الإمام ساموري توري
أقبل الغربيون في القرن في القرن التاسع عشر الميلادي من كل حدب وصوب على قارة أفريقيا طمعًا في خيراتها وثرواتها، وعملوا على تقسيمها فيما بينهم؛ فاحتلت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا، واحتلت إيطاليا ليبيا، واحتلت انجلترا مصر.
ولم يكتفوا بهذا بل زحفوا على قلب القارة السوداء فاقتسموها بينهم، فكانت منطقة نهر النيجر الكبرى من نصيب الفرنسيين لكنهم لم يستولوا عليها إلا بعد مقاومة عنيفة شديدة من الإمام الكبير والمجاهد العظيم ساموري توري.
من هو الإمام ساموري توري ؟
يُعد ساموري توري من الزعماء الأفارقة المسلمين الذين لعبوا دورًا مهمًا في غرب القارة قبل الاستعمار وبعده، وقد استمر يحارب الغزاة الاستعماريين حوالي سبعة عشر عاما.
نشأة ساموري توري
ولد ساموري توري عام 1835م في سانكورو في جمهورية غينيا كوناكري، وهو ينتمي إلى مجتمع الديولا التجاري، ولما بلغ سنة السابعة ذهب للعيش مع خالته على بعد عشرين ميلا في إحدى القرى المجاورة، وعندما بلغ 18 عاما أرسله أبوه إلى صديق له بدولة ساحل العاج ليتعلم تجارة السلاح، ومن خلال ذلك عرف ساموري أماكن الحصول على السلاح؛ فبدأ يفكر في بناء إمبراطوريته، ومن خلال هذه المرحلة سافر إلى عدة مناطق في غرب إفريقيا فاطلع على نظام حياة عدة مجتمعات هناك.
وفي عام 1852م أُسرت والدته من قبل ملك بيساندوغو الوثنى وعند سماعه هذا الخبر أخذ يفكر في أفضل الطرائق لإنقاذ والدته من الأسر، وقرر خدمة ذلك الملك لسبع سنوات مقابل الإفراج عن والدته، ومن خلال تلك المرحلة استطاع أن يتعلم طرق الدبلوماسية بالإضافة إلى تدربه على فن قيادة الإغارة والحروب.
كون ساموري جماعة تولى رآستها بنفسه وأقسم على بناء دولة إسلامية في تلك المنطقة ثم قام ساموري بتدريب رجاله على فنون القتال وتم تسليحهم، ومن ثم بدأ نفوذه يمتد.
في عام 1874م بدأ الغزو التدريجي لكل القرى المجاورة لعاصمته، وتحالف مع المسلمين في مدينة كانكان، وبهذا استطاع أن يهزم جماعات مهمة من القبائل، وازدادت سيطرته على كافة فوتاجالون، ونجح في تحطيم كل القوى المنافسة له، وصار أكبر قائد لإمبراطورية إسلامية عرفها شعب المالينك.
في الخامس والعشرين من يوليو سنة 1884م جمع ساموري توري أهله في احتفال وأعلن لهم أنه سيلقب نفسه بلقب الإمام، وطلب من أهله ورعاياه أن يعتنقوا الإسلام، وفي نوفمبر من العام نفسه منع الخمر شربًا وبيعًا في مملكته، ومنع العادات الوثنية، وبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية.
كان عامة جيش ساموري توري من المشاة وقليل منهم من الفرسان، وسلّحهم بأسلحة أوروبية حديثة كان يشتريها من البريطانيين في فريتون مقابل بيع الذهب والعاج وأسرى الحروب، وكان حرسه الشخصي مكونًا من 500 رجل، وكان لأخيه مالنكي تورو قوة خاصة تقدر بمائتي فارس وألف راجل.
كان الفرنسيون قد عزموا على الاستيلاء على كل المنطقة التي يجري فيها نهر النيجر، فأتاهم الله بهذا البطل ساموري توري الذي كبدهم من الخسائر في الأموال والرجال ما لم يتوقعوه، حتى أن بيروز peroz وهو من كبار عساكر الفرنسيين لقبه بنابليون السودان، وهذا البطل العظيم هو في الحقيقة فوق هذا اللقب بكثير، فقد دوّخ الفرنسيين بجهاد جليل دام ثلاثة عشر عامًا بالرغم من بدائية أسلحته أمام آلة الحرب الفرنسية الجبارة، لكنه الإيمان إذا وقر في القلوب فلا يقوم أمامه شيء.
دولة ساموري توري
وتفصيل إنشائه الدولة ومقاومته الجليلة -رحمه الله تعالى- للفرنسيين أنه اتخذ من بلدة بيساندوجو Bissandougou عاصمة لملكه، وأقامها على الجهاد في سبيل الله تعالى وأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما أكسبه حيوية وطاقة متجددة لا تنضب، واضطر أن يهادن جيرانه من الإنجليز حتى لا يفتح عليه بابًا ثالثًا هو في غنى عنه فيكفيه أعادءه.
أنشأ ساموري توري جيشًا قويًا نسبيًا قسمه ثلاثة أقسام، على النحو التالي:
أفضلها وأعظمها قوة جعلها قائمة في وجه الفرنسيين ليمنعهم من التدخل في البلاد
والقسم الثاني جعله لحفظ الأمن في بلاده.
والقسم الثالث جعله للتوسعات والفتوحات الجديدة للقضاء على الوثنية ونشر الإسلام.
وبلغ من حرصه على جيشه أنه استطاع أن يصنع بعض الأسلحة وقطع الغيار محليًا، وباقي الأسلحة يشتريها من مدينة فريتاون بسيراليون.
وقد فرض ساموري توري على زعيم كل قرية أن يأتيه بمجموعة من الشباب الصالحين للجندية، وفي أوقات السلم كانت القوات الاحتياطية تُسرّح ستة أشهر لتعمل في فلاحة الأرض وإجراء المنافع، لتعود بعد ذلك، فإن كان في حاجة لها أبقاها وإلا سرّحها مدة أخرى وهكذا.
قسم ساموري توري بلاده تقسيمًا إداريًا منضبطًا إلى اثنين وستين ومائة إقليم، في كل منه عشرون قرية على كل منها زعيم، وفوق الزعيم حاكم الإقليم، وفوق حكام الأقاليم الإمام الذي من مهامه نشر الإسلام والقضاء على الوثنية، وتقوية الدولة والمحافظة عليها.
وقد أكثر ساموري توري رحمه الله تعالى من بناء المدارس والمساجد، ونشر الوعاظ، واهتم بتحفيظ القرآن الكريم.
خيانة تيبا لـ ساموري توري
ابتُلي ساموري توري بعدو مسلم واسمه تيبا Tieba حاكم كندوجو kenedougou كدر عليه جهاده، واتفق مع عدوه ضده، وكان تيبا عدوه الأول لكنه ليس الوحيد فقد ابتلي بغيره لكن كان ذلك هو العدو اللدود الذي ساعد الفرنسيين كثيرًا في ضرب ساموري بحيث كان الفرنسيون يهجمون عليه من جهة فيهجم عليه تيبا من جهة أخرى ليصير ساموري بين المطرقة والسندان.
وما درى هؤلاء الحكام المساكين أن استعانتهم بالكفار على هذا الوجه والتنسيق معهم لضرب المسلمين هو تمزيق لعقيدة الولاء والبراء، وإذهاب لقوة المسلمين أدراج الرياح، وسرور الأعداء وشماتتهم لكن قاتل الله الحرص على الكراسي فكم جلب من المآسي، واستعصى انتزاعه على الآسي.
حروب ساموري توري مع فرنسا:
توسعت فرنسا في غرب إفريقيا لتسترد هيبتها التي فقدت عقب هزيمتها في 1870م أمام روسيا، وأيضًا استفادت من مقررات مؤتمر برلين سنة 1302/1884م الذي سمح بتنظيم الاحتلال الأوروبي للقارة السوداء، فوضعت فرنسا نصب عينها مملكة الإمام ساموري توري، ووجدت الفرصة سانحة عندما ارتمى في أحضانها عدوه تيبا المسلم حاكم كندوجو!!
فكانت فرنسا تنسق مع تيبا ليحرك قواته إذا حركت هي قواتها حتى تُضعِف من مقاومة ساموري، وما زالت فرنسا تحاربه حتى اضطر لهدنة تنجلي بموجبها قواته من الضفة اليسرى لنهر النيجر تماماً ويعترف باستيلاء فرنسا عليها وعلى مناجم الذهب في بوريه وإرغامه على التعامل مع المراكز التجارية الفرنسية، ومقابلها تعترف له فرنسا بملكيته للضفة اليمنى من النهر.
بعد المعاهدة توجه ساموري توري إلى عدوه تيبا ليقضي عليه وحاصره ستة أشهر في عاصمته سيكاسو لكنه أخفق في فتحها، ولجأ الفرنسيون إلى الحيلة ليخففوا عن حليفهم تيبا الحصار ففك الإمام حصاره عن العاصمة وعاد إلى بلاده لكن بعد أن تحمل خسائر كبيرة فقد قُتل سبعة آلاف من جنده واثنين من أشهر قواده، وثار بعض شعبه عليه في أعقاب هذه الحملة، وعارضوا مطالبه بزيادة الجند.
تولى قيادة الجيش الفرنسي في المنطقة قائد شديد العداوة للإسلام والمسلمين اسمه أرشينار، وفرض على ساموري معاهدة أخرى سنة 1307/1889م تنازل فيها ساموري توري عن بعض الأراضي وتعهد بعدم الإغارة على البلاد التي احتلتها فرنسا، وقبلها ساموري توري؛ لأنه كان في حالة ضعف ولم يشأ أن يصطدم مع الفرنسيين آنذاك.
وأراد القائد الفرنسي أن يستغل تيبا في صراعه مع الإمام مرة أخرى، خاصة أن تيبا أرسل له رسالة يقول له فيها: "إني على ثقة من حسن استقبال أهل البلاد لكم فهم لن يخافوكم، ولن يخشوا إغاراتكم، وسوف يتغير رأيهم فيكم، وتتلاشى كراهيتهم عندما يتفهمونكم ويدركون أغراضكم"!!
وهذه خيانة من تيبا لشعبه المسلم، وخيانة لحاكم مسلم آخر، ولشعب مسلم عريض؛ لكن حب الرئاسة يعمي ويصم.
وحاول أرشينار أن يستميل ساموري توري وأن يغريه بمعسول القول في رسائل عديدة أرسلها له واقتراحات اقترحها عليه لكن كان الإمام يقظًا فواجهها بالاحتقار الذي تستحقه.
وقد استطاع القائد أرشينار أن يحتل مدينتين من مدن ساموري توري، وهما: كانكان، وبيساندوجو، لكن عندما دخلها وجدهما أكوامًا من الرماد فقد أحرقهما الإمام حتى لا يستفيد منهما بشيء.
وكانت مملكة ساموري تدعوها فرنسا بالإمبراطورية المتنقلة؛ لأن ساموري كان كلما فقد جزءًا من مملكته عوضه بأجزاء أخرى من الممالك الوثنية المجاورة فكأنه لم يفقد شيئًا وإنما غير حدود مملكته بهذا.
غيرت الحكومة الفرنسية القائد أرشينار وأتت بقائد آخر اسمه بونييه Bonnerr بغية تحقيق نصر سريع بعد أن طالت مدة مقاومة ساموري، وجرد القائد الجديد حملة بقيادة مونتي Monteil لكنها منيت بهزيمة ساحقة من قوات الإمام ساموري وأسر من الجند الفرنسيين عدد كبير، ثم أرسلت فرنسا حملة أخرى فهزمت ولله الحمد كما هزمت سابقتها، فجنحت فرنسا للسلم، وأرسلت حاكم السنغال الفرنسي ليعقد معاهدة مع الإمام الذي قبلها لحاجته إلى الراحة والإعداد وللتفرغ لنشر الإسلام بين الوثنيين، لكن الفرنسيين لجأوا إلى الحيلة والخداع في هذه المعاهدة وتمكنوا على إثرها من تعقب الإمام في معركة كبيرة في يوليو سنة 1898م كسبها ساموري ضد القائد الفرنسي لارتيج Lartigue لكنه أخطأ فتحرك غرباً فدخل الغابات الاستوائية وجبال الدان في فصل الأمطار فأصابت جنده المجاعة وتشتتوا فلم يجتمعوا بعد هذا.
أراد ساموري أن يعود إلى ساننكورو لكن الفرنسيين رفضوا إلا أن يأتيهم بأبنائه رهينة ويسلم أسلحته فعظم عليه ذلك فواصل القتال حتى قبض عليه غدراً ونفي إلى جزيرة أوجويه Ougoue في سنة 1317/1898م وقيل نفي إلى الجابون، وتوفي في سنة 1319/1900 رحمه الله تعالى، واستقرت فرنسا في غرب إفريقيا عقب هذا الانتصار المفاجئ.
وقد ترك حفيده أحمدوا سيكوتوري ليتولى المقاومة من بعده وليصبح أول رئيس لغينيا التي حصلت على استقلالها سنة 1958م.
أما عدوه تيبا فقد استولى الفرنسيون على بلاده، وهذه عاقبة كل خائن عميل.
وقد انتصرت فرنسا لثلاثة أسباب رئيسة:
• العداء بين القادة المسلمين والخيانة والعمالة من بعضهم.
• مساعدة الوثنيين لهم.
• القوة الحربية كانت لصالحهم في السلاح والعتاد.
لكن يكفي ساموري شرفًا وفخرًا أن أقام دولة نشرت الإسلام وحاربت الوثنية كل تلك المدة، ويكفيه أنه وقف أمام دولة عظمى آنذاك ثلاثة عشر عامًا أذاقها الهزيمة مرات عديدة، ووحد شعب المانديجو بعد أن كان قبائل متناثرة وعشائر متناحرة فرحمه الله ورضي عنه، وأعلى درجته في عليين.
موقف جليل في حياة ساموري توري:
هناك موقف عظيم في حياة الإمام ساموري توري رأيت أن آتي به مذيلاً سيرته حتى يبرز ولا يُنسى، وهو أن الفرنسيين اختطفوا ولده وساوموه على رده بمساومات لم يرضها فلم يقبل فأخذوه إلى فرنسا ست سنوات، واستطاعوا التأثير عليه وتغيير أفكاره ليصبح منهجه مخالفاً لمنهج أبيه تماماً وأرسلوه إلى أبيه ليقنعه بترك الجهاد، وهنا تجرد ساموري توري لله تعالى، وعظمت عنده عقيدة الولاء والبراء، وقتل ولده في مشهد عام بين الناس حتى لا يؤثر على حركة الجهاد، وهذا الصنيع العظيم يصدق فيه قول الله تعالى:
{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...(22)}(المجادلة) فلله در هذا الإمام العظيم.
عن موقع قصة الإسلام
ولم يكتفوا بهذا بل زحفوا على قلب القارة السوداء فاقتسموها بينهم، فكانت منطقة نهر النيجر الكبرى من نصيب الفرنسيين لكنهم لم يستولوا عليها إلا بعد مقاومة عنيفة شديدة من الإمام الكبير والمجاهد العظيم ساموري توري.
من هو الإمام ساموري توري ؟
يُعد ساموري توري من الزعماء الأفارقة المسلمين الذين لعبوا دورًا مهمًا في غرب القارة قبل الاستعمار وبعده، وقد استمر يحارب الغزاة الاستعماريين حوالي سبعة عشر عاما.
نشأة ساموري توري
ولد ساموري توري عام 1835م في سانكورو في جمهورية غينيا كوناكري، وهو ينتمي إلى مجتمع الديولا التجاري، ولما بلغ سنة السابعة ذهب للعيش مع خالته على بعد عشرين ميلا في إحدى القرى المجاورة، وعندما بلغ 18 عاما أرسله أبوه إلى صديق له بدولة ساحل العاج ليتعلم تجارة السلاح، ومن خلال ذلك عرف ساموري أماكن الحصول على السلاح؛ فبدأ يفكر في بناء إمبراطوريته، ومن خلال هذه المرحلة سافر إلى عدة مناطق في غرب إفريقيا فاطلع على نظام حياة عدة مجتمعات هناك.
وفي عام 1852م أُسرت والدته من قبل ملك بيساندوغو الوثنى وعند سماعه هذا الخبر أخذ يفكر في أفضل الطرائق لإنقاذ والدته من الأسر، وقرر خدمة ذلك الملك لسبع سنوات مقابل الإفراج عن والدته، ومن خلال تلك المرحلة استطاع أن يتعلم طرق الدبلوماسية بالإضافة إلى تدربه على فن قيادة الإغارة والحروب.
كون ساموري جماعة تولى رآستها بنفسه وأقسم على بناء دولة إسلامية في تلك المنطقة ثم قام ساموري بتدريب رجاله على فنون القتال وتم تسليحهم، ومن ثم بدأ نفوذه يمتد.
في عام 1874م بدأ الغزو التدريجي لكل القرى المجاورة لعاصمته، وتحالف مع المسلمين في مدينة كانكان، وبهذا استطاع أن يهزم جماعات مهمة من القبائل، وازدادت سيطرته على كافة فوتاجالون، ونجح في تحطيم كل القوى المنافسة له، وصار أكبر قائد لإمبراطورية إسلامية عرفها شعب المالينك.
في الخامس والعشرين من يوليو سنة 1884م جمع ساموري توري أهله في احتفال وأعلن لهم أنه سيلقب نفسه بلقب الإمام، وطلب من أهله ورعاياه أن يعتنقوا الإسلام، وفي نوفمبر من العام نفسه منع الخمر شربًا وبيعًا في مملكته، ومنع العادات الوثنية، وبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية.
كان عامة جيش ساموري توري من المشاة وقليل منهم من الفرسان، وسلّحهم بأسلحة أوروبية حديثة كان يشتريها من البريطانيين في فريتون مقابل بيع الذهب والعاج وأسرى الحروب، وكان حرسه الشخصي مكونًا من 500 رجل، وكان لأخيه مالنكي تورو قوة خاصة تقدر بمائتي فارس وألف راجل.
كان الفرنسيون قد عزموا على الاستيلاء على كل المنطقة التي يجري فيها نهر النيجر، فأتاهم الله بهذا البطل ساموري توري الذي كبدهم من الخسائر في الأموال والرجال ما لم يتوقعوه، حتى أن بيروز peroz وهو من كبار عساكر الفرنسيين لقبه بنابليون السودان، وهذا البطل العظيم هو في الحقيقة فوق هذا اللقب بكثير، فقد دوّخ الفرنسيين بجهاد جليل دام ثلاثة عشر عامًا بالرغم من بدائية أسلحته أمام آلة الحرب الفرنسية الجبارة، لكنه الإيمان إذا وقر في القلوب فلا يقوم أمامه شيء.
دولة ساموري توري
وتفصيل إنشائه الدولة ومقاومته الجليلة -رحمه الله تعالى- للفرنسيين أنه اتخذ من بلدة بيساندوجو Bissandougou عاصمة لملكه، وأقامها على الجهاد في سبيل الله تعالى وأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما أكسبه حيوية وطاقة متجددة لا تنضب، واضطر أن يهادن جيرانه من الإنجليز حتى لا يفتح عليه بابًا ثالثًا هو في غنى عنه فيكفيه أعادءه.
أنشأ ساموري توري جيشًا قويًا نسبيًا قسمه ثلاثة أقسام، على النحو التالي:
أفضلها وأعظمها قوة جعلها قائمة في وجه الفرنسيين ليمنعهم من التدخل في البلاد
والقسم الثاني جعله لحفظ الأمن في بلاده.
والقسم الثالث جعله للتوسعات والفتوحات الجديدة للقضاء على الوثنية ونشر الإسلام.
وبلغ من حرصه على جيشه أنه استطاع أن يصنع بعض الأسلحة وقطع الغيار محليًا، وباقي الأسلحة يشتريها من مدينة فريتاون بسيراليون.
وقد فرض ساموري توري على زعيم كل قرية أن يأتيه بمجموعة من الشباب الصالحين للجندية، وفي أوقات السلم كانت القوات الاحتياطية تُسرّح ستة أشهر لتعمل في فلاحة الأرض وإجراء المنافع، لتعود بعد ذلك، فإن كان في حاجة لها أبقاها وإلا سرّحها مدة أخرى وهكذا.
قسم ساموري توري بلاده تقسيمًا إداريًا منضبطًا إلى اثنين وستين ومائة إقليم، في كل منه عشرون قرية على كل منها زعيم، وفوق الزعيم حاكم الإقليم، وفوق حكام الأقاليم الإمام الذي من مهامه نشر الإسلام والقضاء على الوثنية، وتقوية الدولة والمحافظة عليها.
وقد أكثر ساموري توري رحمه الله تعالى من بناء المدارس والمساجد، ونشر الوعاظ، واهتم بتحفيظ القرآن الكريم.
خيانة تيبا لـ ساموري توري
ابتُلي ساموري توري بعدو مسلم واسمه تيبا Tieba حاكم كندوجو kenedougou كدر عليه جهاده، واتفق مع عدوه ضده، وكان تيبا عدوه الأول لكنه ليس الوحيد فقد ابتلي بغيره لكن كان ذلك هو العدو اللدود الذي ساعد الفرنسيين كثيرًا في ضرب ساموري بحيث كان الفرنسيون يهجمون عليه من جهة فيهجم عليه تيبا من جهة أخرى ليصير ساموري بين المطرقة والسندان.
وما درى هؤلاء الحكام المساكين أن استعانتهم بالكفار على هذا الوجه والتنسيق معهم لضرب المسلمين هو تمزيق لعقيدة الولاء والبراء، وإذهاب لقوة المسلمين أدراج الرياح، وسرور الأعداء وشماتتهم لكن قاتل الله الحرص على الكراسي فكم جلب من المآسي، واستعصى انتزاعه على الآسي.
حروب ساموري توري مع فرنسا:
توسعت فرنسا في غرب إفريقيا لتسترد هيبتها التي فقدت عقب هزيمتها في 1870م أمام روسيا، وأيضًا استفادت من مقررات مؤتمر برلين سنة 1302/1884م الذي سمح بتنظيم الاحتلال الأوروبي للقارة السوداء، فوضعت فرنسا نصب عينها مملكة الإمام ساموري توري، ووجدت الفرصة سانحة عندما ارتمى في أحضانها عدوه تيبا المسلم حاكم كندوجو!!
فكانت فرنسا تنسق مع تيبا ليحرك قواته إذا حركت هي قواتها حتى تُضعِف من مقاومة ساموري، وما زالت فرنسا تحاربه حتى اضطر لهدنة تنجلي بموجبها قواته من الضفة اليسرى لنهر النيجر تماماً ويعترف باستيلاء فرنسا عليها وعلى مناجم الذهب في بوريه وإرغامه على التعامل مع المراكز التجارية الفرنسية، ومقابلها تعترف له فرنسا بملكيته للضفة اليمنى من النهر.
بعد المعاهدة توجه ساموري توري إلى عدوه تيبا ليقضي عليه وحاصره ستة أشهر في عاصمته سيكاسو لكنه أخفق في فتحها، ولجأ الفرنسيون إلى الحيلة ليخففوا عن حليفهم تيبا الحصار ففك الإمام حصاره عن العاصمة وعاد إلى بلاده لكن بعد أن تحمل خسائر كبيرة فقد قُتل سبعة آلاف من جنده واثنين من أشهر قواده، وثار بعض شعبه عليه في أعقاب هذه الحملة، وعارضوا مطالبه بزيادة الجند.
تولى قيادة الجيش الفرنسي في المنطقة قائد شديد العداوة للإسلام والمسلمين اسمه أرشينار، وفرض على ساموري معاهدة أخرى سنة 1307/1889م تنازل فيها ساموري توري عن بعض الأراضي وتعهد بعدم الإغارة على البلاد التي احتلتها فرنسا، وقبلها ساموري توري؛ لأنه كان في حالة ضعف ولم يشأ أن يصطدم مع الفرنسيين آنذاك.
وأراد القائد الفرنسي أن يستغل تيبا في صراعه مع الإمام مرة أخرى، خاصة أن تيبا أرسل له رسالة يقول له فيها: "إني على ثقة من حسن استقبال أهل البلاد لكم فهم لن يخافوكم، ولن يخشوا إغاراتكم، وسوف يتغير رأيهم فيكم، وتتلاشى كراهيتهم عندما يتفهمونكم ويدركون أغراضكم"!!
وهذه خيانة من تيبا لشعبه المسلم، وخيانة لحاكم مسلم آخر، ولشعب مسلم عريض؛ لكن حب الرئاسة يعمي ويصم.
وحاول أرشينار أن يستميل ساموري توري وأن يغريه بمعسول القول في رسائل عديدة أرسلها له واقتراحات اقترحها عليه لكن كان الإمام يقظًا فواجهها بالاحتقار الذي تستحقه.
وقد استطاع القائد أرشينار أن يحتل مدينتين من مدن ساموري توري، وهما: كانكان، وبيساندوجو، لكن عندما دخلها وجدهما أكوامًا من الرماد فقد أحرقهما الإمام حتى لا يستفيد منهما بشيء.
وكانت مملكة ساموري تدعوها فرنسا بالإمبراطورية المتنقلة؛ لأن ساموري كان كلما فقد جزءًا من مملكته عوضه بأجزاء أخرى من الممالك الوثنية المجاورة فكأنه لم يفقد شيئًا وإنما غير حدود مملكته بهذا.
غيرت الحكومة الفرنسية القائد أرشينار وأتت بقائد آخر اسمه بونييه Bonnerr بغية تحقيق نصر سريع بعد أن طالت مدة مقاومة ساموري، وجرد القائد الجديد حملة بقيادة مونتي Monteil لكنها منيت بهزيمة ساحقة من قوات الإمام ساموري وأسر من الجند الفرنسيين عدد كبير، ثم أرسلت فرنسا حملة أخرى فهزمت ولله الحمد كما هزمت سابقتها، فجنحت فرنسا للسلم، وأرسلت حاكم السنغال الفرنسي ليعقد معاهدة مع الإمام الذي قبلها لحاجته إلى الراحة والإعداد وللتفرغ لنشر الإسلام بين الوثنيين، لكن الفرنسيين لجأوا إلى الحيلة والخداع في هذه المعاهدة وتمكنوا على إثرها من تعقب الإمام في معركة كبيرة في يوليو سنة 1898م كسبها ساموري ضد القائد الفرنسي لارتيج Lartigue لكنه أخطأ فتحرك غرباً فدخل الغابات الاستوائية وجبال الدان في فصل الأمطار فأصابت جنده المجاعة وتشتتوا فلم يجتمعوا بعد هذا.
أراد ساموري أن يعود إلى ساننكورو لكن الفرنسيين رفضوا إلا أن يأتيهم بأبنائه رهينة ويسلم أسلحته فعظم عليه ذلك فواصل القتال حتى قبض عليه غدراً ونفي إلى جزيرة أوجويه Ougoue في سنة 1317/1898م وقيل نفي إلى الجابون، وتوفي في سنة 1319/1900 رحمه الله تعالى، واستقرت فرنسا في غرب إفريقيا عقب هذا الانتصار المفاجئ.
وقد ترك حفيده أحمدوا سيكوتوري ليتولى المقاومة من بعده وليصبح أول رئيس لغينيا التي حصلت على استقلالها سنة 1958م.
أما عدوه تيبا فقد استولى الفرنسيون على بلاده، وهذه عاقبة كل خائن عميل.
وقد انتصرت فرنسا لثلاثة أسباب رئيسة:
• العداء بين القادة المسلمين والخيانة والعمالة من بعضهم.
• مساعدة الوثنيين لهم.
• القوة الحربية كانت لصالحهم في السلاح والعتاد.
لكن يكفي ساموري شرفًا وفخرًا أن أقام دولة نشرت الإسلام وحاربت الوثنية كل تلك المدة، ويكفيه أنه وقف أمام دولة عظمى آنذاك ثلاثة عشر عامًا أذاقها الهزيمة مرات عديدة، ووحد شعب المانديجو بعد أن كان قبائل متناثرة وعشائر متناحرة فرحمه الله ورضي عنه، وأعلى درجته في عليين.
موقف جليل في حياة ساموري توري:
هناك موقف عظيم في حياة الإمام ساموري توري رأيت أن آتي به مذيلاً سيرته حتى يبرز ولا يُنسى، وهو أن الفرنسيين اختطفوا ولده وساوموه على رده بمساومات لم يرضها فلم يقبل فأخذوه إلى فرنسا ست سنوات، واستطاعوا التأثير عليه وتغيير أفكاره ليصبح منهجه مخالفاً لمنهج أبيه تماماً وأرسلوه إلى أبيه ليقنعه بترك الجهاد، وهنا تجرد ساموري توري لله تعالى، وعظمت عنده عقيدة الولاء والبراء، وقتل ولده في مشهد عام بين الناس حتى لا يؤثر على حركة الجهاد، وهذا الصنيع العظيم يصدق فيه قول الله تعالى:
{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...(22)}(المجادلة) فلله در هذا الإمام العظيم.
عن موقع قصة الإسلام