مقومات مفقودة:
معضلات "الدولة القائد" في النظم الإقليمية والدولية
معضلات "الدولة القائد" في النظم الإقليمية والدولية
د. دلال محمود السيد
القيادة أحد المحددات الأساسية لطبيعة التفاعلات داخل إطار الجماعة. قد تكون هذه الجماعة من الأفراد، فتظهر القيادة السياسية داخل النظام السياسي للدولة، وقد تكون من الدول في إطار إقليمي ما، فتظهر الدولة القائد للإقليم، وقد تتسع لتشمل الجماعة الدولية، فتظهر الدولة العظمي لتقود النظام الدولي كله. فالقيادة عملية تأثيرية تتعلق بالتفاعلات القيادية، سواء السياسية والاقتصادية النظامية والمؤسسية في الإقليم، أو النظام الدولي.
القيادة أحد المحددات الأساسية لطبيعة التفاعلات داخل إطار الجماعة. قد تكون هذه الجماعة من الأفراد، فتظهر القيادة السياسية داخل النظام السياسي للدولة، وقد تكون من الدول في إطار إقليمي ما، فتظهر الدولة القائد للإقليم، وقد تتسع لتشمل الجماعة الدولية، فتظهر الدولة العظمي لتقود النظام الدولي كله. فالقيادة عملية تأثيرية تتعلق بالتفاعلات القيادية، سواء السياسية والاقتصادية النظامية والمؤسسية في الإقليم، أو النظام الدولي.
وفي هذا الإطار، يتم التركيز علي القيادة الإقليمية والدولية، خاصة بعد التطورات التي تشهدها الساحة الإقليمية منذ بداية الثورات في المنطقة العربية، والتي أسهمت في تغير طبيعة التفاعلات الإقليمية، وأظهرت بعض التغير في نمط التفاعلات علي مستوي النظام الدولي. ويجسد المشهد الحالي أزمة في قيادة النظام الإقليمي -إن جاز التعبير- والنظام العالمي أيضا. وإن لم يكن يوجدها، فهذه الأزمة موجودة من قبل، لكن التطورات المعنية زادت من حدة هذه الأزمة. وتسعي الدراسة إلي تحليل أسباب ومظاهر أزمة القيادة علي المستويين الإقليمي والدولي، مع محاولة لاستشراف مستقبل هذه الأزمة.
أولا- مقومات "الدولة القائد":
يقصد بالإقليم هنا المنطقة العربية، مضافا إليها إسرائيل، بحسبانها تقع في النطاق الجغرافي العربي، وهي غير عربية، وكذلك دولتان مهمتان من دول الجوار الجغرافي، هما: تركيا وإيران، نظرا للتأثير المتزايد لسياستهما في المنطقة، ولزيادة تدخلهما في الإقليم العربي، سواء بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة مع الدول العربية.
في البداية، يجب تحديد مقومات الدولة القائد إقليميا، فهناك محددات أساسية تتعلق بهيكل القوة في أي نظام إقليمي، وتشمل خصائص النظام، وهيكل القوة داخله، ونمط السياسات والتحالفات بين الدول، وتأثير النظام الدولي في مدي تماسكه وقوته. وبتطبيق هذه المحددات علي النطاق الإقليمي، يتضح:
1- عدم وجود إطار مؤسسي إقليمي فاعل، رغم وجود أطر مؤسسية مختلفة، مثل: جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، وغيرها. لكن هذه الأطر تفتقد القدرة علي التأثير ومحدودة الفاعلية، سواء لضعف إمكانياتها، أو لارتباطها بالنظم الفرعية، أو لاختلاف المصالح القطرية لدولها الأعضاء.
2- اتساع مجال التدخل الخارجي في الإقليم، نظرا لأهميته الاستراتيجية للقوي الكبري، سواء لموقعه في قلب العالم، أو لموارده وإمكانياته الطبيعية، أو لتحكمه في خطوط النقل والمواصلات العالمية إلي حد كبير.
3- التواصل الجغرافي، والتجانس الثقافي، والتاريخ المشترك بين الدول العربية، كلها عوامل مهمة لإيجاد نظام إقليمي عربي قوي ومتماسك. لكن وجود دور إقليمي متزايد لكل من إسرائيل، وتركيا، وإيران قوض من تأثير هذه العوامل، وحد من أهميتها، خاصة مع غياب الإرادة السياسية العربية.
أي أن القائد الإقليمي يكون دولة، وليس منظمة، هذا ما أظهرته التطورات التاريخية القديمة والمعاصرة للمنطقة. ومن أهم مقومات هذه الدولة القائد:
- الوعي بوجود العوامل المشتركة بين دول الإقليم وتنميتها.
- السيطرة علي الخلافات والتناقضات، مع الحرص علي التوازن بين القوي الأساسية في الإقليم.
- التنسيق بين مختلف الأطراف الإقليمية في إطار عمل مشترك.
- امتلاك رؤية لإحكام التوجهات الأساسية للإقليم وتطويره وتقويته.
- تجاوز الانتماءات القطرية وتوجيهها للانتماء للإقليم.
- إدارة الأزمات الإقليمية والسيطرة عليها بما يحجم من التدخلات الخارجية فيه.
- القوة النسبية وقوة الدولة التي توضع مع موازين القياسات الاستراتيجية ليست قوة مطلقة، بل هي قوة تقارن بقوي الدول الأخري في الدائرة الإقليمية، خاصة التي تحيط بها، أو تتعارض مع مصالحها القومية. فقوة الدولة مركب شمولي يدخل في مكوناته العناصر الرئيسية التي تقوم عليها الدولة، وأهمها: جغرافية الدولة، وخصائصها الجيوبوليتيكية، وقوتها البشرية والاقتصادية والعسكرية، وكذلك قوتها السياسية، ممثلة في نفوذها الداخلي والخارجي.
- القبول من القوي الإقليمية المختلفة لدور الدولة القائد بما يكسبها النفوذ والقدرة علي التأثير، يتبع ذلك نجاح في أداء هذا لدور لاكتساب الخبرة من واقع الممارسة الفعلية لهذا الدور.
تاريخيا، قامت مصر بدور الدولة القائد للمنطقة بما امتلكته من مقومات طبيعية ومكتسبة للقيام به، ووصل الدور القيادي لمصر إلي أقصاه في الستينيات بتأكيد القومية العربية كقضية مركزية للعرب. ثم تراجع دورها القيادي بعد اتجاهها للتسوية السياسية مع إسرائيل، وسعت بعض القوي الإقليمية للحصول علي الدور القيادي في الإقليم، أهمها: العراق، والسعودية، ولم تتمكنا من الإحلال محل القيادة المصرية. وعادت مصر جزئيا لمكانتها القيادية بعد عودة العلاقات العربية معها، وبعد التأكيد الدولي علي مكانة مصر الإقليمية أثناء حرب الخليج الثانية، ومفاوضات عملية التسوية السلمية مع إسرائيل. لكن هذه العودة الجزئية لمصر لم تقدم قيادة فاعلة أو رؤية إقليمية واضحة، مما أفسح المجال لقوي إقليمية أخري للعب أدوار مهمة في المنطقة العربية، مثل: إيران وتركيا.
وفي العقد الأخير، زاد تدخل تركيا وإيران في المنطقة العربية، وكل منهما تمتلك مشروعا مختلفا، وتهدف إلي قيادة الإقليم. بالنسبة لإيران، فقد حددت هدفها تجاه المنطقة العربية منذ الثورة الإسلامية عام 1979 بتصدير الثورة للتوسع، وبسط النفوذ الإيراني في منطقة جنوب غرب آسيا (أي المنطقة العربية تحديدا التي تشمل شبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، وسيناء)، مستخدمة عددا من العوامل والظروف الدينية، والسياسية، والتاريخية، والاقتصادية لتحقيق أهدافها المنشودة، من خلال القضية الفلسطينية، ودعم الأقليات الشيعية في الدول العربية. كما اتخذت من مناطق في آسيا الوسطي وشمال إفريقيا قواعد ارتكاز لتحقيق اختراقات في الدول التي تم تحديدها لتكون هدفا لمشروعها. هذا المشروع عرف باسم "الاستراتيجية الوطنية- نظرية أم القري"، وأضيف إليه مشروع "الاستراتيجية الإيرانية العشرينية 2005-2025". ووفقا له، يفترض أن تتحول إيران إلي قوة دولية، ومصدر إلهام للعالم الإسلامي، وأن تلعب دور قيادة التنظيم السياسي، والاقتصادي، والأمني للمنطقة مع بعض القوي الإقليمية، ولا تسعي للمواجهة مع قوي الهيمنة الخارجية إلا في الساحات التي توجد فيها مصالح متعارضة بينهما.
هذه الوثيقة تختصر رؤية الخميني للطموح الإقليمي الإيراني، وفقا لما نقل عنه، فكان يريد إقامة حزام شيعي للسيطرة علي العالم الإسلامي، يتألف من إيران، والعراق، وسوريا، ولبنان. وعندما يصبح سيدا لهذا الحزام، يمكنه السيطرة علي بقية العالم الإسلامي.
وبالنسبة لتركيا، عملت علي إيجاد شبكة من العلاقات في الدول العربية، حيث أظهرت مواقفها امتلاكها لاستراتيجية متكاملة لاستعادة الدور التركي القائد في المنطقة، اعتمادا علي "العمق الاستراتيجي"، وسياسة "تصفير النزاعات"، التي تري أن موقع تركيا وتاريخها يجعلانها مستعدة للتحرك الإيجابي في جميع الاتجاهات. وتهدف تركيا إلي أن تكون لاعبا رئيسيا في الصعيد الدولي مع حلول الذكري المائة للجمهورية عام .2023 فالمشروع التركي يركز علي تحقيق الاستقرار الإقليمي، وتعميق الروابط الاقتصادية معها كأسس للقيادة الإقليمية، وزاد الاهتمام بالمنطقة بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في .2002 وبدا واضحا أنه كلما زاد انخراط تركيا في ملفات الشرق الأوسط، تصاعدت أهمية دورها، وارتفعت أسهمها كحليف يجب استرضاؤه، والاعتماد عليه.
ملامح النظام الإقليمي بعد الثورات:
أنتجت ثورات الربيع العربي حالة من عدم الاستقرار منذ عام 2011، ولا تزال تداعياتها تثير العديد من التطورات المؤثرة في المنطقة، أهمها:
1- انتهاء حكم الإخوان المسلمين في مصر، وانتقال الاحتجاجات الشعبية الرافضة لسياسات الإسلاميين في الحكم لعدة دول، مثل: تونس، وتركيا، والسودان، مما يشير لتراجع القبول الشعبي لما يسمي"الإسلام السياسي" في هذه الدول. وزاد من هذا التراجع تأييد بعض النظم المحافظة، خاصة في الخليج، لانسحاب الإسلاميين من الحكم، حيث كان هذا يعني زيادة النفوذ لإيران وتركيا في المنطقة.
2- ظهور الروابط بين التنظيمات الإسلامية المحلية والدولية، واتجاهها للعنف في عدة دول، أبرزها: سوريا، ومصر، وليبيا، واليمن.
3- ارتباك المشهد الفلسطيني بعد زيادة المشكلات التي يعانيها قطاع غزة، وضعف إمكانيات حماس في مواجهتها، واتجاهها للتقارب مع حركة فتح التي استثمرت الموقف الإقليمي بشكل جيد سياسيا وشعبيا، فبدأت جولة جديدة من المفاوضات مع إسرائيل، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، حتي وإن لم تسفر عن شيء، فإنها تأكيد لاعتماد فتح علي التسوية السياسية.
4- استمرار نظام بشار الأسد في الحكم في سوريا، وتصاعد المواجهة بينه وبين المعارضة لتتخذ شكل الحرب الأهلية. ولم يحدث أي تقدم في اتجاه حل الأزمة السورية، رغم جولتي المفاوضات جنيف1 و 2.
5- تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة نتيجة للعديد من العوامل، سيرد ذكرها لاحقا، بالتزامن مع زيادة القبول الشعبي في المنطقة لوجود دور لقوي دولية أخري مثل: روسيا، والصين.
6- اتجاه إيران لتغيير صورتها المتشددة، مع وصول الرئيس حسن روحاني للسلطة، حيث بدأ حكمه بقبوله التفاوض حول البرنامج النووي مع مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا). وقد أبرمت طهران اتفاقا مرحليا لستة أشهر، وافقت بموجبه علي تجميد بعض أنشطتها النووية، مقابل رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
7- لا يمكن عزل الموقف التركي من التطورات الداخلية في الدول العربية، خاصة مصر وسوريا، عن الهدف الاستراتيجي التركي، فموقفها يختلف من حالة لأخري، وفقا له. بالنسبة لسوريا، فإن الوضع الأمثل الذي كانت تسعي إليه تركيا هو أن يسود الاستقرار في سوريا، بمواصفات معينة، بمعني أن يتفاوض النظام مع المعارضة التي تنتمي للتيار السني، بما يتيح لها مكانا في الحكم، مما يزيد النفوذ التركي في سوريا علي حساب إيران. لكن تطور الأوضاع في سوريا سار في اتجاه مخالف، مما دفع تركيا لتأكيد مساندتها للمعارضة. وبالنسبة لمصر، فقد رحبت تركيا بنظام الإخوان المسلمين، وزادت علاقاتها معه. ومع زواله، اتخذت موقفا رافضا ومعاديا للنظام الجديد في مصر، بعد 30 يونيو، لأن هذا يحد من زيادة دورها المحتمل في المنطقة العربية.
انعكاس التغيرات بالمنطقة علي القيادة الإقليمية:
يعكس المشهد الإقليمي الحالي وجود أزمة في القيادة الإقليمية، فلا توجد دولة تمتلك مقومات الدولة القائد كاملة. توجد ثلاث دول تتنافس حول موقع "الدولة القائد"، هي: مصر، وإيران، وتركيا، مع استبعاد كل من السعودية، والعراق، وإسرائيل. فالسعودية قائد في منطقة الخليج، وهذا يتناسب مع تجربتها وقدراتها. والعراق ضعفت قدراته تماما مع الوجود الأمريكي، واستمرار مشكلاته الداخلية الحادة. أما إسرائيل، فرغم كونها دولة قوية إقليميا، فإنه من المستبعد تماما أن تنافس علي القيادة الإقليمية لعدم قبولها من أغلب شعوب المنطقة. فأقصي الطموحات الإقليمية لإسرائيل هي أن تنخرط في إطار إقليمي واسع، كما ظهر في العديد من المشروعات التي قدمت حول الشرق أوسطية كبديل للنظام الإقليمي العربي في مراحل مختلفة. وهذا يعني أن التنافس علي القيادة الإقليمية يتركز بين كل من: مصر، وإيران، وتركيا، لكن توجد تحفظات علي إمكانيات كل منها في احتلال هذا الموقع. وقبل استعراض هذه التحفظات، قد يكون من الملائم استعراض بعض المؤشرات الدالة علي قوتها النسبية في الجدول التالي:
ومن خلال هذا الجدول، يتضح وجود تقارب نسبي في القوة البشرية بين الدول الثلاث، سواء في عدد السكان، أو في إجمالي القوة العاملة، وإن كان معدل النمو السكاني يميل لصالح مصر. لكن في المؤشرات الاقتصادية، فإن تركيا تتقدم علي كل من مصر وإيران، وهذا منطقي، فلا توجد عقوبات اقتصادية مفروضة علي تركيا، ولا تعاني مشكلات اقتصادية حادة، إلي جانب ارتباطها بالاقتصاد الأوروبي. وعسكريا، تتفوق الميزانية التركية بفارق 329٪ تقريبا عن مصر، و67.5٪ عن إيران. لكن في الترتيب العالمي للقوة العسكرية، ينكمش هذا الفارق، فتحتل تركيا المركز الثامن عالميا، بينما تحتل مصر المركز الثالث عشر، وإيران المركز الثاني والعشرين.
التحفظات الخاصة بالدول المتنافسة:
بالنسبة لمصر، فإن لديها العديد من مقومات الدولة القائد إقليميا، من أبرزها: امتلاك الخبرة التاريخية المؤهلة للقيام بدور القائد، فلديها القبول من الأطراف الإقليمية، والقدرة علي التنسيق لعمل مشترك. كما أن لديها مساندة دولية نسبية من بعض القوي المهمة، خاصة روسيا والصين. أما القوي الغربية، فهي مترددة في مساندة مصر لتناقض مصالحها مع النظام القائم، لكنها تهتم بوجود علاقات قوية معها، إذا ما استقر النظام السياسي، حتي لا تتراجع مكانتها في المنطقة لصالح قوي دولية أخري. لكن بالمقابل، تفتقد مصر مقومات أخري، منها أنه لا توجد لديها رؤية واضحة للعمل الإقليمي، كما لا يوجد مشروع متجدد يناسب اللحظة التاريخية الحالية، وإعادة إحياء مشروع القومية العربية أمر يصعب تكراره علي الأسس نفسها. كما أن مصر لديها مشكلات داخلية، اقتصادية واجتماعية، حادة، تجعلها في حاجة إلي توجيه كافة إمكانياتها لتجاوزها. ورغم أن تدعيم العلاقات المصرية الخارجية من أدوات معالجة هذه المشكلات، فإن الدور القيادي يحتاج إلي إمكانيات مادية قد يصعب علي مصر توفيرها في الوقت الراهن.
وبالنسبة لإيران، فهي تمتلك بعض مقومات الدولة القائد إقليميا، فلديها مشروع إقليمي، لكن رؤيتها للإقليم تقصره علي الخليج العربي، ومنطقة الشام، وسيناء لتركز المصالح الإيرانية فيها، وهي دولة قوية نسبيا، ولديها خبرة تاريخية في القيادة الإقليمية (الإمبراطورية الفارسية). لكنها تفتقد القبول من قوي مؤثرة إقليميا، علي رأسها السعودية، والإمارات، وإسرائيل، ومصر، وتركيا، بالإضافة إلي رفضها من القوي الدولية التي تري في إيران نموذجا للتشدد الديني، وتفضل نموذجا أكثر اعتدالا.
وتذهب بعض التحليلات إلي أن التطورات التي تشهدها المنطقة ستترك آثارا سلبية علي النفوذ الإيراني فيها، الذي قد يتجه للانكماش بسبب موقفها المؤيد للنظام السوري المعرض للانهيار. فإذا ما انهار فعليا، فستتعرض إيران لحالة من العزلة الإقليمية، إذ يصعب أن تقيم طهران علاقات قوية مع من يخلف النظام البعثي في سوريا في وقت قصير نسبيا. وسيؤثر انهيار نظام الأسد المحتمل في علاقات إيران بالحلفاء في المنطقة، خاصة حركة حماس، نتيجة تأييد الأخيرة لقوي المعارضة في سوريا، واتصالاتها القوية مع تركيا وقطر، وكلتاهما من معارضي بقاء النظام السوري.
أما حزب الله، فإنه إذا انهار النظام السوري، فسيواجه مشكلة حقيقية للاستمرار مع صعوبة حصوله علي المساعدات الإيرانية من طريق غير سوريا. وتزداد احتمالات هذه العزلة الإيرانية مع تصاعد الخلافات مع دول الخليج، بعد الدعم الذي أظهرته إيران للاحتجاجات الشيعية فيها، بالإضافة إلي التعارض مع موقف دول الخليج من القضية السورية. كذلك، شهدت العلاقات الإيرانية مع تركيا بعض التوتر بسبب تعارض مصالحهما بشأن سوريا، مع عدم وضوح الرؤية لمستقبل علاقاتها مع مصر بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين. ولهذا، يمكن القول إن إيران ستؤجل تنفيذ مشروعها بعد تأزم موقفها، وتعيد ترتيب أوراقها الإقليمية لإيجاد حلفاء جدد، أو تجديد تحالفاتها مع بعض الأطراف الإقليمية، فاستمرار نفوذ إيران في الإقليم يسبق تنافسها علي قيادته.
وبالنسبة لتركيا، فهي تمتلك العديد من مقومات الدولة القائد، منها امتلاك تصور لدورها كقائد، فضلا عن مشروع مكتمل للإقليم، كما أن لديها القبول الدولي لهذا الدور بحسبانها حلقة الربط المعتدلة بين الشرق والغرب، وتاريخا من العلاقات الإيجابية مع القوي الكبري، خاصة الولايات المتحدة التي تعدها حليفا استراتيجيا في المنطقة، وهو ما أكده الرئيس أوباما الذي قال "إن الاتحاد الأوروبي بدأ يقبل أكثر بالسياسة التركية، والأكيد أننا والاتحاد الأوروبي أصبحنا مقتنعين بقيمة الدور التركي في الشرق الأوسط. وتملك تركيا أيضا حلفاء إقليميين، مثل: إسرائيل، وقطر، ولديها اهتمام بقضيتي سوريا وفلسطين. أضف إلي ذلك أن تركيا قوة كبري اقتصاديا وعسكريا، سواء منفردة، أو لعضويتها في حلف شمال الأطلنطي.
بالمقابل، فإن تركيا تفتقد أيضا مقومات لا تقل أهمية، فلديها تاريخ استعماري طويل مع العديد من الدول العربية، وبالتالي تفتقد قبول بعض دول المنطقة، ورؤيتها مركزة في الجانب الاقتصادي. ورغم أهمية هذا الجانب، فإنه لا يعبر عن كافة المطالب والقضايا الإقليمية. كذلك، فإن ارتباطها القوي بالغرب وثقافته يجعل هناك تخوفا من اتساع التدخل الخارجي في الشئون الإقليمية مع القيادة التركية. وتعكس تطورات المنطقة انحسارا نسبيا للنفوذ التركي فيها، فحكومة حزب العدالة والتنمية كانت تسعي جاهدة لتكون رجل الغرب في المنطقة، وأن تكون النموذج الذي تحتذي به الحكومات الإسلامية الجديدة. وهذه الأهداف قد تم تقويضها بإبعاد الإسلاميين عن الحكم في مصر. وظهر رد الفعل التركي الحاد ضد الحكومة الانتقالية في مصر بعد 30 يونيو، تعبيرا عن تقويض الأهداف الإقليمية لتركيا إلي حد كبير.
تشير محصلة المشهد الإقليمي إلي استمرار التنافس علي القيادة بين كل من مصر وتركيا، مع تراجع نسبي في قدرة إيران علي التنافس وإذا كانت التطورات والتفاعلات الجارية تشير إلي زيادة فرص مصر في العودة للقيادة الإقليمية، رغم ما يثار من تحفظات علي هذا الرأي بالقول إن مركز الثقل السياسي في المنطقة انتقل من قلب المنطقة العربية "مصر وسوريا والعراق" إلي الأطراف، ممثلة في تركيا وإيران، فإن التطورات الجارية تحد من قبول هذا الرأي. فمصر لا تزال أكثر القوي الإقليمية التي تمتلك مقومات "الدولة القائد"، رغم افتقادها مقومين مهمين، الأول: الرؤية المحددة لوضع الإقليم، لكن من الممكن تجاوزها بتقديم العديد من المشروعات التي تلائمه، وتحقق مصالح مشتركة لأغلب أعضائه، متي توافرت الإرادة السياسية. ولعل ما مرت به المنطقة من تطورات أظهرت حقيقة الموقف الدولي من المنطقة، إلي حد بعيد، يكون دافعا لتوافر هذه الإرادة، وتفعيل ما هو قائم بالفعل من أطر مؤسسية وتنظيمية لتنمية العلاقات وتقويتها بين الدول العربية. أما المقوم الآخر، فهو التحديات الاقتصادية، والتي يمكن مواجهتها إذا ما استقرت الأوضاع الداخلية، وارتفع معدل النمو الاقتصادي بها، مع تأكيد أن عودة القيادة الإقليمية لمصر مرهونة بمدي تحقق الاستقرار الداخلي فيها، وبمدي تقدمها في تنفيذ خريطة المستقبل.
ثانيا- القيادة الدولية:
يتحدد هيكل النظام الدولي بنمط توزيع القوي بين الدول الكبري عند قمة هذا النظام، وهو النمط الذي يحدد بدوره نمط القطبية/ القيادة في النظام الدولي. وليس هناك نوع واحد من القوة يتحدد به نمط هيكل النظام الدولي، ولكن بالقوة العسكرية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والسياسية، يتحدد هذا الهيكل. ومنذ انتهاء الحرب الباردة، واختفاء القيادة الثنائية للنظام الدولي في عام 1991، ظهر نظام دولي جديد اختلف في خصائصه العامة من مرحلة لأخري، لكن الأمر المؤكد هو الهيمنة الأمريكية علي قيادة النظام الدولي منذ ذلك الحين.
تطورات القيادة في النظام الدولي:
هناك العديد من التطورات التي شهدتها الساحة الدولية، والتي تلقي بظلالها علي القيادة المستقبلية للنظام الدولي، أبرزها:
1- ثمة تراجع نسبي في فاعلية سياسات واشنطن تجاه المنطقة في العقد الأخير، خاصة منذ دخولها العراق في 2003، وما اتبعته من ممارسات أسهمت في اختفاء العراق كقوة إقليمية. وزاد هذا التراجع بتصاعد عدم القبول الشعبي للسياسات الأمريكية علي المستوي الإقليمي، منذ ثورات الربيع العربي في عام 2011. فالسياسات الأمريكية أظهرت تناقضا واضحا بين ما تعلنه من مبادئ حول الديمقراطية واحترام إرادة الشعوب، وبين مصالحها التي تختلف مع هذه المبادئ في كثير من الأحيان.
2- اتساع الدور العالمي لبعض القوي الدولية نسبيا عن ذي قبل، ومن أبرز هذه القوي روسيا، والصين. فبالنسبة لروسيا، اختلفت نظرتها في ممارسة دور عالمي، ويعبر الرئيس فلاديمير بوتين بوضوح عن هذه الرؤية بقوله: "الأمن الدولي يمكن تحقيقه فقط مع روسيا، وليس عن طريق "حصرها في الزاوية"، وإضعاف مواقفها الجيوسياسية، وإلحاق الضرر بقوتها الدفاعية. تتميز أهداف سياستنا الخارجية بطابعها الاستراتيجي، وليس الانتهازي، سنسعي إلي إقامة نظام عالمي جديد ينطلق من الوقائع الجيوسياسية المعاصرة، علي أن يكون ذلك بشكل تدريجي، ودون هزات غير ضرورية.
إذن، فروسيا تمتلك رؤية عالمية واضحة لإدارة النظام الدولي، وتتحرك بخطي ثابتة في هذا الاتجاه في القضايا الكبري، وفي المناطق الاستراتيجية، وظهر ذلك جليا في موقفها بشأن مساندة نظام بشار الأسد في سوريا. أما الصين، فهي تمتلك مقومات القوة العظمي اقتصاديا، وعسكريا، وتكنولوجيا، وإن كانت من الناحية السياسية محدودة التأثير، ولا تمتلك الرؤية العالمية للنظام الدولي ككل. فالصين تمثل قوة اقتصادية هائلة، حيث كانت القاطرة التي نهضت بالاقتصاد العالمي أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008. وعسكريا، تعد الصين ثالث أقوي الجيوش العالمية، حيث تملك قدرات متميزة، كميا ونوعيا، وبدأت في الانتشار العالمي، خاصة في منطقة المحيط الهادي، التي تعد منطقة للنفوذ الأمريكي التقليدي. وقد شاركت كل من الصين، وروسيا الهند، والبرازيل، ثم جنوب إفريقيا في تأسيس تنظيم البريكس BRICS في عام 2009، ليعبر عن الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم بهدف تأسيس نظام عالمي تعددي، لا تنفرد فيه قوة دولة بالنفوذ.
انعكاس التطورات الدولية علي القيادة الدولية:
تظهر هذه التطورات وجود أزمة قيادة علي مستوي النظام الدولي، إذ يصعب تجاهل القوي الصاعدة، ويصعب القول بأفول القوة الأمريكية. وفي هذا الصدد، يمكن القول بوجود أربعة سيناريوهات لمستقبل قيادة النظام الدولي، هي:
1- اللا قطبية: ويشير هذا السيناريو إلي أنه لا توجد دول كبري يمكن النظر إليها علي أنها أقطاب العالم، قياسا علي الأقطاب المتعددة في القرون الماضية، أو قياسا علي القطبين الرئيسيين بعد الحرب العالمية الثانية، أو قطب واحد، مثلما حدث عقب انتهاء الحرب الباردة مباشرة. وهذا لسببين أساسيين، هما:
(أ) ظهور دول ذات تأثير كبير علي المستوي الإقليمي، ولكنها أقل قوة من قائمة الدول العظمي المعروفة، مثل: البرازيل، وإسرائيل، وتركيا، والهند، وكوريا الجنوبية، وهذه الدول تنافس القوي العظمي في الإطار الإقليمي.
(ب) ظهور الفاعلين الدوليين غير الحكوميين علي الساحة الدولية، وهؤلاء لهم قدرة علي التأثير العالمي.
2- نظام دولي مختلط، ويشير هذا السيناريو إلي أن النظام الدولي له عدة مستويات تحدد قيادته:
المستوي الأعلي: قيادة النظام الدولي تعتمد علي القوة العسكرية، وبالتالي النظام أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة، صاحبة القوة العسكرية الأكبر عالميا.
المستوي الأوسط: يفترض قيام النظام الدولي علي شبكة العلاقات الاقتصادية بين الدول، ومن ثم فالنظام الدولي متعدد الأقطاب، هذه التعددية الاقتصادية حقيقة لا يمكن إنكارها، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية.
مستوي العلاقات عبر القومية، يفترض أن العالم في فوضي، بمعني أن القوة موزعة بشكل فوضوي.
3- الأحادية القطبية، ويشير هذا السيناريو إلي أن صعود قوي دولية، كالصين، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، لن يؤثر في المكانة القيادية الأمريكية، وستظل قادرة علي الاحتفاظ بمكانتها الدولية كقوة عظمي وحيدة. فكل ما تحتاج إليه لمواجهة صعود هذه القوي، أو لمواجهة التراجع النسبي في نفوذها الدولي، هو الموازنة بين مسارين، الأول: بناء قوتها الداخلية، عن طريق دفع الاقتصاد الأمريكي، وإخراجه من أزمته، وفك الارتباط الأمريكي بالنفط الخارجي، مع إعادة المكانة لمجموعة القيم والمبادئ الأمريكية التي بنيت عليها السياسة الخارجية الأمريكية. فالقيادة الأمريكية لن تأتي من خلال ترويع الآخرين، ولكن من خلال مخاطبة آمالهم. المسار الآخر: تغيير السياسة الخارجية لتكون سياسة أكثر تعاونية، وتعزيز الشراكة الأمريكية مع الحلفاء، والبحث عن شركاء جدد لإيجاد نظام دولي يتمكن من مواجهة التحديات الدولية.
إجمالا للقول، فإن القدرة الأمريكية علي إحداث توازن بين القوتين الصلدة والناعمة في استراتيجية واحدة ناجحة هي الأساس للحفاظ علي مكانتها. ففي ظل تعدد مصادر القوة عالميا، لم تعد القوة العسكرية في حد ذاتها محددا للقوة الدولية، وإنما كيفية إدماجها في استراتيجية ناجحة، تحقق الهدف من امتلاكها واستخدامها، فبناء أسس قوية للقيادة الأمريكية دوليا يبدأ من الداخل.
4- التعددية القطبية: ويشير هذا السيناريو إلي أن العالم يتجه نحو صيغة من التعددية القطبية، لأن مكانة وقوة الولايات المتحدة في طريقهما للتراجع. فأساس قوتها يرتكز علي قدرتها التنافسية، وتماسكها السياسي، وقد ظهر مدي الاهتزاز والتراجع فيهما أخيرا. فالزيادة المتنامية لقوة القوي الدولية الأخري، مثل: روسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي تكون علي حساب قوة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة علي النظام الدولي. ولا يقلل هذا السيناريو من قدرة الولايات المتحدة علي الاستمرار كقوة عظمي، ولكنها لن تظل الوحيدة، بل ستظهر قوي دولية أخري كأقطاب مناظرة لها، وليس مجرد شركاء أو حلفاء.
لكن هذه التعددية القطبية هي توافقية أو مرنة، وليست تنافسية، حيث يجمع هيكل النظام الدولي بين المتساويين علي قمته، وهذا يقتضي توافقا في المصالح بين الدول الكبري، وميلا إلي التفاوض، والمساومة والإجماع، بدلا من التفرد الأمريكي، كما تؤدي أيضا إلي ضرورة ترسيخ دور المنظمات الدولية المختلفة.
وفي الواقع، فإن كل هذه السيناريوهات حول قيادة النظام الدولي لا تنكر أن الولايات المتحدة هي القوة العظمي الأساسية التي تمثل القطب الأوحد، أو القوة القائدة المهيمنة، أو القوة الأساسية بين عدة قوي دولية، لأنها تكاد تكون القوة الدولية الوحيدة التي تمتلك كافة مقومات القيادة العالمية. فالاختلاف بين هذه الاتجاهات يكون حول مدي انفرادها بقيادة النظام الدولي، والهامش الذي يمكن أن يتاح للقوي الدولية الأخري في إدارة هذا النظام. فإذا ما قبلت الولايات المتحدة بوجود مساحة أكبر لشركائها من القوي الكبري، الدولية والإقليمية، في إدارة النظام الدولي، وإرساء قواعده، فقد يكون ذلك لزيادة الاتجاه نحو استعادة القوة الداخلية، وتخفيف الأعباء، وقد يكون لتراجع نفوذها الدولي في بعض الأقاليم المهمة كالشرق الأوسط، نتيجة لسياساتها السابقة، أو يكون لظهور قوي أخري مؤثرة في التوازن الدولي. لكن بغض النظر عن الأسباب، فالواضح أن النظام الدولي يتجه لقيادة متعددة بين العديد من الدول، علي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، ودول الاتحاد الأوروبي، والصين، مع تقلص نطاق الهيمنة الأمريكية نسبيا، والاتجاه إلي التوافق بين هذه القوي في إدارة النظام الدولي في كل قضية، وفقا لتوازنات القوي بينها.
قصاري القول إن التغيرات التي يمر بها النظامان الإقليمي والدولي تكشف وجود أزمة قيادة، فلا تزال تعاني المنطقة العربية غياب دولة قائد تستطيع إرساء استقرار إقليمي. في الوقت نفسه، فإن النظام الدولي يشهد خفوتا نسبيا للقوة الأمريكية المهيمنة في مواجهة قوي صاعدة أخري، كالصين وروسيا وغيرهما، تريد تغييرا لقواعد إدارة النظام الدولي باتجاه تعددية الأقطاب.
تعريف الكاتب:
مدرس علوم سياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/3/134/3662/من-المجلة/ملحق-إتجاهات-نظرية/مقومات-مفقودة-.aspx
مدرس علوم سياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/3/134/3662/من-المجلة/ملحق-إتجاهات-نظرية/مقومات-مفقودة-.aspx