو – قبل أن يبدأ أي قتال – في أسر رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، هل تتصور أثر ذلك على الروح المعنوية العربية عمومًا، هل تتصور ما كان يمكن أن يحصل العدو عليه من معلومات منك، وأنت تعرف أن هناك حدًا لصمود أي بشر أمام وسائل التعذيب الحديثة؟».
في رد أشبه إلى رجاحة عقل القائد العسكري، قال «الفريق رياض»: «لم يكن ذلك كله غائبًا عن بالي عندما خرجت مع دورية الاستكشاف، لكني أحسست بضرورة الخروج هذه الأيام الثلاثة مع الدورية، ولقد كان مسدسي في يدي طول الوقت، ولم تغمض عيناي ثانية واحدة، ولو أحسست باحتمال أن نلتقي بقوات للعدو، فلقد كان حتمًا أن نقاتل حتى الطلقة ما قبل الأخيرة، لأني كنت سأحتفظ بالطلقة الأخيرة ذاتها لنفسي، أفرغها في رأسي قبل أن يحاول العدو أن يأخذ مني نتفة معلومات واحدة».
وبرر «الفريق رياض» بأسباب منطقية ما رآه «هيكل» مخاطرة كادت أن تصيبه بالجنون، وقال في اتصاله التليفوني: «كان يجب أن أخرج مع هذه الدورية بنفسي لأسباب، أريد أن أرى الأرض التي ستجري من فوقها المعركة، ومع أني أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمي بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف، فلا شيء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التي ستعمل عليها، والتي على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت».
وأضاف: «من ناحية أخرى، فإنه في بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف، وفضلًا عن أية معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو في بداية مواجهة خطيرة معه، ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفترق المسألة كثيرًا إذا أحسوا أن القواد معهم في المخاطرة، إلى جانب أنهم رأوا مثلهم ويستطيعون المراجعة عليهم».
وأنهى «الفريق رياض» مكالمته بجملة تنم عن حماس قائد عسكري وحنكة عسكرية لا مثيل لها وشجاعة تفوق شجاعة الفرسان، قائلًا: «إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب في القاهرة فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة».
يقول «هيكل» واصفا نفسه بـ«المستسلم» بعد سماع حُجة «الفريق»: «مهما يكن، فقد حبست الدم في عروقنا ساعات!»، فرد القائد العسكري الشهيد ضاحكًا: «تعيش وتأخذ غيرها!».
http://lite.almasryalyoum.com/tag/نكسة-1967/