تيمور الشرقية… كوسوفو… جنوب السودان والآن القرم
الدكتور عبد الحميد صيام
يرتد السلاح الآن على أصحابه – لقد طغت الدول الإمبريالية الثلاث بريطانياوفرنسا والولايات المتحدة كثيرا، فبدأ السلاح الذي اخترعوه لفصل أقاليم معينة عن دولها الأم يرتد إلى نحورهم، فيقفون مشلولين لا يعرفون كيف يتصرفون أمام أزمة شبه جزيرة القرم. كم مرة استخدموا الأمم المتحدة غطاء لمخططاتهم ومصدرا لشرعية يفصلونها على هواهم ويمنعونها عن حالات شبيهة إذا لم تناسبهم. لقد اكتشفت هذه الدول الظالمة أن كثيرا من القوانين التي مرروها عن طريق الأمم المتحدة سلاح ذو حدين، مرة يستخدمه الظالم ثم لا يلبث أن يلتقطه المظلومون فيستخدمونه ضد مضطهديهم. أقروا الكثير من اتفاقيات حقوق الإنسان ومنع الإبادة البشرية والمعاهدة الدولية حول اللاجئين واتفاقية حظر العنصرية والتمييز العرقي وغيرها الكثير. وعلى سبيل المثال تم إقراراتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، وفي أذهانهم ما حدث أيام الحرب العالمية الثانية من استهداف للمدنيين، كما مارسته القوات النازية أثناء اجتياح الدول الأوروبية، خاصة ضد اليهود الذين كانوا يقتلعون من بيوتهم ويرسلون إلى معسكرات الاعتقال. مر الزمان وإذا بهذه الاتفاقية تشير بإصبع الاتهام إليهم وهي تنتهك بشكل صارخ من الدولة المسخ التي زرعوها في قلب الوطن العربي، ومن قبل الولايات المتحدة في احتلالها لأفغانستان والعراق، وفرنسا في جرائمها في الجزائر ومدغشقر ومالي وبقية مستعمراتها وبريطانيا في اليمن الجنوبي وجزر المالديف وقبرص والعراق. ومن بين الأسلحة التي استخدموها لتقسيم الدول سلاح الاستفتاء، وسنرى في هذا المقال كيف تستخدم هذه الدول آلية الاستفتاء عندما يناسب مصالحها وتتغافل عنه عندما لا يناسبها. وقد جاءت دولة كبرى مثل روسيا لتستخدم نفس الآلية وتضع إصبعها في عيونهم وتقول، أليس هذا ما فعلتم في كوسوفو وتيمور الشرقية وجنوب السودان وغيرها؟
الاستفتاء آلية تقسيم الدول وإضعافها
سنتعرض في هذا المقال لأربع حالات لتوضيح الفكرة. ولست هنا أعبر عن موقف سياسي مؤيد أو معارض لمثل ذاك الانفصال أو عدم الانفصال، بل أود أن أركز على موضوع ازدواجية المعايير لدى هذه الدول الطاغية المهووسة باستخدام القوة من جهة، واستغلال آلية الأمم المتحدة لإعطاء شرعية لمخططاتهم التفتيتية لدول العالم عندما يخدم ذلك التفتيت مصالحهم.
تيمور الشرقية
في عام 1975 أقرت الأمم المتحدة إجراء استفتاءين لتقرير المصير، الأول يتعلق بسكان جزر تيمور الشرقية للتأكد إن كانوا يريدون أن يبقوا مع أندونيسيا أو يفضلون الاستقلال. والثاني لسكان الصحراء الغربية بعد انتهاء الاستعمار الإسباني الذي بدأ عام 1884، فيما إذا كان السكان يفضلون البقاء جزءا من المملكة المغربية أو الاستقلال. لقد تم تعطيل الاستفتاءين لأن الولايات المتحدة كانت قد تجرعت للتو هزيمة مرة في فيتنام، وكانت تعتقد أن أي دولة جديدة تدخل ساحة المجتمع الدولي ستكون بالضرورة دولة يسارية أقرب إلى الاتحاد السوفييتي. وقد دخلت الدولتان في صراع دموي طويل مع السكان الأصليين أزهق الآلاف من الأرواح. كان النظامان فيالمغرب (الحسن الثاني) وأندونيسيا (محمد سوهارتو) حليفين قريبين من الولايات المتحدة ومعاديين صلبين للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، لذلك تعطل الاستفتاء في البلدين. بعد انتهاء الحرب الباردة قامت الدول الغربية وفي فترة انتقالية في اندونيسيا باستغلال الوضع وإثارة السكان في تيمور الشرقية فبدأت السيناريوهات تعمل واحدا بعد لآخر. وقف إطلاق النار، تدخل القوات الأسترالية للحماية، يقر مبدأ الاستفتاء ويعقد بسرعة في 30 آب/أغسطس 1999، والنتيجة ما يزيد عن 78′ أيدوا الانفصال. الانفصال تم ورفع علم تيمور الشرقية أمام مقر الأمم المتحدة في أيار/مايو 2002 كدولة مستقلة ولتكون الدولة رقم 191 في عضوية المنظمة الدولية.
أما سكان الصحراء الغربية فما زالوا ينتظرون الاستفتاء. فرنسا تقف بالمرصاد حاملة سيفها لترفعه في وجه كل من يتحدث عن حق الصحراويين في تقرير مصيرهم، أسوة بما حدث في تيمور الشرقية. وللعلم فهناك مستعمرتان صغيرتان للبرتغال مثلهما مثل تيمور الشرقية، واحدة في الهند اسمها غاوا أعادتها الهند بالقوة المسلحة عام 1954 وأكملت استعادة المناطق حولها عام 1961، وثانية في الصين واسمها مكاو التي عادت إلى الصين عام 1999 مثل هونغ كونغ تحت ترتيب يدعى ‘دولة واحدة بنظامين مختلفين’، وكلتا المستعمرتين تسكنهما أغلبية كاثوليكية، لكن من يجرؤ على التحرش بالصين أو بالهند؟ كما أن هناك قرارا صادرا عن الأمم المتحدة عام 1949 لإجراء استفتاء لمعرفة ما يريده الشعب الكشميري الذي تحتله الهند، لكن القرار ظل حبرا على ورق لغاية الآن. أما اندونيسيا فكانت تعيش مرحلة تحول جذري في عهد بحر الدين حبيبي، أول رئيس بعد نهاية الحرب الباردة فتم نزع جزء تاريخي منها على أساس أن الغالبية ليست مسلمة.
كوسوفو
إقليم كوسوفو تسكنه غالبية مسلمة كان تاريخيا جزءا لا يتجزأ من مملكة الصرب. وعندما بسطت الدولة العثمانية سيطرتها على منطقة البلقان انتشر الإسلام في تلك البلاد وتكونت تجمعات ذات غالبية مسلمة، لكن إقليم كوسوفو ظل جزءا من صربيا ويعتبر مهد الحضارة الصربية وأهم الكنائس الأرثوذكسية بنيت في مدينة بريشتينا عاصمة الإقليم. انفصل الإقليم وألبانيا ودول البلقان عن الدولة العثمانية عام 1912 وتأسست مملكة الصرب التي ضمت الإقليم ومونتينيغرو. وعام 1946 تشكلت يوغسلافيا الحديثة التي تضم ست دول وإقليم كوسوفو. تفككت يوغسلافيا كدولة مركزية مع نهاية الحرب الباردة، واستقلت عنها أولا سلوفينيا ثم كرواتيا عن طريق آلية الاستفتاء عام 1991 واعترف بهما الاتحاد الأوروبي فورا، ثم استقلت البوسنة والهرسك عام 1992 ولكنها دخلت في حرب مدمرة مع صربيا رفضا لذلك الاستقلال ثم ماسادونيا ولم يبق مع الدولة المركزية إلا الجبل الأسود (مونتنيغرو) الذي استقل أيضا عن طريق الاستفتاء عام 2006، وإقليم كوسوفو الذي لم يكن في يوم من الأيام دولة مستقلة. حاول سلوبدان ميلوشيفيتش، الرئيس الصربي العنيد أن يمنع انفصال كوسوفو بالقوة المسلحة وقاتل بكل شراسة، لكن قوات الناتو ومن دون تفويض من الأمم المتحدة قصمت ظهره عام 1999 وأعلن الإقليم استقلاله في 11 حزيران/ يونيو 1999 وقامت الأمم المتحدة بتأمين الإدارة الجماعية للإقليم حتى أعلن استقلاله تماما بتاريخ 17 شباط/فبراير 2008 واعترفت الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإقليم دولة مستقلة، وكذلك أقرت محكمة العدل الدولية بشرعية إعلان الاستقلال عام 2010، إلا أن هذا الاعتراف ما زال مرهونا بموافقة مجلس الأمن كي يصبح شرعيا وهو ما لا نتوقعه في القريب العاجل بسبب الموقفين الروسي والصيني اللذين يرفضان انفصال الإقليم.
جنوب السودان
لم تكن حركة تحرير جنوب السودان بقيادة الزعيم جون قرنق تهدف إلى الانفصال بل تم الضغط على السلطات السودانية لقبول مبدأ الاستفتاء حول مستقبل الجنوب عند توقيع ‘اتفاقية السلام الشامل’ في كانون الثاني/يناير 2005 بعد 22 سنة من الحرب الأهلية. كان الرئيس السوداني عمر البشير يريد أن يثبت أنه متعاون مع المجتمع الدولي، من أجل رفع العقوبات عنه ورفع التهمة عن السودان بأنه دولة راعية للإرهاب، وكان يعتقد أن الاستفتاء المقرر بعد ست سنوات سيكون في صالح الوحدة. لكن النتيجة كانت عكس ذلك تماما. فتحت جبهة دارفور وارتكبت مجازر فيها أدين فيها البشير وأصبح مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية. تم الاستفتاء في 9 كانون الثاني/يناير 2011 وجاءت النتيجة لصالح الانفصال بنسبة تزيد عن 98′. وتم فصل الجنوب الغني بثرواته النفطية عن السودان وأعلن استقلاله يوم 9 تموز/يوليو 2011 ليكون الدولة رقم 194 في عضوية المنظمة الدولية. اعتبر الانفصال نصرا للسياسة الأمريكية والأوروبية، حيث نجحوا بإضعاف بلد عظيم كالسودان، الذي لو قدرت له قيادة حكيمة تستثمر خيرات البلاد اللامحدودة لحولته إلى عملاق اقتصادي. وما يجري الآن من حرب أهلية بين قبائل جنوب السودان، خاصة بين الدنغا والبوير يثبت كم كان قرار الانفصال مدفوعا بأهداف سياسية.
شبه جزيرة القرم
كل الحجج التي كانت تقدمها الدول الغربية لتبرير مخططات الانفصال ارتدت إلى نحرها. الآن الرئيس بوتين يحاججهم نقطة نقطة حول شرعية انفصال كوسوفو ويطبقها على جزيرة القرم. الغالبية الساحقة من السكان يريدون أن ينضموا للأم روسيا. ما المانع؟
تم إجراء الاستفتاء على طريقة كوسوفو وجنوب السودان وتيمور الشرقية وجاءة النتيجة أن الغالبية الساحقة تريد أن تنضم لروسيا. ألم تكن هذه أرضا روسية قدمها خروتشوف الأوكراني هدية لأوكرانيا عام 1954 بمناسبة مرور 300 عام على انضمام أوكرانيا لروسيا، وقيل إنه كان تحت تأثير كأسين أو ثلاث أو عشر من الفودكا. فما المانع إذن أن تعود إلى روسيا بعد إجراء استفتاء حر وعادل ونزيه؟
غالبية سكان القرم من الروس ونسبة الأوكرانيين فيها أقل من نسبة الصرب في كوسوفو. والولايات المتحدة وحلفاؤها دخلوا حربا لانتزاع كوسوفو من صربيا من دون تفويض من الأمم المتحدة.
وروسيا مشت في نفس الطريق إلى القرم. الولايات المتحدة كانت تضع جيش تحرير كوسوفو على قائمة الإرهاب، ولكنها لم تجد بأسا في التعامل معه. مع هذا تمت شرعنة التدخل وغطته بالاستفتاء. فلماذا حلال على أمريكا مثل تلك الخطوات حرام على روسيا إذا اتبعت نفس المسيرة؟
لقد آن الأوان أن تعترف الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أن عالم اليوم لم يعد أحادي القطب، بل هناك قوى فاعلة ومؤثرة وقرارها مستقل ولا تقبل بالضغوط ولا تنصاع للإملاءات إذا كانت القضية تتعلق بأمنها وكرامة شعبها واستقلالية قرارها. لعل العرب فرادى وجماعات يتعلمون شيئا من السياسة المستندة إلى القوة ولا يعولون كثيرا على ما يسمى بـ’المجتمع الدولي’. فهو مجتمع ظالم إن كان قادرا وجبان ومتردد إن كان عاجزا .
عن القدس العربي
الدكتور عبد الحميد صيام
يرتد السلاح الآن على أصحابه – لقد طغت الدول الإمبريالية الثلاث بريطانياوفرنسا والولايات المتحدة كثيرا، فبدأ السلاح الذي اخترعوه لفصل أقاليم معينة عن دولها الأم يرتد إلى نحورهم، فيقفون مشلولين لا يعرفون كيف يتصرفون أمام أزمة شبه جزيرة القرم. كم مرة استخدموا الأمم المتحدة غطاء لمخططاتهم ومصدرا لشرعية يفصلونها على هواهم ويمنعونها عن حالات شبيهة إذا لم تناسبهم. لقد اكتشفت هذه الدول الظالمة أن كثيرا من القوانين التي مرروها عن طريق الأمم المتحدة سلاح ذو حدين، مرة يستخدمه الظالم ثم لا يلبث أن يلتقطه المظلومون فيستخدمونه ضد مضطهديهم. أقروا الكثير من اتفاقيات حقوق الإنسان ومنع الإبادة البشرية والمعاهدة الدولية حول اللاجئين واتفاقية حظر العنصرية والتمييز العرقي وغيرها الكثير. وعلى سبيل المثال تم إقراراتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، وفي أذهانهم ما حدث أيام الحرب العالمية الثانية من استهداف للمدنيين، كما مارسته القوات النازية أثناء اجتياح الدول الأوروبية، خاصة ضد اليهود الذين كانوا يقتلعون من بيوتهم ويرسلون إلى معسكرات الاعتقال. مر الزمان وإذا بهذه الاتفاقية تشير بإصبع الاتهام إليهم وهي تنتهك بشكل صارخ من الدولة المسخ التي زرعوها في قلب الوطن العربي، ومن قبل الولايات المتحدة في احتلالها لأفغانستان والعراق، وفرنسا في جرائمها في الجزائر ومدغشقر ومالي وبقية مستعمراتها وبريطانيا في اليمن الجنوبي وجزر المالديف وقبرص والعراق. ومن بين الأسلحة التي استخدموها لتقسيم الدول سلاح الاستفتاء، وسنرى في هذا المقال كيف تستخدم هذه الدول آلية الاستفتاء عندما يناسب مصالحها وتتغافل عنه عندما لا يناسبها. وقد جاءت دولة كبرى مثل روسيا لتستخدم نفس الآلية وتضع إصبعها في عيونهم وتقول، أليس هذا ما فعلتم في كوسوفو وتيمور الشرقية وجنوب السودان وغيرها؟
الاستفتاء آلية تقسيم الدول وإضعافها
سنتعرض في هذا المقال لأربع حالات لتوضيح الفكرة. ولست هنا أعبر عن موقف سياسي مؤيد أو معارض لمثل ذاك الانفصال أو عدم الانفصال، بل أود أن أركز على موضوع ازدواجية المعايير لدى هذه الدول الطاغية المهووسة باستخدام القوة من جهة، واستغلال آلية الأمم المتحدة لإعطاء شرعية لمخططاتهم التفتيتية لدول العالم عندما يخدم ذلك التفتيت مصالحهم.
تيمور الشرقية
في عام 1975 أقرت الأمم المتحدة إجراء استفتاءين لتقرير المصير، الأول يتعلق بسكان جزر تيمور الشرقية للتأكد إن كانوا يريدون أن يبقوا مع أندونيسيا أو يفضلون الاستقلال. والثاني لسكان الصحراء الغربية بعد انتهاء الاستعمار الإسباني الذي بدأ عام 1884، فيما إذا كان السكان يفضلون البقاء جزءا من المملكة المغربية أو الاستقلال. لقد تم تعطيل الاستفتاءين لأن الولايات المتحدة كانت قد تجرعت للتو هزيمة مرة في فيتنام، وكانت تعتقد أن أي دولة جديدة تدخل ساحة المجتمع الدولي ستكون بالضرورة دولة يسارية أقرب إلى الاتحاد السوفييتي. وقد دخلت الدولتان في صراع دموي طويل مع السكان الأصليين أزهق الآلاف من الأرواح. كان النظامان فيالمغرب (الحسن الثاني) وأندونيسيا (محمد سوهارتو) حليفين قريبين من الولايات المتحدة ومعاديين صلبين للمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، لذلك تعطل الاستفتاء في البلدين. بعد انتهاء الحرب الباردة قامت الدول الغربية وفي فترة انتقالية في اندونيسيا باستغلال الوضع وإثارة السكان في تيمور الشرقية فبدأت السيناريوهات تعمل واحدا بعد لآخر. وقف إطلاق النار، تدخل القوات الأسترالية للحماية، يقر مبدأ الاستفتاء ويعقد بسرعة في 30 آب/أغسطس 1999، والنتيجة ما يزيد عن 78′ أيدوا الانفصال. الانفصال تم ورفع علم تيمور الشرقية أمام مقر الأمم المتحدة في أيار/مايو 2002 كدولة مستقلة ولتكون الدولة رقم 191 في عضوية المنظمة الدولية.
أما سكان الصحراء الغربية فما زالوا ينتظرون الاستفتاء. فرنسا تقف بالمرصاد حاملة سيفها لترفعه في وجه كل من يتحدث عن حق الصحراويين في تقرير مصيرهم، أسوة بما حدث في تيمور الشرقية. وللعلم فهناك مستعمرتان صغيرتان للبرتغال مثلهما مثل تيمور الشرقية، واحدة في الهند اسمها غاوا أعادتها الهند بالقوة المسلحة عام 1954 وأكملت استعادة المناطق حولها عام 1961، وثانية في الصين واسمها مكاو التي عادت إلى الصين عام 1999 مثل هونغ كونغ تحت ترتيب يدعى ‘دولة واحدة بنظامين مختلفين’، وكلتا المستعمرتين تسكنهما أغلبية كاثوليكية، لكن من يجرؤ على التحرش بالصين أو بالهند؟ كما أن هناك قرارا صادرا عن الأمم المتحدة عام 1949 لإجراء استفتاء لمعرفة ما يريده الشعب الكشميري الذي تحتله الهند، لكن القرار ظل حبرا على ورق لغاية الآن. أما اندونيسيا فكانت تعيش مرحلة تحول جذري في عهد بحر الدين حبيبي، أول رئيس بعد نهاية الحرب الباردة فتم نزع جزء تاريخي منها على أساس أن الغالبية ليست مسلمة.
كوسوفو
إقليم كوسوفو تسكنه غالبية مسلمة كان تاريخيا جزءا لا يتجزأ من مملكة الصرب. وعندما بسطت الدولة العثمانية سيطرتها على منطقة البلقان انتشر الإسلام في تلك البلاد وتكونت تجمعات ذات غالبية مسلمة، لكن إقليم كوسوفو ظل جزءا من صربيا ويعتبر مهد الحضارة الصربية وأهم الكنائس الأرثوذكسية بنيت في مدينة بريشتينا عاصمة الإقليم. انفصل الإقليم وألبانيا ودول البلقان عن الدولة العثمانية عام 1912 وتأسست مملكة الصرب التي ضمت الإقليم ومونتينيغرو. وعام 1946 تشكلت يوغسلافيا الحديثة التي تضم ست دول وإقليم كوسوفو. تفككت يوغسلافيا كدولة مركزية مع نهاية الحرب الباردة، واستقلت عنها أولا سلوفينيا ثم كرواتيا عن طريق آلية الاستفتاء عام 1991 واعترف بهما الاتحاد الأوروبي فورا، ثم استقلت البوسنة والهرسك عام 1992 ولكنها دخلت في حرب مدمرة مع صربيا رفضا لذلك الاستقلال ثم ماسادونيا ولم يبق مع الدولة المركزية إلا الجبل الأسود (مونتنيغرو) الذي استقل أيضا عن طريق الاستفتاء عام 2006، وإقليم كوسوفو الذي لم يكن في يوم من الأيام دولة مستقلة. حاول سلوبدان ميلوشيفيتش، الرئيس الصربي العنيد أن يمنع انفصال كوسوفو بالقوة المسلحة وقاتل بكل شراسة، لكن قوات الناتو ومن دون تفويض من الأمم المتحدة قصمت ظهره عام 1999 وأعلن الإقليم استقلاله في 11 حزيران/ يونيو 1999 وقامت الأمم المتحدة بتأمين الإدارة الجماعية للإقليم حتى أعلن استقلاله تماما بتاريخ 17 شباط/فبراير 2008 واعترفت الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإقليم دولة مستقلة، وكذلك أقرت محكمة العدل الدولية بشرعية إعلان الاستقلال عام 2010، إلا أن هذا الاعتراف ما زال مرهونا بموافقة مجلس الأمن كي يصبح شرعيا وهو ما لا نتوقعه في القريب العاجل بسبب الموقفين الروسي والصيني اللذين يرفضان انفصال الإقليم.
جنوب السودان
لم تكن حركة تحرير جنوب السودان بقيادة الزعيم جون قرنق تهدف إلى الانفصال بل تم الضغط على السلطات السودانية لقبول مبدأ الاستفتاء حول مستقبل الجنوب عند توقيع ‘اتفاقية السلام الشامل’ في كانون الثاني/يناير 2005 بعد 22 سنة من الحرب الأهلية. كان الرئيس السوداني عمر البشير يريد أن يثبت أنه متعاون مع المجتمع الدولي، من أجل رفع العقوبات عنه ورفع التهمة عن السودان بأنه دولة راعية للإرهاب، وكان يعتقد أن الاستفتاء المقرر بعد ست سنوات سيكون في صالح الوحدة. لكن النتيجة كانت عكس ذلك تماما. فتحت جبهة دارفور وارتكبت مجازر فيها أدين فيها البشير وأصبح مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية. تم الاستفتاء في 9 كانون الثاني/يناير 2011 وجاءت النتيجة لصالح الانفصال بنسبة تزيد عن 98′. وتم فصل الجنوب الغني بثرواته النفطية عن السودان وأعلن استقلاله يوم 9 تموز/يوليو 2011 ليكون الدولة رقم 194 في عضوية المنظمة الدولية. اعتبر الانفصال نصرا للسياسة الأمريكية والأوروبية، حيث نجحوا بإضعاف بلد عظيم كالسودان، الذي لو قدرت له قيادة حكيمة تستثمر خيرات البلاد اللامحدودة لحولته إلى عملاق اقتصادي. وما يجري الآن من حرب أهلية بين قبائل جنوب السودان، خاصة بين الدنغا والبوير يثبت كم كان قرار الانفصال مدفوعا بأهداف سياسية.
شبه جزيرة القرم
كل الحجج التي كانت تقدمها الدول الغربية لتبرير مخططات الانفصال ارتدت إلى نحرها. الآن الرئيس بوتين يحاججهم نقطة نقطة حول شرعية انفصال كوسوفو ويطبقها على جزيرة القرم. الغالبية الساحقة من السكان يريدون أن ينضموا للأم روسيا. ما المانع؟
تم إجراء الاستفتاء على طريقة كوسوفو وجنوب السودان وتيمور الشرقية وجاءة النتيجة أن الغالبية الساحقة تريد أن تنضم لروسيا. ألم تكن هذه أرضا روسية قدمها خروتشوف الأوكراني هدية لأوكرانيا عام 1954 بمناسبة مرور 300 عام على انضمام أوكرانيا لروسيا، وقيل إنه كان تحت تأثير كأسين أو ثلاث أو عشر من الفودكا. فما المانع إذن أن تعود إلى روسيا بعد إجراء استفتاء حر وعادل ونزيه؟
غالبية سكان القرم من الروس ونسبة الأوكرانيين فيها أقل من نسبة الصرب في كوسوفو. والولايات المتحدة وحلفاؤها دخلوا حربا لانتزاع كوسوفو من صربيا من دون تفويض من الأمم المتحدة.
وروسيا مشت في نفس الطريق إلى القرم. الولايات المتحدة كانت تضع جيش تحرير كوسوفو على قائمة الإرهاب، ولكنها لم تجد بأسا في التعامل معه. مع هذا تمت شرعنة التدخل وغطته بالاستفتاء. فلماذا حلال على أمريكا مثل تلك الخطوات حرام على روسيا إذا اتبعت نفس المسيرة؟
لقد آن الأوان أن تعترف الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أن عالم اليوم لم يعد أحادي القطب، بل هناك قوى فاعلة ومؤثرة وقرارها مستقل ولا تقبل بالضغوط ولا تنصاع للإملاءات إذا كانت القضية تتعلق بأمنها وكرامة شعبها واستقلالية قرارها. لعل العرب فرادى وجماعات يتعلمون شيئا من السياسة المستندة إلى القوة ولا يعولون كثيرا على ما يسمى بـ’المجتمع الدولي’. فهو مجتمع ظالم إن كان قادرا وجبان ومتردد إن كان عاجزا .
عن القدس العربي