سُنَّةُ اللهِ في المعرضين عن منهجه
حيدر قفه
حيدر قفه
خلق الله الخلق منذ آدم إلى اليوم – وإلى قيام الساعة – على فترات، أجيالاً متتابعة متصلة، وكل فترة يرسل لهم نبياً أو رسولاً بمنهج جديد للحياة، يرتضيه – سبحانه – لهم في زمانهم، فمنهم من قَبِلَهُ وسار عليه فسعد وربح، ومنهم من أعرض عنه فعاقبه الله.
واستمر الأنبياء والرسل على هذه الوتيرة على فترات من التاريخ، والقصة تتكرر مع كل قوم، ومع كل رسول حتى خُتِمَتْ بنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وبالإسلام، المنهج الإلهي الأخير، فلا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا منهجاً إلهياً بعد الإسلام.
إِنَّ سرد القرآن لقصص الأقوام الآخرين مع أنبيائهم ورسلهم ومناهجهم التي جاؤوا بها متوافقة مع عصورهم، ثم ما حدث منهم من مخالفات، ثم ما أصابهم من نكبات؛ دروس للتسرية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولتحذيرنا نحن من الوقوع فيما وقعوا فيه. فهل انتبهنا واتعظنا؟ أم أننا نسير في الخط نفسه الذي ساروا فيه؟ وهل استمرارنا في المخالفة والعصيان سيؤدي إلى استئصالنا كما استؤصلت أمم سابقة؟ أسئلة تجيب عليها هذه المقالة.
سبب الإعراض عن منهج الله:
وقبل أن نمضي في عرض سُنَّةِ الله في المعرضين عن منهجه، يحسُن بنا أن نعرج على أسباب الإعراض، فلماذا يعرض بعض الناس عن المنهج القويم الذي فيه صلاحهم وصلاح أحوالهم؟ وما هي المؤثرات التي تدفعهم إلى هذا الإعراض؟
وعند تتبعنا لأسباب الإعراض كما وردت في القرآن الكريم والسُّنَّةِ النبوية المطهرة، وتتبع مسار التاريخ وحوادثه، وجدنا أنها بارزة في أسباب ثلاثة رئيسية:
الأول: الترف والنعيم:
فإذا شعر المرء بالترف والنعيم مال إلى الدعة، وأخذته الغفلة، واستنام لمتع الحياة، فقصر في جنب الله، بل ربما تطاول، وتنفج وأصابته القُحَّةُ والصلف. قال تعالى: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا (83)}(الإسراء) ، فهذه جِبِلَّةٌ بشرية فطر اللهُ الناسَ عليها، والسعيد من وقى نفسه – بالمجاهدة وتزكية النفس – من حبائل هذا الطبع، لذا تتفاوت أقدار الناس.
الثاني: الجهل والغرور:
فَإِنَّ جهلَ الإنسان بطبيعة الحياة، وسنن الله فيها، من ميلاد، وطفولة، وصبا، وشباب، وكهولة، وشيخوخة، ومن ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف ثم موت، وتعاقب الناس ومصارع الجبارين... جهله بهذا كله يوقعه في التخبط. وبعض هذا الجهل نوع من الغرور بالنفس، فيظن ظانهم أنه لن يأتيه ما أتى مَنْ كان قبله، غفلة وانخداع بالنفس، مع أنه لا يملك يقيناً بذلك من الله، ولذا وصف اللهُ الإنسانَ بصفات منها "الجهل والظلم" قال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}(الأحزاب)
واعتبر الإعراض عن منهج الله من أكبر درجات الظلم، وجاء في الذكر بصيغة سؤال استنكاري: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)}(السجدة).
الثالث: الإحساس بالاستعلاء والقوة، أو الاستغناء والكبر:
وهذه الأحاسيس – مجتمعة أو منفردة- تقود صاحبها إلى الإعراض عن منهج الله. قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)}(العلق) ، ووصف فرعون وقومه بقوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)}(المؤمنون).
مما تقدم، يتبين لنا أن الترف والنعيم، والجهل والغرور، والكِبر والاستعلاء من أسباب الإعراض عن منهج الله.
خطوات عقوبة الإعراض عن منهج الله:
وعندما يُعْرِضُ الناس عن منهج الله، وأقول هنا – الناس – بمعنى الجماعة، أي يكثر فيهم الإعراض حتى يستعلن ويغلب عليهم، ويصبح سمة لهم، ولا عبرة هنا للقلة المؤمنة المستمسكة بمنهج الله، فإن البلاء ينزل على المجموعة كلها – أي المجتمع– فهو يعم الجميع، الأغلبية لأنها عصت وأعرضت، والقلة لأنها سكتت ومالأت أو داهنت أو اعتزلت دون أن تبذل جهداً للتغيير، ثم يُبْعث الجميع على نياتهم، ويكافأ المؤمنون الملتزمون بمنهج الله.
بَيْدَ أَنَّ العقاب الإلهي له خطوات، كل خطوة تنبئ بالتي تليها... ومن خلال دراستنا لهذه السُّنَّة في الأقوام السابقة: قوم نوح، وقوم صالح، وقوم لوط... إلخ هذه الأقوام البائدة، وجدنا هذه الخطوات تسير على الشكل التالي:
أ- يأخذهم بالبأساء والضراء.
ب- ثم يَكِلَهُم للرخاء والنعيم.
ج- ثم يأخذهم بغتة بعذاب بئيس.
ولكل مرحلة من هذه المراحل منطقها وأسبابها والهدف منها.
المرحلة الأولى: يأخذهم بالبأساء والضراء والشدة، كالجوع، والأمراض، والأسقام، والأوبئة، ونقص الغذاء، وقلة الأموال، وعقوق الأبناء، وكراهية الناس لبعضهم بعضاً... إلخ هذه المظاهر. وتتم هذه المظاهر منفردة أو مجتمعة، والقصد منها دفعهم إلى الرجوع إلى الله، بالتضرع إليه، والجأر بالدعاء، والاستغفار، ومقارنة الحال الراهن بالأحوال الأفضل والأحسن... وهكذا.
المرحلة الثانية: يُغْدِقُ عليهم الخيرات، ويكلهم إلى النعيم، فتتسع الأرزاق، وتكثر الأموال، وتصح الأبدان، ويكثر النعيم... وهذا نوع آخر من الابتلاء عند أصحاب البصائر وأولي الألباب كما قال الشاعر:
وما هذا النعيم، وما حالة الرخاء، إلا امتحان وابتلاء من الله ليرى – وهو العليم بهم منذ القدم – هل يشكرون بعد الشدة؟ هل يحمدون بعد الضنك؟ أم يصيبهم الطغيان؟ فمن شكر وأحسن مجاورة نعمة ربه فله وعليه، ومن طغى وتجبر وتكبر، فقد كان النعيم استدراجاً له، ليزداد إثماً، وتقوم الحجة عليه، وقد أساء مجاورة نعم الله، وعَرَّضَهَا للزوال، لا، بل لتحل عليه نقمة الجبار.
المرحلة الثالثة: مرحلة العذاب، فيأخذهم بغتة بعذاب بئيس وهو الاستئصال، حيث أن الشدة والضيق والكرب في الحالة الأولى لم تفتح قلوبهم وتنير عقولهم. والنعيم والرخاء والعيش الرغيد لم تنفع معهم أيضاً، ففي كلتا الحالتين كانوا كالأنعام، بل هم أضل، فؤلئك – إذن – الغافلون عن سنة الله، المتنكبون للصراط، فلم يعد لهم إلا السياط، سياط العذاب الإلهي الذي لا قِبَلَ لهم به، فيأتيهم العذاب – العقاب – المستأصل لشأفتهم. وكل قوم بأسلوب يختاره الله لهم، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
هذه المراحل تتم في الحياة الدنيا، وهذه العقوبات على الأرض، وقد أجملها الله في آيتين اثنتين من سورة الأعراف، حيث يقول تبارك وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)}(الأعراف).
أما في الآخرة، فلهم أيضاً عقاب الله تبارك وتعالى، حيث النار في انتظارهم (الفاسقين والكافرين)، وأما خلودهم فيها فبحسب تصنيفهم في الفسق أو الكفر، حيث لا يستويان، والأمر في النهاية راجع إلى الواحد القهار.
أين نحن من هذا؟
يَذْكُرُ بعض الأحياء من الناس أنه قد مرت على الناس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شدة وبأس من المجاعات، حتى أكل الناس ورق الشجر، ونقعوا الجلود حتى لانت فأكلوها، وخبأوا الذهب في أحشائهم أواخر عهد الدولة العثمانية، وحدثني أخ من الجزيرة العربية أنهم كانوا يحملون على الجمال في قوافل إلى بلاد الشام، فإذا وصلوا ضنوا بالأجرة أن تنفق في الرحلة – لقلتها وحاجة أسرهم لها – فداروا على أهل الخير يلتمسون النفقة، وكان الحاج إذا قدم إلى الديار الحجازية لا يأمن على نفسه من قُطَّاعِ الطرق. ثم جاء الاستعمار فأشاع الرعب، وفُقد الأمن، وشجع الناس على التناحر – فرق تسد – فاستعلن النهب، وسرى الخوف، وانتهكت الأعراض... ومن يقرأ رواية "حوض الموت" للأستاذ سليمان القوابعة، عن منطقة الطَّفِيلةِ في الأردن أواخر عهد الأتراك يرى صوراً من حقيقة الحال التي كان يكابدها الناس في بقعة من بقاع العالم العربي آنذاك.
ثم أصابنا النعيم، فظهر النفط، وتدفقت الأموال، وانتشرت الزروع، وأصبحت الخيرات تُـجْبَى إلينا من كل بقاع الأرض، وقد يجتمع على مائدة الواحد منا أصناف من الطعام جُلِبَتْ من أكثر من دولة، بينها وبيننا الآلاف من الأميال، فهل أَحْسَنَّا جوار نعم الله؟ أم أننا وظفنا هذا النعيم في معصية الله تعالى، ومخالفة منهجه.
السيارات الفارهة التي لا نحسن إلا قيادتها – بل حتى قيادتها لا نحسنها فنظرة إلى حُطام هذه السيارات وكثرته تدل على السَّفَهِ المستشري في أغنيائنا وأبنائهم، الحفلات الراقصة التي يُعصى الله فيها جهاراً، آلات الطرب والغناء الفاحش، الملاهي الليلية حيث تُسْفَحُ الفضيلة وتُغْتَالُ العِفَّةِ، السَّفَرَات الخارجية بقصد الزنا والتفلت من قيم المجتمعات الإسلامية... إلخ... إلخ... إلخ.
حقيقة مرة أننا لم نستفد من هذه النعم بالشكل الأمثل، وإن رأينا بعض الصالحين القائمين على مرضاة الله في أموالهم، فهم من القلة بحيث لا يؤثروا في مسيرة هذه الأمة، فهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.
لم يبق إذن إلا عذاب الله يأتي لهذه الأمة بغتة، كما جاء الأقوام الآخرين، ومن سبقوا في هذا الكون. لكن يبقى السؤال: هل تُسْتَأْصَلُ أُمَّةُ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) كما استُئصلت الأمم من قبلها؟ والجواب: لا، والسؤال الذي يفرض نفسه عندئذ: لماذا؟ والجواب: لسببين هما:
الأول: وجود الاستغفار من القلة المؤمنة، حتى من بعض العصاة، وهذا قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}(الأنفال).
قال ابن عباس (رضي الله عنهما): كان فيهم أمانان: النبيُّ (صلى الله عليه وسلم)، والاستغفارُ، فذهب النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) وبقي الاستغفار (تفسير ابن كثير (سورة الأنفال) 3/311 ).
الثاني: إجابة دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد ورد في صحيح مسلم عن سعد (رضي الله عنه) أَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بمسجد بني معاويةَ (بطن من الأنصار)، وَدَخَلَ فَرَكَعَ فيه ركعتين، وصَلَّيْنَا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثم انصرف فقال: ( سألتُ ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدةً: سألت ربي أن لا يُهْلِكَ أمتي بالسَّنَةِ (الجدب والقحط) ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلك أمتي بالغَرَق، فأعطانيها، وسألتهُ أن لا يَجْعَلَ بأسَهم بينهم، فمنعنيها ).( مشكاة المصابيح 3/125 رقم 5751).
والسنة والغرق نموذجان للاستئصال، وإلا فالمقصود الاستئصال نفسه بأي صنف من العذاب، ولذا أمتنا لم تُسْتَأْصَلْ – رغم إعراضها عن منهج الله –إلا أن العذاب الذي اختاره لها هو التناحر – بأسهم بينهم شديد – وهي الدعوة التي منعها اللهُ من رسولِهِ، أو لم يستجب له فيها، لذا فالأمة في اختلاف، وصراع، وعدم اتفاق، وضعف، وهوان... والشواهد على هذه الحال كثيرة لا تُنْكرها أعين أصحاب البصائر، وما مؤتمرات القمم العربية والإسلامية عنا ببعيد، فما أَجْدَتْ فتيلاً، لأنهم تنكبوا الصراط، وابتعدوا عن العلاج الصحيح، فأنى لهم الصلاح والتوفيق؟!
عن موقع رابطة أدباء الشام
واستمر الأنبياء والرسل على هذه الوتيرة على فترات من التاريخ، والقصة تتكرر مع كل قوم، ومع كل رسول حتى خُتِمَتْ بنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وبالإسلام، المنهج الإلهي الأخير، فلا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولا منهجاً إلهياً بعد الإسلام.
إِنَّ سرد القرآن لقصص الأقوام الآخرين مع أنبيائهم ورسلهم ومناهجهم التي جاؤوا بها متوافقة مع عصورهم، ثم ما حدث منهم من مخالفات، ثم ما أصابهم من نكبات؛ دروس للتسرية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولتحذيرنا نحن من الوقوع فيما وقعوا فيه. فهل انتبهنا واتعظنا؟ أم أننا نسير في الخط نفسه الذي ساروا فيه؟ وهل استمرارنا في المخالفة والعصيان سيؤدي إلى استئصالنا كما استؤصلت أمم سابقة؟ أسئلة تجيب عليها هذه المقالة.
سبب الإعراض عن منهج الله:
وقبل أن نمضي في عرض سُنَّةِ الله في المعرضين عن منهجه، يحسُن بنا أن نعرج على أسباب الإعراض، فلماذا يعرض بعض الناس عن المنهج القويم الذي فيه صلاحهم وصلاح أحوالهم؟ وما هي المؤثرات التي تدفعهم إلى هذا الإعراض؟
وعند تتبعنا لأسباب الإعراض كما وردت في القرآن الكريم والسُّنَّةِ النبوية المطهرة، وتتبع مسار التاريخ وحوادثه، وجدنا أنها بارزة في أسباب ثلاثة رئيسية:
الأول: الترف والنعيم:
فإذا شعر المرء بالترف والنعيم مال إلى الدعة، وأخذته الغفلة، واستنام لمتع الحياة، فقصر في جنب الله، بل ربما تطاول، وتنفج وأصابته القُحَّةُ والصلف. قال تعالى: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا (83)}(الإسراء) ، فهذه جِبِلَّةٌ بشرية فطر اللهُ الناسَ عليها، والسعيد من وقى نفسه – بالمجاهدة وتزكية النفس – من حبائل هذا الطبع، لذا تتفاوت أقدار الناس.
الثاني: الجهل والغرور:
فَإِنَّ جهلَ الإنسان بطبيعة الحياة، وسنن الله فيها، من ميلاد، وطفولة، وصبا، وشباب، وكهولة، وشيخوخة، ومن ضعف إلى قوة ثم إلى ضعف ثم موت، وتعاقب الناس ومصارع الجبارين... جهله بهذا كله يوقعه في التخبط. وبعض هذا الجهل نوع من الغرور بالنفس، فيظن ظانهم أنه لن يأتيه ما أتى مَنْ كان قبله، غفلة وانخداع بالنفس، مع أنه لا يملك يقيناً بذلك من الله، ولذا وصف اللهُ الإنسانَ بصفات منها "الجهل والظلم" قال تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}(الأحزاب)
واعتبر الإعراض عن منهج الله من أكبر درجات الظلم، وجاء في الذكر بصيغة سؤال استنكاري: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)}(السجدة).
الثالث: الإحساس بالاستعلاء والقوة، أو الاستغناء والكبر:
وهذه الأحاسيس – مجتمعة أو منفردة- تقود صاحبها إلى الإعراض عن منهج الله. قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)}(العلق) ، ووصف فرعون وقومه بقوله: { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)}(المؤمنون).
مما تقدم، يتبين لنا أن الترف والنعيم، والجهل والغرور، والكِبر والاستعلاء من أسباب الإعراض عن منهج الله.
خطوات عقوبة الإعراض عن منهج الله:
وعندما يُعْرِضُ الناس عن منهج الله، وأقول هنا – الناس – بمعنى الجماعة، أي يكثر فيهم الإعراض حتى يستعلن ويغلب عليهم، ويصبح سمة لهم، ولا عبرة هنا للقلة المؤمنة المستمسكة بمنهج الله، فإن البلاء ينزل على المجموعة كلها – أي المجتمع– فهو يعم الجميع، الأغلبية لأنها عصت وأعرضت، والقلة لأنها سكتت ومالأت أو داهنت أو اعتزلت دون أن تبذل جهداً للتغيير، ثم يُبْعث الجميع على نياتهم، ويكافأ المؤمنون الملتزمون بمنهج الله.
بَيْدَ أَنَّ العقاب الإلهي له خطوات، كل خطوة تنبئ بالتي تليها... ومن خلال دراستنا لهذه السُّنَّة في الأقوام السابقة: قوم نوح، وقوم صالح، وقوم لوط... إلخ هذه الأقوام البائدة، وجدنا هذه الخطوات تسير على الشكل التالي:
أ- يأخذهم بالبأساء والضراء.
ب- ثم يَكِلَهُم للرخاء والنعيم.
ج- ثم يأخذهم بغتة بعذاب بئيس.
ولكل مرحلة من هذه المراحل منطقها وأسبابها والهدف منها.
المرحلة الأولى: يأخذهم بالبأساء والضراء والشدة، كالجوع، والأمراض، والأسقام، والأوبئة، ونقص الغذاء، وقلة الأموال، وعقوق الأبناء، وكراهية الناس لبعضهم بعضاً... إلخ هذه المظاهر. وتتم هذه المظاهر منفردة أو مجتمعة، والقصد منها دفعهم إلى الرجوع إلى الله، بالتضرع إليه، والجأر بالدعاء، والاستغفار، ومقارنة الحال الراهن بالأحوال الأفضل والأحسن... وهكذا.
المرحلة الثانية: يُغْدِقُ عليهم الخيرات، ويكلهم إلى النعيم، فتتسع الأرزاق، وتكثر الأموال، وتصح الأبدان، ويكثر النعيم... وهذا نوع آخر من الابتلاء عند أصحاب البصائر وأولي الألباب كما قال الشاعر:
قد يُنعم اللهُ البلوى وإن عَظُمِتْ * ويبتلي بعضَ الأقوامِ بالنِّعَمِ
وما هذا النعيم، وما حالة الرخاء، إلا امتحان وابتلاء من الله ليرى – وهو العليم بهم منذ القدم – هل يشكرون بعد الشدة؟ هل يحمدون بعد الضنك؟ أم يصيبهم الطغيان؟ فمن شكر وأحسن مجاورة نعمة ربه فله وعليه، ومن طغى وتجبر وتكبر، فقد كان النعيم استدراجاً له، ليزداد إثماً، وتقوم الحجة عليه، وقد أساء مجاورة نعم الله، وعَرَّضَهَا للزوال، لا، بل لتحل عليه نقمة الجبار.
المرحلة الثالثة: مرحلة العذاب، فيأخذهم بغتة بعذاب بئيس وهو الاستئصال، حيث أن الشدة والضيق والكرب في الحالة الأولى لم تفتح قلوبهم وتنير عقولهم. والنعيم والرخاء والعيش الرغيد لم تنفع معهم أيضاً، ففي كلتا الحالتين كانوا كالأنعام، بل هم أضل، فؤلئك – إذن – الغافلون عن سنة الله، المتنكبون للصراط، فلم يعد لهم إلا السياط، سياط العذاب الإلهي الذي لا قِبَلَ لهم به، فيأتيهم العذاب – العقاب – المستأصل لشأفتهم. وكل قوم بأسلوب يختاره الله لهم، وما يعلم جنود ربك إلا هو.
هذه المراحل تتم في الحياة الدنيا، وهذه العقوبات على الأرض، وقد أجملها الله في آيتين اثنتين من سورة الأعراف، حيث يقول تبارك وتعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95)}(الأعراف).
أما في الآخرة، فلهم أيضاً عقاب الله تبارك وتعالى، حيث النار في انتظارهم (الفاسقين والكافرين)، وأما خلودهم فيها فبحسب تصنيفهم في الفسق أو الكفر، حيث لا يستويان، والأمر في النهاية راجع إلى الواحد القهار.
أين نحن من هذا؟
يَذْكُرُ بعض الأحياء من الناس أنه قد مرت على الناس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شدة وبأس من المجاعات، حتى أكل الناس ورق الشجر، ونقعوا الجلود حتى لانت فأكلوها، وخبأوا الذهب في أحشائهم أواخر عهد الدولة العثمانية، وحدثني أخ من الجزيرة العربية أنهم كانوا يحملون على الجمال في قوافل إلى بلاد الشام، فإذا وصلوا ضنوا بالأجرة أن تنفق في الرحلة – لقلتها وحاجة أسرهم لها – فداروا على أهل الخير يلتمسون النفقة، وكان الحاج إذا قدم إلى الديار الحجازية لا يأمن على نفسه من قُطَّاعِ الطرق. ثم جاء الاستعمار فأشاع الرعب، وفُقد الأمن، وشجع الناس على التناحر – فرق تسد – فاستعلن النهب، وسرى الخوف، وانتهكت الأعراض... ومن يقرأ رواية "حوض الموت" للأستاذ سليمان القوابعة، عن منطقة الطَّفِيلةِ في الأردن أواخر عهد الأتراك يرى صوراً من حقيقة الحال التي كان يكابدها الناس في بقعة من بقاع العالم العربي آنذاك.
ثم أصابنا النعيم، فظهر النفط، وتدفقت الأموال، وانتشرت الزروع، وأصبحت الخيرات تُـجْبَى إلينا من كل بقاع الأرض، وقد يجتمع على مائدة الواحد منا أصناف من الطعام جُلِبَتْ من أكثر من دولة، بينها وبيننا الآلاف من الأميال، فهل أَحْسَنَّا جوار نعم الله؟ أم أننا وظفنا هذا النعيم في معصية الله تعالى، ومخالفة منهجه.
السيارات الفارهة التي لا نحسن إلا قيادتها – بل حتى قيادتها لا نحسنها فنظرة إلى حُطام هذه السيارات وكثرته تدل على السَّفَهِ المستشري في أغنيائنا وأبنائهم، الحفلات الراقصة التي يُعصى الله فيها جهاراً، آلات الطرب والغناء الفاحش، الملاهي الليلية حيث تُسْفَحُ الفضيلة وتُغْتَالُ العِفَّةِ، السَّفَرَات الخارجية بقصد الزنا والتفلت من قيم المجتمعات الإسلامية... إلخ... إلخ... إلخ.
حقيقة مرة أننا لم نستفد من هذه النعم بالشكل الأمثل، وإن رأينا بعض الصالحين القائمين على مرضاة الله في أموالهم، فهم من القلة بحيث لا يؤثروا في مسيرة هذه الأمة، فهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.
لم يبق إذن إلا عذاب الله يأتي لهذه الأمة بغتة، كما جاء الأقوام الآخرين، ومن سبقوا في هذا الكون. لكن يبقى السؤال: هل تُسْتَأْصَلُ أُمَّةُ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) كما استُئصلت الأمم من قبلها؟ والجواب: لا، والسؤال الذي يفرض نفسه عندئذ: لماذا؟ والجواب: لسببين هما:
الأول: وجود الاستغفار من القلة المؤمنة، حتى من بعض العصاة، وهذا قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}(الأنفال).
قال ابن عباس (رضي الله عنهما): كان فيهم أمانان: النبيُّ (صلى الله عليه وسلم)، والاستغفارُ، فذهب النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) وبقي الاستغفار (تفسير ابن كثير (سورة الأنفال) 3/311 ).
الثاني: إجابة دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد ورد في صحيح مسلم عن سعد (رضي الله عنه) أَنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مَرَّ بمسجد بني معاويةَ (بطن من الأنصار)، وَدَخَلَ فَرَكَعَ فيه ركعتين، وصَلَّيْنَا معه، ودعا ربَّه طويلاً، ثم انصرف فقال: ( سألتُ ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدةً: سألت ربي أن لا يُهْلِكَ أمتي بالسَّنَةِ (الجدب والقحط) ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلك أمتي بالغَرَق، فأعطانيها، وسألتهُ أن لا يَجْعَلَ بأسَهم بينهم، فمنعنيها ).( مشكاة المصابيح 3/125 رقم 5751).
والسنة والغرق نموذجان للاستئصال، وإلا فالمقصود الاستئصال نفسه بأي صنف من العذاب، ولذا أمتنا لم تُسْتَأْصَلْ – رغم إعراضها عن منهج الله –إلا أن العذاب الذي اختاره لها هو التناحر – بأسهم بينهم شديد – وهي الدعوة التي منعها اللهُ من رسولِهِ، أو لم يستجب له فيها، لذا فالأمة في اختلاف، وصراع، وعدم اتفاق، وضعف، وهوان... والشواهد على هذه الحال كثيرة لا تُنْكرها أعين أصحاب البصائر، وما مؤتمرات القمم العربية والإسلامية عنا ببعيد، فما أَجْدَتْ فتيلاً، لأنهم تنكبوا الصراط، وابتعدوا عن العلاج الصحيح، فأنى لهم الصلاح والتوفيق؟!
عن موقع رابطة أدباء الشام