الفتح الاسلامي لفارس

TridenT111

صقور الدفاع
إنضم
19 أبريل 2013
المشاركات
5,917
التفاعل
11,295 8 0
الدولة
Kuwait
أدى الفتح الإسلامي لبلاد فارس (637-651) إلى نهاية الامبراطورية الساسانية وتراجع الديانة المجوسية في فارس. وقد بدأت تلك الفتوحات بغزو المسلمين للعراق عام 11 هـ / 633 م بقيادة خالد بن الوليد، فبقي حتى استكمل فتح العراق بالكامل، ثم انتقل خالد بعد ذلك إلى الجبهة الإسلامية الرومية بالشام لاستكمال الفتوحات، فتعرض المسلمون في العراق لهجوم مضاد من قبل الفرس مما أفقدهم مافتحوه مع خالد بن الوليد. فبدأت الموجة الثانية من الفتوحات تحت قيادة سعد بن أبي وقاص سنة 14 هـ / 636 م، فكان النصر الحاسم في معركة القادسية التي أنهت سيطرة الساسانيين على الجبهة الغربية لفارس. فانتقلت الحدود الطبيعية ما بين الدولة الإسلامية الفتية والفرس من العراق إلى جبال زاجروس. ولكن وبسبب الغارات المستمرة للفرس على العراق، فقد أمر الخليفة عمر بتجريد الجيوش لفتح الإمبراطورية الساسانية بأكملها سنة 21 هـ / 642 م، ولم يمضي عام 23 هـ / 644 م حتى استكمل القضاء على تلك الإمبراطورية وفتح فارس برمتها.

هذا الفتح السريع لبلاد فارس من خلال سلسلة من الهجمات المنسقة تنسيقا جيدا، والتي ادارها عمر من المدينة المنورة على بعد آلاف الأميال من ميادين المعارك في بلاد فارس، كانت له أعظم انتصار، وأكسبته سمعة كأحد أعظم العباقرة الإستراتيجيين والسياسيين في التاريخ[1].

معظم المؤرخين المسلمين قد قالوا بأن المجتمع المدني في بلاد فارس عند بداية الفتوحات الإسلامية كان في حالة تدهور والانحطاط، وبالتالي فإنهم احتضنوا تلك الجيوش العربية الغازية بأذرع مفتوحة. كما أن منجزات الحضارة الفارسية لم تُهمل، فقد تم استيعابها في النظام الإسلامي الجديد.






الفتوحات الإسلامية لفارس
جزء من الفتوحات الإسلامية

خارطة لحدود الدولة الساسانية والرومانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قبل الفتوح الإسلامية.

التاريخ 633-644
الموقع بلاد الرافدين، القوقاز، فارس، وباكتريا
النتيجة انتصار جيش الخلفاء الراشدين
تغييرات
حدودية خضوع العراق والإمبراطورية الساسانية لحكم المسلمين
المتحاربون
الساسانيون, العرب المسيحيون الخلافة الراشدة
القادة
يزدجرد الثالث رستم فرخزاد
مهباذان
هذيل بن عمران
هرمز
أنوشجان
أندرزاكر
بهمن
بيروزان
جابان
مهران
هرمزان
مردان شاه
بهرام
إزندير
Karinz ibn Karianz
فهمن مردنشاه
جالينوس
برزان
أبوبكر
خالد بن الوليد المثنى بن حارثة عمر بن الخطاب أبو عبيدة سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية التميمي هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو أبو موسى الأشعري عمار بن ياسر النعمان بن مقرن حذيفة بن اليمان المغيرة بن شعبة عثمان بن أبي العاص عاصم بن عمرو الأحنف بن قيس عبد الله بن عامر


















بلاد فارس قبل الفتح الإسلامي
كان نهر الفرات ومنذ بداية القرن الأول الميلادي هو الحد الفاصل ما بين الرومان (البيزنطيون من بعدهم) والبارثانيون (الساسانيون من بعدهم)، وقد كان وبشكل دائم منطقة متنازع عليها. فقد تركزت معظم التحصينات والمعارك التي دارت بينهما بالمناطق الجبلية الشمالية، حيث كانت بادية الشام تفصل ما بينهما في الجنوب. وقد كان الخطر الوحيد المتوقع من الجنوب هو بعض الغزوات من رجال القبائل البدو. وقد حصنت كلا الدولتين نفسيهما من تلك الغزوات القادمة من العرب بإنشاء دويلات شبه مستقلة حليفة لهما على الحدود. فحلفاء البيزنطيون هم الغساسنة، اما المناذرة فقد كانوا حلفاء الفرس. وقد كانوا دائما في حالة احتدام مع بعضهما مما سهل من كونهما تابعين لتلك الإمبراطوريات، وإن لم يغيرا الكثير من توازن القوى بين الروم والفرس. خلال القرنين السادس والسابع الميلادي ظهرت عوامل عدة دمرت توازن تلك القوى والتي تم المحافظة عليها لقرونا عديدة.

تمرد الدويلات العربية الحليفة (602 م)


يعلق الفرس القدماء أهمية كبيرة على الموسيقى والشعر، ولا يزالون إلى الآن. لوحة من القرن السابع ميلادي يصور موسيقيو العصر الساساني.
تحول الغساسنة حلفاء الروم إلى المذهب المسيحي الذي يؤمن الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysite)، مما اعتبرته الكنيسة الأرثوذكسية التابعة للبيزنطيين بأنه هرطقة. فحاول البيزنطيون قمع تلك الهرطقة، بتنفير الغساسنة وإثارة القلاقل على حدودهم الصحراوية. وقد ثار العرب أيضا ضد كسرى الثاني بعد قتله للملك النعمان بن المنذر عام 602 م، فكانت واقعة ذي قار التي انهزم فيها الجيش الفارسي أمام قبائل العرب الموالية للمناذرة. وبعد مقتل كسرى بدأت تلك الإمبراطورية بالتفكك. وقد اعتبر أن ضم مملكة الحيرة إلى الفرس أحد أهم عوامل سقوط الإمبراطورية الساسانية أمام جحافل الجيوش الإسلامية وسهل فتح فارس أمامهم، حيث وافق المناذرة بأن يكونوا جواسيس للمسلمين بعد هزيمتهم في معركة الحيرة أمام خالد بن الوليد[2].

الحروب البيزنطية - الساسانية (612 - 629)

  • 18px-Crystal_Clear_app_kdict.png
     طالع أيضًا: الحرب الأخيرة بين الروم والفرس
بعد استئصال كسرى برويز لثورة بهرام جوبين التي كادت أن تودي بحكمه، وجه طاقته إلى خارج الحدود أي باتجاه العدو التقليدي أي البيزنطيون، وقد تمكن من احراز نصر عظيم خلال سنوات قليلة (612 إلى 622) على الروم وتمكن من توسيع حدود مملكته إلى ماكانت عليه زمن الأخمينيون واستولى على مدن أنطاكية ودمشق والإسكندرية والقدس. لكن البيزنطيون اعادوا تجميع قواهم بقيادة هرقل، وبدؤوا باستعادة زمام السيطرة بدءا من سنة 622، وتوالت انتصاراتهم حتى تمكنوا من هزيمة جيش كسرى في معركة نينوى الفاصلة سنة 627 م، وصار قريباً من المدائن. وعندها رآى شيرويه بن كسرى أن من الأفضل أن يعقد الصلح مع هرقل. وبمقتضاه استردت بيزنطة كل ما كان لها من البلاد التي كانت تحت أيديهم قبل سنة 602 م والتي سقطت في أيدي الفرس، بما في ذلك أملاكهم في الرافدين وبلاد الجزيرة الفراتية والشام ومصر.

اغتيال كسرى الثاني


كسرى الثاني يستكين لهرقل ملك الروم، مأخوذة من صورة من القرن ال12 على صليب فرنسي.
اغتيل كسرى الثاني عام 628 م فكثر المطالبين بالعرش الساساني، فمن عام 628 حتى 632 حكم فارس عشرة من الملوك والملكات. وكان آخرهم يزدجرد الثالث حفيد كسرى الثاني، وقد قيل أنه مجرد طفل ولكن لم يكن هناك تاريخ معروف لولادته.

فترة حياة النبي محمد
بعد توقيع صلح الحديبية سنة 6 هـ / 628 م، تفرغ الرسول بإرسال الرسائل العديدة إلى مختلف الزعماء من رؤساء القبائل والملوك وكسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الإسلام. وقد حمل تلك الرسائل السفراء إلى الملوك المعنيين في بيزنطة وفارس الحبشة ومصر واليمن والحيرة وكان ذلك في نفس اليوم[3]. وقد قام عبد الله بن حذافة السهمي بنقل رسالة الرسول إلى كسرى، وكان نص الرسالة كالتالي:

" بسم الله الرحمن الرحيم " من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."[4]

وقد كان هناك شبه إجماع من المؤرخين بأن ردة فعل كسرى حول فحوى الرسالة، كانت بتمزيقها بغضب.




















صعود الخلافة الإسلامية
بعد وفاة الرسول بالمدينة خلفه أبو بكر بالحكم وأصبح أول خليفة للمسلمين، ولكن مالبث ان ارتدت معظم قبائل العرب عن الإسلام، مما لزم عليه معاقبتها لارتدادهم. فجرت حروب الردة حتى تم عودة جميع تلك القبائل إلى الإسلام خلال سنة 11 هـ، فلم تشرق سنة 12 هجري / 633 م حتى توحدت الجزيرة العربية بأكملها تحت راية واحدة وخليفة يحكمهم بالمدينة. لم يعرف ان كان في نية أبو بكر إرسال الجيوش لفتح البلاد خارج الجزيرة أم لا، إلا أنه يمكن القول بأن الشروع بالفتوحات بدأت في عهده، فتحت صفحة في المسار التاريخي للإسلام جعلت منه خلال فترة قصيرة من الزمن واحدة من أضخم الإمبراطوريات في التاريخ، وبدأت الفتوحات بمواجهة مع الدولة الساسانية تحت قيادة خالد بن الوليد.

فتح العراق
عهد أبو بكر


صورة توضح مسار طريق خالد بن الوليد عند فتحه للعراق.
بعد الانتهاء من حروب الردة، كان المثنى بن حارثة الشيباني يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك أبا بكر، فسأل عنه، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد". ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهدا[5].

عندما بدأ أبوبكر بإرسال الجيوش لغزو العراق. واجهته مشكلة عزوف الناس عن محاربة الفرس، حيث الخوف اللامنطقي الذي استمر في ذاكرة العرب وذلك كنتيجة للهيمنة الفارسية، ونظرة الفرس الدونية لهم. لذا كان من المهم لدى أبوبكر عدم تعريض تلك الجيوش لأية هزيمة، فهذا من شأنه أن يعزز الخوف الغريزي. فعمل نصر حقيقي يتطلب منه أن يفعل تدبيرين في نفس الوقت: عمل جيش يكون بأكمله من المتطوعة وأن يكون تحت قيادة خيرة قادته وهو خالد بن الوليد، ووقتها كان خالد لا يزال في اليمامة بعد نصره الكبير على مسيلمة الكذاب عندما أرسل إليه أبو بكر يأمره بالتوجه إلى العراق، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة السير معه، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع، فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم تعبا وإرهاقا من حرب الردة، فلم يبقى مع خالد سوى ألفين من المسلمين. فطلب تعزيزات من أبوبكر، فأرسل إلى زعماء القبائل القريبة من العراق كالمثنى بن حارثة ومظهور بن عدي وحرملة وغيرهم لمساعدة جيش خالد. وفي محرم من السنة 12 هجري / مارس 633 خرج خالد من اليمامة بجيش تعداده 10,000[6]. وانضم إليه زعماء القبائل بتعزيزات 2,000 لكل منهم، فلم يصل خالد تخوم فارس إلا وتعداد جيشه 18,000 جندي، فأصبحت الحيرة هي هدف خالد.

بعد دخوله العراق بجيشه الذي يقدر ب 18,000 جندي، حارب خالد الفرس في أربع معارك وقد كان النصر حليفه جميعها وهي: معركة ذات السلاسل تمت سنة 12 هـ / 633 م، ثم معركة نهر الدم تمت في صفر من نفس العام، ثم الولجة في أواسط صفر حيث هزمت القوات الفارسية رغم تفوقها العددي بنسخة مطورة عن حيلة الكماشة استخدمها خالد بن الوليد. ثم بعد ذلك معركة أليس أوائل ربيع الأول، فبدأت الساحة الفارسية بالتفكك والسقوط بسبب ظهور المشاكل الداخلية، ثم تلى ذلك سقوط الحيرة التي تعتبر عاصمة للعراق في ذلك الوقت. أعطى خالد جيشه استراحة بعد أن أدرك أن معركة الولجة قد فرضت ضغطا رهيبا على قواته، على الرغم من انتصارهم الساحق على الفرس[7] فقد كانت معركة الولجة أطول[8] وأشرس المعارك التي خاضها المسلمون حتى الآن في العراق، ولذلك سعى خالد بن الوليد إلى ضمان أن تبقى معنويات المسلمين مرتفعة.

ثم بعد ذلك بدأ بالتوجه صوب الأنبار في ربيع الثاني وبدأ في حصارها حتى سقطت بعد عدة أسابيع من الحصار في جمادى الأول، ثم اتجه جنوبا إلى الحامية الفارسية الكبيرة التي كانت في عين التمر الواقعة على الطريق إلى دومة الجندل، وكان يقطنها العرب النصارى الموالين للفرس. وكانت الحامية مؤلفة من قسمين الأول فارسي تحت قيادة القائد الفارسي مهران بن بهرام والثاني عربي من قبائل النمر وتغلب وإياد بقيادة عقة بن أبي عقة. وقد تميزت معركة عين التمر الغريبة بسرعة انتهائها، حيث لاذ العرب النصاري بالفرار قبل أن تبدأ المعركة فعلياً. وبذلك يكون معظم العراق خاصة مناطق الفرات واقعة تحت السيطرة الإسلامية.

تلقى خالد وهو في العراق رسالة من عياض بن غنم، شارحا له الوضع السيء له، حيث أنه شبه محاصر في دومة الجندل من قبيلة كلب وجيشه منهك وطلب منه المساعدة. وقد وصلت هذه الرسالة إلى خالد عندما كان هم بالرحيل من عين التمر باتجاه الحيرة، وكانت الأوضاع في العراق قد استقرت. في اليوم التالي غادر خالد بن الوليد عين التمر على رأس ستة آلاف رجل باتجاه دومة الجندل. وقد هزم خالد بن الوليد تلك القبائل المناوئة وفتح الحصن عنوة في معركة دومة الجندل وكان ذلك في جمادى الآخر سنة 12 هـ الموافق الإسبوع الأخير من أغسطس 633 م. كان خالد أقام بدومة الجندل فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة النصارى فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزَّبرقان وهو نائب خالد عليها، فقاتلهم المسلمون بمكان يقال له الحصيد فهزموهم فلجؤوا إلى مكان يقال له‏:‏ خنافس فسار إليهم أبو ليلى ابن فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المضيح، فلما استقروا بها بمن معهم من الأعاجم والأعارب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق وأغار عليهم ليلاً وهم نائمون، فأنامهم ولم يفلت منهم إلا اليسير، فما شبهوا إلا بغنم مصرعة[9]‏.‏ ثم كانت وقعة الثنى والزميل، وقد بيتوهم فقتلوا من كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر، وكان ذلك في رمضان 12 هـ الموافق نوفمبر 633 م. ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبي إلى الصديق، وقد اشترى علي ابن أبي طالب من هذا السبي جارية من العرب وهي ابنة ربيعة بن بجير التغلبي فاستولدها عمر، ورقية بني علي بن أبي طالب[9].

أنهت تلك الهزائم الساحقة هيمنة الفرس على العراق، وابقت عاصمة دولتهم المدائن من غير حماية قوية ومعرضة لأي هجوم من الجيوش الإسلامية. غير أنهم قد جهزوا جيوشاً تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته‏. ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفراض وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهر رمضان سنة 12 هـ / ديسمبر 633 مفطراً لشغله بالأعداء، ولما بلغ الروم أمر خالد ومسيره إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعاً كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنمر، ثم ناهدوا خالداً فهزمهم في وقعة الفراض في النصف من ذي القعدة 12 هـ/ يناير 634.‏ وقد كانت آخر معركة له في العراق قبل أن يرسله أبو بكر إلى الشام قائدا عاما لجيوش المسلمين لمحاربة الروم[10].




















عهد عمر
سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل‏:‏ أنه سار بتسعة آلاف، وقيل‏:‏ بثلاثة آلاف، وقيل‏:‏ بسبعمائة، وقيل‏:‏ بأقل إلا أنهم صناديد جيش العراق[9]‏.‏ فما أن ترك خالد العراق حتى قرر الفرس الهجوم واستعادة ما خسروه من أراض مع خالد. فاضطرت الجيوش الإسلامية بقيادة المثنى في التخلي عن الأراضي التي أخذوها والعودة إلى الحدود الصحراوية والتمركز بها. فذهب إلى المدينة لطلب المساعدة والمدد، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحد لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم وشدة قتالهم‏.‏ ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد، وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن وأخبرهم بما فتح الله على يد خالد من معظم أرض العراق، ومالهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي‏.‏ ثم تتابع الناس في الإجابة، أمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمر على الجميع أبا عبيدة[9]‏. وقد هزم أبوعبيدة أمام الفرس وقتل في معركة الجسر، ولكن المسلمين استطاعوا استلام المبادرة وهزموا الفرس في معركة البويب بقيادة المثنى بن حارثة. في سنة 14 هـ / 635 م رأى يزدجرد الثالث أنه من الأفضل التحالف مع هرقل إمبراطور بيزنطة. فزوج هرقل ابنته ليزدجرد (الابنة الكبرى حسب الأعراف الرومانية لإظهار التحالف). فجهز هرقل جيشا ضخما لاسترداد الشام، وفي نفس الوقت أمر يزدجرد جيوشه كلها بالتمركز لإخراج المسلمين من العراق نهائيا. فكان الهدف هو هجوم منسق من كلا الجبهتين الشامية والعراقية لإبادة جيش المسلمين الذي أرسله عمر. ولكن القدر لم يكن إلى جانبهم[11].
 
معركة القادسية



أمر الخليفة عمر الجيوش الإسلامية بالرجوع إلى المناطق الصحراوية الحدودية مع العراق والبدء في إعادة تشكيل الجيوش لمواجهة الحملة الفارسية المضادة. حيث يجب عليهم إعادة فتح العراق من جديد بسبب فقدانهم جميع فتوحاتهم فيها. فأعلن النفير العام للمسلمين أن يدركوا المسلمين في العراق واجتمع الناس بالمدينة المنورة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق والناس لايدرون مايريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه فقرروا أن يبعث على رأس الجيش رجلاً من أصحاب الرسول ويقيم هو ولا يخرج واستشارهم في من يقود الجيش فأشير إليه بسعد بن أبي وقاص، فسلم عمر قيادة جيوش العراق إليه فخرج في ربيع الأول 15 هـ / مايو 636 م، وخيم في القادسية في ربيع الآخر، وفي أثناء ذلك توفي المثنى بن حارثة من جراحة أصيب بها في السابق. فترحم سعد ومن معه على المثنى واوصى باهل بيته خيرا ثم تزوج سعد سلمى زوجة المثنى‏.‏ وكان معه تسعة وتسعون بدريا وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك وثلاثمائة ممن شهد الفتح وسبعمائة من أبناء الصحابة‏[12].‏

في تلك الفترة بدأ هرقل بالهجوم على المسلمين في الشام، لكن يزدجرد وبسبب الظروف الصعبة في البيت المالك لم يتمكن من التنسيق مع هرقل في هجومه ضد المسلمين ولم تكن لديه خطة واضحة المعالم تجاههم. أما عمر فبعد أن وصلته معلومات عن هذا التحالف فقد وضع خطته الخاصة. وبما أن المعركة مع البيزنطيين قد صارت وشيكة، فقد فضل عمر أن لا يجازف بجيشه في معارك ضخمة مع قوتين عظيمتين في نفس الوقت؛ فإن هزم في إحدى الجبهتين فقد يسبب له الشلل عن الرد في اللحظة الحاسمة. لذا فقد فضل إنهاء الأمر مع البيزنطيين أولا، فبدأ بإرسال ستة آلاف رجل في مجموعات صغيرة كتعزيزات إلى جيشه الموجود في اليرموك، وقد فعل ذلك لكي يعطي الانطباع بأن التعزيزات لن تنقطع عن جيوشه. في الوقت نفسه حاول عمر تعطيل يزدجرد الثالث وذلك بجعل سعد يدخل معهم في مفاوضات كمحاولة لادخالهم الإسلام. وكان هرقل قد أعطى الأوامر لقائده ماهان بأن لايدخل في حرب مع المسلمين إلا بعد أن يأمره هو بذلك. لكن الخوف من تواصل المدد من المدينة، لم يعط للبيزنطيين أي خيار سوى الهجوم على المسلمين حتى لاتزداد قوتهم، فكانت معركة اليرموك -وحصلت قبل معركة القادسية بثلاث أشهر- والتي قضت على النفوذ البيزنطي في الشام وإلى الأبد. ومع ذلك، واصل يزدجرد الثالث لتنفيذ خطته الهجومية والتمركز بجيوشه بالقرب من العاصمة المدائن[13].بما أن الأوضاع في الشام قد أضحت في صالح المسلمين وخف الضغط النفسي عليهم، مما حدا بعمر أن يأمر سعد بن أبي وقاص بأن يستعد للمعركة مع الجيش الساساني. وقد هزم المسلمون الساسانيون في معركة القادسية في 13 - 16 شعبان 15 هـ / 19 - 22 سبتمبر 635 م وتحطم الجيش الفارسي في تلك المعركة مما جعلها بوابة فتح العراق من جديد وأنهت الوجود الساساني في العراق للأبد[14]. واعتبرت تلك المعركة بأنها من أهم المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام والبشرية. وقد قتل فيها أشهر قواد الفرس وهو رستم فرخزاد. وقد استولى سعد بعد تلك المعركة على بابل. ثم فتحت المدائن عاصمة الدولة الساسانية في صفر 16 هـ / مارس 637 بعد حصار دام ثلاثة أشهر.
وصف المؤرخ الإيراني كافيه فروخ في كتابه "ظلال الصحراء: فارس القديمة زمن الحرب" كيفية سقوط المدائن بيد المسلمين:


يأس سكان المدينة في اردشير من صد الغزاة المسلمين والتي سقطت في آخر الأمر بأيديهم سنة 637. ولأول مرة شاهد العرب الغنى والثراء الفاحش والفن والثقافة والرقي في عاصمة أضخم الإمبراطوريات. فاستولوا على كل مافيها. وأرسلوا خمس غنائم عاصمة الفرس المدائن إلى الخليفة عمر في المدينة. ومن ضخامة ما غنمه المسلمون أن نصيب الجندي المسلم من تلك المعركة كان مايساوي 12000 درهم من المواد العينية، أي مايعادل بالوقت الحالي 250,000 دولار أمريكي. وتم أسر حوالي 40,000 من أبناء الأشراف الفرس وبيعوا كرقيق في الأسواق[15].


إعادة فتح العراق (636 - 638)
بعد الاستيلاء على العاصمة المدائن مباشرة، تم إرسال الجيوش غربا لفتح قرقيسيا وهيت وهما حصون بيزنطية لحماية الحدود. ومطاردة فلول الفرس المنسحبة من المدائن وتجمعت في جلولاء وشمال دجلة في تكريت والموصل. وتعتبر جلولاء ذا موقع استراتيجي حيث تتوجه الطرق منها إلى العراق وخراسان وأذربيجان. وكان مهران هو اسم قائد الفرس في جلولاء ومساعده القائد خورازاد وهو أخ لرستم قائد الفرس في القادسية. وكانت تعليمات عمر بن الخطاب بأن يراسله سعد بن أبي وقاص ويخبره بكل تحركات الفرس، فقرر عمر البدء بجلولاء. وكانت خطته هي تحرير جميع الأراضي الشمالية أولا قبل الوصول إلى تكريت والموصل. وأمر هاشم بن عتبة بالذهاب إلى جلولاء، وعبد الله بن المعتم إلى تكريت والموصل لفتحهما. فسار هاشم بن عتبة بجيش تعداده 12,000 مقاتل من المدائن إلى فلول الفرس بقيادة مهران، وقد انتصر عليه في معركة جلولاء. وبعد فتح جلولاء سار عبد الله بن المعتم إلى تكريت واستولى على المدينة بعد مقاومة عنيفة. ثم أرسل جيشه بعد ذلك إلى الموصل والذين أجابوا إلى الصلح ودفع الجزية. وبعد النصر في جلولاء وفتح منطقة الموصل - تكريت يكون فتح العراق قد تأكد واكتمل.

بعد فتح جلولاء، سعت القوات المسلمة بقيادة القعقاع إلى مطاردة الفرس. فقوات الفرس التي فرت من جلولاء بقيادة مهران تحصنت في خانقين 15 ميلا عن جلولاء بالطريق إلى إيران، وقد هزمهم القعقاع وفتح المدينة. ثم انسحب الفرس إلى حلوان، فحاصرها القعقاع حتى فتحها في ذو الحجة سنة 16 هـ / يناير 638 م[16]. وقد استأذن القعقاع الخليفة عمر بفتح مدن داخل الأراضي الفارسية، لكن عمر تردد طويلاً قبل أن يأذن بغزو فارس ومطاردة يزدجرد. وأمر قادته بالعراق بعد معركة القادسية بأن لا يكثروا الحرب. ولكن الساسانيين لم يبدوا ميلا لعقد سلام. وتمنى عمر "لو أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم. حسبنا من الريف السواد"[17]. وكتب سعد إلى عمر: أن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة". ولكن عمر لم يكن ميالا لمواصلة الحرب حتي عام 21 للهجرة. ففي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس أينما كانت لما رأى عمر أن يزدجرد "يبعث عليها في كل عام حرباً". وقيل لعمر سيبقى هذا حتى يخرج من مملكته. فأذن للناس في الانسياح في أرض العجم حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان له.






موقع معركة القادسية، حيث يظهر في الخريطة جيش المسلمين بالأحمر مقابل الجيش الساساني بالأزرق
 
غارات الفرس على العراق (638 - 641)


حيوان سفنكس المجنح في قصر دارا الأول في شوشان، استولى عليها الأمير أبو موسى الأشعري عندما كان قائدا لجيش المسلمين سنة 20 هـ / 641 م.
في بداية سنة 17 هـ/638 م حل الهدوء على الجبهة الفارسية. بعدما تمكن المسلمون من السيطرة على السواد ومنطقة نهري دجلة والفرات. وانسحب الفرس تجاه الأراضي الفارسية، شرق جبال زاجروس، ولكنهم استمروا بالتحرشات وإرسال الجيوش صوب العراق، مما جعل أوضاعها غير مستقرة. ومع هذا فيبدو أنه سيكون الخط الفاصل بين المسلمين والساسانيين. وفي أواخر تلك السنة تغلب الهرمزان على منطقة الأهواز وهو أحد قادة الفرق التي حاربت في معركة القادسية ومن بيوتات فارس المشهورة، وهو أحد زعماء فارس السبعة الكبار، فبدأ بتكثيف الغارات على المناطق العراقية التي دانت لحكم المسلمين، فأمر عمر سعدا أن يرسل إليه الجيوش ليردوه، فأرسل سعد إليه جيشا من المسلمين انطلق من الكوفة من قبل واليها عتبة بن غزوان بقيادة النعمان بن مقرن، فهاجموا الأهواز وانتصروا عليه، وهذا ما أجبره على طلب الصلح، فأعطوه على أن يضل حاكما للأهواز تحت إمرة المسلمين وأن يدفع الجزية[11]. ثم نقض الهرمزان الصلح بعد أن استعان بجماعة من الكرد، مما حدا بعمر أن جيشا من البصرة بقيادة واليها أبي موسى الأشعري، فهزموه مرة ثانية فتحصن في تستر (ششتر اليوم وهي في شمال الأهواز)، إلا أن أهل المنطقة قد صالحوا المسلمين ودفعوا الجزية لهم، وهذا ما جعل الهرمزان يطلب الصلح ثانية. ثم نقض الهرمزان الصلح ثانية بناء على تحريض يزدجرد بعدما أمده بقوات جديدة لمساعدته أواخر سنة 19 هـ/640 م، فتركزت تلك القوات في تستر. وبلغ الخبر عمر، فأمر أن يسير إليه جيش من الكوفة بقيادة واليها عمار بن ياسر، ومن البصرة بقيادة واليها أبي موسى الأشعري، والنعمان بن مقرن لملاقاة الهرمزان فهزم، ففر إلى تستر فحاصروه، واضطر إلى الاستسلام بعد فتح البلد عنوة، ولجأ الهرمزان إلى القلعة، فحاصروه وأجبروه على الاستسلام، ثم أرسلوه إلى عمر بن الخطاب بالمدينة مع وفد فيه الأحنف بن قيس وأنس بن مالك. وقد أسلم الهرمزان ظاهريا عند عمر، وأصبح أحد مستشاريه في حملاته لفتح فارس. وبعد فتح تستر، توجه أبو موسى صوب شوشان (أو سوسة) وهو موقع له أهمية عسكرية في 20 هـ/641 م، ففتحها بعد حصار لمدة شهرين. ثم توجه صوب جنديسابور وهو آخر المواقع العسكرية المهمة في ولاية خوزستان والتي فتحت بعد حصار لعدة أسابيع[18].

معركة نهاوند (641)


خوذة لجندي ساساني
لما فتحت جلولاء خرج القعقاع إلى خانقين فسبى وقتل القائد مهران. فلما علم يزدجرد بذلك خرج من حلوان وسار نحو الري. وخلف من الجند يقودهم خسروشنوم. ومن ثم توجه إلى مرو حيث جعلها عاصمة لملكه ووجه الرسل إلى البلدان يستجيش الفرس وأهل الري وقومس واصبهان وهمذان والماهين[19]. فكبرياء الإمبراطورية الساسانية قد طعن في الصميم، فهم لم يستطيعوا التقبل بالفتوحات الإسلامية ودخول العرب أراضيهم كغزاة فاتحين[20]. فغضبت له أهل مملكته فتحلبت إليه الأعاجم من أقطار البلاد[21]. واجتمعت المتطوعة والفرسان في نهاوند حتى بلغ عددهم ما بين ستين ألفا إلى مئة ألف وقيل أكثر من مئة وستون ألفا. فأرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر يخبره بذلك، فجمع عمر كبار أصحابه واستشارهم في كيفية مواجهة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز جيش لردع الفرس قبل أن ينقضوا على المسلمين في بلادهم، فعمل بمشورتهم، وجهز جيشا قوامه نحو أربعين ألف مجاهد تحت قيادة النعمان بن مقرن. وقد كان يريد أن يقود الجيش بنفسه ولكن الصحابة أشاروا عليه بالبقاء وإرسال قائد آخر يوليه الجيش فكان النعمان بن مقرن.

وصل النعمان بن مقرن بجيشه إلى نهاوند، واجتمع الفرس فيها وأميرهم "الفيرزان". كان من حيل الفرس في هذه المعركة أن طرحوا حسك الحديد حول المدينة، والحسك يشبه شوك السعدان، فبعث النعمان عيوناً للاستطلاع فساروا لا يعلمون بالحسك فلم يبرح الفرس مكانه فنـزل صاحبه ونظر فإذا في حافره حسكة فعاد إلى الجيش وأخبر النعمان أن سلاحاً جديداً استخدمه الفرس لم يُعهد سابقا وهو نشر الحسك حول المدينة، وهو أشبه بالألغام في عصرنا الحاضر، فسئل النعمان أهل الرأي في جيشه، فكان الرأي أن ينتقل الجيش من هذا المكان كأنه هارب فيخرج الفرس في طلبهم، فانتقل النعمان، فخرج الفرس وكنسوا الحسك في طلب المسلمين وكان النعمان قد عبأ الكتائب ونظم الجيش وكان عدده ثلاثون ألفا. ولما رأى النعمان جمعهم الكبير كبر فكبر معه المسلمون، أنشب القتال يوم الأربعاء إلى يوم الخميس والحرب بين الفريقين سجال وكان الفرس خلالها في الخنادق فخشي المسلمون أن يطول الأمر فإنهم لم يعتادوا ذلك في لقاء العدو. فاستشار النعمان أصحابه، فكان الرأي ما أشار به طليحة الأسدي أن يبعث خيلا مؤدية فيحدقوا بهم ثم يرموا لينشبوا القتال ويغضبوهم فإذا غضبوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج هرب المسلمون خدعة، فيخرج الفرس في أثرهم، فيكون الكمين الذي عمله المسلمون، فتقدم القعقاع وأنشب القتال فخرج الفرس من خنادقهم، فلما خرجوا نكص القعقاع بجنده واغتنمها الأعاجم، فخرج الفرس ولم يبق منهم أحد في الخنادق إلا من يقوم على الأبواب، وجعلوا يتبعون المسلمين حتى انقطعوا عن حصنهم وخنادقهم. فعندئذ هاجمهم المسلمون وانهزم الفرس وقتل قائدهم الفيرزان قتله القعقاع، وقتل أيضا النعمان بن مقرن واستلم القيادة عنه حذيفة بن اليمان كما أوصى عمر بذلك. لم يجتمع الفرس بعد تلك المعركة[12] وسميت تلك الموقعة بفتح نهاوند وفتح الفتوح. وقد استولى المسلمون على كل بلاد همدان بعد المعركة وفتحوها[22].

فتح فارس (642 - 644)


الفتوحات الإسلامية ويرى فتح مدن الدولة الساسانية باللون الوردي
اعتمد عمر بن الخطاب سياسة جديدة بعد عدة سنوات لم يحدث فيها حروب[23]. فيجب البدأ بغزو كامل الدولة الساسانية. فمعركة نهاوند كانت من أشد المعارك هولا وضراوة في التاريخ الإسلامي وفي تاريخ فارس أيضا، فهي أشد حسما من معركة أرابيلا بين الإسكندر الأكبر وداريوش الثالث والتي قضى فيها الإسكندر على الإمبراطورية الإخمينية بعد تلك المعركة فلم تقم لهم قائمة إلا بعد عدة قرون، ولكن بعد معركة نهاوند لم تقم للفرس أي إمبراطورية إلى اليوم[24]. وأضحت تلك المعركة مفتاح الدخول لكامل بلاد فارس. فلم يستطع يزدجرد الثالث أن يجمع من الجيوش كما جمع في نهاوند لمقاومة الجيوش الإسلامية الغازية، فأمر عمر بقتله أو أسره وإحضاره كما فعل بالهرمزان، لكنه استطاع الهرب وبصعوبة من مرو عندما كاد أن يأسره المسلمون، ففر إلى الصين، حيث لا يمكنهم الوصول إليه. وإلى هنا تكون الإمبراطورية الساسانية ذات عمر قارب الأربعمئة عام قد انتهت[25]. يعتبر فتح فارس من أعظم انتصارات عمر، حيث تمكن من إدارة الجيوش وقيادتها وهو على بعد آلاف الكيلومترات من ميادين المعارك، مما أكسبه شهرة كواحد من أعظم العباقرة في القيادة السياسية والعسكرية على مر التاريخ، تماما كمثل خالد بن الوليد الذي أثبت نفس الشيء[24].

التخطيط الاستراتيجي لفتح بلاد فارس
قرر عمر أن يضرب الفرس بعد هزيمتهم من نهاوند مباشرة بعد أن ارتفعت معنويات جنده أكثر من ذي قبل. لكن المشكلة الإستراتيجية الرئيسية له هي من أين يبدأ الهجوم. كانت هناك ثلاثة بدائل: فارس في الجنوب، أو أذربيجان في الشمال، أو أصفهان في وسط البلاد. فكر الخليفة عمر البدء بأصفهان كأول هدف له، فكانت الخطة هي ضرب قلب الدولة الساسانية في القلب، مما يمكن للجيوش المسلمة من قطع خطوط الإمداد والاتصالات ما بين الحاميات الساسانية عن المقاطعات الفارسية الأخرى، بعبارة أخرى، فإن أي هجوم على اصفهان سيعزل فارس وأذربيجان من خراسان. وبعد سقوط قلب فارس وهي مقاطعة فارس وأصفهان، فإن الهدف التالي لشن الهجوم سيكون باتجاهين في وقت واحد ضد أذربيجان وهي ولاية في الشمال الغربي، وسيستان في أقصى الشرق[24]. فالهجوم على تلك الولايتين سيعزل خراسان الكبرى وهي معقل كسرى يزدجرد الثالث ويجعلها ضعيفة.

في المرحلة الأخيرة من تلك الحملة الكبرى بدأ الهجوم على خراسان. وقد كان المسمار الأخير في نعش الحكم الساساني. بحلول شهر صفر 21 هـ / يناير 642 كانت الخطة قد الخطة وبدأ الشروع بالتنفيذ. فنجاحها يعتمد بشكل أساسي على مدى براعة عمر وقدرته على تنسيق تلك الفتوحات من المدينة المنورة على بعد نحو 1000 ميل من ساحات المعارك في بلاد فارس، وأيضا على مدى مهارات وقدرات قادة جيوشه. فقد اختار عمر أفضل رجاله كقادة جيوشه لفتح فارس وإسقاط خصمه العنيد يزدجرد الثالث. فقد شهدت تلك الحملة نمطا مختلف في هيكل القيادة. فلم يسعى عمر بأن يكون هناك قائد واحد لتلك الحملة لفتح جميع فارس، بل فضل أن يكون هناك عدة قواد جيوش ولكل منهم له غاية محددة، وما أن تنتهي تلك الغاية حتى يتحول هذا القائد إلى جندي عادي تحت قيادة قائد ميداني جديد في مهمة جديدة. وقد فعل ذلك عمر كي يمنع أي من القادة الحصول على امتيازات تجعلهم يطالبون بسلطة أعلى وامتيازات أكثر كحق من حقوقهم. وقد كانت له سابقة في ذلك مع القائد خالد بن الوليد سنة 16 هـ، فبعد أن تنامي قوة وشعبية خالد منعه عمر من قيادة الجيوش في ذروة حياته العسكرية. في هذا الوقت كانت لخالد القدرة على التمرد ضد عمر لكنه لم يفعل بل وأصبح أحد أركان قوة عمر مما جعلت له مكانة في قلب عمر.

كان عمر يعين قادة الأجنحة والقلب والخيالة في الحملات المختلفة على بلاد فارس. فقد كان يشدد في تعليماته للقادة بالتشاور معه قبل اتخاذ أي خطوة حاسمة في تلك البلاد. ففرض على جميع القادة قبل أن يبدأوا بأي حملات منوطة إليهم أن يرسلوا إليه تقرير مفصل عن جغرافيا وتضاريس المنطقة والمدن والجيوش والمواقع العسكرية وقلاع الفرس. ثم يرسل إليهم الخليفة عمر بخطة مفصلة عن كيفية فتح تلك المنطقة المنشودة. واستثنى من ذلك المسائل التكتيكية الطارئة حيث جعل للقادة حرية التصرف وفقا للحالة التي يواجهونها[26]. فقد اختار عمر أفضل الموجودين من القادة ذوو السمعة الحسنة لتلك الحملة[24][27].

فتح وسط فارس (اصفهان وطبرستان)


زقورة چوغا زنبيل في الأحواز.
تم استكمال الخطط والتجهيزات العسكرية لفتح كامل أرض فارس في عام 21 هـ / 642 م. فعين عمر عبد الله بن عتبان قائدا للجند لفتح أصبهان. فسار عبد الله من نهاوند إلى همدان وكليهما في قبضة المسلمين. ثم من همدان عرج عبد الله إلى الشمال الشرقي صوب الري، وهي تبعد عن همدان حوالي 200 ميلا، واستكمل حصارها فلم تستسلم المدينة إلا بعد مقاومة شرسة. فما أنسقطت الري حتى توجه عبد الله بن عتبان مسافة 230 ميلا جنوب شرق باتجاه مدينة أصفهان، ففرض حصاره عليها، وعند ذلك أتاه مدد من البصرة والكوفة بقيادة أبو موسى الأشعري والأحنف بن قيس[28]. وتم الحصار لعدة أشهر حتى استسلمت المدينة. وبعد فتح أصفهان توجه عبد الله بن عتبان مسافة 150 ميلا صوب شمال-شرق صوب قم، والتي استسلمت بدون مقاومة كبيرة. وكانت تلك أقصى حدود منطقة اصفهان. حيث تحدها خراسان بالشمال الشرقي، سيستان بالجنوب الشرقي. خلال تلك المدة ثارت مدينتا همدان والري فأرسل عمر إليهما نعيم بن مقرن أخو النعمان بن مقرن لسحق التمرد وتنظيف الحدود الغربية لأصفهان. فاتجه نعيم من اصفهان صوب همدان، حيث دارت رحى معركة دموية تم بعدها إعادة سيطرة المسلمين على همدان، وبعدما فرغ من همدان توجه صوب الري، فقاوم الفرس حتى هزمهم المسلمين واستعاد المسلمون مرة أخرى السيطرة على المدينة[29]. فوافق الأهالي على عقد الهدنة ودفع الجزية. ثم اتجه نعيم شمالا صوب طبرستان حيث الحدود الجنوبية لبحر قزوين[29]. وقد استسلم حاكم طبرستان بأن سلم المدينة للمسلمين مع ابقاءه حاكما عليها تابعا للخلافة الإسلامية، ووافق أيضا على دفع الجزية للمسلمين. وكانت تلك الأحداث قد وقعت في جمادى الأولى 21 هـ / أبريل 642 م. ثم أرسل نعيم أخاه سويد بن مقرن لى قومس فأخذها سلما، وأرسلت إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وآمول وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح. وقد فتحت جرجان سنة 30 هـ زمن عثمان بن عفان[9][28].



فتح جنوب فارس (محافظة فارس)
بعد أن ثبت المسلمون امرهم في اصفهان بدأوا بالتوجه لغزو فارس وطبرستان في آن واحد، فخرج مجاشع بن مسعود من البصرة إلى سابور وأردشيرخرت فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقاتلهم وانتصر عليهم.‏ وافتتح توج واستباحها وصالحهم على الجزية وأرسل بالفتح والأخماس إلى عمر فكانت واقعة توج هذه الثانية لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس‏[30].‏ ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا فأقروا بها‏.‏ ومن توج ذهب مجاشع بجيشه إلى كور سابور فوجدها مدينة محصنة[31]. فحاصرها لعدة أسابيع قبل أن تقبل بالجزية وتسقط في أيديهم، ثم استلم عثمان بن أبي العاص قيادة الجيش بدلا من مجاشع، وقد جلب معه مدد من البصرة وتحرك من توج إلى شيراز والتي استسلمت له بسهولة، ثم توجه صوب اصطخر 35 ميلا شمال العاصمة القديمة تخت جمشيد ففتحها عنوة بعد قتال دام.
 
رحمة الله على عمر رحمة الله على ابا الوليد رحمة الله على الشهداء اجمعين فمن بعدهم قليلة الرجولة هذا ابلغ رد لدي
 
إنِّـي تذكَّـرتُ والذِّكـرَى مُؤرِّقَـةٌ .. مجـدًا تليـدًا بأيدينـا أضعنـاهُ

أَنَّى اتَّجهتَ إلى الإسـلامِ في بلَـدٍ .. تجـدهُ كالطيـرِ مقصوصًا جناحاهُ

كـم صرَّفتنـا يـدٌ كُنَّـا نُصرِّفُهـا .. وبـاتَ يملِكُنـا شعـبٌ ملكنـاهُ

استرشـدَ الغـربُ بالماضي فأرشـدَهُ .. ونحنُ كـان لنا مـاضٍ نسيناهُ

إنَّـا مشينـا وراءَ الغـربِ نقبِسُ مِـن .. ضيائِـهِ فأصابتنـا شظايـاهُ

باللهِ سَلْ خلفَ بحرِ الرُّومِ عن عـربٍ .. بالأمسِ كانوا هُنا واليومَ قد تاهُوا

وانزِلْ دِمشقَ وساءِل صخـرَ مَسجِدِها .. عَمَّن بناهُ لعـلَّ الصخـرَ ينعاهُ

هـذي معالِـمُ خُـرْسٌ كُـلُّ واحـدةٍ .. مِنهُنَّ قامـت خطيبًا فاغِـرًا فـاهُ

اللهُ يعلـمُ ما خلَّفتُ سيرتَهـم .. يومـًا وأخطأ دمـعُ العيـنِ مجــراهُ

يا مَن يـرى عُمَـرًا تكسـوهُ بُرْدَتُـهُ .. والزَّيْتُ أُدْمٌ لهُ والكُـوخُ مأواهُ

يهتَـزُّ كِسـرَى على كُرسِيِّهِ فَرقـًا .. مِن خوفِـهِ ومُلوكُ الـرُّومِ تخشاهُ

يا رَبِّ فابعـث لنا مِـن مِثلِهـم نَفَـرًا .. يُشيِّـدونَ لنا مجـدًا أضعنـاهُ
 
"اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أ جري نهرهم بدمائهم"
 
"اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أ جري نهرهم بدمائهم"
 
عودة
أعلى