تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ
سُورَةُ الفَاتحَةِ
الدكتور محمد عناد سليمان
سُورَةُ الفَاتحَةِ
الدكتور محمد عناد سليمان
تسمَّى بأمِّ القرآن، وفاتحة الكتاب، والسَّبع المثاني، وقد اختلفوا في أنَّها مكيَّة أو مدنيَّة، ولا حاجة إلى ذكره هنا؛ لأنَّ الهدف تبيان معناها بما في القرآن، وهي سبع آيات.
* قوله تعالى: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }
أوَّل آية في هذه السُّورة، وكثير من العامَّة يظنُّون أنَّها افتتاح للسُّورة، كما هو الحال في السُّور الأخرى، حتى إنَّ بعض أهل العلم وهموا أنَّ الاختلاف في الجهر أو الإسرار إنَّما وقع فيها، والأمر بخلاف ذلك؛ لأنَّها حسب رواية عاصم عن حفص الآية الأولى، فهذا يعني أنَّ الجهر بها واجب على ما هو الحال في بقية آياتها، والله أعلم.
بدأ سبحانه وتعالى باسمه الأعظم وهو الله، ثم وصف نفسه بصفتين عظيمتين، وهما اسمان من أسمائه الحسنى جلَّ وعلا، الأوَّل الرَّحمن، وهو أشدّ مبالغة من الثَّانية؛ لأنَّ الأوَّل عامٌّ وشامل لجميع الخلائق في الدُّنيا والآخرة، وذهب بعضهم إلى أنَّ لكلِّ واحدة منهما مكانًا مختصًّا، فقال مجاهد: رحمن الدُّنيا، ورحيم الآخرة. وروى مثله ابن مسعود وأبو سعيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن صحَّ وجب المصير إليه. بينما ذهب القرطبيّ إلى خلاف ذلك، فجعل الثّانية للدّنيا، والأولى للآخرة.
وقال أبو عليّ الفارسيّ: الرَّحيم اسم عامٌّ في جميع أنواع الرّحمة يختصُّ به الله سبحانه وتعالى، والرّحيم إنَّما هو في جهة المؤمنين، وهو بعيد؛ لأنَّ القرآن يدلُّ على خلافه، فصفة الرَّحيم جاءت في كثير من المواضع مقرونة بالمغفرة وبالتَّوبة، فمن أمثلة المغفرة قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)}(البقرة)، وقوله أيضًا: { فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192)}(البقرة)، وقوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)}(البقرة)، وقوله: { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)}(آل عمران). وغيرها من الآيات التي تصرِّح بمغفرته سبحانه وتعالى.
ومن أمثلة التَّوبة قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}(البقرة)، وقوله أيضًا: { إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}(البقرة)، ومنها قوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}(البقرة)،
ولا شكَّ أنَّ النَّاس هم أولى الخلائق بالمغفرة والتَّوبة. وهذه الرَّحمة لم تأت مختصَّة بالمؤمنين على ما ذهب بعضهم؛ بل هي شاملة وعامَّة لجميع النَّاس فقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)}(البقرة)، وأكَّدها في سورة الحج حيث قال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)}(الحج). والله أعلم.
* قوله تعالى:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
لفظ الحمد لفظ مطلقٌ، باشرته الألف واللام لاستغراق جميع المحامد، وهو من أعظم الثَّناءات، بدأ الثَّناء على نفسه سبحانه وتعالى، وفيه أمر لعباده أن يثنوا عليه جلَّ وعلا، بيَّنه في مواضع أخرى من القرآن منها قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}(النمل)، وقوله أيضًا: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}(العنكبوت).
ولم يحدِّد نوع الحمد هنا؛ بل هو شامل لجميع أنواع المحامد، نحمده أولا على وحدانيّته سبحانه وتعالى، { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}(الإسراء).
ونحمده على إنزاله هذا القرآن الذي جعله هدى للنَّاس ورحمة، على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)}(الكهف).
ونحمده على نعمة الدِّين، وهو الإسلام التي ارتضاه لعباده، فقال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}(غافر).
ونحمده على خلق السَّموات والأرض، وخلق الليل والنَّهار، كما في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1)}(الأنعام)، أنواع يعجز حال العبد عن ذكرها، فله الحمد على كلِّ حال، وفي كلِّ حال، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}(سبأ).
وأعظم الحمد أنَّه آخر دعوى أهل الجنَّة بعد تسبيحهم لله، واستقبال التَّحيَّة من ربِّهم، فقال تعالى: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}(يونس).
ولم يقيَّد هذا الحمد بزمان أو مكان، لكنَّه سبحانه وتعالى أوضح ذلك في آياته البيِّنات، فقد يكون في الدُّنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}(القصص)، وقد يكون في الآخرة فقط كما في قوله: { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}(سبأ).
وجاء هنا بلفظ الـ«ربِّ» وليس الإله أو الله، لمناسبة لفظ { العالمين }، و«العالمين» هي السَّموات والأرض بيِّنها في جوابه عن سؤال فرعون لموسى عندما قال: { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)}(الشعراء)، فلفظة «رب»مناسبة لتصرفِّه سبحانه وتعالى، وصفة الرُّبوبيَّة له في السّموات والأرض، خلافًا لمن زعم أنَّه يمتنع إضافتها لـ«لعالمين»، ولا شكَّ أنَّه «إله» فيهما أيضًا، وقد بيَّنها في موضع آخر فقال سبحانه: { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ...(3)}(الأنعام).
ويدلُّنا على أنَّ لفظ الـ«رب» لا يُراد بها الألوهيَّة قوله تعالى على لسان فرعون: { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)}(النّازعات)، والـ«رَّب» كما عليه معظم المفسرين أنَّه يحلُّ ويحرِّم لقومه ما يشاء، وليس المقصود منها أنَّه «إله» على نحو ما يذهب كثير من النَّاس؛ لأنَّ فرعون كان له آلهة يعبدها على الرّغم من زعمه أنَّه «ربُّ»، يدلُّنا عليه قوله تعالى: { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..(127)}(الأعراف)، وللعلم أقوال في الآلهة التي كان يعبدها فرعون، تُطالع في مواضعها.
ومن الممكن أن تكون لفظة الـ«رَّب» هنا استفتاح لأوَّل سورة في كتاب الله، لتكون مناسبة لاستفتاح آخر سورة من كتابه في قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}(الناس). والله أعلم.
* قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
بدأ سبحانه وتعالى بأنَّه المالك ليوم الدِّين، وجعل يوم الدِّين هنا مبهمًا، وكذلك أبهمه في مواضع أخرى من القرآن، فمنها قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}الحجر35، وقوله تعالى: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}(الشعراء)، وقوله أيضًا: { هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}(الواقعة)، وغيرها من الآيات التي لا تشير إلى إيضاح هذا اليوم، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يتركه مبهمًا؛ بل وضَّحه أعظم إيضاح فقال تعالى: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}(الانفطار).
واختلفت قراءة القرَّاء للفظة «مالك» فمنهم من قرأ من دون ألف، ومنهم من نصب الكاف، ومنهم من رفع، ومنهم من سكن اللام، ومنهم من كسر الميم وغيرها من القراءات، وهي من ملح هذه المادة، فجميع تقاليبها مستعملة في اللِّسان، وكلُّها راجع إلى معنى القوَّة والشدَّة، وهو ما سمَّاه أهل الاختصاص «الاشتقاق الأكبر». وقال بعضهم: قراءة ملك من دون ألف أحسن؛ لأنَّ كلَّ ملك مالك، وليس كلُّ مالك ملك، وقد صرَّح القرآن الكريم على أنَّ الله هو مالك الملك في كلِّ شيء، فقال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}(آل عمران). بل له ملك السموات والأرض، فقال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107)}(البقرة). وفي موضع آخر قوله تعالى: { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}(المائدة).
* قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
بيَّن تعالى في هذه الآية الهدف الذي من أجله خلق النَّاس، وهو العبادة لله سبحانه وتعالى، وقد وضَّحها في آية أخرى فقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}(الذَّاريات)، لكنَّ ماهيَّة هذه العبادة تظهر مبهمة في هذه الآية، إلا أنَّ المراد بها والله أعلم الاعتراف بوحدانيَّته سبحانه وتعالى التي صرَّح القرآن بها في غير ما موضع، من ذلك قوله تعالى: { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}(البقرة)، ومنها قوله تعالى أيضًا: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}(الأنبياء)، وقوله تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}(العنكبوت).
* قوله تعالى: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
والمعنى: ألا يطلب النَّاس وغيرهم العون إلا منه سبحانه وتعالى، وجاءت مناسبة لما قبلها، فالاستعانة بالله، لا تتحقَّق إلا بعد أن يعرف الطَّالب جهة العون التي ينشدها، وقد بيَّنت آيات كثيرة هذا المعنى، فقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)}(الإسراء)، ومنها قوله تعالى: { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}(هود).
ولعلَّ من أجلِّ الأمور وأعظمها التي لا بدَّ لنا أن نطلب العون فيها من الله، ما قد وضَّحها لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز فقال: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}(البقرة)، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}(البقرة).
* قوله تعالى: { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }
تدلُّ هذه الآية على طلب الهداية من الله سبحانه وتعالى، وجاء هنا الصِّراط المستقيم وفي موضع آخر جاء بلفظ { سواء الصِّراط } في قوله تعالى: { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22)}(ص)، والصّراط: الطَّريق، وأصله بالسِّين وعليه قراءة قنبل ورويس، إلا أنَّ إبدال السِّين صادًا على لغة قريش، وهو الأفصح والأشهر.
والمستقيم: الانتصاب والاستواء من غير ميل أو اعوجاج.
أمَّا سبل الوصول إلى هذا الصِّراط المستقيم، فهو في هذه الآية مبهم، ولا دليل عليه، أو كيفيَّة الوصول إليه! لكنَّ القرآن الكريم وضَّحه وأفصح عنه، فمن هذه السُّبل:
-الاعتصام بالله سبحانه وتعالى فقال: { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)}(آل عمران).
-الدُّخول في دين الإسلام، والذي هو دين الله في الأرض، والذي ارتضاه لعباده، بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة3، ودليله قوله تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}(الأنعام).
-التَّمسُّك بالقرآن الكريم الذي أوحاه الله إلى نبيّه صلى عليه وسلم، واتبِّاع سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فدليل الأولى قوله تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43)}(الزخرف). ودليل الثَّانية قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}الشورى52، وقوله أيضًا: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}المؤمنون73.
وأيُّ شرف أعظم للإنسان من أن يكون على صراط ربِّه الذي هو عليه، فقال تعالى: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)}(هود). وروي عن المتصوّفة أقوال كثيرة عن الصّراط المستقيم، لا سبيل إلى ذكرها هنا.
* قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ }
لما ذكر سبحانه وتعالى الصِّراط المستقيم، وبيَّنا سبل الوصول إليها، ذكر هنا ماهيَّة هذا الصِّراط مضافًا إلى الذين أنعم عليهم، وهو مبهم غير معروف في هذا الموضع.
وقرأ ابن مسعود وعمر وابن الزُّبير وزيد بن علي: صراط مَن أنعمت عليهم، ثم اختلفوا في الذين أنعم الله عليهم، فقالوا: الملائكة، والنَّبيُّون، والصِّدِّيقون، والشُّهداء، وبعضهم خصَّة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: هم المؤمنون، أو أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أصحاب بني إسرائيل، وغير ذلك من الأقوال التي لا تثبت عند التَّحقيق؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّنه وفصَّله في موضع آخر فقال: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً (69)}(النساء). وقوله أيضًا: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)}(مريم). وجعل منه أيضًا الرَّجلين الذين أنعم عليهما، فقال تعالى: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ...(23)}(المائدة). فلا وجه للتَّخصيص فيما ذهب إليه بعضهم ممَّا يخالف ذلك والله أعلم.
* قوله تعالى: { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ }
بدأ هنا بالاستثناء بلفظ «غير» في إشارة إلا أنَّ المذكورين بعدها غير داخلين في الذين أنعم الله عليهم ممن ذكرنا، وممن تقدَّم ذكرهم. والغضب: تغيير الطبَّع إلى مكروه، لكنَّ الذين حلَّ عليهم الغضب غير معلوم هنا، فقيل: اليهود والمشركون، وقيل غير ذلك. وذكر المتصوِّفة قيودًا في الغضب والضَّلال ينبو اللَّفظ عنها، فأشاروا إلى أنَّ المغضوب عليهم بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته، وهذا يتناسب مع كثير من معتقداتهم والله أعلم.
لكنَّ القرآن الكريم لم يترك هذا الكلام مبهمًا؛ بل أوضحه في غير موضع منه، وبيَّن من هم الذين استحقُّوا غضب الله، وصرَّح بأنَّهم اليهود، فقال تعالى: { وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)}(البقرة)، وقال في موضع آخر: { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِين (90)}(البقرة)، ولا شكَّ أنَّ اليهود هم المقصودون بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}(المجادلة)، فبان أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود. والله أعلم.
* { وَلاَ الضَّالِّينَ }
الضَّلال: الهلاك، وقدَّم الله عزَّ وجلَّ الغضب على الضَّلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضَّلال؛ بسبب التَّطابق المعنويِّ؛ لأنَّ الإنعام يقابَل بالانتقام، ولا يقابل الضَّلال الإنعام، وفيه أيضًا تناسب التَّسجيع لتمام السُّورة.
وكذلك لفظ { الضَّالين } هنا مبهم أيضًا، لا قرينة تدلُّ عليه، والمراد بهم النَّصارى، كما بيَّنه في مواضع أخرى، فقال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77)}(المائدة).
وذهب بعضهم إلى أنَّ سبب تقديم المغضوب عليهم الذين هم اليهود على النَّصارى الذين هم الضَّالون هو أنَّ اليهود أقدم وأشدُّ في العداوة من النَّصارى، وهو الصَّحيح، لوجود قرينة عليه في القرآن الكريم حيث قال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82)}(المائدة).
والله أعلم.
عن موقع رابطة أدباء الشام
* قوله تعالى: { بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ }
أوَّل آية في هذه السُّورة، وكثير من العامَّة يظنُّون أنَّها افتتاح للسُّورة، كما هو الحال في السُّور الأخرى، حتى إنَّ بعض أهل العلم وهموا أنَّ الاختلاف في الجهر أو الإسرار إنَّما وقع فيها، والأمر بخلاف ذلك؛ لأنَّها حسب رواية عاصم عن حفص الآية الأولى، فهذا يعني أنَّ الجهر بها واجب على ما هو الحال في بقية آياتها، والله أعلم.
بدأ سبحانه وتعالى باسمه الأعظم وهو الله، ثم وصف نفسه بصفتين عظيمتين، وهما اسمان من أسمائه الحسنى جلَّ وعلا، الأوَّل الرَّحمن، وهو أشدّ مبالغة من الثَّانية؛ لأنَّ الأوَّل عامٌّ وشامل لجميع الخلائق في الدُّنيا والآخرة، وذهب بعضهم إلى أنَّ لكلِّ واحدة منهما مكانًا مختصًّا، فقال مجاهد: رحمن الدُّنيا، ورحيم الآخرة. وروى مثله ابن مسعود وأبو سعيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإن صحَّ وجب المصير إليه. بينما ذهب القرطبيّ إلى خلاف ذلك، فجعل الثّانية للدّنيا، والأولى للآخرة.
وقال أبو عليّ الفارسيّ: الرَّحيم اسم عامٌّ في جميع أنواع الرّحمة يختصُّ به الله سبحانه وتعالى، والرّحيم إنَّما هو في جهة المؤمنين، وهو بعيد؛ لأنَّ القرآن يدلُّ على خلافه، فصفة الرَّحيم جاءت في كثير من المواضع مقرونة بالمغفرة وبالتَّوبة، فمن أمثلة المغفرة قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)}(البقرة)، وقوله أيضًا: { فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192)}(البقرة)، وقوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)}(البقرة)، وقوله: { وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (129)}(آل عمران). وغيرها من الآيات التي تصرِّح بمغفرته سبحانه وتعالى.
ومن أمثلة التَّوبة قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}(البقرة)، وقوله أيضًا: { إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}(البقرة)، ومنها قوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}(البقرة)،
ولا شكَّ أنَّ النَّاس هم أولى الخلائق بالمغفرة والتَّوبة. وهذه الرَّحمة لم تأت مختصَّة بالمؤمنين على ما ذهب بعضهم؛ بل هي شاملة وعامَّة لجميع النَّاس فقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143)}(البقرة)، وأكَّدها في سورة الحج حيث قال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65)}(الحج). والله أعلم.
* قوله تعالى:{ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
لفظ الحمد لفظ مطلقٌ، باشرته الألف واللام لاستغراق جميع المحامد، وهو من أعظم الثَّناءات، بدأ الثَّناء على نفسه سبحانه وتعالى، وفيه أمر لعباده أن يثنوا عليه جلَّ وعلا، بيَّنه في مواضع أخرى من القرآن منها قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}(النمل)، وقوله أيضًا: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}(العنكبوت).
ولم يحدِّد نوع الحمد هنا؛ بل هو شامل لجميع أنواع المحامد، نحمده أولا على وحدانيّته سبحانه وتعالى، { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}(الإسراء).
ونحمده على إنزاله هذا القرآن الذي جعله هدى للنَّاس ورحمة، على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1)}(الكهف).
ونحمده على نعمة الدِّين، وهو الإسلام التي ارتضاه لعباده، فقال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}(غافر).
ونحمده على خلق السَّموات والأرض، وخلق الليل والنَّهار، كما في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1)}(الأنعام)، أنواع يعجز حال العبد عن ذكرها، فله الحمد على كلِّ حال، وفي كلِّ حال، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}(سبأ).
وأعظم الحمد أنَّه آخر دعوى أهل الجنَّة بعد تسبيحهم لله، واستقبال التَّحيَّة من ربِّهم، فقال تعالى: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}(يونس).
ولم يقيَّد هذا الحمد بزمان أو مكان، لكنَّه سبحانه وتعالى أوضح ذلك في آياته البيِّنات، فقد يكون في الدُّنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}(القصص)، وقد يكون في الآخرة فقط كما في قوله: { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}(سبأ).
وجاء هنا بلفظ الـ«ربِّ» وليس الإله أو الله، لمناسبة لفظ { العالمين }، و«العالمين» هي السَّموات والأرض بيِّنها في جوابه عن سؤال فرعون لموسى عندما قال: { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24)}(الشعراء)، فلفظة «رب»مناسبة لتصرفِّه سبحانه وتعالى، وصفة الرُّبوبيَّة له في السّموات والأرض، خلافًا لمن زعم أنَّه يمتنع إضافتها لـ«لعالمين»، ولا شكَّ أنَّه «إله» فيهما أيضًا، وقد بيَّنها في موضع آخر فقال سبحانه: { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ...(3)}(الأنعام).
ويدلُّنا على أنَّ لفظ الـ«رب» لا يُراد بها الألوهيَّة قوله تعالى على لسان فرعون: { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)}(النّازعات)، والـ«رَّب» كما عليه معظم المفسرين أنَّه يحلُّ ويحرِّم لقومه ما يشاء، وليس المقصود منها أنَّه «إله» على نحو ما يذهب كثير من النَّاس؛ لأنَّ فرعون كان له آلهة يعبدها على الرّغم من زعمه أنَّه «ربُّ»، يدلُّنا عليه قوله تعالى: { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ..(127)}(الأعراف)، وللعلم أقوال في الآلهة التي كان يعبدها فرعون، تُطالع في مواضعها.
ومن الممكن أن تكون لفظة الـ«رَّب» هنا استفتاح لأوَّل سورة في كتاب الله، لتكون مناسبة لاستفتاح آخر سورة من كتابه في قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}(الناس). والله أعلم.
* قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
بدأ سبحانه وتعالى بأنَّه المالك ليوم الدِّين، وجعل يوم الدِّين هنا مبهمًا، وكذلك أبهمه في مواضع أخرى من القرآن، فمنها قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}الحجر35، وقوله تعالى: { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}(الشعراء)، وقوله أيضًا: { هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}(الواقعة)، وغيرها من الآيات التي لا تشير إلى إيضاح هذا اليوم، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يتركه مبهمًا؛ بل وضَّحه أعظم إيضاح فقال تعالى: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}(الانفطار).
واختلفت قراءة القرَّاء للفظة «مالك» فمنهم من قرأ من دون ألف، ومنهم من نصب الكاف، ومنهم من رفع، ومنهم من سكن اللام، ومنهم من كسر الميم وغيرها من القراءات، وهي من ملح هذه المادة، فجميع تقاليبها مستعملة في اللِّسان، وكلُّها راجع إلى معنى القوَّة والشدَّة، وهو ما سمَّاه أهل الاختصاص «الاشتقاق الأكبر». وقال بعضهم: قراءة ملك من دون ألف أحسن؛ لأنَّ كلَّ ملك مالك، وليس كلُّ مالك ملك، وقد صرَّح القرآن الكريم على أنَّ الله هو مالك الملك في كلِّ شيء، فقال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}(آل عمران). بل له ملك السموات والأرض، فقال تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107)}(البقرة). وفي موضع آخر قوله تعالى: { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}(المائدة).
* قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }
بيَّن تعالى في هذه الآية الهدف الذي من أجله خلق النَّاس، وهو العبادة لله سبحانه وتعالى، وقد وضَّحها في آية أخرى فقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}(الذَّاريات)، لكنَّ ماهيَّة هذه العبادة تظهر مبهمة في هذه الآية، إلا أنَّ المراد بها والله أعلم الاعتراف بوحدانيَّته سبحانه وتعالى التي صرَّح القرآن بها في غير ما موضع، من ذلك قوله تعالى: { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}(البقرة)، ومنها قوله تعالى أيضًا: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}(الأنبياء)، وقوله تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}(العنكبوت).
* قوله تعالى: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
والمعنى: ألا يطلب النَّاس وغيرهم العون إلا منه سبحانه وتعالى، وجاءت مناسبة لما قبلها، فالاستعانة بالله، لا تتحقَّق إلا بعد أن يعرف الطَّالب جهة العون التي ينشدها، وقد بيَّنت آيات كثيرة هذا المعنى، فقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)}(الإسراء)، ومنها قوله تعالى: { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}(هود).
ولعلَّ من أجلِّ الأمور وأعظمها التي لا بدَّ لنا أن نطلب العون فيها من الله، ما قد وضَّحها لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز فقال: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}(البقرة)، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}(البقرة).
* قوله تعالى: { اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }
تدلُّ هذه الآية على طلب الهداية من الله سبحانه وتعالى، وجاء هنا الصِّراط المستقيم وفي موضع آخر جاء بلفظ { سواء الصِّراط } في قوله تعالى: { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22)}(ص)، والصّراط: الطَّريق، وأصله بالسِّين وعليه قراءة قنبل ورويس، إلا أنَّ إبدال السِّين صادًا على لغة قريش، وهو الأفصح والأشهر.
والمستقيم: الانتصاب والاستواء من غير ميل أو اعوجاج.
أمَّا سبل الوصول إلى هذا الصِّراط المستقيم، فهو في هذه الآية مبهم، ولا دليل عليه، أو كيفيَّة الوصول إليه! لكنَّ القرآن الكريم وضَّحه وأفصح عنه، فمن هذه السُّبل:
-الاعتصام بالله سبحانه وتعالى فقال: { وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)}(آل عمران).
-الدُّخول في دين الإسلام، والذي هو دين الله في الأرض، والذي ارتضاه لعباده، بقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}المائدة3، ودليله قوله تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}(الأنعام).
-التَّمسُّك بالقرآن الكريم الذي أوحاه الله إلى نبيّه صلى عليه وسلم، واتبِّاع سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فدليل الأولى قوله تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43)}(الزخرف). ودليل الثَّانية قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}الشورى52، وقوله أيضًا: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}المؤمنون73.
وأيُّ شرف أعظم للإنسان من أن يكون على صراط ربِّه الذي هو عليه، فقال تعالى: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)}(هود). وروي عن المتصوّفة أقوال كثيرة عن الصّراط المستقيم، لا سبيل إلى ذكرها هنا.
* قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ }
لما ذكر سبحانه وتعالى الصِّراط المستقيم، وبيَّنا سبل الوصول إليها، ذكر هنا ماهيَّة هذا الصِّراط مضافًا إلى الذين أنعم عليهم، وهو مبهم غير معروف في هذا الموضع.
وقرأ ابن مسعود وعمر وابن الزُّبير وزيد بن علي: صراط مَن أنعمت عليهم، ثم اختلفوا في الذين أنعم الله عليهم، فقالوا: الملائكة، والنَّبيُّون، والصِّدِّيقون، والشُّهداء، وبعضهم خصَّة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: هم المؤمنون، أو أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أصحاب بني إسرائيل، وغير ذلك من الأقوال التي لا تثبت عند التَّحقيق؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّنه وفصَّله في موضع آخر فقال: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً (69)}(النساء). وقوله أيضًا: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)}(مريم). وجعل منه أيضًا الرَّجلين الذين أنعم عليهما، فقال تعالى: { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ...(23)}(المائدة). فلا وجه للتَّخصيص فيما ذهب إليه بعضهم ممَّا يخالف ذلك والله أعلم.
* قوله تعالى: { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ }
بدأ هنا بالاستثناء بلفظ «غير» في إشارة إلا أنَّ المذكورين بعدها غير داخلين في الذين أنعم الله عليهم ممن ذكرنا، وممن تقدَّم ذكرهم. والغضب: تغيير الطبَّع إلى مكروه، لكنَّ الذين حلَّ عليهم الغضب غير معلوم هنا، فقيل: اليهود والمشركون، وقيل غير ذلك. وذكر المتصوِّفة قيودًا في الغضب والضَّلال ينبو اللَّفظ عنها، فأشاروا إلى أنَّ المغضوب عليهم بترك حسن الأدب في أوقات القيام بخدمته، وهذا يتناسب مع كثير من معتقداتهم والله أعلم.
لكنَّ القرآن الكريم لم يترك هذا الكلام مبهمًا؛ بل أوضحه في غير موضع منه، وبيَّن من هم الذين استحقُّوا غضب الله، وصرَّح بأنَّهم اليهود، فقال تعالى: { وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)}(البقرة)، وقال في موضع آخر: { فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِين (90)}(البقرة)، ولا شكَّ أنَّ اليهود هم المقصودون بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}(المجادلة)، فبان أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود. والله أعلم.
* { وَلاَ الضَّالِّينَ }
الضَّلال: الهلاك، وقدَّم الله عزَّ وجلَّ الغضب على الضَّلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضَّلال؛ بسبب التَّطابق المعنويِّ؛ لأنَّ الإنعام يقابَل بالانتقام، ولا يقابل الضَّلال الإنعام، وفيه أيضًا تناسب التَّسجيع لتمام السُّورة.
وكذلك لفظ { الضَّالين } هنا مبهم أيضًا، لا قرينة تدلُّ عليه، والمراد بهم النَّصارى، كما بيَّنه في مواضع أخرى، فقال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77)}(المائدة).
وذهب بعضهم إلى أنَّ سبب تقديم المغضوب عليهم الذين هم اليهود على النَّصارى الذين هم الضَّالون هو أنَّ اليهود أقدم وأشدُّ في العداوة من النَّصارى، وهو الصَّحيح، لوجود قرينة عليه في القرآن الكريم حيث قال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82)}(المائدة).
والله أعلم.
عن موقع رابطة أدباء الشام