كتب الله تعالى لأمة الإسلام أن تعيش في جهاد دائم! كتب لها أن تعيش في زمن المحن والأزمات! ولذلك فإن فترات التمكين في حياة الأمة قليلة للغاية، ربما لا تتعدى العشرات من السنين، فقد ظلت الأمة في إعداد العشرات من القادة الربانيين من أجل لحظة النصر .. وهكذا إلى يوم الدين!!
انظر -مثلًا- إلى لحظة النصر في حطين، لقد ظلت الأمة ما يقارب التسعين عامًا في إعدادٍ وتربيةٍ وجهادٍ، منذ بدأ الحملات الصليبية 492هـ / 1099م إلى لحظة النصر الكبرى في حطين سنة 583هـ /1187م، وبعد ذلك النصر الكبير لم تنعم الأمة الإسلامية بحالة من الاستقرار السياسي فلم تمض على حطين (583هـ) إلى أولى الهجمات التترية (617هـ) وسقوط بغداد (656هـ) ما يزيد عن نصف قرن فقط، وهكذا لو تتبعت حال الأمة إلى يومنا هذا!
وهو ما يعبر عنه الدكتور راغب السرجاني باسم (مغزى الحياة)، فالمغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله .. قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)}(الذاريات).
إن النصر الحقيقي للمسلم ليس الانتصار المادي في ميادين الحروب، فطالما الابتلاء سنة الله في الحياة، فنصرك الحقيقي هو انتصارك على حظوظ النفس والهوى، وأعظم صوره: أن تقف مع الحق أيًا كان حامله، وإن لم تر نتائجه واقعًا.
إن من رحمة الله تعالى أن العبد لن يحاسب على ما حققه من نتائج، بل على ما بذله من جهد ومشقة في سبيل ذلك، لن تُسأل: لماذا لم ينتصر الحق على يديك؟ بل ستسأل: ماذا قدمت أو ماذا بذلت لكي تنصر الحق؟!
إنها الطريق الصعب للجهاد التي تنتهي بالجنة دون اعتبار بالنتائج المتحققة، ما دام الجهد كله قد بذل!! وإلا ماذا رأت سمية بنت خياط وزوجها ياسر رضي الله عنهما من انتصار الحق وانتشار الإسلام؟! لم يروا غير الأذى والعذاب غير أنهم واجهوه بوجه صلد على الهوان، وروح عظيمة لا تنكسر أمام الابتلاء والاضطهاد، فيكفي سمية أنها أول شهيدة في الإسلام، ويكفي زوجها شرفًا وسام النبي صلى الله عليه وسلم: " صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ".
وانظر إلى شهداء أحد رضي الله عنهم، ماذا رأوا من انتصار الحق وانتشار الإسلام؟! لقد ماتوا .. غير أنهم بذلوا وقدموا فكانوا في أعلى علِّيِّين في الجنة. مع أنهم استشهدوا في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين!
وما أروع أن يكون حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه هو سيد الشهداء في الجنة، مع أنه أسلم في أواخر السنة السادسة من البعثة واستشهد في العام الثالث من الهجرة، أي كان عمره في الإسلام عشر سنوات فقط!!، لكنه رضي الله عنه أدَّى ما عليه، ولم يتهاون أو يفرِّط، فتأمَّل!!
سلسلة تأملات تأريخية أحمد عبد الحافظ (3) من قبل صلاح .. كان هناك ألف صلاح !!
"أين صلاح الدين؟!"، كثيرًا ما نسمع هذه الجملة عندما نذكر انتهاكات الصهاينة في فلسطين والمسجد الأقصى، عندها يتمتم العجزة وضعاف القلوب وخائروا العزيمة: "لو ظهر فينا صلاح الدين!!"، وكأن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان معجزة من السماء أو ملكًا أرسله الله مخِّلصًا، فحرر الأقصى وطرد الصليبيين!! وهذا وهمٌ!، فصلاح الدين رحمه الله كان الثمرة التي نضجت نتيجة حركات تصحيحية كثيرة على مدار تسعين عامًا دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، فمن قبل صلاح .. كان هناك ألف صلاح!! نعم كان هناك المئات من القادة الربانيين والعلماء العاملين مهَّدوا الطريق وأصلحوا السبل، وبذروا البذرة وتعهَّدوها بالسقي والرعاية والتربية حتى أثمرت صلاح الدين، نعم لم يروا نتائج تربيتهم ولا ثمرة جهادهم، ولكن حسبهم أنهم بذلوا!! فقبل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كانت قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائدٍ! فَمَن من المسلمين يسمع عن الأمير الشهيد مودود بن التونتكين صاحب الموصل (ت سنة 507هـ/ 1113م)، ونجم الدين إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين (ت سنة 516هـ/1122م)، وابن أخيه الأمير الشهيد بلك بن بهرام بن أرتق (ت سنة 518هـ/1124م)، والأمير الشهيد قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل (ت سنة 520هـ)، وولده الأمير الشهيد عماد الدين زنكي (521هـ- 541هـ/ 1127م - 1146م)، وابنه نور الدين محمود الشهيد (541هـ - 569هـ /1146م - 1173م)!. وهكذا فإن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله تعالى، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فقطف ثمرة جهادهم بتحرير بيت المقدس ودحر الصليبيين في حطين (583هـ- 1187م). هذا عن القادة أما عن العلماء، فكان هناك الإمام عبد القادر الجيلاني وله جهوده الكبيرة في الدعوة الشعبية والإصلاح العام وتحريك الجماهير. والمؤرخ الكبير ابن عساكر الذي كان يحث نور الدين على مواصلة الجهاد. وبرهان الدين البلخي وكان له دور كبير في مساعدة نور الدين في القضاء على مظاهر التشيع بحلب. والأديب المؤرخ الشاعر العماد الأصفهاني التي كانت أعماله صورة صادقة من تجاوب العلماء مع أحداث الجهاد في ذلك العهد. وقبل معركة حطين كان هناك العشرات من المعارك الهامة في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي مهدت الطريق إليها، ولولاها -بعد فضل الله تعالى- ما كانت هناك حطين ولا فتح بيت المقدس ولا بزغ نجم صلاح الدين رحمه الله! فهل سمعتم عن موقعة هرقلة الأولى والثانية، أو حملات الأمير مودود ضد إمارة الرها منذ عام 503هـ / 1109م إلى سقوطها في يد عماد الدين زنكي عام 539هـ/ 1144م، هل سمعتم عن فتح بارين أو عن حصار شيزر، أو معركة ساحة الدم أو معركة حران أو معركة الصنبرة عام 507هـ/1113م والتي كانت البداية الحقيقية لاندحار القوى الصليبية، حتى قيل: "اليوم الصنبرة وغداً حطين!!". وإذا ذهبنا غربًا حيث دولة الإسلام في بلاد المغرب والأندلس، فسنجد تلك السنة ماضية كذلك، فكل القارئين عندما يسمعون عن المرابطين يستحضر في خَلَدهم البطل الكبير يوسف بن تاشفين (ت سنة500هـ/ 1106م) وانتصاره العظيم على الصليبيين في موقعة الزلاقة (479هـ/ 1086م) وتوحيده بلاد المغرب والأندلس في دولة واحدة وأصبحت دولته من أقوى دول العالم في ذلك الزمان. والحقيقة أن يوسف بن تاشفين رحمه الله هو ثمرة تضحيات كبيرة خاض غمارها الشيخ المربي عبد الله بن ياسين رحمه الله (ت سنة 451 هـ/ 1059م) الذي أجهد نفسه تعبًا وبذلًا من أجل إعادة الأمة إلى مسارها الصحيح باتباع الكتاب والسنة وتوحيد الصف الإسلامي بعد أن تشرذمت البلاد بين ملوك الطوائف. ويأتي معه في طريق الجهاد والإعداد الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني (447هـ/ 1055م)، والشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني (480 هـ/ 1087م)، الذي كانت دولته متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحة أفريقيا. وبعد 38 سنة من التربية والدعوة والجهاد هنا وهناك (سنة 478 هـ/ 1085م) يصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم المرابطين، ويسمي نفسه: أمير المسلمين وناصر الدين! وفي العصر الحديث: هل رأى عز الدين القسام أو أمين الحسيني أو أحمد ياسين ثمرة جهادهم من التضحية والدعوة والمثابرة والجهاد وتلك الانتصارات الباهرة على الصهاينة في كل جولة؟! لم يروا! ولكن حسبهم أن الأجيال القادمة جنت ثمار جهادهم وتضحياتهم، بدءًا من الحجارة إلى السكين إلى البندقية إلى الرشاش إلى الصاروخ وها نحن نرى الطائرات بدون طيار! فرحم الله من بذر وجزى الله خيرًا من جنى! نحن لا نقول ذلك تقليلًا لشأن صلاح الدين ولا عبد الله بن ياسين ولا عز الدين القسام ولا غيرهم ممن بذروا -حاشا لله، غير أننا نبييِّن سُنَّة من سنن الله الماضية إلى يوم القيامة، وهي أنه لابد للنصر من إعداد، وهذا الإعداد أطول بكثير من جني الثمار، فقد يستلزم ذلك الإعداد مئات السنين من جهاد وتربية وإصلاح!! إن الآفة الكبرى في مجال الدعوة أو الجهاد استعجال الثمرة، وهذه هي طبيعة الإنسان دائمًا، يحب رؤية الثمرة، قال سبحانه: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (13)}(الصف). غير أن الله تعالى يعلمنا الصبر والثبات والمثابرة: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}(آل عمران). وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!، فَقَالَ: " قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ". إنها تذكرة للعاملين في حقل الدعوة إلى الله أو المجاهدين في ميادين الكرامة والحرية: أن ابذلوا وازرعوا ولا تستعجلوا قطف الثمار، فزرعك الطيب سيؤتي أكله ولو بعد حين، فأنت إن لم تَرَ نصر الله وتمكينَه لدينِه اليومَ أو غدًا فسيراه أولادُك وأحفادُك ولو بعدَ حينٍ .. فأَعِدُّوا ولا تستعجِلُوا!! عن موقع قصة الإسلام يتبع
إنه مهما تعددت صورة الباطل فإنها يومًا ستتوحد ضد الحق، فهم وإن اختلفت مناهجهم وتفرقت مناهجهم وتباعدت بلدانهم، فقد توحدت قلوبهم واجتمعت كلمتهم ضد الحق وأهله، فهذه سنة ماضية إلى يوم القيامة.
وهو واضح بارز في السيرة النبوية والفتوحات الإسلامية وقصة الحروب الصليبية والتتار والأندلس والهند وإفريقيا وإلى يومنا هذا!! قال تعالى:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ...(217)}(البقرة).
فقد مر بنا في التاريخ كيف تعاون اليهود والنصارى والمشركون ومعهم المنافقون ضد النبي صلى الله عليه وسلم؟!، حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا بحيرا الراهب يحذر أبا طالب من اليهود، خوفًا علي ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو مازال طفلاً، ثم تتابعت فصول المؤامرات وأحداثها مع البعثة وإلى الآن!.
ومرَّ بنا كيف تعاون الفرس والروم -مع ما بينهما من ثارات قديمة وحروب طاحنة- ضد المسلمين كما في معركة الفراض 12هـ؟ وكيف تعاون الصليبون فيما بينهم -على اختلاف مذاهبهم- في حملاتهم ضد العالم الإسلامي؟! وكيف تعاون العبيديون الرافضة مع الصليبيين؟! وكيف تعاون الأرمن النصارى -وقد كانوا يعيشون مع المسلمين في وطن واحد- ومهَّدوا الطريق للحملات الصليبية؟! وكيف تعاون الصليبيون مع التتار -مع ما كان بينهم من حروب ودماء فضلًا عن اختلاف الدين والجنس واللون- ضد الخلافة العباسية؟! وكيف تعاون نصارى الأندلس حتى أسقطوا دولة الإسلام هناك؟! وكيف تعاون الهندوس والسيخ مع الإنجليز مع ما بينهم من دماء واختلاف في الدين والجنس ضد مسلمي الهند؟! وكيف تعاون اليهود والإنجليز والروس حتى أسقطوا الخلافة العثمانية؟!
وانظر اليوم كيف يتعاون الأوروبيون والأمريكان مع الروس والرافضة وعبدة الأوثان –مع ما بينهم من عداوة- ضد المسلمين ؟!
وصدق القائل:
وما يحدث في كل بلاد المسلمين الآن، هو امتداد لهذا العداء التاريخي الحاقد، وهدفه هو القضاء على الإسلام والمسلمين. يقول تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ..(109)}(البقرة)، وقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}(المائدة).
فهذا التعاون مخلَّد بخلود الصراع بين الحق والباطل، وإن كنَّا نعيشه الآن بصورة أشد، غير أن مصيره كمصيرهم جميعا الهزيمة والبوار.
المتأمل في تاريخ أمتنا يجد أنها متفردة –حتى- في مسار أحداثها وتتابع دولها والسنن الربانية المتحكمة في قيامها وسقوطها ومراحل عزِّها وهوانها، وإن من تلك القوانين الإلهية السائرة على الفرد والأمة، أنك قد تطرق أبوابًا للرزق في جهة، والله قد كتب رزقك في جهةٍ لا تخطر لك على بال!! أن أوار الحرب قد يشتعل في نقطة ساخنة من بقاع العالم الإسلامي، ويلتفت الناس يمنة ويسرة لقدوم الفرج، ثم يأتي التغيير من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث.
انظر –مثلًا- إلى تتابع أحداث السيرة النبوية منذ العهد المكي وبدايته الأولى حيث الهجرة إلى الحبشة، وهو مكان لم يخطر على بال أحد ولم يحتسبه المسلمون، حين قال صلى الله عليه وسلم للمسلمين: " لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ".
ثم تتابع الأحداث إلى عرض رسول الله نفسه على القبائل وفشل مفاوضاته مع وفد بني شيبان، حتى كان الفرج من حيث أراد الله لا من حيث رأى المسلمون، يقول ابن إسحاق: " فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا" [1].
إن الأمور الحتمية القدرية التي قضاها الله تعالى، والتي يغفل عنها معظم المسلمين ويجهلها تمامًا أعداء الإسلام أن الله عز وجل قد حفظ أمة الإسلام من الزوال بالكلية، واستجاب لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم في ألا يسلط عليها عدوًّا من سواها يستأصل شأفتها؛ فأمة الإسلام قد تضعف وقد تمرض مرضًا شديدًا ويدب الوهن في كل أعضائها ولكنها لا تموت، ولا تخلو الأرض أبدًا إلى قيام الساعة من الجماعة المؤمنة الموحدة، فهي لا تنقرض وتزول مثلما حدث مع دول أخرى كبيرة مثل دولة الإغريق أو الرومان أو الفرس، وكلما سقط للمسلمين في بلد دولة قام لهم في بلد آخر دولة، وكلما اضطهدوا واستضعفوا في بقعة قووا وتجمعوا في بقعة أخرى.
وهذه الميزة تبدو بوضوح جليٍّ للمتأمل في تتابع أحداث الإسلام في بلاد الأندلس، ففي نهاية عهد الولاة كانت بلاد المغرب الإسلامي والأندلس تموج في ظلمات النعرات العصبية والصراعات القبلية، وجيوش النصارى تدق طبول الحرب للقضاء على الإسلام، وظن البعض أن الإسلام انتهى من الأندلس، ولكنَّ رحمة الله ظهرت بظهور رجلٍ أعاد للإسلام مكانته مرة ثانية، لم يكن من بلاد المغرب ولا الأندلس ولا من المعروفين المشهورين هناك، ولا من ذوي السلطان والقوة والمنعة، وإنما هو شاب مكلوم من الشرق مطارد مشرَّد، قُتل أهله وعشيرته، سُلب ماله وعزه، وتتابعه أكبر قوة إسلامية ثورية في العالم الإسلامي وهي القوة العباسية الجديدة كما أنه مطلوب الرأس من قوى الخوارج في الشمال الإفريقي.
ذلك الفارس هو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، صاحب 19 سنة، الذي حط رحاله في الأندلس بعد رحلة من أعجب وأغرب رحلات المغامرة في التاريخ، حتى قال عنه المؤرخون: "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس". وعلى مدار 34 عامًا (138- 172هـ/ 756- 788م) استطاع الداخل أن يقيم ملكا ويؤسس دولة وينشئ حضارة زاهرة وعامرة وناضرة على أرض الأندلس، بعد حياةٍ كلها جهاد.
ومرة أخرى !! وبعد مرور قرون ثلاثة تفتت المسلمون تفتتاً لم يسبق في عهد الأندلس، وكان الهبوط على أشد ما يكون، وتجزأت بلاد الأندلس إلى دويلات ضعيفة لا تمتلك أسباب ومقومات النصر على الأعداء المحيطين بها، ودخلت الأندلس في صراع دامي وطويل بين مجموعة ملوك الطوائف الأقزام -يمثلون 22 دويلة أندلسية كلها تدعي الإسلام- من سنة 399هـ إلى سنة 479هـ، والغريب أن هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين!!
وأدى ذلك إلى التناحر والتباغض فيما بين أمراء هذه الدويلات، وتفاقم الأمر حتى بلغ إلى الاستعانة بالنصارى، فسقطت بسبب ذلك بعض الإمارات الإسلامية كطليطلة، والبعض الآخر فرض عليه الحصار كإشبيلية، فصارت هذه الدويلات تحت سلطة النصارى وحكمهم، وأصبح المسلمون يدفعون الجزية للنصارى وهم صاغرون!! وعظمت محنة الإسلام في بلاد الأندلس وقويت شوكة النصارى بقيادة الفونسو، وظن الناس أن هذا أوان السقوط ووقت الرحيل!!
في ذلك الوقت العصيب الذي ارتجفت فيه قلوب المسلمين في الشرق والغرب -خوفًُا من سقوط دولة الإسلام في الأندلس، كانت يد الله تعمل وتهيئ للمسلمين أمرهم، حيث هناك في أدغال إفريقيا وفي شمال السنغال تظهر دعوة المرابطين على يد عبد الله بن ياسين سنة 440 هـ/ 1048م.
وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى، تصبح دولة المرابطين في سنة 478هـ دولة واحدة من تونس الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، أي تمثل أكثر من ثلث أفريقيا، وفي سنة 453 هـ/ 1061م يصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله (410 - 500 هـ / 1019 - 1106م) زعيماً على هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه أمير المسلمين وناصر الدين.
وفي سنة 478هـ لَا تزَال تفد عليه وفود ثغور الأندلس، مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين بالله والإسلام مستنجدين بفقهاء حَضرته ووزراء دولته فَيسمع إليهم ويصغي لقَولهم وترق نَفسه لَهُم، فتشوَّق إلى ما يطلبون، فإنه يريد جهاد النصارى، فانطلق معهم رحمه الله، حيث كانت معركة الزلاقة فجر يوم الجمعة الموافق (12 من شهر رجب 479هـ/ 23 من أكتوبر 1086م)، التي انكسرت فيها أعلام النصارى ورجع للإسلام هيبته في بلاد الأندلس، وصدقت مقولة المعتمد بن عباد في رده على كتاب ألفونسو: "قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية، تريح منك لا تروّح عليك إن شاء الله".
وما هي إلا سنوات قلائل حتى استطاع يوسف بن تاشفين أن يضمّ كل بلاد الأندلس تحت لوائه، وأن يحرّر سرقسطة، تلك التي كان النصارى قد أخذوها بعد أن قسَّمها أميرها بين ولديه واستطاع أن يضمّها إلى بلاد المسلمين، وقد أصبح أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب من فرنسا وحتى وسط أفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين [2].
نأخذ من هذا أنه عند وقوع النكبات الكبرى في تاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك.
ففي سلسلة الحروب الصليبية تقوم حركة الجهاد من الموصل شمال العراق، مع أن المناطق المنكوبة أو المحتلة في آسيا الصغرى (تركيا) وبلاد الشام وفلسطين. وفي قصة التتار ينقذ الله الأمة الإسلامية بمصر وتتحطم أحلام التتار على أبواب سيناء حيث معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز رمضان 658هـ / سبتمبر 1260م، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلًا.
وفي نفس العام الذي سقطت فيه الخلافة العباسية العريقة تحت ضربات الجحافل الهمجية المغولية سنة 656هـ، ولد رجل وسط غمار هذه الأحداث الرهيبة، قدر له أن يكون منشأ دولة تنوب عن أمة الإسلام في التصدي لأعدائها لقرون عديدة، ودولة ستعيد مجد الخلافة الإسلامية، ودولة ستنشر الإسلام في قلب أوربا، ويتحقق على يديها موعود النبي بفتح عقر دار النصرانية "القسطنطينية"، ونعني بها الدولة العثمانية. فعندما سقطت الخلافة العباسية فعليا في بغداد أقام الله الدولة العثمانية في بورصة Bursa على بحر مرمرة ثم أدرنة على يد عثمان الأول 699هـ/ 1299م.
وفي العصر الحديث يتمكن الغرب الصليبي من احتلال العالم الإسلامي عسكريًا وفكريًا وثقافيًا واقتصاديًا، وتعيش الأمة في خضم محنة وصراع هوية على مدار قرنٍ من الزمان، غير أن هذه الأمة لن تموت، فمن رحم المحنة يخرج الآلاف من الرجال والشباب والنساء يرفعون الراية من جديد.
وها هي الأمة الإسلامية الآن نعيش مخاضها العسير في القاهرة وفلسطين وبغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس، وتعود بنا بارقة الأمل بقوة من إسطنبول وغزة .. وتبقى الأمة في انتظار ذلك الفارس الذي يخرج من فوق صهوة جواده ليرفع الراية من جديد، { ...وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (31)}(المدثر) ، وحتمًا ستتحقق البشارة والموعود: { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)}(الإسراء).
عن موقع قصة الإسلام
يتبع
الهوامش :
[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م، 1/ 321- 322، 1/ 428.
[2] أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري - محمد الناصري، الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء، 2/ 38- 39.
مصادر :
راغب السرجاني: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، ط1 لسنة 1432هـ- 2011م.
راغب السرجاني: قصة الحروب الصليبية، مؤسسة اقرأ، ط2، يناير 2009م، ص263.
"ولعله إلى هذه الأيام، لم تطلع الشمس على أمة أسعد ولا أهنأ ولا أرغد عيشاً ولا أكثر رغبة في التمتع بالجمال والعلوم والأعمال المجيدة من عرب الأندلس".
صاحب هذا الوصف العجيب الصادق ليس مسلمًا ولا عربيًا حتى نتهمه بالتعصب لدينه وقومه، وإنما هو العالم والمؤلف الكبير جوزف ماك جب Joseph MacCabe الذي ألف (250) كتابًا، وألقى ألوفًا من المحاضرات، وسافر إلى شتى أنحاء العالم، وأتقن عشر لغات، حتى جعله الأمريكيون أكبر عالم في الدنيا، لأنه مسيحي وعالم، فلا يمكن أن يتهم بدينه ولا علمه. وإن أصدق قول ما شهدت به الأعداء!
وقد سطرت كتب التاريخ لنا من المواقف لحكام المسلمين وخلفائهم في الأندلس ما يدل على عظمة المسلم المعتز بدينه الواثق بربه المنتصر بعقيدته، حتى كانت ملوك النصارى الصليبيين من الإسبان والفرنجة يأتون خاضعين ذلولين إلى بلاط قرطبة يقدمون فروض الطاعة والولاء وطلب العون والنصرة من مسلمي الأندلس، واقرءوا إن شئتم سيرة عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر ويوسف بن تاشفين والمنصور الموحدي! هؤلاء جميعًا كانت ممالك النصرانية تأتي إليهم في ذلة وخضوع، تعتز بصداقتهم وتتناصر بهم!!
وإن القلب ليمتلأ حسرة على حال مضت إليها حكام المسلمين الآن، الذين يطلبون صداقة اليهود ويتذللون للنصارى، طلبًا لكرسي زائل أو عزة واهية، فخسروا دينهم ودنياهم !!
لقد كانت فترة الخلافة الأموية في الأندلس (300هـ - 422هـ / 912م – 1030م) أزهي عصور الأمة في تاريخها، حيث كانت دولة الإسلام في الأندلس أقوى ممالك العالم على الاطلاق، وكان خليفتها أعظم ملوك أوروبا -بل العالم- في زمانه بلا منازع، وقد كان الحكم المستنصر (350هـ - 366هـ / 961م - 976م) واحد من هؤلاء العظماء.
فقد استكمل الحكم المستنصر سيرة والده الناصر لدين الله فعظم فيها مجـد الأندلـس وأنار فيها ربيـع الإسـلام، فالأندلس في عهده بلغت أوج عظمتها وأبهتها من الناحية السياسية والحضارية والعمرانية، وفى عهده أضحت الأندلس كعبة تأتى إليها ملوك النصرانية وتلتمس ودها، وخرت عند قدميه ملوك أوروبا وأمراؤها ذلولين خضوعين، رجاء الصداقة والمودة، فطلب مودته أمير برشلونة وليون وقشتالة، وتراسل معه في حب ومودة إمبراطور بيزنطة وألمانيا.
قدوم أردونيو الرابع ملك ليون على الحكم المستنصر
يحكي مؤرخو الأندلس كيف كان قدوم أردونيو الرابع ملك ليون على الحكم المستنصر لطلب النصرة والمساعدة، وهي صورة أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، ولو لم ترد بطريق التواتر في المراجع الإسلامية عن الثقات لترددنا في قبولها، وإنه لعجب، ولما العجب وقد كنا أعز أمة !!
يصف ابن حيان مؤرخ الأندلس وعنه ابن خلدون والمقري التلمساني وغيرهم قدوم أردونيو الرابع ملك ليون المخلوع إلى قرطبة -عاصمة الخلافة؛ ليقدم فروض الطاعة للخليفة ويطلب أمانه ومساعدته وليعاونه على استرداد ملكه المسلوب.
تحكي الرواية الإسلامية أن أردونيو وفد على قرطبة في عشرين رجلا من وجوه أصحابه، ومعهم غالب الناصري مولى الحكم وصاحب مدينة سالم، وذلك في آخر صفر سنة 351هـ / 30 مارس سنة 962م. وحين وصلوا قرطبة أخرج المستنصر وزيره هشام المصحفي لاستقبالهم وأمر بترتيب العسكر في استقبالهم في قمة الأبهة وكامل التعبئة. فلما دخلوا قصر قرطبة، ووصل أردونيو إلى ما بين باب السُّدة وباب الجنان، سأل عن مكان مدفن الناصر رحمه الله، فأشير إليه في الروضة بداخل القصر، فسار إليه وخلع قلنسوته وانحنى أمامه خاشعًا. وأمر المستنصر بإنزال أردونيو وصحبه في أحد قصور قرطبة وهي دار الناعورة الفخمة، ليقيم فيها يومين (الخميس والجمعة)، وقد توسع وبولغ في إكرامهم.
فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردونيو إلى قصر الزهراء، وقد حشدت قوات عظيمة من الجند، وبولغ في الاحتفال بالزينات، وإظهار الأسلحة والعُدَد. وجلس الحكم فوق سرير الملك في المجلس الشرقي، ومن حوله الإخوة والوزراء والأكابر، فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء.
وجىء بأردونيو وأصحابه، ومعهم جماعة من وجوه نصارى الأندلس، فدخل أردونيو بين صفَّي الترتيب يقلِّب الطَّرف في نظم الصفوف، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها، فراعهم ما أبصروه، وصُلِّبوا على وجوههم، وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضِّين من أجفانهم قد سكِّرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوَّل باب قصر الزهراء، فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه، وأُجْلِسوا برهة في بهو الانتظار، ثم استدعوا للمثول بين يدي الخليفة.
فسار أردونيو ومن ورائه أصحابه، وقد أُمر بالترجُّل هنالك والمشي على الأقدام، فترجلوا، ودخل الملك أردونيو وتبعه أصحابه، فأنزل في مدخل البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوِّ الأوصال بالفضة، فقعد أردونيو على الكرسي، وقعد أصحابه بين يديه، وخرج الإذن لأردونيو من المستنصر بالله بالدخول عليه، فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى المجلس الخلافي، فكشف رأسه وخلع برنسه.
وبقي أردونيو حاسرًا إعظامًا لما بان له من الدنو إلى سرير الحكم، واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين حتى انتهى إلى باب البهو، فلمَّا دنا من سرير الحكم خرَّ ساجدًا سويعةً، ثم استوى قائمًا، ثم نهض خطواتٍ، وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارًا إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى إلى يده فناوله إياها وكرَّ راكعًا مقهقرًا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب، جعل له هنالك، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير، فجلس عليه، والبهر قد علاه، ثم دخل رجاله فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبَّلوها وانصرفوا مقهقرين، ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة، وهو من تولى الترجمة بينهم وبين الخليفة.
وكان أردونيو قد علاه الرعب وتملكه الفزع مما رآه حتى ما استطاع أن يتكلم مع المترجم، الذي انتظر حتى يهدأ من روعه ويخفض عليه، فلمَّا رأى المترجم أن قد خفض عليه افتتح تكليمه، فقال: "ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك، فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته"، فلمَّا ترجم له كلامه إيَّاه تطلَّق وجه أردون، فقبَّل البساط، وقال: "أنا عبد أمير المؤمنين مولاي، المتورك على فضلهن القاصد إلى مجده، المحكم في نفسه ورجاله، فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته، رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة، ونصيحة خالصة".
فقال له الخليفة: "أنت عندنا بمحلِّ من يستحق حسن رأينا، وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك، وتتعرف به فضل جنوحك إلينا، واستظلالك بظل سلطاننا"، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة، وابتهل داعيًا، وقال: "إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي (الناصر لدين الله) مستجيراً به مني، فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأمَّلهم، وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته، وأنكرت سيرته، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك، ولا دعاء إليه، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرًّا مضطهدًا، فتطوَّل عليه رحمه الله بأن صرفه إلى ملكه، وقوَّى سلطانه، وأعزَّ نصره، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه، وقصَّرفي أداء المفروض عليه وحقَّه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة، من قرارة سلطاني وموضع أحكامي، محكَّمًا له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي، فشتان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمة".
فقال الخليفة المستنصر: "قد سمعنا قولك، وفهمنا مغزاك، وسوف يظهر من إقراضنا إيَّاك على الخصوصية شأنه، ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا رضي الله تعالى عنه إلى ندِّك، وإن كان له فضل التقدُّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا، فليس ذلك مما يؤخرك عنه، ولا ينقصك مما أنلناك، وسنصرفك مغبوطًا إلى بلدك، ونشدُّ أواخيَّ ملكك، ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك، ونعقد لك بذلك كتابًا يكون بيدك نقرِّر به حدَّ ما بينك وبين ابن عمِّك، ونقبضه عن كل ما يصرِّفه من البلاد إلى يدك، وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما احتسبته، والله على ما نقول وكيل".
فكرَّر أردونيو الخضوع، وأسهب في الشكر، وقام للانصراف مقهقرًا لا يولِّي الخليفة ظهره، وخرج من المجلس وقد علاه البهر وأذهله الرَّوع، من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزَّة، فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليًا منه انحطَّ ساجدًا إعظامًا له، ثم قدَّم إليه الحاجب جعفر الهدايا التي أمر بها الخليفة له ولأصحابه، فلما بصر به قام إليه، وخنع له، وأومأ إلى تقبيل يده، فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه، وجلس معه، فغَّّطه، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره، ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة، فخرَّ ساجدًا وأعلن بالدعاء، ثم دعا الحاجب أصحابه رجلًا رجلًا، فخلع عليهم على قدر استحقاقهم، فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم، وخرَّ جميعهم خانعين شاكرين.
يقول المقري: "واستشعر الناس من مسرَّة هذا اليوم وعزَّة الإسلام فيه ما أفاوضوا في التبجُّح به والتحدث عنه أيامًا، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان، وإنشادات لأشعار محكمة متان، يطول القول في اختيارها. فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول:
مَلكُ الخِلافــة آيةُ الإقبـــــــال *** وسُعــودُه مَوصُولةٌ بتَوَالِي
فالمُسلمــونَ بعِــزَّةٍ وبرفعـــــةٍ *** والمشُرِكونَ بـذِلَّةٍ وسَفـــالِ
ألقــتْ بأيديهــا الأعاجِمُ نَحوَه *** مُتَوَقِّعيــنَ لصـَولــةِ الرِئْبَالِ
هـذا أميرُهــم أتاهُ آخـــــــــذاً *** مِنْـه أواصِرَ ذِمَّـةٍ وحِـبــالِ
متواضعاً لجلالـه متخشّعــــــاً *** مـتبرّعاً لمــّا يرع بقتـــــال
سينال بالتأميل للملك الرّضـى *** عــزّاً يعــمّ عــــداه بالإذلال
لا يــوم أعظــم للولاة مسـرّةً *** وأشــدّه غيظـاً على الأقيال
مـن يـوم أردون الذي إقبــاله *** أمـل المدى ونهاية الإقبــال
ملك الأعاجم كلّها ابن ملوكها *** والي الرّعاة وللأعاجم والي
إن كان جاء ضرورةً فلقد أتى *** عن عزّ مملكة وطوع رجال
فالحمـــد لله المنيــــل إمامنـــا *** حــظّ الملـوك بقدره المتعالي
وهكذا انتهى المشهد، غير أن عبره ودروسه لم تنتهى، فيا ليت حكام المسلمين ووزراءهم اليوم يقرؤون تلك المشاهد، ويستمعون إلى تلك الصور من العزة والكرامة، ولو قرءوا لعلموا أنهم بالإسلام –وبالإسلام وحده- تكون العزة والكرامة، وأنه كما قال عمر رضي الله عنه: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".
ولنا في التاريخ والواقع عبرة وشاهد .. وعلى نفسها جنت براقش، فقد كانت الأندلس بالمسلمين أستاذة الدول الأوروبية علمًا وحضارةً وفكرًا، وصناعة وزراعة وثراء، فأصبحت إسبانيا بدونهم في الدرك الأسفل من دول أوروبا علمًا وحضارةً وفكرًا، وصناعة وزراعة وثراء.
وكانت الأندلس أقوى دولة أوروبية بالمسلمين، فأصبحت من بعدهم أضعف دولة أوروبية على الإطلاق، وقد خُيِّل للذين طردوا المسلمين وشردوهم وفتكوا بهم في الأندلس أنَّهم أحرزوا على الإسلام نصرًا حاسمًا، ولكنَّهم تيقَّنوا بعد أن سبق السيف العَذَل، أنهم أحرزوا على أنفسهم لا على الإسلام نصرًا حاسمًا، وأنَّهم خرَّبوا بلادهم بأيديهم جهلًا وتعصبًا وغرورًا.
والدرس الذي ينبغي أن نتعلَّمه من مأساتنا في اليوم والأمس، أنَّ المسلمين انتصروا بعقيدتهم الراسخة ووحدتهم الصلبة؛ فلمَّا تهاونوا بعقيدتهم، وتفرقوا شيعًا، خسروا بلادهم وخسروا أنفسهم وذلُّوا.
ذلك ما ينبغي أن نتعلَّمه ونعلمه لأبنائنا، ولا ينبغي أنْ ننساه أبدًا.
يــوم كنــا خيـــر أمــة *** كان للحــق مكانـــا
كان للأقـــوال فعـــــل *** فاسمعـوا للترجمانا
يوم كان الناس فيهــم *** شرعة الله منــــارا
كان في الناس سرور *** هدية يؤتى جهـــارا
يوم أن كنـا جميعًـــــا *** لم تشتتنـــا دروبـــا
كـان فينــا مــن ينــاد *** هــذه الدنيا هروبــا
يوم أن كنا أســـــودا *** دربنا درب الجهــاد
يومها كنا جنـــــــودا *** لا نبالي بالأعـــادي
كان في القلب يقينــا *** أن نصــــر الله آت
أن نصر الله فتــــــح *** إن حيينا بالثبــــات
عن موقع قصة الإسلام
يتبع
المصادر والمراجع:
- المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1997م.
- ابن عذارى: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1983م.
- ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، تحقيق: خليل شحادة، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية 1408هـ - 1988م.
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الطبعة الرابعة 1417هـ - 1997م.
- محمود شيت خطاب: قادة فتح الأندلس، الناشر: مؤسسة علوم القرآن - منار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1424هـ - 2003م.
أ ـ إن معرفة الأمة لماضيها خير وسيلة لتصوير المستقبل، فالأمة التي لا تعرف تاريخها، لا تقدِّر مهمتها، ولا تعرف غايتها، ولا تشخِّص حاضرها، ولا تبني مستقبلها.
ومن المسلَّم به أن تاريخ الأمة بناه الأفراد المبدعون، وقد حفل التاريخ الإسلامي بعد جيل الصحابة بالآلاف من الرجال الذين غيَّروا مسار التاريخ وصنعوا للإسلام حضارة سادت العالم قرونًا، فوا عجبًا لأمة لها تاريخ عريق مشرِّف تخاصمه ولا تستفيد منه، وتعتبره ماضيًا زالٍ وتراثًا بالٍ.
إنها دعوة لأمتنا أن تقرأ تاريخها العريق قراءة واعية تستخرج منه الدروس والعبر، وأن تقف أمام أحداث التاريخ الإسلامي وقفة متفحصة مدققة، ليست سردًا تاريخيًا للأحداث بقدر ما هي تنقيب بين أسطره على مدلولات هذه الأحداث والوقائع، وعلاقتها بواقعنا المعاصر.
ب ـ ومن أجل ذلك تكوَّنت رغبة لدى الخلفاء والأمراء وحكام المسلمين في معرفة تاريخ الملوك والأمم السابقة، حتى قال أبو شامة: "وَلم يزل الصَّحَابَة والتابعون فَمن بعدهمْ يتفاوضون فِي حَدِيث من مضى، ويتذاكرون مَا سبقهمْ من الْأَخْبَار وانقضى، ويستنشدون الْأَشْعَار، ويتطلبون الْآثَار وَالْأَخْبَار، وَذَلِكَ بَيِّن من أفعالهم لمن اطَّلع على أَحْوَالهم، وهم السَّادة الْقدْوَة فلنا بهم أُسْوَة".
ولذلك قرَّب الحكام والخلفاء المؤرخين ومن له دراية بأخبار الأمم السابقة، يطلعونهم على أخبار الماضين وحوادث المتقدمين، فقد استدعى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عبيد بن شرية من صنعاء يسأله عن ملوك العرب والعجم، وكان يجلس كل مساء يسمع أخبار التاريخ.
وكان مروان بن الحكم يدني مجلس حكيم بن حزام رضي الله عنه ليسمع منه أخبار المغازي، وكان عروة بن الزبير راوية التاريخ على صلة بعبد الملك بن مروان وولده الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز رحمهم الله.
وأدنى هشام بن عبد الملك ابن شهاب الزهري من مجلسه، وأمر له بكاتبين يكتبان عنه سنة، فلما مات الزهري وُجدت له أكوام من الكتب في خزائن الأمويين، وقد أمر هشام بن عبد الملك سنة 113هـ بأن يكتب له تاريخ ملوك فارس.
وكان ابن إسحاق رحمه الله على صلة بالخليفة أبي جعفر المنصور وألف السيرة النبوية لتثقيف ولده المهدي، كما أوصى المنصور مؤدبي ولده بأن يعلموه الأدب وأخبار العرب إضافة إلى مكارم الأخلاق والأشعار. وكان القاهر بالله العباسي يدني المؤرخين من مجلسه يسمعونه تاريخ الخلفاء وأخبار المولي، ولا شك أن هذا الاهتمام الكبير نابع من تقديرهم للتاريخ وعظاته.
ج ـ علينا أن نعي أن التاريخ ليس ترفًا ولا سردًا ولا تسجيلًا للقصص والأحداث، وإنما في حقيقته مجال للاعتبار والعظات، لتتعلم الأمة من تاريخها ما يعينها على بناء الحاضر واستشراف المستقبل، وهذا ما يُعرف باسم "فلسفة التاريخ".
وقد عرَّف ابن خلدون التاريخ في مقدمته بقوله: "هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصَّها الاحتفال، وتؤدِّي لنا شأن الخليقة كيف تقلَّبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمَّروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدُّ في علومها وخليق".
إن على الأمة أن تدرس التاريخ لتتبع السنن والقوانين الربانية التي تحكم هذا الكون، كما قال أ/ محمد قطب: "الدرس التربوي الأكبر المستفاد من تتبع أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها ورفعتها وانتكاسها، هو تتبع السنن الربانية من جهة، وأنها لا تحابي أحدًا، ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد. وإبراز الحقيقة الرئيسة في حياة هذه الأمة -من جهة أخرى- أنها لا تُمكَّن في الأرض إلا وهي مستمسكة بدينها، عاملة بمقتضيات التكليف الرباني لها، وأنها كلما حادت عن الطريق أصابتها العقوبة الربانية فزال عنها التمكين، وأصابتها النكبات. وأنها من جهة ثالثة لا تبرأ من نكبتها إلا بالعودة الصادقة إلى الله عز وجل، وأنها حين تعود لا تكون مُمكَّنة في داخل حدودها فحسب، بل تكون في مقام التوجيه والشهادة على البشرية".
وإن من نعم الله تعالى على الأمة الإسلامية أن جعلها آخر الأمم؛ لتقوم على غيرها مقام التوجيه والشهادة وعلى نفسها مقام العظة والاعتبار، كما قال أبو شامة: "وَقد اخْتَار الله سُبْحَانَهُ لنا أَن نَكُون آخر الْأُمَم، وأطلعنا على أنباء من تقدم؛ لنَّتعظ بِمَا جرى على الْقُرُون الخلية: { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}(الحاقة)،
{ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}(الحاقة)، ولنقتدي بِمن تقدمنا من الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة الصلحاء ..، هَذَا وَإِن الْجَاهِل بِعلم التَّارِيخ راكبُ عمياء، خابط خبط عشواء، ينْسب إِلَى من تقدم أَخْبَار من تَأَخَّر، ويعكس ذَلِك وَلَا يتدبر، وَإِن رد عَلَيْهِ وهمه لَا يتأثر، وَإِن ذُكِّر فلجهله لَا يتَذَكَّر".
د ـ إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير لأن وراءها سننًا ثابتة تحركها وتكيِّفها، ولهذا يقول الغربيون: "التاريخ يعيد نفسه"، وتقول العرب في أمثالها: "ما أشبه الليلة بالبارحة !"، ويقول الإمام البيهقي: "لا توجد حادثة لم يحدث مثلها من قبل".
والحكمة تنص على أن العاقل أو السعيد هو من اتعظ بغيره، أما الأحمق والتعيس فيصرُّ على أن يدفع ثمن أخطائه من حسابه، لأنه لا يريد أن يتعلم من دروس وتجارب الآخرين التي سبق ودفعوا ثمنها، والناس -ولاسيما البارزون منهم- هم أحد اثنين: إما مُعتَبِر بما أصاب غيره من قبل أو مُعتَبَر به ممن سيأتي بعده !!
لذلك قال ابن الأثير: "فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلا ويصبح لأن يقتدى به أهلا". ويقول السخاوي عن فوائد التاريخ: "وكذا ما يذكر فيه من أخبار الملوك وسياساتهم، وأسباب ومبادئ الدول وإقبالها، ثم أسباب انقراضها وتدبير أصحاب الجيوش والوزراء، وما يتصل بذلك من الأحوال التي يتكرر مثلها وأشباهها أبدًا في العالم غزير النفع كثير الفائدة، بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله، وجرب الأمور بأسرها، وباشر تلك الأحوال بنفسه".
هـ ـ وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ "، أي على المسلم الحصيف أن يعي الدرس وألا يقع فيما وقع فيه الآخرون، وإلا دفع ثمن خطأه أكبر مما دفعه المخطئون الأولون.
فقد أخطأ المسلمون يوم أحد في شوال 3 هـ حينما خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانشغلوا بالغنائم، فعاقبهم الله تعالى بالمصيبة واستشهد سبعون صحابيًا، وكانت الهزيمة بعد النصر، حتى إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ..(152)}آل عمران)".
وبعد قرن وإحدى عشر سنة كأنََّ غزوة أحد تُعيد نفسَها من جديد، هناك في المنطقة الواقعة بين مدينتي بواتييه وتور الفرنسيتين، والتي تفصل عن باريس حوالي 295 كم، حيث معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ بقيادة عبد الرحمن الغافقي، وكانت الغَلَبَةُ للمسلمين بعد مناوشات عديدة لمدة سبعة أيام، ثم لما التفَّ المسلمون حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوبهم- هاجم الفرنجة مؤخرة الجيش الإسلامي، هنا حدث الانكسار في الجيش المسلم ثم هُزِمُوا واستشهد الغافقي رحمه الله.
وتكاد تكون أوجه التشابه واحدة بين أحد وبلاط الشهداء، حتى عندما أُشيع خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في أُحُد حدث الانكسار، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبد الرحمن الغافقي رحمه الله انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل وفروا ليلًا، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.
و ـ وكما أعجب المسلمون يوم حنين 8 هـ بكثرتهم وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة، فعاتبهم الله تعالى بقوله: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)}(التوبة) . وقد انتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، فأكد لهم بدعائه افتقاره لربه ولجوءه إليه وحده، فقال: " اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل "، لقد كان الشعور بالزهو لكثرتهم سبباً لإدبارهم في أول المواجهة، وكان إدبارهم وهول اللقاء قد أعادهم إلى التصور الصحيح والتوكل الخالص، فكانت الجولة الثانية خالصة لهم من دون الكافرين: { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}(التوبة).
ويتكرر المشهد مرة أخرى بعد حوالي ستة قرون في هضاب الأندلس، فيما يعرف بموقعة العقاب في 15 صفر سنة 609هـ / 1212م، حينما خرج الخليفة الموحدي الناصر لدين الله لمحاربة الفرنجة فِي أُمَم لا تحصى وجيوش لا تستقصى، قد مَلَأت السهل والوعر، بلغ تعدادها 600 ألف مقاتل في عدد لم يسبق للمسلمين به مثيل في الأندلس، في مقابل 160 ألف محارب من النصارى والإفرنج، وما إن بدأت الموقعة حتى ركن الأندلسيون الذين كانوا يقاتلون مرغمين مع الموحدين إلى الفرار، وترتَّب على ذلك أن وقع اضطراب عظيم في الجيش الإسلامي، ولم يصمد في ذلك القتال إلا القليل، وحدثت مقتلة عظيمة لم تشهد الأندلس مثلها مثيل، ونادى مُنَادِي ألفونسو الثامن: "أَلا لَا أسر إِلَّا الْقَتْل، وَمن أَتَى بأسير قُتل هُوَ وأسيره، فحكمت سيوف الفرنج فِي الْمُسلمين إِلَى اللَّيْل".
لقد كان سبب الهزيمة ذلك المرض الخطير العجب والزهو بالكثرة ونسيان الاعتماد على الله، وهو ما صوَّره الناصري صاحب الاستقصا، بقوله: "وَكَانَ النَّاصِر رَحمَه الله قد أعجبه مَا رأى من كَثْرَة جُنُوده وأيقن بالظفر". وعند الفرار أيقن الناصر بالعقاب، وقال كلمته: "صدق الرَّحْمَن وَكذب الشَّيْطَان". ثم عاد الناصر إلى مراكش حيث توفي عام 610 هـ/1213 م، ربما كمداً من نتيجة الهزيمة في معركة العقاب التي عُدت نذيراً بانحلال دولة الموحدين، ولم تنصر لهم بعدها راية مع الفرنج إلى أن تدارك الله رمق الأندلس بالسلطان المنصور المريني رحمه الله (607 - 685 هـ / 1210 - 1286م).
ز ـ والغريب العجيب أن العدو يقرأ تاريخنا كما يقرأ تاريخه ويتعقب الأحداث بالنظر والتحقيق والتدبر والاعتبار، حتى تكاد تكون وسائله في حربه على الإسلام والمسلمين واحدة لا تتخلف.
وإن الشواهد في ذلك كثيرة، لعل أبلغها وضوحًا قصة سقوط بغداد ووقوعها تحت احتلالين بربريين: الاحتلال التتري الهمجي (656 هـ / 1258م) والاحتلال الأمريكي الدموي (1424هـ / 2003م)، وما بينهما من مقارنة، تشابه لا يصدَّق !!
فما أشبه سقوط بغداد تحت أقدام الأمريكان بسقوط بغداد تحت أقدام التتار، من حيث الدوافع والأسباب والنتائج والخطوات والأساليب والإعداد ودوائر المفاوضات والتحالفات حتى النهاية والسقوط والدمار، بل حتى في صورة الخزي الذي لحق بالمسلمين حكامًا ومحكومين في الزمانَيْن، فكما قُتل الآلاف على يد التتار قُتل الآلاف على يد الأمريكان، بل وكما هرب المستعصم بالله من الموقف ورضى بالهوان كذلك فعل صدام حسين !! وكما قُتل ولدا المستعصم قبل أن يُقبض عليه، قُتل ولدا صدام قبل أن يُقبض عليه !! صورة متكررة في التاريخ بشكل عجيب وتطابق مذهل بين التاريخ والواقع!! { أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (13)}(الذاريات).
ح ـ ومن هنا حث القرآن الكريم على دراسة التاريخ المنظور أو المسطور ببصيرة نفاذة ووعي حاضر؛ لاستخلاص العبر، واستنباط السنن، لتجنب مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية، والأمم والحضارات السابقة إلى السقوط الحضاري والدمار الاجتماعي، ولسلوك سبيل النهوض والبناء. من ذلك قوله تعالى:
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}(آل عمران).
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}(يوسف).
{ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}(فاطر).
وحول الاستفادة مما ورد ذكره في القرآن الكريم من قصص السابقين والأقوام الغابرة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "وَمن هَذَا الْبَاب صَارَت قصَص الْمُتَقَدِّمين عِبْرَة لنا، وَلَوْلَا الْقيَاس واطراد فعله وسنته لم يَصح الاعتبار بهَا، والاعتبار إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ حكم الشَّيْء حكم نَظِيره، كالأمثال المضروبة فِي الْقُرْآن، وَهِي كَثِيرَة".
وصدق شوقي، بقوله:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
عن موقع قصة التاريخ
يتبع
المصادر والمراجع:
- أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: إبراهيم الزيبق، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ/ 1997م.
ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م.
- ابن تيمية: جامع الرسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، الناشر: دار العطاء - الرياض، الطبعة: الأولى 1422هـ - 2001م.
- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: مكتبة الأسرة 2006م.
- السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، تحقيق: فرانز روزنثال، تعريب: صالح أحمد العلي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1986م.
- أبو العباس الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري ومحمد الناصري، الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء – المغرب.
- شاكر مصطفى: التاريخ العربي والمؤرخون، الناشر: دار العلم للملايين- بيروت، الطبعة: الثالثة 1983م.
(1) مقدمة
نعم جيوش من أجل امرأة !! عندما كانت أمتنا في زمان العزة، عندما كانت تجري النخوة في عروق رجالها، والشهامة في دماء شبابها، يوم كانت استغاثات النساء فى زمان مضى تكفى لأن تتحرك من أجلهنَّ الجيوش، وتسال لحمايتهنَّ الدماء. يوم كانت لنا عزة .. يوم كانت لنا كرامة .. يوم كانت لنا مكانة .. يوم كانت لنا أرض .. يوم كان لنا عرض .. يوم كنا نعمل بمقولة عمر: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله". أما تعلمون أن صرخات النساء المسلمات -عندما وجدت حكامًا غيورين وجنودًا شجعانًا مؤمنين تغار على دينها وكرامتها وعرضها، كانت سببًا لأن يقام للدين أرض منذ آلاف السنين، فلا تعجب فما جيَّش رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش المدينة إلا ثأرًا لمسلمة انتُهك عرضها من يهودي، وما فُتحت الهند والسند إلا استجابة لنداءت مسلمات يتامى صرخن (وا حجاجاه)!! وما فُتحت عمورية أقدس بقاع النصارى إلا بكلمة (وا معتصماه)!! وما وصلت جيوش ابن أبي عامر أقصى جنوب فرنسا (مملكة نافار) إلا استجابة لثلاث مسلمات أُسِرن في كنيسة، واستغثن (وا عامراه)!!
(2) رسول الله يغضب
روى ابن هشام عن عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عوانة:
"أن امرأة من العرب قدمت بجلب (ما يجلب إلى السوق للبيع) لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا، وشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على يهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع". "فكان هؤلاء أول يهود نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكان ذلك في منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة.
قال ابن إسحاق: "فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن، حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول جين أمكنه الله منهم، فقال: "يا محمد، أحسن في مَوَالِيَّ!"، فلم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرر ثانية فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْنِي، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُلَلًا (لتغير الْوَجْه إِلَى السوَاد إِذا اشْتَدَّ غَضَبه)،
ثم قال له: وَيْحَكَ! أَرْسِلْنِي،
قال: لا والله لا أُرْسِلْكَ حتى تحسن في مواليَّ: أربع مئة حاسر، وثلاث مئة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات الشام، وهلك أكثرهم فيها". فتأمل أخي كيف حرَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلامي معلنًا الحرب -التي ستسال فيها الدماء- من أجل أن امرأة واحدة كُشفت عورتها، فكيف بنا الآن وقد كشفت عورات المسلمات في بقاع الأرض، وانتهكت حرماتهن سجنًا وقهرًا واغتصابًا وقتلًا .. وحسبنا الله ونعم الوكيل !!
(3) الحجاج يلبي
توسعت فتوحات المسلمين في بلاد الهند والسند (معظم باكستان الآن) خاصة في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت بين الحجاج وبين داهر ملك السند وقائع شديدة، وقد أشجى داهر قواد الحجاج وأذاقهم مرارة الهزيمة المرة بعد المرة. غير أن اللافت للنظر أن مصرع هؤلاء القواد لم يحمل الحجاج على الجد في قتال داهر بمقدار ما حمله عليه استغاثة امرأة عربية مسلمة، اعتدى عليها وعلى نسوة عربيات كن معها بعض قراصين البحر من أهل السند التابعين لداهر.
ذكر البلاذري في فتوح البلدان، أن ملك جزيرة الياقوت (جزيرة سيلان أو سريلانكا الآن، كان يقال لها جزيرة الياقوت؛ لحسن وجوه نسائها)، أراد التقرب من الحجاج فأهدى إليه نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات آباؤهن وكانوا تجارا، فعرض للسفينة التي كن فيها قراصين من ميد الديبل (كراتشي الآن) فاخذوا السفينة بما فيها، فنادت امرأة منهن من بني يربوع: يا حجاج! وبلغ الحجاج ذلك، فقال يا لبيك! وأرسل من فوره إلى داهر يسأله تخلية النسوة. فأجاب بأنه أخذهن لصوص لا قدرة له عليهم. فأغزى الحجاج اثنين من عماله ثغر السند فكلاهما قتل، فاهتاج الحجاج بن يوسف وتجرد لقتال داهر، وكان قد أعد محمد بن القاسملغزو الري فلما حدث ما حدث على حدود السند رأى في هذا الشاب من يرأب الصدع ويدرك الثأر، فرده عن غزو الري وعقد له على مكران (إقليم بلوشستان بباكستان الآن) وثغر السند، وأمره أن يقيم بشيراز حتى توافيه القوة التي أخذ يعدها لقتال داهر.
كانت هذه القوة مؤلفة من جيش وأسطول، أما الجيش فكانت عدته زهاء عشرين ألف مقاتل، منهم ستة آلاف فارس من جند الشام. وأما الأسطول فكان يحمل المشاة والمؤن وعدد الحرب الثقيلة، ومن هذه خمس مجانيق ضخام، يقال لأكبرها (العروس). ويروي البلاذري أنه كان يمد فيها خمسمائة رجل. وبالغ الحجاج على عادته في إعداد الجيش حتى أنه: "جهزه بكل ما احتاج من الخيوط والمسال وعمد إلى القطن المحلوج فنقع في الخل الخمر الحاذق ثم جفف في الظل، فقال: "إذا صرتم إلى السند فإن الخل بها ضيق فانقعوا هذا القطن ثم أطبخوا به وأصطبغوا، ثم تقدم إلى محمد ألاّ يقطع عنه أخباره بحيث يختلف البريد بينهما مرة كل ثلاثة أيام".
خرج محمد بن القاسم بجيشه من شيراز سنة 90هـ، متجهًا إلى مكران واتخذها قاعدة له، وتقدم نحو الديبل (كراتشي الآن)، حتى استولى عليها، وبنى بها المساجد وأسكنها أربعة آلاف مسلم, ثم واصل سيره، فكان لا يمرُّ على مدينة إلَّا فتحها، وهدم معابد الوثنية والبوذية بها، وأقام شعائر الإسلام، وأسكنها المسلمين، ثم واصل فتحه، ففتح البيرون (وهي حيدر آباد حاليًا)، ثم توَّج ذلك كله بالانتصار على داهر ملك السند في معركة حامية سنة 93هـ، قال البلاذري: "ونظر الحجاج فإذا هو قد أنفق على محمد بن القاسمستين ألف ألف درهم، ووجد ما حمل إليه عشرين ومائة ألف ألف، فقال: شفينا غيظنا وأدركنا أثارنا وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر".
ثم مضى ابن القاسم ففتح الملتان (عاصمة إقليم البنجاب في باكستان الآن) سنة 95هـ، وقضى على كل التماثيل والمعابد البوذية هناك، وغنم مغانم كثيرة من الذهب والفضة، ولهذا سميت الملتان "بيت أو ثغر الذهب". وفي أثناء وجود محمد بن القاسم في "الملتان" جاءه خبر وفاة الحجاج 95هـ، فاغتم لذلك غير أنه واصل فتوحاته، فاستكمل فتح بلاد السند كاملة حتى وصل إلى كشمير (ما بين الهند وباكستان والصين)، وبذلك أنجز ابن القاسم الثقفي هذا الفتح كله في المدة بين سنة (89هـ - 95هـ).
فانظر أخي .. ها هي بلاد الهند والسند بحضارتهما وتاريخهما تفتحان ويدخلهما الإسلام تلبية لنداء مسلمة، اغتصب حقُها وانتهك عرضُها، فرحم الله الحجاج ورحم الله محمد بن القاسم الثقفي.
(4)المعتصم يزأر
إذا أرت أن تقرأ عن معركة رُدَّت فيها كرامة أمة واستعادت فيها هيبة دولة ورُدَّ بها اعتبارها كأعظم قوة في العالم، فاقرأ عن خبر فتح المعتصم عمورية، وإن شأت فاقرأ عن خبر (وامعتصماه).
تحكي كتب التاريخ أن إمبراطور الروم توفيل ميخائيل جهَّز جيشًا يزيد قُوامه على مائة ألف جندي، وسار به إلى بلاد الإسلام سنة 223هـ، فهاجم المدن والقرى، حتى بلغ زِبَطْرَةُ، فقتل من بها من الرجال، وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل مَلَطْيَةُ (من مدن تركيا) وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثَّل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والعراق، إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح.
وقد ضجَّ المسلمون في مناطق الثغور كلها، واستغاثوا في المساجد والطرقات، حتى قال شاعرهم:
يا غارة الله قـد عاينت فانتهكـي *** هتك النساء وما فيهن يرتكـب
هبَّ الرجال على أجرامها قُتلــت *** ما بال أطفالها بالذبـح تنتهــب
وبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه. فأجاب المعتصم وهو على سريره: لبيك لبيك، وصاح في قصره: النفير النفير، ونهض من ساعته بخمسمائة ألف مجاهد. وعندما سار المعتصم بالله باتجاه الثغور تساءل: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية، فسار باتجاهها، وتجهَّز جهازًا قيل: إنَّه لم يتجهَّز قبله بمثله. من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط.
وكانت أول فتوحات المعتصم أنقرة في 25 شعبان 223هـ، ففتحها بسهولة، واتجه بعدها إلى عمورية (مدينة عظيمة في هضبة الأناضول وسط تركيا، ولم يبق منها الآن سوى آثار)، وبدأ حصار عمورية في (6 رمضان 223هـ/ 1 أغسطس 838م)، ونصب المجانيق عليه، وبدأت المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى تعمل عملها، حتى سقطت عمورية بعد أهم معركة عربية استخدمت فيها أدوات الحصار الضخمة الكبيرة كالدبابات والمجانيق والسلالم والأبراج على اختلاف أشكالها وأنواعها، وذلك بعد حصار دام خمسة وخمسين يوما، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223هـ.
ثم أمر المعتصم بطرح النار في عمورية من سائر نواحيها، فأحرقت وهدمت، وعاد بعدها المعتصم بغنائم كبيرة إلى طرسوس، ومنها إلى سامراء منتصرًا مظفرًا. فتأمل أيها الغيور كيف حرَّك المعتصم جيوشًا غوثًا لصيحة الهاشمية الحرة (وامعتصماه)، لتظل "وامعتصماه" رمز الشجاعة العربية، ورمز المحافظة على حرمات المسلمين والدفاع عنها. غير أنه ويااااللأسى:
توالتِ الأيامُ تترى
و مضت تلك العهودْ
و في (زبطرةَ) غيرها
لما استباحتها الحشودْ
صرختْ فتاةٌ
عندما
همَّ الجنودْ
و نادَتِ العُربَ
استجارتْ
بالمسيحِ و باليهودْ
عبثاً فلم يُسمعْ نِداها
لا و لمْ يُفِقِ الرقودْ
عذراً أيا أختاهُ
إن نساءَنا
عقِمتْ
فلمْ تحمِلْ
بمعتصمٍ جديدْ
(5)المنصور ابن أبي عامر يغيث
جاء في سيرة حروب الحاجب المنصور ابن أبي عامر حاكم الأندلس أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار (أقصى الجنوب الفرنسي وشمال أسبانيا النصرانية).
ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاََّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، غير أنه قد حدث أمرٌ استفز المنصور وجيَّش من أجله الأندلس بكاملها، فتأمل ما يقوله ابن عذارى المراكشي عن هذا الأمر في كلمات بديعة وعبارات أنيقة، أجمل ما تقرأه من حال أمة عزيزة كريمة:
"ومن أوضح الأمور هنالك، وأفصح الأخبار في ذلك، أن أحد رسله (رسل المنصور) كان كثير الانتياب، لذلك الجناب، فسار في بعض مسيراته إلى غرسية (ت 390هـ / 1000م) صاحب البشكنس (ممكلة نبره أو نافار النصرانية) فوالى في إكرامه، وتناهى في برِّه واحترامه، فطالت مدَّته فلا متنزَّه إلا مرَّ عليه متفرِّجا، ولا منزل إلا سار عليه معرِّجا، فحلَّ في ذلك، أكثر الكنائس هنالك، فبينا هو يجول في ساحتها، ويجيل العين في مساحتها، إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر، قويمة على طول الكسر، فكلمته، وعرَّفته بنفسها وأعلمته، وقالت له: أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها، ويتمتَّع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها، وزعمت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة، وبكل ذل وصغار ملبسة، وناشدته الله في إنهاء قصتها، وإبراء غصَّتها، واستحلفته بأغلظ الأيمان، وأخذت عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمن. فلمَّا وصل إلى المنصور عرَّفه بما يجب تعريفه به وإعلامه، وهو مصغٍ إليه حتى تم كلامه، فلما فرغ قال له المنصور: هل وقفت هناك على أمر أنكرته، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟ فأعلمه بقصة المرأة وما خرجت عنه إليه، وبالمواثيق التي أخذت عليه. فعتبه ولامه، على أن لم يبدأ بها كلامه، ثم أخذ للجهاد من فوره، وعرض من من الأجناد في نجده وغوره، وأصبح غازيًا على سرجه، مباهيًا مروان يوم مرجه، حتى وافى ابن شانجة في جمعه، فأخذت مهابته ببصره وسمعه، فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما الجليَّة، ويحلف له بأعظم أليَّة، أنه ما جنى ذنبًا، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبًا، فعنف أرساله، وقال لهم -أي المنصور: كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورةٌ ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النسور، وقد بلغني بعد بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها. فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم أنه ما أبصرهنَّ ولا سمع بهنَّ، وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقًا لقوله، وتضرع إليه في الأخذ في بطوله، فاستحيا منه، وصرف الجيش عنه، وأوصل المرأة إلى نفسه، وألحف توحشها بأنسه، وغيَّر من حالها، وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها، وحملها إلى قومها، وكحلها بما كان شرد من نومها". فهل رأت أمة من الكرامة والعزة مثل ما كان من أمر الحاجب المنصور ابن أبي عامر(366هـ - 392هـ)، المجاهد الذي لا يهزم، غزا في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها.
(6)فمن الآن لأعراض المسلمين!!
ذلكم كان التاريخ المجيد فماذا عن صورتنا الآن !! إنها صور مؤلمة تتقطع القلوب منها حسرات، وتدمع العيون منها دماء، عندما نرى ونسمع صور لنداءات المسلمات العزل، تنتهك أعراضهن وتنجس حرماتهن ولا تجد قلب يتفطر ولا عين تدمع، فيا لحسرة القلب على نداءات هناك وهناك وهناك وهناك في فلسطين ومصر وبورما والعراق وسوريا و..!!، ولا تجد لها مجيب!!
"يا أمتي، أي خير في رجالك إن كانوا لا يستطيعون الحفاظ على طهر أخواتهن من قذارة ذلك النجس! آهات في صدري لا أدري كيف أخرجها، كيف أصوغها، كيف أترجمها .. فهي أكبر من أن أحوِّلها إلى حروف!".
المصادر والمراجع:
- ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية 1375هـ - 1955م.
- البلاذري: فتوح البلدان، الناشر: دار ومكتبة الهلال- بيروت، 1988م.
- الطبري: تاريخ الرسل والملوك، الناشر: دار التراث - بيروت، الطبعة: الثانية 1387هـ.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، تحقيق: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى 2003م.
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، الناشر: دار صادر - بيروت، الطبعة: الثانية 1995م.
- ابن عذاري المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال، الناشر: دار الثقافة، بيروت، الطبعة: الثالثة 1983م.
- المقري: التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت، الطبعة: الأولى 1997م.
- عبد الحميد العبادي: صور من التاريخ الإسلامي، مجلةالرسالة، العدد 22، 4 ديسمبر 1933م، ص14- 21.
- قصيدة أمتي، للشاعر السوري عمر أبو ريشة.
- قصيدة: زبطرة اليوم، للشاعر السوري طارق أبو مالك.