معركة ذي القَصَّة
شريف عبد الغني
شريف عبد الغني
لماذا قامت حروب الردة؟
شقت الدعوة الإسلامية طريقها، وانتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية - لاسيما بعد فتح مكة، وأخذت وفود القبائل تتوافد على المدينة، تعلن طاعتها ودخولها في الإسلام حتى لقد عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود، وبطبيعة الحال فإن بعض هؤلاء لم تشرب نفوسهم حب الإسلام ولم تخالط بشاشته قلوبهم؛ إذ لم تطل صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم، بل كان إيمان بعضهم على شفا جرف هاري: فمنهم من دخل الإسلام طمعا في جاه أو مغنم، أو تجنبا لخوض حرب مع المسلمين، أو سترا لمؤامرته ضد الدين, لذلك لم يثبت هؤلاء على الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وظهرت دخائل قلوبهم، ومكنونات صدورهم، وارتدوا عن الإسلام، ولقد أخذت هذه الردة صورا وأشكالاً مختلفة كالآتي:
(1) البعض ادعى النبوة: مثل مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي والأسود العنسي.
(2) البعض اكتفوا بترك الإسلام، ولم ينضموا إلي أحد من المتنبئين؛ وهم سكان البحرين.
(3) البعض منع الزكاة وأغلبهم من اليمن واليمامة.
ولكن قد يتساءل البعض فيقول: ما الأسباب التي أدت لظهور حركة الردة؟
نستطيع أن نجمل أسباب هذه الردة في أربعة أسباب رئيسة:
[العصبية الجاهلية كانت -وما زالت- أكبر معول هدم في الأمة الإسلامية، وأعداء الأمة أدركوا ذلك منذ البداية فحاولوا جاهدين أن يبقوا نارها مستعرة في كل بلاد الإسلام، لذلك نجد الاحتلال الصليبي كلما نزل ببلد من بلاد الإسلام، أحيى العصبيات الجاهلية، والقوميات العرقية، بل وعمل على إحياء تاريخ ما قبل الإسلام؛ ليكون بديلاً عن تاريخ المسلمين وأمجاد الصحابة والتابعين وخير القرون؛ ففي مصر أحيى الإنجليز الفرعونية، وفي بلاد المغرب العربي أحيى الفرنسيون البربرية أو الإمازيغية، والأمثلة كثيرة حاول من خلالها أعداء الأمة صرف أبناء المسلمين عن أقوى أسلحتهم، ومصدر عزتهم وصمودهم وبقائهم كأمة حتى الآن، ألا وهي رابطة التوحيد وعقيدة الولاء والبراء]
أولا: روح العصبية والجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، ولكن ظلت بعض القبائل العربية تحقد على قبيلة قريش سيادتها في الجاهلية ثم في الإسلام، وهذا ما نلمسه من قول عيينة بن حصن: "إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا وبين قبيلة أسد في القديم، ومتابع طليحة، والله لئن أتبع نبيا من الحليفين - يعني أسد وغطفان- أحب إلي من أن اتبع نبيا من قريش.
ثانيا: الفهم الخاطئ لفرضية الزكاة، حيث نظر إليها البعض على أنها جزية أو إتاوة يدفعها الضعيف للقوي، في حين تأولها البعض نتيجة الفهم الخاطئ للآية : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}(التوبة) ، قالوا لا نعطي صدقة أموالنا إلا لمن كانت صلاته -أي دعاؤه- سكن لنا، يقصدون النبي صلي الله عليه وسلم.
[الفهم الخاطئ أخطر من الخطأ نفسه، ذلك فإن المرء قد يخطئ يقع في المعصية وهو مقر بها معترف بذنبه، سائلاً الله عز وجل أن يتوب عليه، ولكن الفهم الخاطئ يجعل صاحبه، يقدم على المعصية وهو مقتنع بأنه لا يفعل ما يلام عليه أو يعاقب من أجله، تماماً مثل حال من قال الله عز وجل فيهم : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}(فاطر) ، وهذا الأمر يؤكد على أهمية تعلم العلم الشرعي وضرورة الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، وما وقعت بدعة على وجه الأرض إلا بسبب الفهم الخاطئ للآيات والأحاديث].
ثالثا: الصراع بين النفسية الإسلامية والنفسية الجاهلية , وهذا واضح بين هؤلاء الذين أسلموا متأخراً، ولم يدركوا قسطاً من التربية في مدرسة النبوة؛ فغلبتهم غرائزهم وعاداتهم الجاهلية القديمة، ولم يتذوقوا حلاوة الإيمان، وهذا ظاهر من طلب إباحة الزنا والربا من بعض القبائل حديثة الإسلام.
[وهذا يؤكد أيضا على أهمية التربية الإيمانية، في بناء المسلم السوي، وأن التربية هي أولي لبنات الشخصية السوية المستقيمة، لذلك فواجب الدعاة الأول هو تربية الصف المسلم، وإعداده لمواجهة فتن الدنيا وزخارفها؛ وما أكثرها].
رابعا: العامل الخارجي: وهو متمثل في القوة الخارجية الموجودة وقتها -الروم والفرس- وأتباعهم من القبائل العربية -الغساسنة أتباع الروم، المناذرة أتباع الفرس- حيث كانوا يشجعون حركات الردة، ويحرضون الخارجين على الإسلام؛ ليشتغل بهم المسلمون، ويتركوا جهاد تلك القوى الخارجية. [لو فتشت في كل أسباب الاضطرابات والفتن الداخلية في البلاد الإسلامية لوجدت يد أعداء الأمة من وراء الأستار، فحركات التمرد في السودان وفي اليمن وفي كل مكان إنما تغذيها القوي الخارجية التي تريد تمزيق البلاد الإسلامية ونثر حبل الأمن فيها، ولو نظرت لأي دعوة هدامة أو طائفة منحرفة لوجدت تمويلها مباشرة من ألد أعداء الأمة، والأمثلة أكثر من الحصر].
حال الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تطاولت رؤوس الشر، وظهر نجم النفاق، ونجمت اليهودية والنصرانية، وارتدت معظم القبائل العربية عن الإسلام ولم يثبت على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وأصبح المسلمون وسط بحر متلاطم من أمواج الردة، حتى عصمهم الله عز وجل بـ "الصديق" رضي الله عنه في هذه الفترة العصيبة؛ فقام فيهم مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جهز لتأديب الروم وأعوانهم من الغساسنة جيشاً بقيادة أسامة بن زيد ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض الصحابة ألا يخرج جيش أسامة في تلك الظروف؛ حفاظا على أمن المدينة، ولكن "الصديق" أصر على إنفاذ جيش أسامة؛ فلما حاول عمر بن الخطاب إقناع "الصديق" بأن يولي رجلاً آخراً على قيادة الجيش غضب "الصديق" وأخذ بلحية عمر قائلاً: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب استعمله رسول صلى الله عليه وسلم وأنزعه أنا" وبالفعل خرج الجيش، وكان خروجه خيرا للأمة الإسلامية؛ ذلك أنه كلما مر الجيش على قبيلة قال أهلها: "ما خرج هذا الجيش إلا عن قوة أكبر في المدينة"؛ فتثبت القبيلة التي تريد الارتداد، وأظهر الخليفة أبو بكر أن معياره يختلف عن غيره؛ فمعياره الذي يقيس به الأمور هو الإتباع الكامللأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(لعمر الله إنه لهو المعيار الأصلح والأفضل الذي تصلح به الدنيا والآخرة، والتاريخ خير شاهد على ذلك؛ فمتى كانت الأمة الإسلامية متبعة لأوامر الله ورسوله تقدمت وارتقت، وظهرت على من خالفها، ومتى تركت تلك الأوامر تخلفت وصارت في ذيل الركب: يطؤها الجميع، ولا يحسب لها وزن ولا قيمة).
قتال مانعي الزكاة:
لما وقعت حركة الردة اتفق الصحابة على جهاد، المرتدين، واختلفوا في مانعي الزكاة، وسبب الخلاف أنهم يقولون: لا إله إلا الله فكيف يقاتلونهم، ودار حوار بين عمر بن الخطاب وبين الخليفة أبي بكر حول تلك النقطة؛ ظهر فيه مدى فقه "الصديق" وأيضا مدى حرصه على صيانة الدين الإسلامي ومازال عمر يراجع أبا بكر حتى علم أن أبا بكر على حق ويومها قال أبو بكر كلمات تكتب بماء الذهب؛ وهي: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه، يا ابن الخطاب أينقص الدين وأنا حي".
[هو هذا الشعار الحقيقي للصادقين من أبناء المسلمين]
استقر الرأي أخيرا على قتال مانعي الزكاة وشرح الله عز وجل صدورهم لذلك، ولكن أبا بكر الصديق لم يرد المبادأة بالقتال حتى يعود جيش أسامة من الشام؛ لأن فيه معظم القوة المسلمة، وشعر المرتدون بذلك فعمل طليحة الأسدي -وكان ممن ادعى النبوة- على تأليب مانعي الزكاة على المبادأة بالهجوم على المدينة، وحدث اتحاد بين المرتدين وبين مانعي الزكاة.
تحركت قبائل عبس وذبيان وغطفان وفزارة وطيء للهجوم على المدينة وقسمت نفسها لقسمين:
(1) قسم نزل "ذي القَصَّة" على بعد 35 كيلو من المدينة جهة الشرق طريق نجد.
(2) قسم نزل بـ "الأبَرق" من الربذة على بعد120كيلومن المدينة. وأرسلوا وفودا من عندهم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الاطلاع على عورات المدينة ونقاط ضعفها، متظاهرين بأن لهم طلبات لخليفة رسول الله مثل: أن يضع عنهم فرض الزكاة وهم يعلمون علم اليقين أن الخليفة سيرفض.
رجل الساعة:
عادت الوفود وقد اطلعت على عورات المدينة، وعلمت أنها مكشوفة، ليس بها من يدافع عنها، وأدرك أبو بكر ذلك بفطنته الفذة؛ فجمع الناس في المسجد، وقال لهم : "إن الأرض كافرة -أي مظلمة- قد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً؟ فاستعدوا وأعدوا"، وأصدر قراراً استثنائياً بأن يبيت الرجال في المسجد وهم مسلحون استعداداً للحرب في أية لحظة، ثم دعا الزبير وطلحة وعلياً وغيرهم، وجعلهم على مداخل المدينة.
لم تمض سوى ثلاث ليال حتى هجم اتحاد المرتدين ومانعي الزكاة على المدينة؛ فصدهم علي بن أبي طالب ومن معه، وهرع المسلمون للقتال يقودهم الخليفة أبو بكر بنفسه، وساروا خلف الأعداء حتى منطقة "ذي حُسي"، وهناك خرج كمين للأعداء ومعهم أنحاء الإبل - يعني أمعاءها- وقد نفخوها ثم ربطوها؛ فصارت مثل الكرات الكبيرة، دحرجوها بأرجلهم على الأرض، ففزعت إبل المسلمين منها وكانت مكيدة جديدة لم تعرفها العرب، إنما أمدهم بها الفرس؛ مما يوضح العلاقة بين قوى الكفر الخارجية والداخلية، والمؤامرة الكبرى على الإسلام.
(وهي مازالت قائمة لوقتنا الحالي؛ فدائما تجد علاقة وثيقة بين القوى الصهيونية وبين العلمانيين والملحدين والحاقدين على الدين الإسلامي؛ فما الذي يدفع إنجلترا لأن تأوي الكاتب المرتد سلمان رشدي، بل وتعين له حراسة مشددة، وتنفق ملايين الدولارات عليه، وما الذي يدفع جامعة ليدن الهولندية لأن تعين بها أمثال نصر أبو زيد وتسليمة نصرين والطاهر بن جلون وغيرهم ممن لفظتهم مجتمعاتهم الإسلامية؛ لإلحادهم وطعنهم في الدين).
ظن المرتدون أنهم قد انتصروا على المسلمين؛ فتجمع القسمان اللذان كانا: بـ "الأبرق" و"ذي القصة" استعدادا للهجوم الشامل على المدينة وفي تلك الليلة بات الخليفة أبو بكر الصديق يعبئ المسلمين وينظم الصفوف وقد قرر الهجوم فوراً، ومباغتة الأعداء، وخرج مسرعاً بجيشه الصغير؛ فما طلع الفجر إلا وقد أصبحوا على صعيد واحد، دون أن يسمع لهم العدو ركزاً، وما شعروا إلا والمسلمون فوق رؤوسهم، وقد وضعوا فيهم السيف، وركبوا أكتافهم، حتى تفرقت الجيوش وهربت مولية الأدبار.
الحقد الأعمى:
بعد هذه المكيدة الحربية التي قام بها المسلمون ضد قوات التحالف: المكون من المرتدين ومانعي الزكاة، وثبت قبائل عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم شر قتلة، وحذا حذوهم سائر القبائل العربية المرتدة؛ فلما علم أبو بكر بذلك حلف بأغلظ الأيمان ليقتلن من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون قوة وثباتا في كل قبيلة وازداد لهم المشركون انعكاسا من أمرهم في كل قبيلة.
[أبو بكر يعلمنا أن دماء المسلمين ليست رخيصة أو مستباحة، بل هي أشد حرمة من ملئ الأرض من أنجاس الكفار والمشركين، وأن لها طالباً ولو طال الزمان، فلا يفرح أعداء الأمة كثيراً؛ لأن الثأر قادم لا محالة]
أسرع أبو بكر ومن معه من المسلمين وهاجموا منطقة "الأبرق" وذلك بعد أن استولوا على "ذي القصة"، وقاتلوا من بها من المرتدين، وكانت منطقة "الأبرق" حمى قبيلة ذبيان فأجلاهم أبو بكر منها وجعلها حمى خيل المسلمين والجهاد في سبيل الله وفرت قبائل عبس وذبيان والتحقت بمدعي النبوة طليحة الأسدي وهو الذي غرهم وأغراهم بالمسلمين من قبل.
يوم بُزَاخة:
كان لابد من تأديب هؤلاء المرتدين، وخضد شوكتهم، وإرجاعهم لحظيرة الدين مرة أخرى؛ لذلك فلقد شرع الخليفة أبو بكر في عقد ألوية جهاد المرتدين؛ فعقد أحد عشر لواءا للجهاد في سبيل الله تتجه إلى كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكان أقوى هذه الألوية اللواء الذي كان يقوده البطل الجسور خالد بن الوليد وكان موجها لقتال طليحة الأسدي؛ الذي ألب مانعي الزكاة، وانضمت إليه قبائل عبس وذبيان وغطفان بعد هزيمتهم أمام المسلمين بـ "ذي القصة" والأبرق، وكان طليحة ومن معه مجتمعين بمنطقة بزاخة، وتقع شمال شرق المدينة على بعد 200 كيلو متر، في قلب ديار غطفان.
خرج أبو بكر الصديق يشيع جيش خالد بن الوليد وقد أظهر أنه متجه إلى خيبر -من باب الخدعة- ثم عكس خالد سيره واتجه مباشرة إلى "بزاخة"، وكان معه في جيشه عدي بن حاتم الطائي؛ فاستأذن منه أن يدخل على قبيلته "طيىء"؛ ليقنعها بترك نصيحة "طليحة" والعودة للدين؛ فأذن له "خالد" في ذلك ثلاثة أيام؛ فما زال "عدي بن حاتم " يدعو قومه حتى استجابوا له، وتركوا نصرة "طليحة"، وخرج من جيش المرتدين ألف فارس وانضموا إلى جيش "خالد "؛ فكان "عدي بن حاتم " خير مولود على قبيلة "طيىء " وأعظمهم بركة.
[النصيحة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة هي الأدوات الأساسية والأصلية لأي دعوة ناجحة؛ فهي تفتح القلوب المغلقة، وتأسر النفوس المعارضة، وتجعل العدو صديقاً، والمحارب مسالماً، لذلك لابد من الدعاة أن يتعلموا الطريق الأمثل لمفاتيح القلوب].
أرسل "خالد" سرية استطلاع مكونة من عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم رضي الله عنهما فقتلا "حبالاً" أخا طليحة الذي أسرع هو وأخوه الآخر سلمة، واشتبكا مع عكاشة وثابت فاستشهدا رضي الله عنهما، وشق ذلك على المسلمين؛ لمكانة هذين الصحابيين، واشتعلت حماسة المسلمين، وهجموا على المرتدين، ودارت حرب طاحنة شديدة، وكان عيينة بن حصن يقود جيش طليحة، بينما طليحة ملتف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحرب كر عيينة بن حصن على طليحة وقال له: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا فرجع فقاتل والمسلمون قد ركبوا أكتاف المرتدين وأوشكوا على النصر؛ فعاد عيينة وقال لطليحة: لا أبا لك أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا فقال عيينة: حتى متى وقد والله بلغ منا؟! ثم عاد فقاتل حتى رأى خيل المسلمين تكاد تحيط به وبأصحابه؛ فرجع إلى طليحة فزعا يكرر: هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: نعم قال: فماذا قال؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لن تنساه فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديثا لا تنساه؛ انصرفوا يا بني فزارة فانه كذاب، ففر المرتدون في كل مكان يقدمهم طليحة الذي أخذ امرأته وفر بها على ظهر جمل أعده من قبل لهذا الغرض.
واستطاع المسلمون أن يكسبوا أولى وأهم جولاتهم ضد المرتدين ومانعي الزكاة، وكان لهذا الانتصار أثر طيب للغاية؛ فقد وقف المسلمون -وهم قلة- يقودهم أبو بكر ضد الجموع الغفيرة من قبائل العرب، وبرهنت على قوة المسلمين القادرة على خضد شوكة أي عدو طامع، وأثبتت أيضا أن الخليفة أبا بكر هو رجل الساعة، وفارس الميدان الذي لا يسبق رضي الله عنه.
أهم الدروس والعبر
1- خطورة العصبية الجاهلية على الإسلام كدين وعلى المسلمين كأمة.
2- أهمية تعلم العلم الشرعي والتحذير من مغبة الخوض في النصوص بلا فهم ولا علم.
3- ضرورة التربية الإيمانية لمواجهة الفتن والشهوات، وبناء الشخصية الإيمانية المستقيمة.
4- اتباع طريق الرسول صلي الله عليه وسلم، هو سبب الفوز والنجاة.
5- حنكة القيادة الواعية والقادرة على التصدي لخطط ومؤامرات أعداء الأمة، وأهمية اليقظة والحذر والبصيرة في صيانة الأمة.
6- بركة الكلمة الطيبة والدعوة الصالحة في نصرة الأمة والقضاء على الفتن والقلاقل.
7- دم المسلمين ليس رخيصاً ولا مستباحاً لأعداء الأمة، ولابد من الثأر من أعداء الأمة ولو بعد حين.
المصادر والمراجع
1- تاريخ الطبري
2- الكامل في التاريخ
3- المنتظم لابن الجوزي
4- البداية والنهاية
5- طبقات ابن سعد
6- تاريخ الخلفاء للسيوطي
7- التاريخ الإسلامي محمود شاكر
8- صفة الصفوة
9- تاريخ الخلفاء الراشدين لابن كثير.
عن موقع ملتقى الخطباء
شقت الدعوة الإسلامية طريقها، وانتشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية - لاسيما بعد فتح مكة، وأخذت وفود القبائل تتوافد على المدينة، تعلن طاعتها ودخولها في الإسلام حتى لقد عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود، وبطبيعة الحال فإن بعض هؤلاء لم تشرب نفوسهم حب الإسلام ولم تخالط بشاشته قلوبهم؛ إذ لم تطل صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم، بل كان إيمان بعضهم على شفا جرف هاري: فمنهم من دخل الإسلام طمعا في جاه أو مغنم، أو تجنبا لخوض حرب مع المسلمين، أو سترا لمؤامرته ضد الدين, لذلك لم يثبت هؤلاء على الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وظهرت دخائل قلوبهم، ومكنونات صدورهم، وارتدوا عن الإسلام، ولقد أخذت هذه الردة صورا وأشكالاً مختلفة كالآتي:
(1) البعض ادعى النبوة: مثل مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي والأسود العنسي.
(2) البعض اكتفوا بترك الإسلام، ولم ينضموا إلي أحد من المتنبئين؛ وهم سكان البحرين.
(3) البعض منع الزكاة وأغلبهم من اليمن واليمامة.
ولكن قد يتساءل البعض فيقول: ما الأسباب التي أدت لظهور حركة الردة؟
نستطيع أن نجمل أسباب هذه الردة في أربعة أسباب رئيسة:
[العصبية الجاهلية كانت -وما زالت- أكبر معول هدم في الأمة الإسلامية، وأعداء الأمة أدركوا ذلك منذ البداية فحاولوا جاهدين أن يبقوا نارها مستعرة في كل بلاد الإسلام، لذلك نجد الاحتلال الصليبي كلما نزل ببلد من بلاد الإسلام، أحيى العصبيات الجاهلية، والقوميات العرقية، بل وعمل على إحياء تاريخ ما قبل الإسلام؛ ليكون بديلاً عن تاريخ المسلمين وأمجاد الصحابة والتابعين وخير القرون؛ ففي مصر أحيى الإنجليز الفرعونية، وفي بلاد المغرب العربي أحيى الفرنسيون البربرية أو الإمازيغية، والأمثلة كثيرة حاول من خلالها أعداء الأمة صرف أبناء المسلمين عن أقوى أسلحتهم، ومصدر عزتهم وصمودهم وبقائهم كأمة حتى الآن، ألا وهي رابطة التوحيد وعقيدة الولاء والبراء]
أولا: روح العصبية والجاهلية التي جاء الإسلام للقضاء عليها، ولكن ظلت بعض القبائل العربية تحقد على قبيلة قريش سيادتها في الجاهلية ثم في الإسلام، وهذا ما نلمسه من قول عيينة بن حصن: "إني لمجدد الحلف الذي كان بيننا وبين قبيلة أسد في القديم، ومتابع طليحة، والله لئن أتبع نبيا من الحليفين - يعني أسد وغطفان- أحب إلي من أن اتبع نبيا من قريش.
ثانيا: الفهم الخاطئ لفرضية الزكاة، حيث نظر إليها البعض على أنها جزية أو إتاوة يدفعها الضعيف للقوي، في حين تأولها البعض نتيجة الفهم الخاطئ للآية : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}(التوبة) ، قالوا لا نعطي صدقة أموالنا إلا لمن كانت صلاته -أي دعاؤه- سكن لنا، يقصدون النبي صلي الله عليه وسلم.
[الفهم الخاطئ أخطر من الخطأ نفسه، ذلك فإن المرء قد يخطئ يقع في المعصية وهو مقر بها معترف بذنبه، سائلاً الله عز وجل أن يتوب عليه، ولكن الفهم الخاطئ يجعل صاحبه، يقدم على المعصية وهو مقتنع بأنه لا يفعل ما يلام عليه أو يعاقب من أجله، تماماً مثل حال من قال الله عز وجل فيهم : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}(فاطر) ، وهذا الأمر يؤكد على أهمية تعلم العلم الشرعي وضرورة الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، وما وقعت بدعة على وجه الأرض إلا بسبب الفهم الخاطئ للآيات والأحاديث].
ثالثا: الصراع بين النفسية الإسلامية والنفسية الجاهلية , وهذا واضح بين هؤلاء الذين أسلموا متأخراً، ولم يدركوا قسطاً من التربية في مدرسة النبوة؛ فغلبتهم غرائزهم وعاداتهم الجاهلية القديمة، ولم يتذوقوا حلاوة الإيمان، وهذا ظاهر من طلب إباحة الزنا والربا من بعض القبائل حديثة الإسلام.
[وهذا يؤكد أيضا على أهمية التربية الإيمانية، في بناء المسلم السوي، وأن التربية هي أولي لبنات الشخصية السوية المستقيمة، لذلك فواجب الدعاة الأول هو تربية الصف المسلم، وإعداده لمواجهة فتن الدنيا وزخارفها؛ وما أكثرها].
رابعا: العامل الخارجي: وهو متمثل في القوة الخارجية الموجودة وقتها -الروم والفرس- وأتباعهم من القبائل العربية -الغساسنة أتباع الروم، المناذرة أتباع الفرس- حيث كانوا يشجعون حركات الردة، ويحرضون الخارجين على الإسلام؛ ليشتغل بهم المسلمون، ويتركوا جهاد تلك القوى الخارجية. [لو فتشت في كل أسباب الاضطرابات والفتن الداخلية في البلاد الإسلامية لوجدت يد أعداء الأمة من وراء الأستار، فحركات التمرد في السودان وفي اليمن وفي كل مكان إنما تغذيها القوي الخارجية التي تريد تمزيق البلاد الإسلامية ونثر حبل الأمن فيها، ولو نظرت لأي دعوة هدامة أو طائفة منحرفة لوجدت تمويلها مباشرة من ألد أعداء الأمة، والأمثلة أكثر من الحصر].
حال الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تطاولت رؤوس الشر، وظهر نجم النفاق، ونجمت اليهودية والنصرانية، وارتدت معظم القبائل العربية عن الإسلام ولم يثبت على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وأصبح المسلمون وسط بحر متلاطم من أمواج الردة، حتى عصمهم الله عز وجل بـ "الصديق" رضي الله عنه في هذه الفترة العصيبة؛ فقام فيهم مقام النبي صلى الله عليه وسلم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جهز لتأديب الروم وأعوانهم من الغساسنة جيشاً بقيادة أسامة بن زيد ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض الصحابة ألا يخرج جيش أسامة في تلك الظروف؛ حفاظا على أمن المدينة، ولكن "الصديق" أصر على إنفاذ جيش أسامة؛ فلما حاول عمر بن الخطاب إقناع "الصديق" بأن يولي رجلاً آخراً على قيادة الجيش غضب "الصديق" وأخذ بلحية عمر قائلاً: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب استعمله رسول صلى الله عليه وسلم وأنزعه أنا" وبالفعل خرج الجيش، وكان خروجه خيرا للأمة الإسلامية؛ ذلك أنه كلما مر الجيش على قبيلة قال أهلها: "ما خرج هذا الجيش إلا عن قوة أكبر في المدينة"؛ فتثبت القبيلة التي تريد الارتداد، وأظهر الخليفة أبو بكر أن معياره يختلف عن غيره؛ فمعياره الذي يقيس به الأمور هو الإتباع الكامللأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(لعمر الله إنه لهو المعيار الأصلح والأفضل الذي تصلح به الدنيا والآخرة، والتاريخ خير شاهد على ذلك؛ فمتى كانت الأمة الإسلامية متبعة لأوامر الله ورسوله تقدمت وارتقت، وظهرت على من خالفها، ومتى تركت تلك الأوامر تخلفت وصارت في ذيل الركب: يطؤها الجميع، ولا يحسب لها وزن ولا قيمة).
قتال مانعي الزكاة:
لما وقعت حركة الردة اتفق الصحابة على جهاد، المرتدين، واختلفوا في مانعي الزكاة، وسبب الخلاف أنهم يقولون: لا إله إلا الله فكيف يقاتلونهم، ودار حوار بين عمر بن الخطاب وبين الخليفة أبي بكر حول تلك النقطة؛ ظهر فيه مدى فقه "الصديق" وأيضا مدى حرصه على صيانة الدين الإسلامي ومازال عمر يراجع أبا بكر حتى علم أن أبا بكر على حق ويومها قال أبو بكر كلمات تكتب بماء الذهب؛ وهي: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه، يا ابن الخطاب أينقص الدين وأنا حي".
[هو هذا الشعار الحقيقي للصادقين من أبناء المسلمين]
استقر الرأي أخيرا على قتال مانعي الزكاة وشرح الله عز وجل صدورهم لذلك، ولكن أبا بكر الصديق لم يرد المبادأة بالقتال حتى يعود جيش أسامة من الشام؛ لأن فيه معظم القوة المسلمة، وشعر المرتدون بذلك فعمل طليحة الأسدي -وكان ممن ادعى النبوة- على تأليب مانعي الزكاة على المبادأة بالهجوم على المدينة، وحدث اتحاد بين المرتدين وبين مانعي الزكاة.
تحركت قبائل عبس وذبيان وغطفان وفزارة وطيء للهجوم على المدينة وقسمت نفسها لقسمين:
(1) قسم نزل "ذي القَصَّة" على بعد 35 كيلو من المدينة جهة الشرق طريق نجد.
(2) قسم نزل بـ "الأبَرق" من الربذة على بعد120كيلومن المدينة. وأرسلوا وفودا من عندهم إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الاطلاع على عورات المدينة ونقاط ضعفها، متظاهرين بأن لهم طلبات لخليفة رسول الله مثل: أن يضع عنهم فرض الزكاة وهم يعلمون علم اليقين أن الخليفة سيرفض.
رجل الساعة:
عادت الوفود وقد اطلعت على عورات المدينة، وعلمت أنها مكشوفة، ليس بها من يدافع عنها، وأدرك أبو بكر ذلك بفطنته الفذة؛ فجمع الناس في المسجد، وقال لهم : "إن الأرض كافرة -أي مظلمة- قد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً؟ فاستعدوا وأعدوا"، وأصدر قراراً استثنائياً بأن يبيت الرجال في المسجد وهم مسلحون استعداداً للحرب في أية لحظة، ثم دعا الزبير وطلحة وعلياً وغيرهم، وجعلهم على مداخل المدينة.
لم تمض سوى ثلاث ليال حتى هجم اتحاد المرتدين ومانعي الزكاة على المدينة؛ فصدهم علي بن أبي طالب ومن معه، وهرع المسلمون للقتال يقودهم الخليفة أبو بكر بنفسه، وساروا خلف الأعداء حتى منطقة "ذي حُسي"، وهناك خرج كمين للأعداء ومعهم أنحاء الإبل - يعني أمعاءها- وقد نفخوها ثم ربطوها؛ فصارت مثل الكرات الكبيرة، دحرجوها بأرجلهم على الأرض، ففزعت إبل المسلمين منها وكانت مكيدة جديدة لم تعرفها العرب، إنما أمدهم بها الفرس؛ مما يوضح العلاقة بين قوى الكفر الخارجية والداخلية، والمؤامرة الكبرى على الإسلام.
(وهي مازالت قائمة لوقتنا الحالي؛ فدائما تجد علاقة وثيقة بين القوى الصهيونية وبين العلمانيين والملحدين والحاقدين على الدين الإسلامي؛ فما الذي يدفع إنجلترا لأن تأوي الكاتب المرتد سلمان رشدي، بل وتعين له حراسة مشددة، وتنفق ملايين الدولارات عليه، وما الذي يدفع جامعة ليدن الهولندية لأن تعين بها أمثال نصر أبو زيد وتسليمة نصرين والطاهر بن جلون وغيرهم ممن لفظتهم مجتمعاتهم الإسلامية؛ لإلحادهم وطعنهم في الدين).
ظن المرتدون أنهم قد انتصروا على المسلمين؛ فتجمع القسمان اللذان كانا: بـ "الأبرق" و"ذي القصة" استعدادا للهجوم الشامل على المدينة وفي تلك الليلة بات الخليفة أبو بكر الصديق يعبئ المسلمين وينظم الصفوف وقد قرر الهجوم فوراً، ومباغتة الأعداء، وخرج مسرعاً بجيشه الصغير؛ فما طلع الفجر إلا وقد أصبحوا على صعيد واحد، دون أن يسمع لهم العدو ركزاً، وما شعروا إلا والمسلمون فوق رؤوسهم، وقد وضعوا فيهم السيف، وركبوا أكتافهم، حتى تفرقت الجيوش وهربت مولية الأدبار.
الحقد الأعمى:
بعد هذه المكيدة الحربية التي قام بها المسلمون ضد قوات التحالف: المكون من المرتدين ومانعي الزكاة، وثبت قبائل عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم شر قتلة، وحذا حذوهم سائر القبائل العربية المرتدة؛ فلما علم أبو بكر بذلك حلف بأغلظ الأيمان ليقتلن من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون قوة وثباتا في كل قبيلة وازداد لهم المشركون انعكاسا من أمرهم في كل قبيلة.
[أبو بكر يعلمنا أن دماء المسلمين ليست رخيصة أو مستباحة، بل هي أشد حرمة من ملئ الأرض من أنجاس الكفار والمشركين، وأن لها طالباً ولو طال الزمان، فلا يفرح أعداء الأمة كثيراً؛ لأن الثأر قادم لا محالة]
أسرع أبو بكر ومن معه من المسلمين وهاجموا منطقة "الأبرق" وذلك بعد أن استولوا على "ذي القصة"، وقاتلوا من بها من المرتدين، وكانت منطقة "الأبرق" حمى قبيلة ذبيان فأجلاهم أبو بكر منها وجعلها حمى خيل المسلمين والجهاد في سبيل الله وفرت قبائل عبس وذبيان والتحقت بمدعي النبوة طليحة الأسدي وهو الذي غرهم وأغراهم بالمسلمين من قبل.
يوم بُزَاخة:
كان لابد من تأديب هؤلاء المرتدين، وخضد شوكتهم، وإرجاعهم لحظيرة الدين مرة أخرى؛ لذلك فلقد شرع الخليفة أبو بكر في عقد ألوية جهاد المرتدين؛ فعقد أحد عشر لواءا للجهاد في سبيل الله تتجه إلى كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكان أقوى هذه الألوية اللواء الذي كان يقوده البطل الجسور خالد بن الوليد وكان موجها لقتال طليحة الأسدي؛ الذي ألب مانعي الزكاة، وانضمت إليه قبائل عبس وذبيان وغطفان بعد هزيمتهم أمام المسلمين بـ "ذي القصة" والأبرق، وكان طليحة ومن معه مجتمعين بمنطقة بزاخة، وتقع شمال شرق المدينة على بعد 200 كيلو متر، في قلب ديار غطفان.
خرج أبو بكر الصديق يشيع جيش خالد بن الوليد وقد أظهر أنه متجه إلى خيبر -من باب الخدعة- ثم عكس خالد سيره واتجه مباشرة إلى "بزاخة"، وكان معه في جيشه عدي بن حاتم الطائي؛ فاستأذن منه أن يدخل على قبيلته "طيىء"؛ ليقنعها بترك نصيحة "طليحة" والعودة للدين؛ فأذن له "خالد" في ذلك ثلاثة أيام؛ فما زال "عدي بن حاتم " يدعو قومه حتى استجابوا له، وتركوا نصرة "طليحة"، وخرج من جيش المرتدين ألف فارس وانضموا إلى جيش "خالد "؛ فكان "عدي بن حاتم " خير مولود على قبيلة "طيىء " وأعظمهم بركة.
[النصيحة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة هي الأدوات الأساسية والأصلية لأي دعوة ناجحة؛ فهي تفتح القلوب المغلقة، وتأسر النفوس المعارضة، وتجعل العدو صديقاً، والمحارب مسالماً، لذلك لابد من الدعاة أن يتعلموا الطريق الأمثل لمفاتيح القلوب].
أرسل "خالد" سرية استطلاع مكونة من عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم رضي الله عنهما فقتلا "حبالاً" أخا طليحة الذي أسرع هو وأخوه الآخر سلمة، واشتبكا مع عكاشة وثابت فاستشهدا رضي الله عنهما، وشق ذلك على المسلمين؛ لمكانة هذين الصحابيين، واشتعلت حماسة المسلمين، وهجموا على المرتدين، ودارت حرب طاحنة شديدة، وكان عيينة بن حصن يقود جيش طليحة، بينما طليحة ملتف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحرب كر عيينة بن حصن على طليحة وقال له: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا فرجع فقاتل والمسلمون قد ركبوا أكتاف المرتدين وأوشكوا على النصر؛ فعاد عيينة وقال لطليحة: لا أبا لك أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا فقال عيينة: حتى متى وقد والله بلغ منا؟! ثم عاد فقاتل حتى رأى خيل المسلمين تكاد تحيط به وبأصحابه؛ فرجع إلى طليحة فزعا يكرر: هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: نعم قال: فماذا قال؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لن تنساه فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديثا لا تنساه؛ انصرفوا يا بني فزارة فانه كذاب، ففر المرتدون في كل مكان يقدمهم طليحة الذي أخذ امرأته وفر بها على ظهر جمل أعده من قبل لهذا الغرض.
واستطاع المسلمون أن يكسبوا أولى وأهم جولاتهم ضد المرتدين ومانعي الزكاة، وكان لهذا الانتصار أثر طيب للغاية؛ فقد وقف المسلمون -وهم قلة- يقودهم أبو بكر ضد الجموع الغفيرة من قبائل العرب، وبرهنت على قوة المسلمين القادرة على خضد شوكة أي عدو طامع، وأثبتت أيضا أن الخليفة أبا بكر هو رجل الساعة، وفارس الميدان الذي لا يسبق رضي الله عنه.
أهم الدروس والعبر
1- خطورة العصبية الجاهلية على الإسلام كدين وعلى المسلمين كأمة.
2- أهمية تعلم العلم الشرعي والتحذير من مغبة الخوض في النصوص بلا فهم ولا علم.
3- ضرورة التربية الإيمانية لمواجهة الفتن والشهوات، وبناء الشخصية الإيمانية المستقيمة.
4- اتباع طريق الرسول صلي الله عليه وسلم، هو سبب الفوز والنجاة.
5- حنكة القيادة الواعية والقادرة على التصدي لخطط ومؤامرات أعداء الأمة، وأهمية اليقظة والحذر والبصيرة في صيانة الأمة.
6- بركة الكلمة الطيبة والدعوة الصالحة في نصرة الأمة والقضاء على الفتن والقلاقل.
7- دم المسلمين ليس رخيصاً ولا مستباحاً لأعداء الأمة، ولابد من الثأر من أعداء الأمة ولو بعد حين.
المصادر والمراجع
1- تاريخ الطبري
2- الكامل في التاريخ
3- المنتظم لابن الجوزي
4- البداية والنهاية
5- طبقات ابن سعد
6- تاريخ الخلفاء للسيوطي
7- التاريخ الإسلامي محمود شاكر
8- صفة الصفوة
9- تاريخ الخلفاء الراشدين لابن كثير.
عن موقع ملتقى الخطباء