روسيا وقواعد اللعبة الدولية
حظيت الكلمة التي ألقاها فلاديمير بوتين في منتدى فالداي نهاية الأسبوع الفائت، باهتمام كبير في الأوساط السياسية والإعلامية. معظم المراقبين رأوا فيها كلمة متشددة للغاية. ولكن إذا وضعنا جانبا بعض الاستعارات الأدبية اللاذعة من نوع "سيد غابات التايغا" (كتوصيف لروسيا)، والأخرى الجيوسياسية، مثل "الأغنياء الجدد" الذين لا يتقنون التصرف بما انهال عليهم من ثروات طائلة (توصيف أمريكا)، سنجد أن كلمة الرئيس من حيث مضمونها، كلمة تحليلية، أكثر منها كلمة دعاوةٍ أدبية- اجتماعية. فما هي أسباب ما لاقته هذه الكلمة من ردود فعل متباينة؟
ليس بالخبر الجديد القول إن الرئيس الروسي لا يتقبل السياسة الأمريكية الحالية، فبوتين يتحدث عن ذلك منذ سنوات طويلة، وإن تفاوتت النبرة بين حين وآخر؛ ففي فترة رئاسته الأولى دعا إلى إعادة النظر بالنهج السياسي، لأن التهديدات المشتركة أكثر من التناقضات. وفي فترة رئاسته الثانية حذر من أن روسيا لن تسمح بتجاهل رأيها. أما في سياق حملته الانتخابية عام 2012، فقد عبر فلاديمير بوتين عن دهشته من تصرفات واشنطن، التي لا تعزز النظام الدولي، بل تبدو وكأنها تتعمد تدميره. وفي الكلمة التي ألقاها في منتدى فالداي هذا العام نلمس ما يشبه "التسليم بالأقدار"، فالرئيس الروسي لم يعد يعول على قدرة الولايات المتحدة على التغير، بل نراه يؤكد الروح الهدامة لتلك التصرفات الأمريكية. ولربما، هذا بالذات، أي خلو كلمته مما كان ينتظره الأخرون، ما يخلق الانطباع الأقوى لديهم، ويجعلهم يؤولون هذه الكلمة في سياق سلبي حصرا.
حظيت الكلمة التي ألقاها فلاديمير بوتين في منتدى فالداي نهاية الأسبوع الفائت، باهتمام كبير في الأوساط السياسية والإعلامية. معظم المراقبين رأوا فيها كلمة متشددة للغاية. ولكن إذا وضعنا جانبا بعض الاستعارات الأدبية اللاذعة من نوع "سيد غابات التايغا" (كتوصيف لروسيا)، والأخرى الجيوسياسية، مثل "الأغنياء الجدد" الذين لا يتقنون التصرف بما انهال عليهم من ثروات طائلة (توصيف أمريكا)، سنجد أن كلمة الرئيس من حيث مضمونها، كلمة تحليلية، أكثر منها كلمة دعاوةٍ أدبية- اجتماعية. فما هي أسباب ما لاقته هذه الكلمة من ردود فعل متباينة؟
ليس بالخبر الجديد القول إن الرئيس الروسي لا يتقبل السياسة الأمريكية الحالية، فبوتين يتحدث عن ذلك منذ سنوات طويلة، وإن تفاوتت النبرة بين حين وآخر؛ ففي فترة رئاسته الأولى دعا إلى إعادة النظر بالنهج السياسي، لأن التهديدات المشتركة أكثر من التناقضات. وفي فترة رئاسته الثانية حذر من أن روسيا لن تسمح بتجاهل رأيها. أما في سياق حملته الانتخابية عام 2012، فقد عبر فلاديمير بوتين عن دهشته من تصرفات واشنطن، التي لا تعزز النظام الدولي، بل تبدو وكأنها تتعمد تدميره. وفي الكلمة التي ألقاها في منتدى فالداي هذا العام نلمس ما يشبه "التسليم بالأقدار"، فالرئيس الروسي لم يعد يعول على قدرة الولايات المتحدة على التغير، بل نراه يؤكد الروح الهدامة لتلك التصرفات الأمريكية. ولربما، هذا بالذات، أي خلو كلمته مما كان ينتظره الأخرون، ما يخلق الانطباع الأقوى لديهم، ويجعلهم يؤولون هذه الكلمة في سياق سلبي حصرا.
ومع ذلك ، فإن المحفز الأساسي عند بوتين إيجابي على الأرجح، لأنه يتناغم مع الموضوع المحوري لجلسة فالداي، أي البحث على الصعيد الدولي عن قواعد للعيش المشترك، من شأنها أن تتيح الانتقال إلى المرحلة التالية من التطور؛ فالعالم لا يزال حتى الآن، عمليا، في طور التآكل، بل في مرحلة التفكك السريع للمنظومة التي نشأت وترسخت في النصف الثاني من القرن العشرين.
إن عملية بناء النظام العالمي الجديد التي قيل عنها الكثير قبل 25 عاما، لم تكلل بالنجاح. وإذا كانت قد بدأت كطموح لإيجاد نموذج مشترك بمساعي الدولتين العظميين (على هذا النحو تصور غورباتشوف النظام الجديد، وكان أول من تحدث عنه)، فمع انهيار الاتحاد السوفيتي "بقي "مهندس" واحد، هو الولايات المتحدة الأمريكية، فلم يتسن ضبط العمليات العالمية، بل ربما حدث عكس ذلك.
وللإنصاف، لا بد من القول إن العالم المرغوب، متعدد الاقطاب، الذي يبرز إلى الوجود اليوم، لا يشي - تلقائيا - بالنظام، ولا الانسجام، ولا التوازن.
وللإنصاف، لا بد من القول إن العالم المرغوب، متعدد الاقطاب، الذي يبرز إلى الوجود اليوم، لا يشي - تلقائيا - بالنظام، ولا الانسجام، ولا التوازن.
يتميز فلاديمير بوتين عن غيره من قادة البلدان الكبرى، بأنه لا يكتفي بمناقشة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وانتقادها (علما بأن قلة قليلة تجرؤ على ذلك)، بل ويعمل منهجيا على دحض الدور الذي تقوم به. وهذا ما يثير أشد ردود الفعل لديها، فبعد "الحرب الباردة" أصبحت الهيمنة الأمريكية العالمية من البديهيات، وبات يُنظر إلى التحول في النظام الكوني كتصويب تقني لهذا الوضع، لا كتغيير له.
على المستوى النظري، يدرك الجميع،طبعا، أن لا وجود لمهيمنين أبديين. في العام 1990 طرح تشارلز كراوتهامر مفهوم "لحظة القطبية الأحادية"، أي بتعبير آخر، المرحلة التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بالقدرة على فعل كل ما تراه ضروريا. آنذاك نبه كراوتهامر إلى أن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد. وبالمناسبة، كان مصيبا في تخمين مدة استمرار "اللحظة" بـ 25 – 30 سنة. ولكن تفوق الولايات المتحدة الأمريكية عمليا، كان ولا يزال، كبيرا إلى درجة لم تسمح بمناقشة النماذج الأخرى التي كان بوسع واشنطن أن تكون "واحدا منها"، وحتى أن تتبوأ مكانة "الأول بين المتكافئين".
وبكلام أدق، فإن موقف الولايات المتحدة الأمريكية السلبي الحاد مما يقوله ويفعله بوتين أمر مفهوم، فواشنطن تدرك أن الرئيس الروسي مثابر على التشكيك بـ "حقوقها الخاصة"، لا بسياستها؛ أي تبدو وكأنها أمام إعادة انتاج وضع تقليدي يظهر فيه رئيس يتحدى الطرف المهيمن، وينوي انتزاع السيادة العالمية منه، وبالتالي، ترى ضرورة ردع هذا الرئيس، وعدم تركه يكتسب مزيدا من القوة.
تكمن المفارقة في أن بوتين يؤكد دائما أن روسيا لا ترغب بأية هيمنة كونية، ولن تعمل على بناء العالم وفق مقاسها، ولن تشارك في سباقات من أجل العظمة.
وهذا ما ورد في كلمة فالداي أيضا، وفي غيرها من خطاباته. الرئيس الروسي يتصور تماما قدرة بلاده على نحو واقعي، لا أقل، ولا أكثر مما هي عليه. ولكن فلاديمير بوتين رفض ممارسة اللعبة وفق قواعد تفرضها قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سواء على مستوى التصريحات المفاهيمية، أم على مستوى السلوك العملي. إن الخطوات الروسية عام 2014، والتدابير الحازمة فيما يتعلق بالقرم قبل كل شيء، توضح أن موسكو مستعدة للسير وفق ما تقتضيه مصالحها بغض النظر عما يذهب إليه تفكير الأخرين في هذا الشأن.
ثمة خطوة أخرى لم تقم بها روسيا بعد، وهي التوجه إلى بقية العالم. كلمة الرئيس بوتين في فالداي، والكثير من خطاباته، هي بمثابة محادثة جديدة مع الغرب بالدرجة الأولى. أما في العالم الجديد، ذاك الذي يحدد الرئيس الروسي أوصافه بخطوطها العريضة، فلا مندوحة من المحادثات المكثفة مع البلدان والأقاليم التي لا تقف في مواجهة الغرب، وليست من ضمنه في الوقت نفسه. الجدل حول القواعد الجديدة متعذر وفق خط المواجهة السابقة زمن "الحرب الباردة".
العالم اليوم أكثر ديمقراطية. وحصيلة العملية الكونية تتوقف، وبدرجة أكبر، على "جماهير العالم العريضة"، التي ينبغي ممارسة الدعاوة والتحرض في صفوفها.
فيودور لوكيانوف - رئيس هيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية
http://arab.rbth.com/opinion/2014/11/12/28469.html