لم يكن هذا منذ زمن بعيد؛ فقبل 65 عاماً، أي قبل احتلال قرية أم الرشراش العربية التي كانت تحتل موقعها الاستراتيجي في رأس خليج العقبة لم تكن تطل على شواطئ البحر الأحمر سوى دول عربية، ولم يكن في أي من شواطئها ما يعبر عن استيطان دائم لدول الاحتلال الغربية.
لن نعاند التاريخ، فالمنطقة لم تكن حرة تماماً لعقود عديدة خلال القرنين الماضيين، ولا حتى قبلهما، لكن لم تكن الجيوش المعتدية لتبقى طويلاً مستندة إلى فكرة "الاستيطان" والبقاء الممتد تحت دعاوى الدول الناشئة.
إلى الشمال، زرعت "إسرائيل" في منطقة غالية على المسلمين وعرب المنطقة، ولم تكن دولة احتلال عارضة، بل جاءت بقضها وقضيضها لتستوطن هناك في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وبعد عام واحد من زرعها كان التفكير الاستراتيجي يقودها إلى شق العالم العربي نصفين، فاستولت على النقطة الوحيدة الباقية التي تصل بين المشرق العربي بغربه باستيلائها على أم الرشراش التي اتخذت سريعاً لها اسماً عبرياً إمعاناً في رغبتها في فصل حاضرها ومستقبلها عن ماضيها.. في مارس من عام 1949
أصبحت "إسرائيل" تطل على البحر الأحمر عنوة، وصارت من "إحدى الدول المتشاطئة مع جيرانها على البحر الأحمر".. هكذا يزعمون ويدعون بل هكذا فرضت. وأضحى أي اتفاق يبرم لأمن البحر الأحمر يحق لـ"إسرائيل" قانوناً (دولياً) أن تحضره وأن تشاطر العرب البحث في أمنه!
وللبحر الأحمر مخرجان أحدهما صناعي، وهو قناة السويس، والآخر طبيعي وهو مضيق باب المندب، وكلاهما كان تحت إشراف عربي، حتى إن الحروب التالية بين مصر والكيان الصهيوني شهدت تعاوناً مع دول عربية في إغلاق المضيق الذي تطل عليه اليمن من جهة الشرق والصومال الشمالي (جيبوتي) وإرتريا من جهة الغرب، أغلق كيلا تمر سفن إمداد إلى الكيان الصهيوني أثناء الحرب من هناك.
مر على البحر عقود، شهد الانكسارات والهزائم العربية تترا.. ثم كانت الأخيرة باقتراب إيران عبر الحوثيين من المضيق شرقاً، وبعض قطعها وسراياها في الغرب، في ميناء مصوع الإرتيري؛ فلقد غدا من العسير على الدول العربية المطلة على البحر الأحمر الآن الحديث عن أمن عربي للبحر الأحمر بعد أن جرى "تدويله". صحيح أن القطع البحرية العسكرية الغربية تمخر عبابه دون حسيب أو رقيب، وتسيطر عملياً على مضيق الجنوبي بدعوى مكافحة القرصنة الصومالية، وقانونياً على قناته الشمالية بضغط الاتفاقات الدولية الحاكمة، إلا أن العرب لم يعد لديهم حتى "شرف" ادعاء عروبة بحرهم التاريخية بعد أن صار ينطق اليوم بلغتين جديدتين عليه.. العبرية والفارسية!
إنها واحدة من المحن التي تمر بها أمتنا ضمن سلسلة طويلة لا تنتهي من الآلام والجروحات تجعل حديثاً كهذا ربما لا يحمله البعض، ولهم عذرهم، على محمل الجد والاهتمام، فأي كلام عن أمن عربي مشترك فضلاً عن إسلامي قد صار من الترف السياسي الذي لم يعد يثير اهتماماً، إذ المنطقة برمتها في نظرهم خارجة عن نطاق السيادة العربية.. لكن مع كل هذا؛ فإن أي تفكير في تحريك الراكد واستنهاض الأمة لابد أن يعبر من خلال وعيها بحاضرها، وتبصيرها بمخاطر عديدة تكتنف طريق استردادها لهويتها وذاتها.
المصدر: موقع المسلم