مركز أطلس للدراسات
عملية "كسر الصمت" التي أطلقتها سرايا القدس بعد نفاذ صبرها على خروقات الاحتلال للتهدئة، وأهمها جملة الاغتيالات الأخيرة التي نفذها الاحتلال في الشهرين الأخيرين؛ فاجأت العدو إلى حد ما وأربكت حساباته، واضطرته إلى إعادة النظر في السياق العملياتي الذي بدأه منذ فترة، وهو تغيير قواعد "اللعبة" واستبدالها بقواعد ترسي سطوته ويده العليا وازعان المقاومة رهبة من ردة فعله، التي طالما ارتفع صوته المهدد والمزمجر والمتوعد.
بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، أصبح لدى دولة الاحتلال تقدير موقف قوى حيال قطاع غزة، يبني على أن ثمة أزمة عميقة تواجه حكومة غزة، وأنها مضطرة للتمسك بالتهدئة وتثبيتها قدر استطاعتهم لتجنب مضاعفات كبيرة قد تزيد أزمتهم تعقيداً وعمقاً؛ الأمر الذي استغله نتنياهو وجيشه لتعزيز ردعهم وبناء تدريجي لمعادلة جديده تقوم على تملص "إسرائيل" من التزاماتها بتهدئة نوفمبر 2012، وفي مقدمتها التوقف عن الاغتيالات، واستبدالها بسياسة أمر واقع جديدة تقوم في إطارها "إسرائيل" بما تقول انه جباية ثمن لكل من يهدد أمن مواطنيها، وان على حكومة غزة أن تهتم بضبط الحدود، وأنها ستتحمل مسؤولية أي خرق أمني من قبل الفلسطينيين.
وعملياً نفذت حكومة الاحتلال هذه السياسة الجديدة عبر اغتيال وقتل أكثر من اثني عشر فلسطينياً داخل القطاع منذ بداية العام، وقد ترافق ذلك مع حملة إرهاب وتصريحات محذرة ومهددة من المستويات العليا الأمنية والسياسية، وترافق كل ذلك بدراسة متأنية وحذرة لردود الفعل وجس نبض المقاومة، فهي أولاً وأخيراً تريد ترسيخ معادلة جديدة لكن في إطار المحافظة على التهدئة، وكانت فصائل المقاومة وفي مقدمتها حركة الجهاد الإسلامي تشكل حالة من القلق واللغز والتهديد لنجاح معادلتها الجديدة، فلم يكن لديهم يقين عن مدى نجاح خطتهم في إلزام هذه الفصائل بضبط وعدم الرد.
لذا لم تُفاجأ "إسرائيل" برد الجهاد لكنها تفاجأت من حجم الرد، ومن جرأة الاستعداد لإطلاق عملية قد تكون مفتوحة يحدد سقفها وعمقها رغبة الاحتلال في امتصاصها أو الرد عليها، الأمر الذي أربك عصابة المهددين في ( تل أبيب) وكشف حقيقة موقفهم ومخاوفهم وجوف تهديداتهم ورغبتهم الشديدة في التمسك بالتهدئة، وهذا ما أكدناه أكثر من مره سابقاً من أن نتنياهو يخشى الحرب على غزة ويهرب منها قدر استطاعته، وهى ليست أولوية لديه، لكنه إذا ما سمحت له فرصه في أن يكون بطلاً بلا ثمن وبلا مخاطر حقيقية فسيسارع لذلك، وإذا ما شخص ضعفاً لدى المقاومة فسيسارع لاستغلاله واستثماره.
سارعت "إسرائيل" لامتصاص عملية "كسر الصمت" عبر تصريح تحليلي استيعابي لنتنياهو يتفهم فيه العملية، حيث قال في أول تعقيب له وعبر منبر الكنيست أنها تأتي للرد على اغتيال نشطاء الجهاد الثلاثة، وعبر مسار المباحثات مع المصريين لتثبيت التهدئة، وعبر رد فعل ضعيف لم يسقط معه أي شهيد، وكان ملفتاً أنها امتنعت عن تنفيذ أي عملية اغتيال، وهي أرادت بذلك إرسال رسائل مهدئة والتعجيل بإنهاء جولة التصعيد.
في "إسرائيل" ثمة من ادعى أن عامل الطقس من غيوم وأمطار أو موعد عيد المساخر هو السبب خلف الموقف "الإسرائيلي" بعدم التصعيد، وبعضهم ذهب أبعد من ذلك وأرجع السبب إلى الضوابط والمعايير القانونية الدولية التي تلتزم بها "إسرائيل"، لكن الجيش "الإسرائيلي" وكما هي العادة لدى كل الجيوش، أراد أن يظهر بمظهر القوي الذي لا زالت يده هي العليا، فنشر بياناً عن قيامه بقصف تسعه وعشرون هدفاً شملت مواقع وأهداف لكل فصائل المقاومة، مع التركيز على أهداف تابعة لحركة الجهاد.
لكن كاتباً واحداً على الأقل اكتشف أن تهديدات نتنياهو بلا رصيد، حيث كتب عاموس هرئيل في "هآرتس" أن باراك كان في الحربين السابقتين ورقة التين لرؤساء الحكومات عندما كان وزيراً للحرب، حيث كان بإمكانهم التهديد بالاجتياح لأنهم كانوا يعتمدون على أن باراك، وهو صاحب القول الفصل في هذا الشأن بصفته وزير الحرب المجرب، سيرفض وسيكتفي بعمليات واسعة لكن في سياق تكتيكي، اليوم لا يوجد لنتنياهو من يعتمد علية كورقة تين، لكنه مع ذلك لا يجد سوى لغة التهديد ليصل إلى "الإسرائيليين".
نجحت حركة الجهاد بعملية "كسر الصمت" في توجيه رسائل تحذير وتهديد للاحتلال من مغبة استمراره في خروقاته للتهدئة، وفي رسم سياسات جديده تبتز المقاومة وتستنزفها، كما أن طبيعة العملية عكست ذكاء وحنكة في إدارة الصراع، تحطيم للصمت وعدم القبول بالاغتيال، وفي نفس الوقت عدم التهور والتصعيد غير المحسوب، وقد سيطرت على لهب المعركة بصورة تثير الإعجاب، وربما في عمليتها "كسر الصمت" كسرت حركة الجهاد حواجز داخلية وفيتو غير معلن، حيث لأول مرة تقود مسؤولية معركة من ألفها إلى يائها وتكون العنوان الوحيد لجهة التفاوض، الأمر الذي يكسبها الكثير من النقاط ويبوئها موقعاً نوعياً أكثر تقدماً بين صفوف المقاومة، وهذا ما ركز عليه الإعلام "الإسرائيلي" في قراءته لمردود نتائج المعركة على حركة الجهاد، حيث كتب الكثير في الأيام الأخيرة عن نجاح حركة الجهاد في أن تشكل رقما صعبا على الساحة الفلسطينية ومن الصعب تجاوزه في المرحلة القادمة .
"إسرائيل" لن تسلم بسهولة بنتائج "كسر الصمت"، كما لن تتخلي عن فرض معادلتها الجديدة إذا ما كان بإمكانها المضي في تطبيقها مستقبلاً، نتوقع أن تلجأ "إسرائيل" في غضون الأسابيع القريبة إلى القيام بتنفيذ اغتيال وأعمال عدوانية محدودة لجس نبض استعداد المقاومة وجاهزيتها للرد، وستمتص الرد في حال وقوعه، وستزيد من وتيرة عدوانها في حال انضباط المقاومة وامتناعها عن الرد.