بسم الله الرحمان الرحيم
لقد عانى العبيديون (الفاطميون الادعياء) كثيرا من المغاربة، واضطر المعز العبيدي إلى أن يلجأ إلى الموادعة والمهادنة، حين بدأ يحس بفشله في المغرب، فتوجهت أنظاره إلى المشرق( مصر و الشام )، بعد أن يئس من هذا الشعب العنيد...
قال في رسالة له لأحد المقربين منه: (وقد ابتلانا الله برعي الحمير الجهال (يقصد المغاربة )، فإنا لم نزل نتلطف في هدايتهم، ومسايرة أحوالهم، إلى أن يختم الله لنا بالحسنى، والخروج من بين أظهرهم على أحمد حال)
وقال له بلكين بن زيري حين أراد أن يستخلفه على أرض المغرب: (يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري؟ قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح).
ومن هنا ابتدأ تاريخ النهاية، ورفع الله المحنة عن العلماء، وانقلبت الكفة، وبدأ الوضع ينقلب على الشيعة، حتى بدأ العامة وبعض الناس بالتطاول عليهم، والتعرض لهم.
كما وقع للقاضي النعمان، وهو من أشهر علماء الفاطمية، وكتابهم. وقد بلغه من الأذى ما جعله يكتب للمعز رسالة يشكو فيها معاناته وما يلقاه من السب والشتم، والمضايقة.
فأجابه بجواب يظهر فيه ضعف الخليفة وعدم قدرته على الدفاع عن أتباعه المخلصين.
فكان مما قال له: (هذه الألسنة الحداد، هي متاجر النساء والسفل والأوغاد، تذهب بالإعراض عنها، وتزول بالاطراح لها، وتزيد وتعظم ما علم السفل بنَفاقها، فلا تصغ إلى سماعها، ولا تلق بالا لها...ومع هذا فللملك سياسة يساس بها، ولنا حدود لن نتعداها، والله يظهر أمره على رغم الراغمين، ولو كره المشركون)
فبدأ المعز يبحث له عن مكان آخر ينشر فيه مذهبه، وتنتعش فيه دولته، وأيس أشد اليأس من أن يستقر له المغرب، أو أن يتحول المغاربة عن مذهبهم.
فعزم على الخروج إلى مصر، وفكر فيمن يخلفه على المغرب، ففكر أولا في جعفر بن يحيى، الذي اشترط شروطا أغضبت المعز، فصرف النظر عنه إلى بلكين بن زيري الذي أظهر الخضوع والوفاء.
وعندما طلب منه ذلك، تعذر في بادئ الأمر، ثم قبل على أن يبقى الخراج والقضاء تحت أمر المعز مباشرة و،لا يتخذ رأيا إلا بمشاورته.
فاستحسن منه المعز هذا الصنيع وشكره، فلما انصرف بلكين، قال له عم أبيه، أبو طالب أحمد بن المهدي عبيد الله: (يا مولانا: وتثق بهذا القول من يوسف أنه يفي بما ذكره ؟ فقال المعز: يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر ؟ واعلم يا عم، أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره.)
فقد أحس المعز بهذه الفجوة الكبيرة بينه وبن شعبه، وأيقن أن المغرب سيعود إلى ما كان عليه، وأن بلكين بن زيري لن يفي بما ذكره...
وكان خروج المعز لثمان بقين من شوال سنة 361هـ.
لقد كان المعز يستشف ببصيرته ما يؤول إليه أمر العبيديين في أفريقية والمغرب عامة، ولعل أقصى ما كان يرجوه وهو يفارق إفريقية، أن تظل تابعة له معترفة به، أما الصبغة الشيعية، فقد علم أن لا رجاء له فيها.
لقد حاول التشيع فرض نفسه على المغرب بقوة السلطان وسلطة القوة، وقد أثارت هذه القوة ردة فعل موازية لها في القوة أو أشد منها، وفجأة تلاشت قوة الدفع لدى المذهب الشيعي لتندفع تلك القوة التي أثارتها ردة الفعل وتكتسح المجال، وتنفجر بعد الضغط الذي كبتها طيلة تلك السنين.
وليس من الصعب الآن أن نتصور الوضع الذي فرضته المرحلة، بالنسبة للذين بقوا على هذا المذهب، بعد ذهاب الدولة التي كانت تسندهم وتدعمهم.
لقد آثر كثير منهم المغادرة، وكان من قبائل كتامة من رافق الدولة في خروجها من المغرب، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للمقربين من الخليفة، أن يصطحبهم في جهاده الجديد، ويكونوا في طلائع جيشه، والمقدمين من قواده.
بينما بقيت قلة قليلة من قبيلة كتامة ممن ناصر الدعوة وتبناها، وسكنوا في حي خاص بهم من أحياء القيروان يسمى "حي المقلي" والذي كان خاصا بالشيعة، وقد رأينا بعض ملامح الإذاية التي بدأت تلحقهم أيام المعز.
إلى أن جاء المعز بن باديس الخليفة الرابع من عائلة زيري، وأعلن رسميا تبنيه للمذهب المالكي، وإلغاءه لكل المذاهب التي كانت في المغرب، كمذهب الخوارج، ومذهب التشيع، وأعلن مبايعته لبني العباس.
ولم يكن هذا التحول الذي حدث في سياسة الدولة الزيرية، وهذه القطيعة بين القيروان والقاهرة، إلا مسايرة من السلطة الحاكمة لطبقات الشعب، ورعاية للاتجاه السائد فيه، واستجابة لما كان لا يزال يسري في نوازع ذلك الشعب، فقهائه وعامته، على درجات متفاوتة، من إنكار لذلك الذي جاءت به هذه الدولة الجديدة)
عند ذلك برز الحقد الذي احتقن في نفوس المغاربة منذ سنين، فبعد أن رحلت الدولة التي كانت تدعم هذا المذهب، جاء الوقت الآن ليتعرى الشيعة من أي دعم سياسي يحميهم، بعد أن تنكر لهم المعز بن باديس، فأقدم المغاربة على قتل الشيعة، وارتكاب مجزرة بشعة في حقهم، ليتم بذلك القضاء على التواجد الشيعي في المنطقة، يقول ابن الأثير:
في هذه السنة –أي سنة 407هـ- في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد أفريقية .وكان سبب ذلك، أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان، والناس يسلمون عليه ويدعون له ،فاجتاز بجماعة فسأل عنهم، فقيل هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر، فقال رضي الله عن أبي بكر وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلي من القيروان، وهي تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعا في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم .وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد ،فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله ،فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع أفريقية ،واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به فحصرهم العامة، وضيقوا عليهم ،فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم)
وفي الحقيقة نجد أن هذا العنف قد تولد عن سنوات من الاضطهاد والقمع والمعاناة، وما أن أتيحت الفرصة، حتى كال السنة للشيعة بنفس المكيال الذي كانوا يكيلون لهم منه، وسقوهم من نفس الكأس التي لطالما سقوهم منها.
وكانت هذه هي الضربة القاضية التي قصمت المذهب، ومسحت أي وجود له بعد ذلك اليوم.
ولا بد أن يكون هناك بقايا قد آثرت إخفاء عقيدتها، ولا بد أيضا أن تموت عقيدتهم المخفية معهم، وتدفن معهم في قبورهم.
وبهذا لم يبق أي أثر للشيعة في بلاد المغرب.
يقول السيد محسن الأمين –من علماء الشيعة في القرن الماضي- في كتابه أعيان الشيعة، الذي تتبع فيه الشيعة عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، بعد أن ذكر هذه الحادثة: (ولا يعرف اليوم هناك - اي في بلاد المغرب - أحد من الشيعة)
ويتلخص من هذا المبحث أمور:
1- جاء رجلان شيعيان إلى المغرب وكونوا بعد ذلك دولة، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المذهب وتمرسه.
2- رفض المغاربة المذهب وقاوموه فكريا وعسكريا.
3- بعد أن فقد المذهب الغطاء القمعي والمادي ثار ضده المغاربة وقاوموه بضرواة.
4- شارك العامة في القضاء على المذهب بالمجزرة الكبرى التي أوقعوها بالشيعة.
ويمكن أن نقسم مراحل التواجد الشيعي في المغرب إلى مرحلتين:
1- مرحلة التأسيس: وتمتد من سنة 296 التي بويع فيها عبيد الله المهدي، إلى خروج الفاطميين من المغرب سنة 361، أي مدة 65 عاما، وتميزت بما يلي:
أ- الصراع الفكري بين علماء القيروان والعبيديين، وإصدار الفتاوى بتكفير العبيديين.
ب- الثورات العسكرية المتتالية، وخروج أبي يزيد.
ج- محاولة إلزام الناس بالمذهب بواسطة القوة.
د- في أواخر هذه الفترة بدأ الشيعة يتعرضون للمضايقة، ولجأت الدولة إلى المصانعة والمداراة.
2- مرحلة التقوقع وبداية الانهيار: وتمتد من خروج العبيديين إلى القاهرة، إلى مبايعة المعز بن باديس للدولة العباسية سنة 407هـ، أي مدة 46 سنة، وتميزت هذه الفترة بـ:
أ- انحسار المذهب وتقوقعه في أحياء خاصة.
ب- التعرض للمضايقات والأذى.
ج- تعري المذهب من أي دعم فكري أو سياسي.
د- بروز بوادر الانتقام السني من الشيعة.
هـ- القيام بمجزرة كبرى للقضاء على المذهب.
ويمكننا القول بأن المذهب الشيعي في المغرب كان كمرض ظهر في بعض أجساء الجسم المغربي، ولاقى ما لاقى من المقاومة، ثم تلاشى دون أن يحقق أدنى نتيجة أو يترك أي أثر.
لقد عانى العبيديون (الفاطميون الادعياء) كثيرا من المغاربة، واضطر المعز العبيدي إلى أن يلجأ إلى الموادعة والمهادنة، حين بدأ يحس بفشله في المغرب، فتوجهت أنظاره إلى المشرق( مصر و الشام )، بعد أن يئس من هذا الشعب العنيد...
قال في رسالة له لأحد المقربين منه: (وقد ابتلانا الله برعي الحمير الجهال (يقصد المغاربة )، فإنا لم نزل نتلطف في هدايتهم، ومسايرة أحوالهم، إلى أن يختم الله لنا بالحسنى، والخروج من بين أظهرهم على أحمد حال)
وقال له بلكين بن زيري حين أراد أن يستخلفه على أرض المغرب: (يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب، فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري؟ قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح).
ومن هنا ابتدأ تاريخ النهاية، ورفع الله المحنة عن العلماء، وانقلبت الكفة، وبدأ الوضع ينقلب على الشيعة، حتى بدأ العامة وبعض الناس بالتطاول عليهم، والتعرض لهم.
كما وقع للقاضي النعمان، وهو من أشهر علماء الفاطمية، وكتابهم. وقد بلغه من الأذى ما جعله يكتب للمعز رسالة يشكو فيها معاناته وما يلقاه من السب والشتم، والمضايقة.
فأجابه بجواب يظهر فيه ضعف الخليفة وعدم قدرته على الدفاع عن أتباعه المخلصين.
فكان مما قال له: (هذه الألسنة الحداد، هي متاجر النساء والسفل والأوغاد، تذهب بالإعراض عنها، وتزول بالاطراح لها، وتزيد وتعظم ما علم السفل بنَفاقها، فلا تصغ إلى سماعها، ولا تلق بالا لها...ومع هذا فللملك سياسة يساس بها، ولنا حدود لن نتعداها، والله يظهر أمره على رغم الراغمين، ولو كره المشركون)
فبدأ المعز يبحث له عن مكان آخر ينشر فيه مذهبه، وتنتعش فيه دولته، وأيس أشد اليأس من أن يستقر له المغرب، أو أن يتحول المغاربة عن مذهبهم.
فعزم على الخروج إلى مصر، وفكر فيمن يخلفه على المغرب، ففكر أولا في جعفر بن يحيى، الذي اشترط شروطا أغضبت المعز، فصرف النظر عنه إلى بلكين بن زيري الذي أظهر الخضوع والوفاء.
وعندما طلب منه ذلك، تعذر في بادئ الأمر، ثم قبل على أن يبقى الخراج والقضاء تحت أمر المعز مباشرة و،لا يتخذ رأيا إلا بمشاورته.
فاستحسن منه المعز هذا الصنيع وشكره، فلما انصرف بلكين، قال له عم أبيه، أبو طالب أحمد بن المهدي عبيد الله: (يا مولانا: وتثق بهذا القول من يوسف أنه يفي بما ذكره ؟ فقال المعز: يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر ؟ واعلم يا عم، أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً، هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف، فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر، ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل، وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره.)
فقد أحس المعز بهذه الفجوة الكبيرة بينه وبن شعبه، وأيقن أن المغرب سيعود إلى ما كان عليه، وأن بلكين بن زيري لن يفي بما ذكره...
وكان خروج المعز لثمان بقين من شوال سنة 361هـ.
لقد كان المعز يستشف ببصيرته ما يؤول إليه أمر العبيديين في أفريقية والمغرب عامة، ولعل أقصى ما كان يرجوه وهو يفارق إفريقية، أن تظل تابعة له معترفة به، أما الصبغة الشيعية، فقد علم أن لا رجاء له فيها.
لقد حاول التشيع فرض نفسه على المغرب بقوة السلطان وسلطة القوة، وقد أثارت هذه القوة ردة فعل موازية لها في القوة أو أشد منها، وفجأة تلاشت قوة الدفع لدى المذهب الشيعي لتندفع تلك القوة التي أثارتها ردة الفعل وتكتسح المجال، وتنفجر بعد الضغط الذي كبتها طيلة تلك السنين.
وليس من الصعب الآن أن نتصور الوضع الذي فرضته المرحلة، بالنسبة للذين بقوا على هذا المذهب، بعد ذهاب الدولة التي كانت تسندهم وتدعمهم.
لقد آثر كثير منهم المغادرة، وكان من قبائل كتامة من رافق الدولة في خروجها من المغرب، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للمقربين من الخليفة، أن يصطحبهم في جهاده الجديد، ويكونوا في طلائع جيشه، والمقدمين من قواده.
بينما بقيت قلة قليلة من قبيلة كتامة ممن ناصر الدعوة وتبناها، وسكنوا في حي خاص بهم من أحياء القيروان يسمى "حي المقلي" والذي كان خاصا بالشيعة، وقد رأينا بعض ملامح الإذاية التي بدأت تلحقهم أيام المعز.
إلى أن جاء المعز بن باديس الخليفة الرابع من عائلة زيري، وأعلن رسميا تبنيه للمذهب المالكي، وإلغاءه لكل المذاهب التي كانت في المغرب، كمذهب الخوارج، ومذهب التشيع، وأعلن مبايعته لبني العباس.
ولم يكن هذا التحول الذي حدث في سياسة الدولة الزيرية، وهذه القطيعة بين القيروان والقاهرة، إلا مسايرة من السلطة الحاكمة لطبقات الشعب، ورعاية للاتجاه السائد فيه، واستجابة لما كان لا يزال يسري في نوازع ذلك الشعب، فقهائه وعامته، على درجات متفاوتة، من إنكار لذلك الذي جاءت به هذه الدولة الجديدة)
عند ذلك برز الحقد الذي احتقن في نفوس المغاربة منذ سنين، فبعد أن رحلت الدولة التي كانت تدعم هذا المذهب، جاء الوقت الآن ليتعرى الشيعة من أي دعم سياسي يحميهم، بعد أن تنكر لهم المعز بن باديس، فأقدم المغاربة على قتل الشيعة، وارتكاب مجزرة بشعة في حقهم، ليتم بذلك القضاء على التواجد الشيعي في المنطقة، يقول ابن الأثير:
في هذه السنة –أي سنة 407هـ- في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد أفريقية .وكان سبب ذلك، أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان، والناس يسلمون عليه ويدعون له ،فاجتاز بجماعة فسأل عنهم، فقيل هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر، فقال رضي الله عن أبي بكر وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلي من القيروان، وهي تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعا في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم .وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد ،فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله ،فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع أفريقية ،واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به فحصرهم العامة، وضيقوا عليهم ،فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم)
وفي الحقيقة نجد أن هذا العنف قد تولد عن سنوات من الاضطهاد والقمع والمعاناة، وما أن أتيحت الفرصة، حتى كال السنة للشيعة بنفس المكيال الذي كانوا يكيلون لهم منه، وسقوهم من نفس الكأس التي لطالما سقوهم منها.
وكانت هذه هي الضربة القاضية التي قصمت المذهب، ومسحت أي وجود له بعد ذلك اليوم.
ولا بد أن يكون هناك بقايا قد آثرت إخفاء عقيدتها، ولا بد أيضا أن تموت عقيدتهم المخفية معهم، وتدفن معهم في قبورهم.
وبهذا لم يبق أي أثر للشيعة في بلاد المغرب.
يقول السيد محسن الأمين –من علماء الشيعة في القرن الماضي- في كتابه أعيان الشيعة، الذي تتبع فيه الشيعة عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، بعد أن ذكر هذه الحادثة: (ولا يعرف اليوم هناك - اي في بلاد المغرب - أحد من الشيعة)
ويتلخص من هذا المبحث أمور:
1- جاء رجلان شيعيان إلى المغرب وكونوا بعد ذلك دولة، وهذا يدل على مدى خطورة هذا المذهب وتمرسه.
2- رفض المغاربة المذهب وقاوموه فكريا وعسكريا.
3- بعد أن فقد المذهب الغطاء القمعي والمادي ثار ضده المغاربة وقاوموه بضرواة.
4- شارك العامة في القضاء على المذهب بالمجزرة الكبرى التي أوقعوها بالشيعة.
ويمكن أن نقسم مراحل التواجد الشيعي في المغرب إلى مرحلتين:
1- مرحلة التأسيس: وتمتد من سنة 296 التي بويع فيها عبيد الله المهدي، إلى خروج الفاطميين من المغرب سنة 361، أي مدة 65 عاما، وتميزت بما يلي:
أ- الصراع الفكري بين علماء القيروان والعبيديين، وإصدار الفتاوى بتكفير العبيديين.
ب- الثورات العسكرية المتتالية، وخروج أبي يزيد.
ج- محاولة إلزام الناس بالمذهب بواسطة القوة.
د- في أواخر هذه الفترة بدأ الشيعة يتعرضون للمضايقة، ولجأت الدولة إلى المصانعة والمداراة.
2- مرحلة التقوقع وبداية الانهيار: وتمتد من خروج العبيديين إلى القاهرة، إلى مبايعة المعز بن باديس للدولة العباسية سنة 407هـ، أي مدة 46 سنة، وتميزت هذه الفترة بـ:
أ- انحسار المذهب وتقوقعه في أحياء خاصة.
ب- التعرض للمضايقات والأذى.
ج- تعري المذهب من أي دعم فكري أو سياسي.
د- بروز بوادر الانتقام السني من الشيعة.
هـ- القيام بمجزرة كبرى للقضاء على المذهب.
ويمكننا القول بأن المذهب الشيعي في المغرب كان كمرض ظهر في بعض أجساء الجسم المغربي، ولاقى ما لاقى من المقاومة، ثم تلاشى دون أن يحقق أدنى نتيجة أو يترك أي أثر.