التفكير الاستراتيجي

إنضم
26 سبتمبر 2007
المشاركات
2,743
التفاعل
3,152 13 8
الدولة
Egypt
بسم الله الرحمن الرحيم

التفكير سلسلة من العمليات المعقدة التي تجري في الدماغ البشري بسرعة مذهلة، مهمتها تبسيط الأمور التي تشغل الذهن وتحليلها إلى عناصر أولية قابلة للربط والمقارنة والعرض والتمثيل والتصوير، ومن ثم الخروج بتصور أو نظرية تشكل قاعدة ثابتة للتطبيق العملي.

والتفكير الحر، أو غير المقيد، يشبه نهراً متدفقاً من التصورات والمعلومات المتداخلة التي لا ضوابط عليها لتحكمها في مسار محدد لغرض محدد. وهذا النوع من التفكير يسمى ب (التداعي الحر)، أو (التواتر الفكري)، وهو رغم أهميته الظاهرة في تلسلسل الأفكار وترابطها وشموليتها يشكل عائقاً كبيراً في وجه التخطيط لأنه يرهق الذهن بكثرة المعلومات التي لا لزوم لها في موضوع يجري التخطيط له بشكل محدد من أجل أن يحقق أهدافاً محددة في زمن معين.

من هنا نشأ ما يسمى بالتفكير الاستراتيجي، والذي هو مسار فكري محدد له خط سير خاص به يريح العقل من عناء تنقية الأفكار المتشابكة من الشوائب والتصورات التي لا يحتاجها الذهن أثناء تفكيره في موضع معين له أهداف محددة. ولا يكون التفكير فعالاً إلا إذا أدى إلى النتائج المطلوبة بأقل جهد ممكن وبأقصر وقت مستطاع. وهذا ما يرمي إليه التفكير الاستراتيجي.

فنحن نستطيع التخطيط للمستقبل ومن ثم تحقيق نتائج مقبولة دون اللجوء إلى نظريات كبار المفكرين حول كيفية التخطيط وأساليبه وأشكاله إذا التزمنا أثناء تفكيرنا (باستراتيجية) معينة تضمن لنا عدم الخروج عن المسار الفكري المناسب للخطة موضوع البحث. فالتفكير الاستراتيجي هو (قناة) فكرية تبث وتستقبل صوراً وأفكاراً تتناسب مع الهدف المنشود، ولا تلتقط الصور والأفكار المرسلة من أقنية فكرية أخرى ترهق الذهن وتشوشه وتعيق سرعته وفعاليته إلا ما كان منها متعلقاً بالموضوع.

ويجدر بنا أن ندرك العلاقة الحتمية بين التخطيط والتفكير الاستراتيجي لكي نستطيع الحصول على نتائج مجزية من عمليات التخطيط التي نقوم بها، سواء في عالم المال أو الأعمال أو حتى على الصعيد الشخصي.

فإن من يخطط لإنشاء مسجد مثلاً يأخذ بعين الاعتبار موقعه، وقربه أو بعده من التجمعات السكنية والتجارية، واتجاه القبلة فيه ومدى استيعابه وإمكانية توسعته، إلخ. وهذا أحد أشكال التخطيط الاستراتيجي، حيث يسير التخطيط جنباً إلى جنب مع استراتيجية معينة تجعل القائمين بالتخطيط يلتزمون بالعمل في مسار فكري محدد بحيث تتضح كافة العوائق والمعضلات المتعلقة بالمشروع من جهة، ولكي يحقق المشروع أفضل النتائج المرجوة كما يخطط لها المخططون الاستراتيجيون من جهة أخرى.


والاستراتيجية في التفكير صفة إيجابية ضرورية لقادة هذا العصر، حيث قدرة الناس على الوصول إلى المعلومات في تزايد مستمر، وحيث الوقت أصبح أغلى من الذهب، فالعامل الزمني عنصر أساسي في النجاح وفي مواجهة التحديات والتنافس الشرس في عالم الأعمال. فالاستراتيجية في التفكير توفر الوقت، لأنها تضع الذهن في المسار الصحيح من بداية الطريق: اعرف ما تريد، وحدد مسار تفكيرك فيما يحقق لك ما تريد، ثم خطط من هذا الموقع للوصول إلى أهدافك، تكن ذا تفكير وتخطيط استراتيجيين.


التشخيص أو البحث عن الحقائق والمعلومات:

(إن غالبية النظم على اختلافها، قد تعاني نوعاً من العمى الإجرائي يحجب عنها مواطن الخلل. وهي لا تعاني بسبب عدم قدرتها على حل معضلاتها، وإنما بسبب عدم قدرتها على رؤية هذه المعضلات).
(جون غاردنر)

إن أول خطوة في التخطيط الاستراتيجي من الناحية التقليدية هي القيام بتشخيص واع للظروف المحيطة من أجل تقييم الوضع الحالي تقييماً صحيحاً. وبسبب أهمية هذه الخطوة، فإن علينا أن نحاول الاقتراب من الحقيقة قدر المستطاع، ثم تحليل كافة العوامل المتصلة بالحالة قيد البحث، سواء منها العوامل الحاضرة أو المتوقعة مستقبلاً. وإننا نستطيع عن طريق تحسين نوعية تفكيرنا، إحداث زيادة مهمة في إمكانية صنع المستقبل بالشكل الذي نرغبه.

ولكننا لا نستطيع ذلك دون رؤية واضحة لما يحيط بنا من معطيات تؤثر سلباً أو إيجاباً في تشكيل القاعدة الأساسية التي سوف يبنى عليها القرار.

ولما كانت رؤية الحاضر كما هو بالفعل تعتبر خطوة مهمة في هذا الصدد، وتوخياً للدقة في هذه الخطوة المهمة فإنه من الضروري الاستفادة من أحدث ما توصلت إليه المعرفة حول عمليتي (التفكير) و (اتخاذ القرار).


التفكير الاستراتيجي

إن عملية التفكير بشكلها المبسط تقع في ثلاثة أقسام رئيسية: الوعي:
(Concious)اللاوعي:
(Subconcious)واللاوعي الابتكاري: (creative Subconscious). ولما كان الوعي هو ما يعنينا في هذا المجال، فسوف نتناوله بشئ من التفصيل.

1 الصورة الذاتية الحقيقية.
2 تخزين المعلومات.
الوعي هو الإحاطة بالأشياء عن طريق ما يسمى بالعقل الواعي. ومن وظائفه (الإدراك من خلال الحواس) و (الربط) و (التقييم) و (صنع القرار). فمن المعروف أن قدرة الإنسان على الإدراك محدودة، فليس باستطاعته الإحاطة بكل أنواع المعلومات الموجودة في هذا الكون باختلاف درجاتها وتنوعها. فمثلاً هناك أمواج صوتية تتعدى حدود السمع البشري (19500 ذبذبة في الثانية)، ولا يمكن للإنسان أن يسمعها بدون أجهزة تقنية معينة تتصف بالقدرة على التقاط مثل هذه الأصوات. وما ينطبق على السمع ينطبق على بقية الحواس.

كما أن علينا أن نضع في حسابنا أن إدراكنا يمر في مصفاة أو (فلتر) قوامه الاشتراطات المسبقة أو الماضية، مضافاً إليها أفكارنا الخاصة وعواطفنا التي تدور في داخلنا باستمرار. كما أن غالبية إدراكاتنا تتميز بأنها المعلومات التي تلتقطها الحواس عن الكيفية التي يتكون بها العالم، ثم تسجيلها في البنية النيورونية (العصبية) لخلايا الدماغ. وهذه المعلومات الجزئية المفلترة الغامضة أو المبهمة تتراكم لتشكل ما نسميه فيما بعد ب (الحقيقة).


ونحن نحاول دائماً ربط ما ندركه حولنا مباشرة بما يشابهه في مستودع معلوماتنا بأن نسأل أنفسنا: (هل شاهدت مثل ذلك من قبل؟) فإذا صادفت شبيهاً له مسجلاً في الذاكرة، فإن المعلومة الجديدة تصبح ذات معنى بالنسبة لي. وبالمقابل إذا لم أجد معلومة شبيهة بها مختزنة مسبقاً في اللاوعي فإن المعلومة الجديدة تصنف على أنها ليست ذات معنى بالنسبة لي.


والتقييم ببساطة هو أن أسأل نفسي: (إلى ماذا يحتمل أن يقودني هذا الأمر ضمن بيئتي المحيطة؟ أهو أمر إيجابي سوف يساعدني على تحقيق مهمتى أو أهدافي، أم هو أمر سلبي سوف يبعدني عن غايتي؟).


وتجدر الإشارة إلى أن التطبيق المستمر للمعلومات التي ترد إلينا سيعزز مقدرتنا على صنع القرار بشكل أفضل. فحالما نفهم عملية التفكير بصورة جيدة ونتمعن في سيكولوجية الإدراك، يصبح باستطاعتنا معرفة أمور كثيرة قد تساعدنا في فهم أنفسنا بصورة أفضل. مثل كيفية تكوّن (البقع المظلمة) أو (السكوتوما) وكيف أن أوضاعنا الشرطية السابقة مشفوعة بعوامل أخرى هي التي تقرر ما يسمح له بالوصول إلى دائرة الوعي فينا. كما تجدر الإشارة إلى أنه من المستحيل على الإنسان إلاحاطة بكل شئ، إلا أن بالإمكان توسيع دائرة إدراكه للعوامل المهمة بدرجة كبيرة جداً، مما يجعله قادراً على بناء المستقبل المنشود بصورة أفضل.

وحالما نفهم طبيعة (البقع المظلمة) أو (السكوتوما) ونعلم أن المشكلة فيها تكمن في أننا لا نعرف أنها موجودة لدينا، سوف ندرك أننا سنواجه تشكيلة واسعة من أجهزة (الفلترة) الإنسانية في محاولتنا للقيام بعملية التشخيص البيئي المطلوب، فيصبح من المهم جداً أن نتصف بالشعور بالاحترام المتبادل تجاه الاختلافات الفردية الموجودة بين أفراد المجموعة الواحدة. ونحن ندرك كبشر أننا لسنا فقط نميل إلى تعمية أنفسنا عن بعض المعلومات، وإنما نحن ننتقي المعلومات التي نجمعها انتقاء. فما أكثر المرات التي نجد أنفسنا فيها لا نبحث عن الحقيقة المجردة، وإنما نفتش عن معلومات تدعم تصورنا الشخصي لهذه الحقيقة.

وعليه يلزم أن نعترف أن الحقيقة تجرح أحياناً وأننا في خضم بحثنا عن الحقيقة كما هي فعلاً، يلزمنا أن نكون على استعداد لتقبل الألم بصدر رحب، متجنبين اتخاذ الموقف الدفاعي بشكل عشوائي.
و (نظام التنشيط المعقد) RETICULAR ACTIVATING SYSTEM هو مفهوم رئيسي آخر في بحثنا عن الحقيقة. فإذا كنا لا نعرف ما نبحث عنه كالتفاصيل على وجه ساعة المعصم مثلاً فإننا نمر مرور الكرام ونحجب عن إدراكنا معرفة الوقت. علينا أن نسأل أنفسنا باستمرار عما هو مهم بالنسبة لنا كي يتسنى لنا تشغيل (نظام التنشيط المعقد) الخاص بنا، فنسمح بذلك للمعلومات ذات العلاقة بالدخول إلى دائرة الإدراك فينا، وهذه الطريقة في التفكير ربما تحتاج إلى وقت أطول فحالما نطرح السؤال السابق على أنفسنا علينا أن نتحرك في البيئة من حولنا لكي نلتقط معلومات لم نلاحظها من قبل،

وبطرح السؤال يبدأ نظامنا بالنظر في هذه المعلومات باهتمام رغم أننا نراها لأول مرة ويقوم بفرزها وتبويبها وتصنيفها ثم يخرج علينا بالجواب على السؤال: ما هو المهم بالنسبة لأهدافنا من بين هذا الكم الهائل من المعلومات؟ إن (نظام التنشيط المعقد) كفيل بالإجابة على هذا السؤال إذا أعطيناه الوقت الكافي للنظر في كافة الاحتمالات الواردة في المعلومات التي نلتقطها من البيئة المحيطة بنا، وذلك عن طريق التمعن فيما حولنا وتحويل الانتباه بوعي منا من أمر لآخر، دون أن نفقد خط سير أهدافنا التي نسعى إلى تحقيقها.


توسيع الإدراك وتحقيق التصور

(السلوك محكوم بتصورات الإنجاز. فبدون هذه التصورات لا نستطيع تحقيق أهدافنا بنجاح).
(الدكتور- كارل بربيرام)

إن نماذج التفكير التقليدي تقع في أحبولة المنطق والتفسير العقلي وكيفية التنفيذ. ولما كانت هذه التقنيات الفكرية الثمينة ذات قيمة عالية وليس بمقدورنا تبعاً لذلك إهمالها أو التغاضي عنها، فإنا نرغب في إعادة تنظيم عملية الاستفادة منها، وإعادة التنظيم تستلزم النظر إليها من زاوية مختلفة.
نحن نعرف إن الإنسان مخلوق (غائي) بطبعه. وكلمة (غائي) مشتقة من الغاية. ف (الغاية) هي القدرة على البحث عن غايات نهائية أو التوجه إلى أهداف معينة.

فنحن نعرف تبعاً لذلك أن فطرتنا مجبولة على أن يكون لنا غايات نسعى إليها، أو هدف مقصود نعمل على الوصول إليه. فلو لم نكن كذلك لسرنا على غير هدى، أو باتجاه ما يشار علينا به دون إرادة معيدين تشكيل أهدافنا ومهماتنا باستمرار كلما تغير ما يشار علينا به. أو ربما بكل بساطة ندمر أنفسنا بأيدينا. ولكي نكون مخلوقات غائية بالطبع يتحتم علينا أن نتملك رؤية أو تصوراً عما سوف نصير إليه أو ننتهي به. كما أنه من الضروري جداً لأي آلية غائية أو نظام تكون الغاية جزء من تكوينه أن يكون لديه جهاز استرجاع FEEDBACK SYSTEM بالغ الدقة. وبالنسبة للإنسان فإن جهاز استرجاعه المتقن الدقيق هو الحواس، فالحواس لا تتوقف عن التقاط المعلومات المتعلقة بموقعنا من الزمان والمكان بما يتناسب مع اختيارنا لكل منها.


إن الآلية الغائية لديها القدرة على إجراء التصحيحات أثناء تقدمها نحو الهدف. من هنا برزت أهمية وضع المعلومات التي نتلقاها موضع اعتبار من جهة وأهمية الاستمرار في تحسين إدراكنا لتلك المعلومات ومقدار الانتفاع بها أثناء تقدمنا نحو الهدف الجديد من جهة أخرى.


وتجدر الملاحظة هنا أننا لسنا بحاجة إلى طريق محدد وواضح ومؤكد للهدف من الخطوة الأولى، فنحن باستطاعتنا إجراء التعديلات أثناء سيرنا. وعادة في الظروف التي تتصف بنسبة من المجازفة أو المخاطرة تسيطر علينا الحاجة إلى تأكيد كيفية محاولتنا للوصول إلى الهدف، لدرجة أنها تقيد رؤيتنا بنمط معين أو إجراء جديد. فغالباً ما نعتبر الهدف الذي لا نستطيع تحديد كيفية الوصول إليه هدفاً يهدد وظائفنا وأعمالنا.


وبواسطة المعلومات المتوفرة في هذا الفصل بل ومن خلال هذا المنهج بأكمله فيما يتعلق بكيفية عمل العقل سوف نتحقق من أن عبقرية الإنسان الإبداعية تنشط بتخيل الهدف الجديد أو الغاية الجديدة. كما أنه عن طريق السماح لحواسنا باسترجاع حقيقة راهنة بشكل دقيق نحدث توتراً في أجهزتنا مما يخلق دافعاً طافياً ينشد الاستقرار وتعطشاً للوصول إلى الحل. ولو تركزت هذه الطاقة في البؤرة الصحيحة فإنها تدفع بالفرد أو المجموعة إلى ابتكار الأسلوب أو الكيفية الجديدة اللازمة لتحقيق الرؤية أو التصور.


إن في البنية التركيبية لخلايا الدماغ صورة مطبوعة عن الكيفية التي يجب أن تكون عليها الأشياء، سواء فيما يتعلق بالبيئة المحيطة أو على الصعيد الشخصي. وطالما ندرك المعلومات من خلال حواسنا (أي من خلال جهاز التغذية الاسترجاعية الخاص بنا) بطريقة تتطابق مع تلك الصورة المطبوعة في خلايا الدماغ، فإننا لا نشعر بالتوتر، بل ونتصف بالفعالية والعفوية والانطلاق. أما عندما نرى أنفسنا بعيدين عن تلك الصورة فإن عملية التفكير الإبداعي لدينا تتحرك باتجاه الصورة الأكثر انطباعاً في عقولنا، وبالتالي الأكثر تسلطاً. لذلك ندرك أن علينا جعل الرؤية الجديدة، أو الحالة الجديدة المطلوبة أقوى من الحقيقة الراهنة. كما ندرك أنه لكي نضمن تحرك الآخرين نحو مهمة ما، يتحتم على الرؤية أن تكون قوية في أذهانهم أيضاً، وليس فقط في ذهن القائد.

فإذا لم تعم هذه الصورة في جميع أفراد المؤسسة تبرز مشكلة تمسك الإفراد بمناطق الارتياح الحاضرة الخاصة بهم. وإننا كقادة، نحتاج إلى طبع الرؤية الجديدة في عقول جميع أفراد المنظمة أو المؤسسة بشكل بناء ونافع ومأمون. ويجب أن تكون هذه الرؤية من الوضوح والقوة بحيث تنشئ منطقة ارتياح جديدة، أي تصوراً جديداً عما يجب أن تكون عليه الأشياء. وبعبارة أخرى، هدفاً جديداً مرغوباً أو غاية مطلوبة. وبسبب الطبيعة الغائية في الكائنات البشرية، فإن الأفراد الذين يرون الصورة الجديدة سوف يرون أنفسهم في حالتهم الحاضرة خارج تلك الصورة، أو خارج خط الشعاع فتدب فيهم موجة عظيمة من الطاقة الإبداعية إلى التوجه إلى حيث ينتمون، وتبنى الصورة الجديدة بوصفها هدفاً جديداً. وهذه العملية تسمى (مجازفة).


(كل الناس يحلمون، لكن بدرجات متفاوتة. فهناك من يحلم أثناء الليل، متوغلاً في خبايا النفس الساكنة ليستيقظ في الصباح ليجد أن ذلك ما كان إلا ضغثاً. بيد أن الرجال الشجعان حقاً هم الذين يحلمون أثناء اليقظة وأعينهم مفتوحة، وذلك لأنهم قادرون على تحقيق أحلامهم).
(ت. إيز لورنس) (لورنس العرب)


إن عملية التفكير لدينا بحاجة إلى استراتيجية معينة لكي تتم بصورة ناجحة، فنحن نعلم أن (نظام التنشيط المعقد) لا يسمح إلا للمعلومات المهمة فقط باختراق إدراكنا الواعي. ونحن نستطيع خلق (أهمية) جديدة يدركها الوعي عن طريق تكوين رؤية جديدة، أو وضع غاية جديدة أو هدف جديد. وسوف يقوم الشعور بأهمية الصورة أو الهدف المتخيّل بتوسيع نطاق إدراكنا بشكل يسمح بدخول معلومات لم نلاحظها سابقاً. ونحن نعلم أيضاً أهمية طرح الهدف بشكل واضح جلي لكي نسمح للموارد والمعلومات بشق طريقها عبر الوعي، مثلما تشق صرخة الطفل طريقها إلى وعينا وتستقطب اهتمامنا. وإن معرفة ذلك من شأنها أن تمنحنا الثقة وتدفعنا إلى رسم الصور والأهداف قبل أن تتوفر لدينا المعرفة الملموسة أو المرئية أو البرهان على جدوى الموارد التي سوف نستخدمها في تحقيق تلك الأهداف. فبينما كان المفكرون التقليديون في الماضي يطلبون البرهان قبل شروعهم في صياغة طبيعة الهدف أو حدود نطاقه، نرى نحن أن لدينا من المعرفة ما يسمح لنا بصياغة الهدف أولاً، ثم نحاول اكتشاف البرهان أو الموارد المطلوبة لتحقيق هذا الهدف.

فالهدف يأتي أولاً، وإدراك الوسائل المؤدية إليه يأتي في الدرجة الثانية، إذ من المستبعد أن يحصل الإدراك أولاً ثم يليه الهدف. إننا بحاجة إلى زيادة درجة الاقتناع بمهماتنا وتصوراتنا وأهدافنا، قبل برهنتها. فعن طريق ذلك تصبح مهماتنا أكبر، وأهدافنا أكثر طموحاً وأشد وضوحاً، لأنها لا تكون مقيدة بحدود معرفتنا الحالية. إن هذه الصفة (أي شدة الاقتناع بالهدف) ستكون إحدى الصفات التي تميز المؤسسات ذات المستوى العالي في الأداء عن مثيلاتها متوسطة الأداء في المستقبل.
وهناك نقطة مهمة أخرى بهذا الصدد. وهي أننا حين نرسم هدفاً أو تصوراً، فإن (نظام التنشيط المعقد) فينا يستطيع تمييز إشارات الخطر والتحذيرات، كما يستطيع استشراف العوائق المتوقعة والموانع التي تقف في طريق ذلك الهدف أو هذا التصور. فنحن فعلاً بحاجة إلى رؤية هذه الإشارات التحذيرية المبكرة، وليس إلى رؤية السقوط أو التحطم. إن أي شخص يستطيع تمييز التحطم، ولكن القادة العظماء يرون نُذُرَ الخطر المبكرة فيتجنبون السقوط.


وكذلك نعرف أهمية الشعور بالمسؤولية في الوصول إلى الهدف، كما في توسيع نطاق إدراكنا له، فإن الهدف حتى لو كان مرغوباً بشدة لا يمكن الوصول إليه إذا لم يشعر طالبه بالمسئولية في تحقيقه، وذلك لأن (نظام التنشيط المعقد) يغلق الإدراك بوجه معلومات هي في غاية الأهمية لتحقيق ذلك الهدف إذا غاب الشعور بالمسؤولية. لمذا يبقى الأب نائماً رغم صراخ الطفل؟ لأنه يعلم أن الاستيقاظ (استجابة لصرخات الطفل) هي مسؤولية الأم. والسؤال هنا كيف ننمي روح المسؤولية في أكبر عدد من أفراد مؤسستنا بحيث يبقى أحدهم (مستيقظاً) ويساعدنا في تحقيق الهدف؟ إننا عندما نستخدم هذه المعلومات فإننا لا نتطلع إلى بيئة خالية من المفاجآت وإنما نقوم بالتأكيد على أن المفاجآت التي سنواجهها ستكون ذات وقع جديد.


وهناك بند آخر في ذات المستوى من الأهمية من حيث تأثيره في التصور المستقبلي كماً ونوعاً، وهو احترام الذات، ومدى توفره في نفوس أفراد المؤسسة. فالثقة بالنفس، أو الإحساس الصادق من قبل الفرد بقوته الذاتية وقدرته على جعل الأشياء تحدث، سوف يكون لها تأثير مباشر في ما سوف نختاره من الغايات في المستقبل. إن هبوط الهمة أو عدم الثقة بالنفس تقيد صاحبها بالمهام الصغيرة والأهداف المتواضعة، بحيث يهيمن على خط سير حياته أمران: قبول بالمستقبل المتواضع البسيط الذي يخلو من المجازفة ويخلو من المشاكل، ورؤية أو تصور باهت مستهلك لا روح فيه.


إن علو الهمة والاعتزاز يجلبان معهما بشكل طبيعي البحث عن المهام والتحديات والمعضلات والأهداف التي تستحق جهد الفرد ووقته. كما أن الأهداف الكبيرة والتحديات العظيمة والمعضلات المستعصية، تخلق الإثارة والشعور بالرضي عن النفس، وتنشط روح المغامرة التي تجعل الحياة جديرة بأن نحياها.


وليست المؤسسات التي تتصف بدرجة عالية من تقدير الذات، أو الأفراد الذين يتمتعون باحترام كبير لأنفسهم، بأشجع من غيرهم بالضرورة، وإنما هم فقط لا يرون في التحديات المطروحة، ذات الدرجة من المخاطرة كما يراها ضعيفو الثقة بالنفس من الأفراد والمؤسسات. فهم يعلمون أن باستطاعتهم معالجتها. لذلك كان من الضروري جداً، بل ومن الأمور الأساسية بشكل قاطع تغذية وصقل احترام الذات في أي مؤسسة بدوائرها وأفرادها على حد سواء.


وإن (الحديث الذاتي) تلك العملية الفكرية ثلاثية الأبعاد، والتي تتكون من (كلمات) و (صور) و (أحاسيس) هي العامل الأول والأساسي في تكوين احترام الذات ذي الدرجة العالية، وفي بناء النظام الاعتقادي في نفوس الأفراد والمؤسسات. إن القاعدة السلوكية الجديدة ليست محاولة جاهدة لجعل العناد والتصميم يغلبان السلوك، وإنما هي سيطرة الفرد على حديثه الذاتي والتحكم باتجاهه. هناك ارتباط مباشر بين الحديث الذاتي الإيجابي البناء الذي يرفع المعنويات، وبين النجاح. إن الأفراد والمؤسسات تسير نحو ما تفكر به، وتصبح عين ما تفكر فيه، لذلك كان من الضروري أن نفكر في الشكل الذي نريد أن يكون عليه مستقبلنا بطريقة إيجابية بناءة. وكذلك فإن مراقبة وتوجيه حديث المؤسسة الذاتي هما من الأهمية بمكان.

فعندما يسقط المرء في عادة التفكير في الماضي والحديث عنه (عن الأيام الحلوة الماضية)، أو في حالة التفكير في الحاضر والحديث عنه (عن الحقيقة الراهنة)، فإنه لمن المؤكد أنه سيعود للاستغراق في الحالة التي (كانت) عليها الأشياء، أو سوف يعمد إلى إبقائها على ما هي عليه الآن. لذا كان لزاماً علينا إذا أردنا خلق مستقبل يختلف عن الماضي والحاضر أن نتحدث بطريقة مختلفة في حاضرنا. إن القادة الذين يغيرون معالم التاريخ، يلاحظون بشكل دقيق، الكيفية التي تكون عليها الأشياء في الوقت الحاضر (الحقيقة الراهنة) ثم يركزون باستمرار على الكيفية التي سوف تكون عليها في المستقبل.

التفكير الممكن والتخطيط:

إن أفضل وسيلة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تصنع ذلك المستقبل) (أ. ك)

يجب أن نؤكد على الأهمية القصوى للأفكار التي تدور في عقولنا وتلك التي تدور في عقول أعضاء المؤسسة التي ننتمي إليها، بيد أنه لن يكون بإمكاننا المبالغة في تأكيد أهمية كمية ونوعية التفكير لدى كل فرد في المؤسسة. إذ يبدو من المعقول القول إنك إذا شئت أن ترى كيف يبدو مستقبلك كماً ونوعاً، فكل ما ينبغي عليك عمله هو ملاحظة والتقاط كمية تفكيرك الخاص ونوعيته لفترة وجيزة، وكذلك تفكير الذين هم من حولك.

فإذا أردت أن تعرف كيف سيبدو مستقبلك الشخصي والعملي على أرض الواقع فعلاً، فاصغ بانتباه لما يقوله الآخرون أثناء شرب القهوة، أو أثناء تناول طعام الغداء أو شرب المرطبات، أو لما يتداولونه من ملحوظات أو تعليقات في موقع العمل وفي المكتب وفي ردهات الانتظار.
إن ما يقال حولنا، بحجمه ونوعيته، هو الذي يقدح زناد الخيال فيثير الصور التي تحرك كل فرد في المؤسسة نحو المستقبل، وتجعل من ذلك المستقبل واقعاً مفعولاً. لذلك من الضروري بشكل أساسي، أن نقدم على رسم صور واضحة جلية المعالم لأهدافنا أو مهماتنا بعد تحديدها، بحيث تبدو لنا كما سوف تكون عليه حين يتم تحقيقها. علينا أن نتحدث عن المستقبل كما لو أنه حدث فعلاً وأصبح حقيقة راهنة. كما يجب أن توصف الصور في الزمن الحاضر، وتناقش على أنها ما تريده أن يكون، بعبارات إيجابية.

فنحن نعلم أن الصور السلبية هي تجسيد لما لا نريده أن يحدث. فكلنا سمع بالمثل القائل: (إن الذي أخشاه أكثر من غيره، هو الذي يحدث لي دائماً!).
إن التخطيط للمهمة أو الأهداف والغايات، يشبه إلى حد كبير عملية الحمل في الدائرة الحياتية. ففي المراحل الأولى من الحمل، تظهر دلائل قليلة جداً على وجود حياة جديدة، ثم فيما بعد يصبح واقعاً ملموساً لا يحتاج إلى دليل، كذلك هو الأمر بالنسبة للتخطيط. ففي فترة نمو الفكرة، يحدث ما يشبه نمو وتطور حياة جديدة في عقول واضعي الأهداف، تتطور تدريجياً لتصبح واقعاً محسوساً.


عندما يفهم المرء كيف تتم العملية الذهنية، فإنه سوف يتمسك بشدة بالهدف مواجهاً واقع الحال لأنه يعلم يقيناً أن ما يحمله كصورة سوف يتجسد واقعاً طالما حلم بتحقيقه. ولأنه أيضاً يعلم أنه أثناء مراحل التخطيط الأولي يكتسب مهارات جديدة ويلتقط أساليب ناجعة يضيفها إلى القدرات البشرية المتوفرة لتصبح جزءاً منها. فهناك ما يشبه عملية التمثيل الغذائي أو الامتصاص من أجل الاستمرار.
إن ضعيف القلب الذي يريد دليلاً وبرهاناً في الحال على وجود الحياة وهي في طور النمو، قد يفقد الاهتمام فيميل إلى طرح تصوره جانباً والعزوف عنه، أو تعديله بشكل تراجعي بحيث يتطابق مع الواقع الراهن من حوله. من هنا، ينبغي على القائد القوي أن يتمسك بالمشاعر القوية، إلى أن تظهر الدلائل الملموسة على صحتها.

إن بعض الناس لا يقتنعون بحقيقة وجود الشئ إلا بعد تمامه، والنخبة فقط هي التي تستشرف كمال الشئ من دلائله الأولية. فالكل يقتنع بوجود الحيلة إذا رأى الطفل وليداً.
يجدر بنا أن نأخذ باعتبارنا إحدى العمليات الفكرية الطبيعية في الكائنات البشرية، ألا وهي (الانغلاق والانفتاح الفكري) LOCK ON/ LOCK OUT وهذه العملية الحيوية هي بالنسبة للقائد سلاح ذو حدين. فغالباً ما يجد القائد الفذ نفسه مضطراً للتغاضي عن فرص أخرى متاحة حين يركز على هدفه تركيزاً شديداً. فإن ذلك من طبيعة هذه الخاصية الحيوية، وهي تعتبر أقوى خصائص القائد، حيث إنه أثناء انفتاحه العقلي لهدف معين والتمسك به بقوة، يغلق في ذات الوقت كل المنافذ عن رؤية العوائق والآلام والحواجز والسقطات من حيث كونها مبررات للتراجع عن الهدف، محافظاً على استمرارية الانغلاق عن كل ما هو دون الهدف حتى يتحقق. وفي خضم ذلك وهنا يبرز الحد الآخر للسلاح ربما يحجب عن عقله إمكانية رؤية الأساليب أو مسار أو فرص ممتازة لاستتمام المهام المؤدية إلى هدفه بشكل أسرع وأسهل وأوفر وأشد فعالية.


لذلك ربما كان من الأفضل له أن يفكر على أساس أن ما يراه يشكل (إحدى الطرق) للوصول، وليس (الطريقة الوحيدة)، بحيث يتماشى مع خصائص القائد الذي يتميز بالانفتاح الفكري كما بالانغلاق على حد سواء.


علينا أيضاً أن ندرك أنه في كل مرة نسمح لعقولنا بإدخال معلومات تناقض ما نعرف أنه صحيح، يجب أن نتوقع الإحساس بالألم، أو (اللسعة) إن جاز التعبير كما تعلمناه في قاعدة الانغلاق والانفتاح الفكري. فالأمر يتطلب درجة عالية من احترام الذات، ورغبة في البحث عن الحقيقة، بالإضافة إلى القدرة على تقبل اكتشاف أننا كنا على خطأ بشكل إيجابي، لكي نتمكن من تبني خيارات جديدة.
إن تلك القاعدة قد تحمل في طياتها إمكانية التدخل في عملية الاسترجاع عند تقييم الحقيقة الراهنة ونحن نسير باتجاه الهدف، لذلك يجدر بنا أن نعي باستمرار أثر تلك القاعدة أثناء محاولة تحقيق الهدف.


ليس في النية في هذه المرحلة الخوض في جميع تطبيقات هذه القاعدة، أو في أي المفاهيم الأخرى. والأمر عائد إلى القارئ في اكتشاف وسائل تطبيق تلك المفاهيم في عمليات التخطيط التي يجريها.
من المهم جداً الانطلاق من فرضية أن الإجابات موجودة وأننا فقط لا نراها. كما أنه من المهم ألا ننطلق من الفرضية الخاطئة القائلة بعدم وجود الإجابات، وبأنه لا وسيلة لتحقيق الهدف، لأننا بذلك إنما نغلق الباب في وجه حلول كثيرة قد تكون موجودة.


يستطيع الإنسان استغلال قدراته الإبداعية بعدد لا نهائي من الطرق في إنجاز عمل ما. ومن ناحية أخرى، فبإمكانه أن يأتي بعدد لا نهائي من الأسباب المختلفة ليبرر عدم نجاح هذا العمل. لذلك علينا أن نخلق في عقولنا وفي مؤسستنا جواً يبحث فيه الأفراد عن خيارات وإمكانيات وطرق أفضل- علينا أن نقيم الهدف وصورة الإنجاز على قاعدة أننا نريد تحقيقه، بذلك نجتذب الأشخاص الذين يرغبون فعلاً في إنجازه. فإنك إذا لم تنطلق وحولك من يرغب بأداء المهمة، سوف تجد نفسك محاطاً بالكثيرين ممن يحاولون خلق أسباب تبرر عدم إمكانية الإنجاز. لذا، فإن أول خطوة وأول فرضية هي: (هل تريد القيام بذلك أم لا؟). تخيل احترامك لذاتك كما لو كان وعاء.. إبريقاً سعته غالون مثلاً.. وهناك مزارع تعهد يقطينة حتى نمت بشكل وحجم ذلك الإبريق بالضبط.. وعندما سأله المعجبون بدهشة كيف استطاع جعلها تشبه الإبريق، فسر لهم ذلك بأنه وضع اليقطينة في إبريق سعته غالون منذ اللحظة التي كانت فيها برعماً.


إن تصورك، ومهمتك وأهدافك تشبه تلك اليقطينة: أنت تملك العبقرية في أعماقك، ولكنها تعمل فقط ضمن الوعاء الذي تحيطها به. إن هذا الوعاء قد يكون احترامنا لذواتنا ومهارتنا الفكرية. وإنني اعتقد بصدق انطلاقاً من جميع أبحاثنا، بأننا نستطيع ملء وعاء مهما كان حجمه والتحدي يكمن في بناء الوعاء المناسب. ربما يجدر بنا الآن وفي هذه اللحظة أن نعيد النظر في مهامنا وأهدافنا للتأكد من كونها أهلاً بنا.

صنع البيئة الملائمة للنمو:

(كنا في الماضي قادة لأتباع لديهم الاستعداد للعمل الجاد، وعلينا في المستقبل أن نكون أتباعاً لقادة لديهم مثل ذلك الاستعداد).
(لو تايس)

لا يعدم القادة في مختلف المجتمعات، وجود أتباع لديهم الرغبة بالعمل، متحمسين متوثبين مسارعين لتنفيذ ما يطلب إليهم. على أن الدلائل تشير إلى أن المؤسسات الرائدة في المستقبل ستختط نهجاً قيادياً فيه يكون القائد خادماً لمؤسسة أعضاؤها قادة يتصفون بالحماس والرغبة في العمل. ونحن إذ نحاول مواكبة الإيقاع العصري السريع في عالم الأعمال والتقدم التقني، يجدر بنا أن نحذر من السقوط في أحبولة التغيير الأعمى، أو نبذ كل ما هو تقليدي أو قديم لمجرد أنه كذلك دون الاستفادة من النواحي الإيجابية التي قد تكون موجودة فيه، لأننا بذلك نكون كمن يلقي بالطفل خارجاً أثناء تخلصه من ماء الاستحمام. بل ينبغي أن نعي أن هناك إمكانية للتغيير مع الاحتفاظ بالأساليب والوسائل التي أثبتت نجاحها عبر الزمن.


كما أننا لا نرى لماذا لا يكون الفكر التقليدي مصدراً غنياً للكثير من الأفكار البناءة والأساليب الناجعة التي لو وظفناها جنباً إلى جنب مع الأفكار الجديدة فإنها قد تزيد احتمالات النجاح أضعافاً مضاعفة.
بيد أننا هنا بصدد مناقشة المفهوم التقليدي للقيادة، وما تتصف به القيادة التقليدية من جوانب لم تثبت العقود الماضية جدواها في تحسين أساليب العمل وبالتالي مضاعفة الإنتاج أو رفع مستوى النتائج. فلو أمعنا النظر في الفكرة السائدة عن العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، ووجدنا بواسطة المسح البيئي والتحليل أن هناك قناعات لم تعد ملائمة لروح العصر، فإننا حتماً سوف ندرك مدى حاجتنا إلى التغيير.


فمثلاً، هناك الاعتقاد السائد بضرورة اتصاف القائد أو الرئيس بالحزم والصرامة في تطبيق القوانين المنصوص عليها في نظام المؤسسة الداخلي بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، على افتراض أن العامل (مذنب حتى تثبت براءته) وأنه يجب دفع الموظف للعمل بالترغيب والترهيب دون اعتبار لروحه المعنوية واستعداده الفطري للعمل الجاد ومواهبه الكامنة التي لا تنفجر إلا في بيئة يشعر فيها بالأهمية والأمان واحترام النفس والشعور بالمسئولية. وعليه فإن القيادة التقليدية لا تعطي الفرد العادي في المؤسسة فرصة لإبراز مواهبه وحماسه وقدرته على التخيل واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية.

من هنا تمس الحاجة إلى مناخ عملي يفرز الإمكانات ويصقلها ويعطيها فرصة للنمو.
فنحن إذن بحاجة إلى توفير بيئة تساعد على استثارة مشاعر التعاون والوعي والعمل الجماعي والشعور بالمسئولية لدى فريق تتوفر في أعضائه الرغبة لذلك. إننا نريد أشخاصاً يقومون دائماً بالمساعدة في تحليل الواقع السائد والبحث عن وسائل جديدة لتحسين حالة الأشياء مع إدراكهم لطبيعتها وكيفية انسجامها مع النظام العام الذي يحكم الأشياء.. أشخاصاً لا تغيب عنهم نذر الخطر وبذات الوقت لا يتقاعسون عن مواجهة التحدي في عصر لا تتوقف فيه عجلة التنافس .. أشخاصاً يساعدون على خلق مؤسسة تعج بالعاملين المتفتحين المدركين لما حولهم.


وبكلمة، نحن بحاجة إلى إعادة تقييم القواعد والأنظمة الداخلية والتعليمات والبنية الاستراتيجية المعمول بها للتحكم في الأفراد والقائمة على أساس عدم الثقة بهم، ومن ثم نعيد تكوين الهياكل التنظيمية في المؤسسة من أجل خلق تنظيمات تقوم على أساس أن أعضاء مؤسستنا يمكن الثقة بهم، يشعرون بالمسئولية، متعاونون، ويقدمون أفضل ما لديهم من قدرات بصورة مستمرة. نحن بحاجة إلى تشجيع القادة الذين يشعرون بالمسؤولية وتدريبهم بجميع مستوياتهم لكي يبادروا إلى قيادة الآخرين بصورة عفوية كلما توفرت لديهم الأفكار الجيدة والمعلومات المفيدة. يجب أن نساند الذين يتصفون باحترام الذات وتشجيعهم على التعبير عن أنفسهم، وندعم الذين يتصفون بالثقة بالنفس لكي يستطيعوا إقناع الآخرين، كما يجب أن نلتزم بأفكارهم النيرة من أجل بناء مجتمع يتصف باحترام آراء الآخرين واختلافهم في الرأي وأنظمة الانتقاء الخاصة بهم. وعلينا أن نفهم أن التفرد والتميز هما أساس شخصيتنا. فمثلاً قد يكون من الصعب أن ترى في المثال التالي غير الأسهم والأمشاط والظلال.

في حين يرى بعضهم كلمة FLY بسهولة.
وهذه الرؤية أو عدمها، ناتج عن كوننا أعتدنا بشكل شرطي قراءة الحرف الأسود على الورق الأبيض وترك المسافات بين الحروف بيضاء. وعن طريق تغيير ذلك إلى الكتابة بالأبيض على الأبيض وجعل المسافات بين الحروف سوداء.
........
المصدر
 
عودة
أعلى