أدى الفتح الإسلامي لبلاد فارس (637-651) إلى نهاية الامبراطورية الساسانية وتراجع الديانة المجوسية في فارس. وقد بدأت تلك الفتوحات بغزو المسلمين للعراق عام 11 هـ / 633 م بقيادة خالد بن الوليد، فبقي حتى استكمل فتح العراق بالكامل، ثم انتقل خالد بعد ذلك إلى الجبهة الإسلامية الرومية بالشام لاستكمال الفتوحات، فتعرض المسلمون في العراق لهجوم مضاد من قبل الفرس مما أفقدهم مافتحوه مع خالد بن الوليد. فبدأت الموجة الثانية من الفتوحات تحت قيادة سعد بن أبي وقاص سنة 14 هـ / 636 م، فكان النصر الحاسم في معركة القادسية التي أنهت سيطرة الساسانيين على الجبهة الغربية لفارس. فانتقلت الحدود الطبيعية ما بين الدولة الإسلامية الفتية والفرس من العراق إلى جبال زاجروس. ولكن وبسبب الغارات المستمرة للفرس على العراق، فقد أمر الخليفة عمر بتجريد الجيوش لفتح الإمبراطورية الساسانية بأكملها سنة 21 هـ / 642 م، ولم يمضي عام 23 هـ / 644 م حتى استكمل القضاء على تلك الإمبراطورية وفتح فارس برمتها.
هذا الفتح السريع لبلاد فارس من خلال سلسلة من الهجمات المنسقة تنسيقا جيدا، والتي ادارها عمر من المدينة المنورة على بعد آلاف الأميال من ميادين المعارك في بلاد فارس، كانت له أعظم انتصار، وأكسبته سمعة كأحد أعظم العباقرة الإستراتيجيين والسياسيين في التاريخ[1].
معظم المؤرخين المسلمين قد قالوا بأن المجتمع المدني في بلاد فارس عند بداية الفتوحات الإسلامية كان في حالة تدهور والانحطاط، وبالتالي فإنهم احتضنوا تلك الجيوش العربية الغازية بأذرع مفتوحة. كما أن منجزات الحضارة الفارسية لم تُهمل، فقد تم استيعابها في النظام الإسلامي الجديد.
الفتوحات الإسلامية لفارس
جزء من الفتوحات الإسلامية
خارطة لحدود الدولة الساسانية والرومانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل الفتوح الإسلامية.
التاريخ 633-644
الموقع بلاد الرافدين، القوقاز، فارس، وباكتريا
النتيجة انتصار جيش الخلفاء الراشدين
تغييرات
حدودية خضوع العراق والإمبراطورية الساسانية لحكم المسلمين
المتحاربون
الساسانيون, العرب المسيحيون الخلافة الراشدة
القادة
يزدجرد الثالث رستم فرخزاد
مهباذان
هذيل بن عمران
هرمز
أنوشجان
أندرزاكر
بهمن
بيروزان
جابان
مهران
هرمزان
مردان شاه
بهرام
إزندير
Karinz ibn Karianz
فهمن مردنشاه
جالينوس
برزان
أبوبكر
خالد بن الوليد المثنى بن حارثة عمر بن الخطاب أبو عبيدة سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية التميمي هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو أبو موسى الأشعري عمار بن ياسر النعمان بن مقرن حذيفة بن اليمان المغيرة بن شعبة عثمان بن أبي العاص عاصم بن عمرو الأحنف بن قيس عبد الله بن عامر
بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي
كان نهر الفرات ومنذ بداية القرن الأول الميلادي هو الحد الفاصل ما بين الرومان (البيزنطيون من بعدهم) والبارثانيون (الساسانيون من بعدهم)، وقد كان وبشكل دائم منطقة متنازع عليها. فقد تركزت معظم التحصينات والمعارك التي دارت بينهما بالمناطق الجبلية الشمالية، حيث كانت بادية الشام تفصل ما بينهما في الجنوب. وقد كان الخطر الوحيد المتوقع من الجنوب هو بعض الغزوات من رجال القبائل البدو. وقد حصنت كلا الدولتين نفسيهما من تلك الغزوات القادمة من العرب بإنشاء دويلات شبه مستقلة حليفة لهما على الحدود. فحلفاء البيزنطيون هم الغساسنة، اما المناذرة فقد كانوا حلفاء الفرس. وقد كانوا دائما في حالة احتدام مع بعضهما مما سهل من كونهما تابعين لتلك الإمبراطوريات، وإن لم يغيرا الكثير من توازن القوى بين الروم والفرس. خلال القرنين السادس والسابع الميلادي ظهرت عوامل عدة دمرت توازن تلك القوى والتي تم المحافظة عليها لقرونا عديدة.
تمرد الدويلات العربية الحليفة (602 م)
يعلق الفرس القدماء أهمية كبيرة على الموسيقى والشعر، ولا يزالون إلى الآن. لوحة من القرن السابع ميلادي يصور موسيقيو العصر الساساني.
تحول الغساسنة حلفاء الروم إلى المذهب المسيحي الذي يؤمن الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysite)، مما اعتبرته الكنيسة الأرثوذكسية التابعة للبيزنطيين بأنه هرطقة. فحاول البيزنطيون قمع تلك الهرطقة، بتنفير الغساسنة وإثارة القلاقل على حدودهم الصحراوية. وقد ثار العرب أيضا ضد كسرى الثاني بعد قتله للملك النعمان بن المنذر عام 602 م، فكانت واقعة ذي قار التي انهزم فيها الجيش الفارسي أمام قبائل العرب الموالية للمناذرة. وبعد مقتل كسرى بدأت تلك الإمبراطورية بالتفكك. وقد اعتبر أن ضم مملكة الحيرة إلى الفرس أحد أهم عوامل سقوط الإمبراطورية الساسانية أمام جحافل الجيوش الإسلامية وسهل فتح فارس أمامهم، حيث وافق المناذرة بأن يكونوا جواسيس للمسلمين بعد هزيمتهم في معركة الحيرة أمام خالد بن الوليد[2].
الحروب البيزنطية - الساسانية (612 - 629)
اغتيال كسرى الثاني
كسرى الثاني يستكين لهرقل ملك الروم، مأخوذة من صورة من القرن ال12 على صليب فرنسي.
اغتيل كسرى الثاني عام 628 م فكثر المطالبين بالعرش الساساني، فمن عام 628 حتى 632 حكم فارس عشرة من الملوك والملكات. وكان آخرهم يزدجرد الثالث حفيد كسرى الثاني، وقد قيل أنه مجرد طفل ولكن لم يكن هناك تاريخ معروف لولادته.
فترة حياة النبي محمد
بعد توقيع صلح الحديبية سنة 6 هـ / 628 م، تفرغ الرسول بإرسال الرسائل العديدة إلى مختلف الزعماء من رؤساء القبائل والملوك وكسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الإسلام. وقد حمل تلك الرسائل السفراء إلى الملوك المعنيين في بيزنطة وفارس الحبشة ومصر واليمن والحيرة وكان ذلك في نفس اليوم[3]. وقد قام عبد الله بن حذافة السهمي بنقل رسالة الرسول إلى كسرى، وكان نص الرسالة كالتالي:
" بسم الله الرحمن الرحيم " من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."[4]
وقد كان هناك شبه إجماع من المؤرخين بأن ردة فعل كسرى حول فحوى الرسالة، كانت بتمزيقها بغضب.
صعود الخلافة الإسلامية
بعد وفاة الرسول بالمدينة خلفه أبو بكر بالحكم وأصبح أول خليفة للمسلمين، ولكن مالبث ان ارتدت معظم قبائل العرب عن الإسلام، مما لزم عليه معاقبتها لارتدادهم. فجرت حروب الردة حتى تم عودة جميع تلك القبائل إلى الإسلام خلال سنة 11 هـ، فلم تشرق سنة 12 هجري / 633 م حتى توحدت الجزيرة العربية بأكملها تحت راية واحدة وخليفة يحكمهم بالمدينة. لم يعرف ان كان في نية أبو بكر إرسال الجيوش لفتح البلاد خارج الجزيرة أم لا، إلا أنه يمكن القول بأن الشروع بالفتوحات بدأت في عهده، فتحت صفحة في المسار التاريخي للإسلام جعلت منه خلال فترة قصيرة من الزمن واحدة من أضخم الإمبراطوريات في التاريخ، وبدأت الفتوحات بمواجهة مع الدولة الساسانية تحت قيادة خالد بن الوليد.
فتح العراق
عهد أبو بكر
صورة توضح مسار طريق خالد بن الوليد عند فتحه للعراق.
بعد الانتهاء من حروب الردة، كان المثنى بن حارثة الشيباني يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك أبا بكر، فسأل عنه، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد". ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهدا[5].
عندما بدأ أبوبكر بإرسال الجيوش لغزو العراق. واجهته مشكلة عزوف الناس عن محاربة الفرس، حيث الخوف اللامنطقي الذي استمر في ذاكرة العرب وذلك كنتيجة للهيمنة الفارسية، ونظرة الفرس الدونية لهم. لذا كان من المهم لدى أبوبكر عدم تعريض تلك الجيوش لأية هزيمة، فهذا من شأنه أن يعزز الخوف الغريزي. فعمل نصر حقيقي يتطلب منه أن يفعل تدبيرين في نفس الوقت: عمل جيش يكون بأكمله من المتطوعة وأن يكون تحت قيادة خيرة قادته وهو خالد بن الوليد، ووقتها كان خالد لا يزال في اليمامة بعد نصره الكبير على مسيلمة الكذاب عندما أرسل إليه أبو بكر يأمره بالتوجه إلى العراق، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة السير معه، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع، فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم تعبا وإرهاقا من حرب الردة، فلم يبقى مع خالد سوى ألفين من المسلمين. فطلب تعزيزات من أبوبكر، فأرسل إلى زعماء القبائل القريبة من العراق كالمثنى بن حارثة ومظهور بن عدي وحرملة وغيرهم لمساعدة جيش خالد. وفي محرم من السنة 12 هجري / مارس 633 خرج خالد من اليمامة بجيش تعداده 10,000[6]. وانضم إليه زعماء القبائل بتعزيزات 2,000 لكل منهم، فلم يصل خالد تخوم فارس إلا وتعداد جيشه 18,000 جندي، فأصبحت الحيرة هي هدف خالد.
بعد دخوله العراق بجيشه الذي يقدر ب 18,000 جندي، حارب خالد الفرس في أربع معارك وقد كان النصر حليفه جميعها وهي: معركة ذات السلاسل تمت سنة 12 هـ / 633 م، ثم معركة نهر الدم تمت في صفر من نفس العام، ثم الولجة في أواسط صفر حيث هزمت القوات الفارسية رغم تفوقها العددي بنسخة مطورة عن حيلة الكماشة استخدمها خالد بن الوليد. ثم بعد ذلك معركة أليس أوائل ربيع الأول، فبدأت الساحة الفارسية بالتفكك والسقوط بسبب ظهور المشاكل الداخلية، ثم تلى ذلك سقوط الحيرة التي تعتبر عاصمة للعراق في ذلك الوقت. أعطى خالد جيشه استراحة بعد أن أدرك أن معركة الولجة قد فرضت ضغطا رهيبا على قواته، على الرغم من انتصارهم الساحق على الفرس[7] فقد كانت معركة الولجة أطول[8] وأشرس المعارك التي خاضها المسلمون حتى الآن في العراق، ولذلك سعى خالد بن الوليد إلى ضمان أن تبقى معنويات المسلمين مرتفعة.
ثم بعد ذلك بدأ بالتوجه صوب الأنبار في ربيع الثاني وبدأ في حصارها حتى سقطت بعد عدة أسابيع من الحصار في جمادى الأول، ثم اتجه جنوبا إلى الحامية الفارسية الكبيرة التي كانت في عين التمر الواقعة على الطريق إلى دومة الجندل، وكان يقطنها العرب النصارى الموالين للفرس. وكانت الحامية مؤلفة من قسمين الأول فارسي تحت قيادة القائد الفارسي مهران بن بهرام والثاني عربي من قبائل النمر وتغلب وإياد بقيادة عقة بن أبي عقة. وقد تميزت معركة عين التمر الغريبة بسرعة انتهائها، حيث لاذ العرب النصاري بالفرار قبل أن تبدأ المعركة فعلياً. وبذلك يكون معظم العراق خاصة مناطق الفرات واقعة تحت السيطرة الإسلامية.
تلقى خالد وهو في العراق رسالة من عياض بن غنم، شارحا له الوضع السيء له، حيث أنه شبه محاصر في دومة الجندل من قبيلة كلب وجيشه منهك وطلب منه المساعدة. وقد وصلت هذه الرسالة إلى خالد عندما كان هم بالرحيل من عين التمر باتجاه الحيرة، وكانت الأوضاع في العراق قد استقرت. في اليوم التالي غادر خالد بن الوليد عين التمر على رأس ستة آلاف رجل باتجاه دومة الجندل. وقد هزم خالد بن الوليد تلك القبائل المناوئة وفتح الحصن عنوة في معركة دومة الجندل وكان ذلك في جمادى الآخر سنة 12 هـ الموافق الإسبوع الأخير من أغسطس 633 م. كان خالد أقام بدومة الجندل فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة النصارى فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزَّبرقان وهو نائب خالد عليها، فقاتلهم المسلمون بمكان يقال له الحصيد فهزموهم فلجؤوا إلى مكان يقال له: خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلما استقروا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلاً وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبهوا إلا بغنم مصرعة[9]. ثم كانت وقعة الثنى والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، وكان ذلك في رمضان 12 هـ الموافق نوفمبر 633 م. ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي فاستولدها عمر، ورقية بني علي بن أبي طالب[9].
أنهت تلك الهزائم الساحقة هيمنة الفرس على العراق، وابقت عاصمة دولتهم المدائن من غير حماية قوية ومعرضة لأي هجوم من الجيوش الإسلامية. غير أنهم قد جهزوا جيوشاً تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته. ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان سنة 12 هـ / ديسمبر 633 مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومسيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنمر، ثم ناهدوا خالداً فهزمهم في وقعة الفراض في النصف من ذي القعدة 12 هـ/ يناير 634. وقد كانت آخر معركة له في العراق قبل أن يرسله أبو بكر إلى الشام قائدا عاما لجيوش المسلمين لمحاربة الروم[10].
عهد عمر
سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل: أنه سار بتسعة آلاف، وقيل: بثلاثة آلاف، وقيل: بسبعمائة، وقيل: بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق[9]. فما أن ترك خالد العراق حتى قرر الفرس الهجوم واستعادة ما خسروه من أراض مع خالد. فاضطرت الجيوش الإسلامية بقيادة المثنى في التخلي عن الأراضي التي أخذوها والعودة إلى الحدود الصحراوية والتمركز بها. فذهب إلى المدينة لطلب المساعدة والمدد، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم وشدة قتالهم. ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي. ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيدة[9]. وقد هزم أبوعبيدة أمام الفرس وقتل في معركة الجسر، ولكن المسلمين استطاعوا استلام المبادرة وهزموا الفرس في معركة البويب بقيادة المثنى بن حارثة. في سنة 14 هـ / 635 م رأى يزدجرد الثالث أنه من الأفضل التحالف مع هرقل إمبراطور بيزنطة. فزوج هرقل ابنته ليزدجرد (الابنة الكبرى حسب الأعراف الرومانية لإظهار التحالف). فجهز هرقل جيشا ضخما لاسترداد الشام، وفي نفس الوقت أمر يزدجرد جيوشه كلها بالتمركز لإخراج المسلمين من العراق نهائيا. فكان الهدف هو هجوم منسق من كلا الجبهتين الشامية والعراقية لإبادة جيش المسلمين الذي أرسله عمر. ولكن القدر لم يكن إلى جانبهم[11].
هذا الفتح السريع لبلاد فارس من خلال سلسلة من الهجمات المنسقة تنسيقا جيدا، والتي ادارها عمر من المدينة المنورة على بعد آلاف الأميال من ميادين المعارك في بلاد فارس، كانت له أعظم انتصار، وأكسبته سمعة كأحد أعظم العباقرة الإستراتيجيين والسياسيين في التاريخ[1].
معظم المؤرخين المسلمين قد قالوا بأن المجتمع المدني في بلاد فارس عند بداية الفتوحات الإسلامية كان في حالة تدهور والانحطاط، وبالتالي فإنهم احتضنوا تلك الجيوش العربية الغازية بأذرع مفتوحة. كما أن منجزات الحضارة الفارسية لم تُهمل، فقد تم استيعابها في النظام الإسلامي الجديد.
الفتوحات الإسلامية لفارس
جزء من الفتوحات الإسلامية
خارطة لحدود الدولة الساسانية والرومانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل الفتوح الإسلامية.
التاريخ 633-644
الموقع بلاد الرافدين، القوقاز، فارس، وباكتريا
النتيجة انتصار جيش الخلفاء الراشدين
تغييرات
حدودية خضوع العراق والإمبراطورية الساسانية لحكم المسلمين
المتحاربون
الساسانيون, العرب المسيحيون الخلافة الراشدة
القادة
يزدجرد الثالث رستم فرخزاد
مهباذان
هذيل بن عمران
هرمز
أنوشجان
أندرزاكر
بهمن
بيروزان
جابان
مهران
هرمزان
مردان شاه
بهرام
إزندير
Karinz ibn Karianz
فهمن مردنشاه
جالينوس
برزان
أبوبكر
خالد بن الوليد المثنى بن حارثة عمر بن الخطاب أبو عبيدة سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية التميمي هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو أبو موسى الأشعري عمار بن ياسر النعمان بن مقرن حذيفة بن اليمان المغيرة بن شعبة عثمان بن أبي العاص عاصم بن عمرو الأحنف بن قيس عبد الله بن عامر
بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي
كان نهر الفرات ومنذ بداية القرن الأول الميلادي هو الحد الفاصل ما بين الرومان (البيزنطيون من بعدهم) والبارثانيون (الساسانيون من بعدهم)، وقد كان وبشكل دائم منطقة متنازع عليها. فقد تركزت معظم التحصينات والمعارك التي دارت بينهما بالمناطق الجبلية الشمالية، حيث كانت بادية الشام تفصل ما بينهما في الجنوب. وقد كان الخطر الوحيد المتوقع من الجنوب هو بعض الغزوات من رجال القبائل البدو. وقد حصنت كلا الدولتين نفسيهما من تلك الغزوات القادمة من العرب بإنشاء دويلات شبه مستقلة حليفة لهما على الحدود. فحلفاء البيزنطيون هم الغساسنة، اما المناذرة فقد كانوا حلفاء الفرس. وقد كانوا دائما في حالة احتدام مع بعضهما مما سهل من كونهما تابعين لتلك الإمبراطوريات، وإن لم يغيرا الكثير من توازن القوى بين الروم والفرس. خلال القرنين السادس والسابع الميلادي ظهرت عوامل عدة دمرت توازن تلك القوى والتي تم المحافظة عليها لقرونا عديدة.
تمرد الدويلات العربية الحليفة (602 م)
يعلق الفرس القدماء أهمية كبيرة على الموسيقى والشعر، ولا يزالون إلى الآن. لوحة من القرن السابع ميلادي يصور موسيقيو العصر الساساني.
تحول الغساسنة حلفاء الروم إلى المذهب المسيحي الذي يؤمن الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysite)، مما اعتبرته الكنيسة الأرثوذكسية التابعة للبيزنطيين بأنه هرطقة. فحاول البيزنطيون قمع تلك الهرطقة، بتنفير الغساسنة وإثارة القلاقل على حدودهم الصحراوية. وقد ثار العرب أيضا ضد كسرى الثاني بعد قتله للملك النعمان بن المنذر عام 602 م، فكانت واقعة ذي قار التي انهزم فيها الجيش الفارسي أمام قبائل العرب الموالية للمناذرة. وبعد مقتل كسرى بدأت تلك الإمبراطورية بالتفكك. وقد اعتبر أن ضم مملكة الحيرة إلى الفرس أحد أهم عوامل سقوط الإمبراطورية الساسانية أمام جحافل الجيوش الإسلامية وسهل فتح فارس أمامهم، حيث وافق المناذرة بأن يكونوا جواسيس للمسلمين بعد هزيمتهم في معركة الحيرة أمام خالد بن الوليد[2].
الحروب البيزنطية - الساسانية (612 - 629)
اغتيال كسرى الثاني
كسرى الثاني يستكين لهرقل ملك الروم، مأخوذة من صورة من القرن ال12 على صليب فرنسي.
اغتيل كسرى الثاني عام 628 م فكثر المطالبين بالعرش الساساني، فمن عام 628 حتى 632 حكم فارس عشرة من الملوك والملكات. وكان آخرهم يزدجرد الثالث حفيد كسرى الثاني، وقد قيل أنه مجرد طفل ولكن لم يكن هناك تاريخ معروف لولادته.
فترة حياة النبي محمد
بعد توقيع صلح الحديبية سنة 6 هـ / 628 م، تفرغ الرسول بإرسال الرسائل العديدة إلى مختلف الزعماء من رؤساء القبائل والملوك وكسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الإسلام. وقد حمل تلك الرسائل السفراء إلى الملوك المعنيين في بيزنطة وفارس الحبشة ومصر واليمن والحيرة وكان ذلك في نفس اليوم[3]. وقد قام عبد الله بن حذافة السهمي بنقل رسالة الرسول إلى كسرى، وكان نص الرسالة كالتالي:
" بسم الله الرحمن الرحيم " من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."[4]
وقد كان هناك شبه إجماع من المؤرخين بأن ردة فعل كسرى حول فحوى الرسالة، كانت بتمزيقها بغضب.
صعود الخلافة الإسلامية
بعد وفاة الرسول بالمدينة خلفه أبو بكر بالحكم وأصبح أول خليفة للمسلمين، ولكن مالبث ان ارتدت معظم قبائل العرب عن الإسلام، مما لزم عليه معاقبتها لارتدادهم. فجرت حروب الردة حتى تم عودة جميع تلك القبائل إلى الإسلام خلال سنة 11 هـ، فلم تشرق سنة 12 هجري / 633 م حتى توحدت الجزيرة العربية بأكملها تحت راية واحدة وخليفة يحكمهم بالمدينة. لم يعرف ان كان في نية أبو بكر إرسال الجيوش لفتح البلاد خارج الجزيرة أم لا، إلا أنه يمكن القول بأن الشروع بالفتوحات بدأت في عهده، فتحت صفحة في المسار التاريخي للإسلام جعلت منه خلال فترة قصيرة من الزمن واحدة من أضخم الإمبراطوريات في التاريخ، وبدأت الفتوحات بمواجهة مع الدولة الساسانية تحت قيادة خالد بن الوليد.
فتح العراق
عهد أبو بكر
صورة توضح مسار طريق خالد بن الوليد عند فتحه للعراق.
بعد الانتهاء من حروب الردة، كان المثنى بن حارثة الشيباني يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك أبا بكر، فسأل عنه، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد". ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهدا[5].
عندما بدأ أبوبكر بإرسال الجيوش لغزو العراق. واجهته مشكلة عزوف الناس عن محاربة الفرس، حيث الخوف اللامنطقي الذي استمر في ذاكرة العرب وذلك كنتيجة للهيمنة الفارسية، ونظرة الفرس الدونية لهم. لذا كان من المهم لدى أبوبكر عدم تعريض تلك الجيوش لأية هزيمة، فهذا من شأنه أن يعزز الخوف الغريزي. فعمل نصر حقيقي يتطلب منه أن يفعل تدبيرين في نفس الوقت: عمل جيش يكون بأكمله من المتطوعة وأن يكون تحت قيادة خيرة قادته وهو خالد بن الوليد، ووقتها كان خالد لا يزال في اليمامة بعد نصره الكبير على مسيلمة الكذاب عندما أرسل إليه أبو بكر يأمره بالتوجه إلى العراق، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة السير معه، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع، فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم تعبا وإرهاقا من حرب الردة، فلم يبقى مع خالد سوى ألفين من المسلمين. فطلب تعزيزات من أبوبكر، فأرسل إلى زعماء القبائل القريبة من العراق كالمثنى بن حارثة ومظهور بن عدي وحرملة وغيرهم لمساعدة جيش خالد. وفي محرم من السنة 12 هجري / مارس 633 خرج خالد من اليمامة بجيش تعداده 10,000[6]. وانضم إليه زعماء القبائل بتعزيزات 2,000 لكل منهم، فلم يصل خالد تخوم فارس إلا وتعداد جيشه 18,000 جندي، فأصبحت الحيرة هي هدف خالد.
بعد دخوله العراق بجيشه الذي يقدر ب 18,000 جندي، حارب خالد الفرس في أربع معارك وقد كان النصر حليفه جميعها وهي: معركة ذات السلاسل تمت سنة 12 هـ / 633 م، ثم معركة نهر الدم تمت في صفر من نفس العام، ثم الولجة في أواسط صفر حيث هزمت القوات الفارسية رغم تفوقها العددي بنسخة مطورة عن حيلة الكماشة استخدمها خالد بن الوليد. ثم بعد ذلك معركة أليس أوائل ربيع الأول، فبدأت الساحة الفارسية بالتفكك والسقوط بسبب ظهور المشاكل الداخلية، ثم تلى ذلك سقوط الحيرة التي تعتبر عاصمة للعراق في ذلك الوقت. أعطى خالد جيشه استراحة بعد أن أدرك أن معركة الولجة قد فرضت ضغطا رهيبا على قواته، على الرغم من انتصارهم الساحق على الفرس[7] فقد كانت معركة الولجة أطول[8] وأشرس المعارك التي خاضها المسلمون حتى الآن في العراق، ولذلك سعى خالد بن الوليد إلى ضمان أن تبقى معنويات المسلمين مرتفعة.
ثم بعد ذلك بدأ بالتوجه صوب الأنبار في ربيع الثاني وبدأ في حصارها حتى سقطت بعد عدة أسابيع من الحصار في جمادى الأول، ثم اتجه جنوبا إلى الحامية الفارسية الكبيرة التي كانت في عين التمر الواقعة على الطريق إلى دومة الجندل، وكان يقطنها العرب النصارى الموالين للفرس. وكانت الحامية مؤلفة من قسمين الأول فارسي تحت قيادة القائد الفارسي مهران بن بهرام والثاني عربي من قبائل النمر وتغلب وإياد بقيادة عقة بن أبي عقة. وقد تميزت معركة عين التمر الغريبة بسرعة انتهائها، حيث لاذ العرب النصاري بالفرار قبل أن تبدأ المعركة فعلياً. وبذلك يكون معظم العراق خاصة مناطق الفرات واقعة تحت السيطرة الإسلامية.
تلقى خالد وهو في العراق رسالة من عياض بن غنم، شارحا له الوضع السيء له، حيث أنه شبه محاصر في دومة الجندل من قبيلة كلب وجيشه منهك وطلب منه المساعدة. وقد وصلت هذه الرسالة إلى خالد عندما كان هم بالرحيل من عين التمر باتجاه الحيرة، وكانت الأوضاع في العراق قد استقرت. في اليوم التالي غادر خالد بن الوليد عين التمر على رأس ستة آلاف رجل باتجاه دومة الجندل. وقد هزم خالد بن الوليد تلك القبائل المناوئة وفتح الحصن عنوة في معركة دومة الجندل وكان ذلك في جمادى الآخر سنة 12 هـ الموافق الإسبوع الأخير من أغسطس 633 م. كان خالد أقام بدومة الجندل فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة النصارى فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزَّبرقان وهو نائب خالد عليها، فقاتلهم المسلمون بمكان يقال له الحصيد فهزموهم فلجؤوا إلى مكان يقال له: خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلما استقروا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلاً وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبهوا إلا بغنم مصرعة[9]. ثم كانت وقعة الثنى والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، وكان ذلك في رمضان 12 هـ الموافق نوفمبر 633 م. ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي فاستولدها عمر، ورقية بني علي بن أبي طالب[9].
أنهت تلك الهزائم الساحقة هيمنة الفرس على العراق، وابقت عاصمة دولتهم المدائن من غير حماية قوية ومعرضة لأي هجوم من الجيوش الإسلامية. غير أنهم قد جهزوا جيوشاً تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته. ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان سنة 12 هـ / ديسمبر 633 مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومسيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنمر، ثم ناهدوا خالداً فهزمهم في وقعة الفراض في النصف من ذي القعدة 12 هـ/ يناير 634. وقد كانت آخر معركة له في العراق قبل أن يرسله أبو بكر إلى الشام قائدا عاما لجيوش المسلمين لمحاربة الروم[10].
عهد عمر
سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل: أنه سار بتسعة آلاف، وقيل: بثلاثة آلاف، وقيل: بسبعمائة، وقيل: بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق[9]. فما أن ترك خالد العراق حتى قرر الفرس الهجوم واستعادة ما خسروه من أراض مع خالد. فاضطرت الجيوش الإسلامية بقيادة المثنى في التخلي عن الأراضي التي أخذوها والعودة إلى الحدود الصحراوية والتمركز بها. فذهب إلى المدينة لطلب المساعدة والمدد، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم وشدة قتالهم. ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي. ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيدة[9]. وقد هزم أبوعبيدة أمام الفرس وقتل في معركة الجسر، ولكن المسلمين استطاعوا استلام المبادرة وهزموا الفرس في معركة البويب بقيادة المثنى بن حارثة. في سنة 14 هـ / 635 م رأى يزدجرد الثالث أنه من الأفضل التحالف مع هرقل إمبراطور بيزنطة. فزوج هرقل ابنته ليزدجرد (الابنة الكبرى حسب الأعراف الرومانية لإظهار التحالف). فجهز هرقل جيشا ضخما لاسترداد الشام، وفي نفس الوقت أمر يزدجرد جيوشه كلها بالتمركز لإخراج المسلمين من العراق نهائيا. فكان الهدف هو هجوم منسق من كلا الجبهتين الشامية والعراقية لإبادة جيش المسلمين الذي أرسله عمر. ولكن القدر لم يكن إلى جانبهم[11].