كتبته أم يحيى بنت محمد ننقله للفائدة ..
بسم الله الرحمن الرحيم
دَحْضِ الدعوات المشبوهة لتنقيح الفقه الإسلامي من "تحقير المرأة"
الحق أبلج والباطل لجلج
انتشرت في الآونة الأخيرة كتابات تستعرض بعض المسائل والأحكام الفقهية التي يروج البعض أنها "تقلل من منزلة الأنثى تحت عباءة الدين ومسمى الشرع"، وأصبحت هذه الكتابات محل جدل ومثار للشكوك في الأنفس. وقد ارتكزت هذه المقولات على إظهار تعارض بعض الأحاديث مع الصورة العامة لمكانة المرأة في الإسلام وعدل الإسلام وإنصافه لجميع البشر؛ مثل بعض الآثار التي تقرن المرأة بالشيطان أو الغراب، وأن الأنثى سبب غواية الرجل ونقصان عقل المرأة ودينها، وخلق المرأة من ضلع أعوج، وأخرى تتحدث عن ضرب الزوجة أو السجود للزوج، وغيرها من الشبهات المثارة دون أن تبين صحة هذه الروايات أو وجه الاستدلال بها.. كما ركزت هذه الكتابات على التفريق بين النصوص الشرعية وما فهمه العلماء (وهم بشر في نهاية المطاف) من هذه النصوص. واختلقوا جدلية ضعف العنصر البشري وإفساده للنصوص، وعمموا أن أبحاث الفقهاء المسلمين مليئة بنماذج لفكر ولغة معادية للمرأة تفسر في إطار موروث شرعي متأثر ببيئة "ذكورية تهمش المرأة" وتستخدم لغة تحقر المرأة، مخالفة لأسلوب القرآن وتكريمه للمرأة كإنسان. مقولات ولقاءات إعلامية وأعمدة يومية يجمعها الهمز واللمز والتشكيك في الفقه الإسلامي عبر التفريق بين النصوص المنسجمة مع نظرة الإسلام للمرأة وأخرى تقلل من شأن المرأة وتحقرها دون التطرق للأسس التي بنيت عليها هذه الأحكام، وتدعي جميع هذه الكتابات محاربة "شرعنة تحقير المرأة" مدعية الدفاع عن الدين ومطالبة بضرورة تنقيحه من أقوال تسيء للإسلام وتشوه صورته.
يثير أصحاب هذه الأقلام المدافعة عن المرأة (الملاحظ أن معظمهم من الذكور العلمانيين) مواضيع يجهلها الأغلبية، مثل عدم إدراج بعض العلماء للعلاج في نفقة الزوجة فلم يلزموا الزوج بعلاج زوجته أو دفع تكاليف مرضها، مستشهدين مثلاً بمقولة ابن قدامة في المغني: (ولا يجب عليه شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب لأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه، كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها). فأثار حفيظتهم هذا التشبيه وتهكموا على ما ورد في المغني كلغة غير منسجمة مع مكتسبات المرأة في مشارف الألفية الثالثة، ولم يذكروا ما أثبته ابن قدامة في نفس الكتاب: (فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم لقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف"، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادماً، ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة). فكانوا أبعد ما يكونون عن الموضوعية والإنصاف، وأنى للمتتبع العادي أن يرجع للمغني وينظر في وجه استدلال ابن قدامة والكثير من الفقهاء لقوله تعالى ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ﴾ حيث لم يعتبروا العلاج من النفقة كونه من الأمور العارضة ومن مسؤولية الراعي أو الإمام بداهة. وكذلك كانت الحال مع ما ذكره الإمام الشافعي "إن كانت النفقة للحبس فهي محبوسة وإن كانت للجماع فالمريض لا يجامع فأسقطت لذلك النفقة"، وقد أوردوا هذا النص مجتزأ مبتوراً دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء شرح معنى الحبس وأن الإسلام العظيم فرض للمرأة النفقة لأنها ملزمة بدورها الأصلي كأم وربة بيت فحبست عن العمل والكسب، وقد قارن وضعها الفقهاء الأجلاء بوضع الخليفة الذي يحبس عن الكسب ليتولى أمر المسلمين. والنص الكامل من درر الإمام الشافعي في كتاب الأم وقد بدأ بتأصيل تشريعي لا يتطرق لسفاسف الأمور بل يتبحر في آيات الأحكام باستنباط وفهم وهبه له العلي القدير ويبدأ النص "قال الشافعي رحمه الله تعالى: فقال بعض الناس ليس على الرجل نفقة امرأته حتى يدخل بها، وإذا غاب عنها وجب على السلطان إن طلبت نفقتها أن يعطيها من ماله، وإن لم يجد له مالا فرض عليه لها نفقة وكانت دينا عليه، وإن لم تطلب ذلك حتى يمضي لها زمان ثم طلبته فرض لها من يوم طلبته ولم يجعل لها نفقة في المدة التي لم تطلب فيها النفقة، وإن عجز عن نفقتها لم يفرق بينهما وعليه نفقتها إذا طلقها ملك رجعتها أو لم يملكها..." (كتب الأم - الخلاف في نفقة المرأة). لم يتطرق الحديث للمرأة أو تحقيرها كما يدعون؛ فالشرع الحنيف أنصف المرأة وأقر لها النفقة بما في ذلك أن يأتي الزوج لها بخادم إن استطاع، بل والأهم من ذلك أنه يحميها بروحه لأن من مات دون عرضه فهو شهيد كما جاء في الحديث الشريف. أيؤمر بأن يموت دونها ويحقرها؟! ثم إن هذا الحكم ليس بملزم لهؤلاء الكتاب، فمن رأى أن فهم العلماء السابقين ضعيف فليتملك أدوات الاجتهاد ليقدم ما لديه ثم بعدها يَقُل "هم رجالٌ ونحن رجال" مبتغياً في ذلك الفهم الأقرب للصواب، لا أن يتهكم ويسرد النصوص مجزأة مبتورة بشكل ظاهر فيه التدليس وحرف النصوص عن سياقها. إن المجتهد في الإسلام يخطئ ويصيب وهو مأجور في الحالتين لأنه بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كما جاء في الحديث الصحيح «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ»، أما من يزايد على الفهم الشرعي فليس له سوى الخزي في الدارين وسينكشف على عيون الأشهاد بإذن الله.
تداولت هذه الأقلام مقولات منتقاة من أمهات كتب الفقه للدلالة على أن الموروث الفقهي الإسلامي يعاني من نظرة ذكورية تهمش المرأة بدلاً من اعتبارها شريك حياة يستحق التقدير والاحترام. وتُنشر هذه المقولات بشكل حذر وتركز على صب النقد على الفقهاء وبعض الروايات مرددة أن أقوال الفقهاء آراء شخصية لا قيمة لها قد تضر ولا تنفع، وهي مختلفة عما قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بهذا تتجاهل تعريف الحكم الشرعي من حيث كونه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وأن أبحاث علماء الفقه أبحاث شرعية مستندة لدليل من الوحي أو ما أرشد إليه الوحي، وغير ذلك لا يلزمنا وليس محل بحث من الأساس.
والعامل المشترك في هذه الكتابات أنها تجعل من بعض الآراء التي يجهلها السواد الأعظم من المسلمين محط نقاش وبحث مستفيدة من ضعف الثقافة الإسلامية في عصرنا الراهن وجهل الناس بهذه الأحكام وأدلتها فسردت الآراء وكأنها حجج قاطعة، وطرحت النقاش في المسائل كآراء اتفق عليها علماء الأمة من مشارق الأرض ومغاربها، وتحول الموضوع من نقاش رأي فقيه بعينه إلى التشنيع على كل الفقهاء والتشكيك في إنصافهم للمرأة، فأصبحت المرأة في بحثهم مناط كل بحث شرعي. كما تجدهم يصبون جل اهتمامهم على شواذ الفقه وما ندر من الأقوال التي تؤخذ مبتورة خارج صياغتها ولا يعنيهم تفسيرها عند صاحبها.. وغيرها من أساليب خبيثة الغرض منها خلق البلبلة والتشكيك.
ونتساءل هنا، هل تكّرم المرأة المسلمة بالنيل من فقهاء الإسلام الذين أصلوا الأصول ونذروا أنفسهم لخدمة العلوم الشرعية سعياً وراء فهم النصوص التي تدلنا على عبادة الله عز وجل وتحقيق الهدف من خلقنا كبشر؟ لست هنا بصدد الدفاع عن أمثال الشافعي وغيره من علمائنا الأفذاذ، ولكن التقليل من شأنهم يعد استهتاراً بقول الله عز وجل ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ولا سبيل لفهم النصوص الشرعية إلا بامتلاك العلوم الشرعية التي تؤهل المرء أو بسؤال أهل العلم، لا من باب الاتباع لأشخاصهم بل من باب الوقوف على خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. هذا التهميش للفقه الإسلامي واتخاذ قضية المرأة مطية بغية حرف المسلمين عن الارتكاز على النص الشرعي من قرآن وسنة صحيحة وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس معتبر لتستبدل المسلمة بهم الاحتكام للهوى والرأي المبني على التشكيك فتقع فريسةً لما هربت منه وتصبح عبدةً لأهواء البشر فتترك الحكم الشرعي لحكم الإنسان الناقص وعبادة الخالق لعبادة المخلوق المحدود.
لم تأتِ هذه الهجمة الإعلامية بشيء جديد بل هي اقتباس مما بات يعرف بفكر "النسوية الإسلامية" أو محاولة التوفيق بين النسوية والإسلام، والاعتماد على المناهج النسوية التحليلية وغربلة العلوم الإسلامية من وجهة نظر المرأة لتنقح على أساس "العدل" والمساواة ولتخلو من أي فكر (تفضيلي) يميز بين الرجل والمرأة، محاربةً فكرة القوامة وولاية أمر الفتاة، هذه النسوية المنسوبة زوراً للإسلام تروج لرؤية قائمة على المساواة وتعتمد على القرآن كنص ثابت محفوظ من تدخل العنصر البشري، وتزعم أن ما طرحه المسلمون من أبحاث فقهية وشرعية متأثر حتماً بما أسموه باللغة الذكورية المعادية للمرأة، وأن هؤلاء العلماء القدماء كل منهم ابن بيئته ومتأثرٌ بما كان عليه ذلك العصر.. إن الإشكالية في هذا الطرح هو تطبيق نظرية النشوء والارتقاء عليها فتطبق فرضية داروينية بأن عصر العلماء المتقدمين هو عصر متأخر في تحقيق مكانة ورفعة للمرأة مادياً وأدبياً، وأن ما تشهده المرأة حالياً في العالم وضع مختلف.. هذه فرضية لا أساس لها من الصحة وتتعارض مع ما كانت عليه المرأة المسلمة في صدر الإسلام من رفعة ورقي، ولا يقبل هكذا مقولة إلا لو بنيت على نظرة مستمدة من أقوال المستشرقين وكتابات الرحالة الغربيين التي أصبحت محط اهتمام الأكاديميين الغربيين لما فيها من مزاعم وأكاذيب مغرضة تتنافى مع أسس البحث العلمي. هذه الفرضية الداروينية مخالفة للواقع، وفي هذا الصدد أكتفي بأن أقول لهذه الأقلام المغرضة انظروا حولكم لتجدوا ما عليه المرأة اليوم عبر العالم من معاناة وهضم لحقوقها، بينما وهب الشرع المرأةَ حقوقها الشرعية كاملة فكانت المرأة أمًّا وربة بيت وعرضاً يجب أن يصان، وكان لها الحق في مشاركة كاملة وفعالة في المجتمع، حظيت بتوقير العلماء لها وقد أخذوا عنها العلوم الشرعية، قال الحافظ الذهبي: "لم يُؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث".. وذكر الشوكاني "لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة..!" يروجون لمقولة أن الفقهاء السابقين أبناء بيئتهم في النظرة الدونية للمرأة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو إذا كان الفقيه الذي عاش في العصر الذهبي للفكر الإسلامي وفي كنف دولة إسلامية نشرت نور الثقافة والتنوير في أرجاء الأرض، حتى أصبح ملوك أوروبا يرسلون بأميراتهم لينهلن من علوم وثقافة المسلمين، إذا كان الفقيه ابن بيئته فكيف بكم وبنتاج فكركم التقليدي الذي تصفون واقعه بالتخلف والرجعية والتبعية على جميع المستويات!!
بالإضافة لذلك فإن ما يطلق عليه النسوية الإسلامية نشأت في إطار نظريات ما بعد الحداثة المتعلقة بالمعرفة وهي مرتبطة بالعلمانية والليبرالية الغربية وفكرة الحريات والمساواة، وتنظر للغة والتاريخ من منظور الذكورة والأنوثة، بينما هذا المعيار لا وزن له في الإسلام لا من وجهة نظر المشرع (تنزه الله عن ذلك) ولا من وجهة نظر الفقيه؛ لأن هذا يعد تغليبًا للهوى. إن نشر هذه النظرة التغريبية للمجتمع لا يهدف إلى مناقشة واقع المرأة ولا إلى المطالبة بحقوقها بل يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث يهدف إلى إعادة صياغة هوية الأمة في عملية تغريب تبعث الروح من جديد في عمل دعاة التجديد في بدايات القرن المنصرم أمثال محمد عبده والأفغاني.
دَحْضِ الدعوات المشبوهة لتنقيح الفقه الإسلامي من "تحقير المرأة"
الحق أبلج والباطل لجلج
انتشرت في الآونة الأخيرة كتابات تستعرض بعض المسائل والأحكام الفقهية التي يروج البعض أنها "تقلل من منزلة الأنثى تحت عباءة الدين ومسمى الشرع"، وأصبحت هذه الكتابات محل جدل ومثار للشكوك في الأنفس. وقد ارتكزت هذه المقولات على إظهار تعارض بعض الأحاديث مع الصورة العامة لمكانة المرأة في الإسلام وعدل الإسلام وإنصافه لجميع البشر؛ مثل بعض الآثار التي تقرن المرأة بالشيطان أو الغراب، وأن الأنثى سبب غواية الرجل ونقصان عقل المرأة ودينها، وخلق المرأة من ضلع أعوج، وأخرى تتحدث عن ضرب الزوجة أو السجود للزوج، وغيرها من الشبهات المثارة دون أن تبين صحة هذه الروايات أو وجه الاستدلال بها.. كما ركزت هذه الكتابات على التفريق بين النصوص الشرعية وما فهمه العلماء (وهم بشر في نهاية المطاف) من هذه النصوص. واختلقوا جدلية ضعف العنصر البشري وإفساده للنصوص، وعمموا أن أبحاث الفقهاء المسلمين مليئة بنماذج لفكر ولغة معادية للمرأة تفسر في إطار موروث شرعي متأثر ببيئة "ذكورية تهمش المرأة" وتستخدم لغة تحقر المرأة، مخالفة لأسلوب القرآن وتكريمه للمرأة كإنسان. مقولات ولقاءات إعلامية وأعمدة يومية يجمعها الهمز واللمز والتشكيك في الفقه الإسلامي عبر التفريق بين النصوص المنسجمة مع نظرة الإسلام للمرأة وأخرى تقلل من شأن المرأة وتحقرها دون التطرق للأسس التي بنيت عليها هذه الأحكام، وتدعي جميع هذه الكتابات محاربة "شرعنة تحقير المرأة" مدعية الدفاع عن الدين ومطالبة بضرورة تنقيحه من أقوال تسيء للإسلام وتشوه صورته.
يثير أصحاب هذه الأقلام المدافعة عن المرأة (الملاحظ أن معظمهم من الذكور العلمانيين) مواضيع يجهلها الأغلبية، مثل عدم إدراج بعض العلماء للعلاج في نفقة الزوجة فلم يلزموا الزوج بعلاج زوجته أو دفع تكاليف مرضها، مستشهدين مثلاً بمقولة ابن قدامة في المغني: (ولا يجب عليه شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب لأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه، كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها). فأثار حفيظتهم هذا التشبيه وتهكموا على ما ورد في المغني كلغة غير منسجمة مع مكتسبات المرأة في مشارف الألفية الثالثة، ولم يذكروا ما أثبته ابن قدامة في نفس الكتاب: (فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار، أو مريضة، وجب لها خادم لقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف"، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادماً، ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة). فكانوا أبعد ما يكونون عن الموضوعية والإنصاف، وأنى للمتتبع العادي أن يرجع للمغني وينظر في وجه استدلال ابن قدامة والكثير من الفقهاء لقوله تعالى ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ ۚ﴾ حيث لم يعتبروا العلاج من النفقة كونه من الأمور العارضة ومن مسؤولية الراعي أو الإمام بداهة. وكذلك كانت الحال مع ما ذكره الإمام الشافعي "إن كانت النفقة للحبس فهي محبوسة وإن كانت للجماع فالمريض لا يجامع فأسقطت لذلك النفقة"، وقد أوردوا هذا النص مجتزأ مبتوراً دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء شرح معنى الحبس وأن الإسلام العظيم فرض للمرأة النفقة لأنها ملزمة بدورها الأصلي كأم وربة بيت فحبست عن العمل والكسب، وقد قارن وضعها الفقهاء الأجلاء بوضع الخليفة الذي يحبس عن الكسب ليتولى أمر المسلمين. والنص الكامل من درر الإمام الشافعي في كتاب الأم وقد بدأ بتأصيل تشريعي لا يتطرق لسفاسف الأمور بل يتبحر في آيات الأحكام باستنباط وفهم وهبه له العلي القدير ويبدأ النص "قال الشافعي رحمه الله تعالى: فقال بعض الناس ليس على الرجل نفقة امرأته حتى يدخل بها، وإذا غاب عنها وجب على السلطان إن طلبت نفقتها أن يعطيها من ماله، وإن لم يجد له مالا فرض عليه لها نفقة وكانت دينا عليه، وإن لم تطلب ذلك حتى يمضي لها زمان ثم طلبته فرض لها من يوم طلبته ولم يجعل لها نفقة في المدة التي لم تطلب فيها النفقة، وإن عجز عن نفقتها لم يفرق بينهما وعليه نفقتها إذا طلقها ملك رجعتها أو لم يملكها..." (كتب الأم - الخلاف في نفقة المرأة). لم يتطرق الحديث للمرأة أو تحقيرها كما يدعون؛ فالشرع الحنيف أنصف المرأة وأقر لها النفقة بما في ذلك أن يأتي الزوج لها بخادم إن استطاع، بل والأهم من ذلك أنه يحميها بروحه لأن من مات دون عرضه فهو شهيد كما جاء في الحديث الشريف. أيؤمر بأن يموت دونها ويحقرها؟! ثم إن هذا الحكم ليس بملزم لهؤلاء الكتاب، فمن رأى أن فهم العلماء السابقين ضعيف فليتملك أدوات الاجتهاد ليقدم ما لديه ثم بعدها يَقُل "هم رجالٌ ونحن رجال" مبتغياً في ذلك الفهم الأقرب للصواب، لا أن يتهكم ويسرد النصوص مجزأة مبتورة بشكل ظاهر فيه التدليس وحرف النصوص عن سياقها. إن المجتهد في الإسلام يخطئ ويصيب وهو مأجور في الحالتين لأنه بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كما جاء في الحديث الصحيح «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ»، أما من يزايد على الفهم الشرعي فليس له سوى الخزي في الدارين وسينكشف على عيون الأشهاد بإذن الله.
تداولت هذه الأقلام مقولات منتقاة من أمهات كتب الفقه للدلالة على أن الموروث الفقهي الإسلامي يعاني من نظرة ذكورية تهمش المرأة بدلاً من اعتبارها شريك حياة يستحق التقدير والاحترام. وتُنشر هذه المقولات بشكل حذر وتركز على صب النقد على الفقهاء وبعض الروايات مرددة أن أقوال الفقهاء آراء شخصية لا قيمة لها قد تضر ولا تنفع، وهي مختلفة عما قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بهذا تتجاهل تعريف الحكم الشرعي من حيث كونه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وأن أبحاث علماء الفقه أبحاث شرعية مستندة لدليل من الوحي أو ما أرشد إليه الوحي، وغير ذلك لا يلزمنا وليس محل بحث من الأساس.
والعامل المشترك في هذه الكتابات أنها تجعل من بعض الآراء التي يجهلها السواد الأعظم من المسلمين محط نقاش وبحث مستفيدة من ضعف الثقافة الإسلامية في عصرنا الراهن وجهل الناس بهذه الأحكام وأدلتها فسردت الآراء وكأنها حجج قاطعة، وطرحت النقاش في المسائل كآراء اتفق عليها علماء الأمة من مشارق الأرض ومغاربها، وتحول الموضوع من نقاش رأي فقيه بعينه إلى التشنيع على كل الفقهاء والتشكيك في إنصافهم للمرأة، فأصبحت المرأة في بحثهم مناط كل بحث شرعي. كما تجدهم يصبون جل اهتمامهم على شواذ الفقه وما ندر من الأقوال التي تؤخذ مبتورة خارج صياغتها ولا يعنيهم تفسيرها عند صاحبها.. وغيرها من أساليب خبيثة الغرض منها خلق البلبلة والتشكيك.
ونتساءل هنا، هل تكّرم المرأة المسلمة بالنيل من فقهاء الإسلام الذين أصلوا الأصول ونذروا أنفسهم لخدمة العلوم الشرعية سعياً وراء فهم النصوص التي تدلنا على عبادة الله عز وجل وتحقيق الهدف من خلقنا كبشر؟ لست هنا بصدد الدفاع عن أمثال الشافعي وغيره من علمائنا الأفذاذ، ولكن التقليل من شأنهم يعد استهتاراً بقول الله عز وجل ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، ولا سبيل لفهم النصوص الشرعية إلا بامتلاك العلوم الشرعية التي تؤهل المرء أو بسؤال أهل العلم، لا من باب الاتباع لأشخاصهم بل من باب الوقوف على خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. هذا التهميش للفقه الإسلامي واتخاذ قضية المرأة مطية بغية حرف المسلمين عن الارتكاز على النص الشرعي من قرآن وسنة صحيحة وما أرشدا إليه من إجماع صحابة وقياس معتبر لتستبدل المسلمة بهم الاحتكام للهوى والرأي المبني على التشكيك فتقع فريسةً لما هربت منه وتصبح عبدةً لأهواء البشر فتترك الحكم الشرعي لحكم الإنسان الناقص وعبادة الخالق لعبادة المخلوق المحدود.
لم تأتِ هذه الهجمة الإعلامية بشيء جديد بل هي اقتباس مما بات يعرف بفكر "النسوية الإسلامية" أو محاولة التوفيق بين النسوية والإسلام، والاعتماد على المناهج النسوية التحليلية وغربلة العلوم الإسلامية من وجهة نظر المرأة لتنقح على أساس "العدل" والمساواة ولتخلو من أي فكر (تفضيلي) يميز بين الرجل والمرأة، محاربةً فكرة القوامة وولاية أمر الفتاة، هذه النسوية المنسوبة زوراً للإسلام تروج لرؤية قائمة على المساواة وتعتمد على القرآن كنص ثابت محفوظ من تدخل العنصر البشري، وتزعم أن ما طرحه المسلمون من أبحاث فقهية وشرعية متأثر حتماً بما أسموه باللغة الذكورية المعادية للمرأة، وأن هؤلاء العلماء القدماء كل منهم ابن بيئته ومتأثرٌ بما كان عليه ذلك العصر.. إن الإشكالية في هذا الطرح هو تطبيق نظرية النشوء والارتقاء عليها فتطبق فرضية داروينية بأن عصر العلماء المتقدمين هو عصر متأخر في تحقيق مكانة ورفعة للمرأة مادياً وأدبياً، وأن ما تشهده المرأة حالياً في العالم وضع مختلف.. هذه فرضية لا أساس لها من الصحة وتتعارض مع ما كانت عليه المرأة المسلمة في صدر الإسلام من رفعة ورقي، ولا يقبل هكذا مقولة إلا لو بنيت على نظرة مستمدة من أقوال المستشرقين وكتابات الرحالة الغربيين التي أصبحت محط اهتمام الأكاديميين الغربيين لما فيها من مزاعم وأكاذيب مغرضة تتنافى مع أسس البحث العلمي. هذه الفرضية الداروينية مخالفة للواقع، وفي هذا الصدد أكتفي بأن أقول لهذه الأقلام المغرضة انظروا حولكم لتجدوا ما عليه المرأة اليوم عبر العالم من معاناة وهضم لحقوقها، بينما وهب الشرع المرأةَ حقوقها الشرعية كاملة فكانت المرأة أمًّا وربة بيت وعرضاً يجب أن يصان، وكان لها الحق في مشاركة كاملة وفعالة في المجتمع، حظيت بتوقير العلماء لها وقد أخذوا عنها العلوم الشرعية، قال الحافظ الذهبي: "لم يُؤثر عن امرأة أنها كذبت في حديث".. وذكر الشوكاني "لم ينقل عن أحد من العلماء بأنه رد خبر امرأة لكونها امرأة..!" يروجون لمقولة أن الفقهاء السابقين أبناء بيئتهم في النظرة الدونية للمرأة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو إذا كان الفقيه الذي عاش في العصر الذهبي للفكر الإسلامي وفي كنف دولة إسلامية نشرت نور الثقافة والتنوير في أرجاء الأرض، حتى أصبح ملوك أوروبا يرسلون بأميراتهم لينهلن من علوم وثقافة المسلمين، إذا كان الفقيه ابن بيئته فكيف بكم وبنتاج فكركم التقليدي الذي تصفون واقعه بالتخلف والرجعية والتبعية على جميع المستويات!!
بالإضافة لذلك فإن ما يطلق عليه النسوية الإسلامية نشأت في إطار نظريات ما بعد الحداثة المتعلقة بالمعرفة وهي مرتبطة بالعلمانية والليبرالية الغربية وفكرة الحريات والمساواة، وتنظر للغة والتاريخ من منظور الذكورة والأنوثة، بينما هذا المعيار لا وزن له في الإسلام لا من وجهة نظر المشرع (تنزه الله عن ذلك) ولا من وجهة نظر الفقيه؛ لأن هذا يعد تغليبًا للهوى. إن نشر هذه النظرة التغريبية للمجتمع لا يهدف إلى مناقشة واقع المرأة ولا إلى المطالبة بحقوقها بل يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث يهدف إلى إعادة صياغة هوية الأمة في عملية تغريب تبعث الروح من جديد في عمل دعاة التجديد في بدايات القرن المنصرم أمثال محمد عبده والأفغاني.