طريق نابليون

المتألق

الي جنة الخلد ان شاءالله
عضو مميز
إنضم
14 يوليو 2008
المشاركات
844
التفاعل
12 0 0
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
:
من بين الحملات الكبرى التي وقعت على مدار السنين هناك بعض منها يترك أثره في ذاكرة الرأي العام، لكن الصورة القاسية لليأس الذي له صلة بدمار جيش كبير ستؤكد دائمًا أن مجرد التحدث عن تاريخ مغامرة "نابليون" الروسية تثير حفيظة أقل المراقبين اهتمامًا.
التاريخ هو ألف وثمانمائة واثنى عشر، وشكل بداية لأشد الكوارث وقعًا في تاريخ الحروب حيث دمرت أكبر قوة عسكرية شهدها العالم.
زرعت بذور مغامرة "نابليون" الكبرى عبر اتفاق وقع بين بروسيا وروسيا وفرنسا في تموز يوليو عام ألف وثمانمائة وسبعة، تم التوصل إلى السلام بعد عامين من الحروب بين فرنسا من جهة وقوات متحالفة بين النمسا وبروسيا وروسيا من جهة ثانية، والتي حقق فيها "نابليون" مجموعة من الانتصارات الشهيرة، من بين هذه المعارك يمكن أن نتذكر "أسترليتس" "جينا" "باورستاد" "إيلاو" و"أولوم".
من خلال هذه المعاهدة تمكن الإمبراطور من إجبار روسيا على الانضمام إلى النظام القاري، وقد صمم النظام القاري لتعزيز التجارة في أوروبا ومتابعة الحرب مع إنجلترا بالسبل الاقتصادية وهو يؤكد على استثناء إنجلترا من التبادل التجاري الأوروبي بفعل عداوتها مع "نابليون".
المعلق الثاني:
من غير المدهش أن لا يؤيد قيصر روسيا ألكسندر الأول هذا النظام الذي أدى مع الوقت إلى إفلاس العديد من التجار المؤثرين، ما أفضى إلى حالة من اللاحرب مع بريطانيا، وتراجع تدريجي للروبيل الروسي.
تأثر "نابليون" سلبًا بالطريقة التي انسحب فيها السير ألكسندر الأول من النظام الأوروبي، مع أن هذا كان سيحدث حتى قبل أن يدخل في النظام القاري علمًا أن ألكسندر وقع مكرهًا على تلك المعاهدة، ولكن نتيجة الضغوط التي كان يتعرض لها وخصوصًا أن أرباحه من الغابات بدأت تختفي بدأ يتخذ قراره تدريجًا، وقد كانت المسألة الأهم هي أن استياءه من الأمر سيعني استياء الجميع؛ لأنهم كانوا يعدونه الإمبراطور الأكبر في أوروبا بعد "نابليون".
:
توافقت مكافأة العرش السويدي الخالي للماريشال برنادوت الذي اعتبر بالنسبة للروس عدوًّا لدودًا مع مجموعة من الشائعات في بلاد الفرس والبلقان وتركيا والإهانة الدبلوماسية التي نجمت من زواج "نابليون" من "ماري لويسا" النمساوية.
كل هذه الظروف عززت التوتر بين البلدين لتنتهي أخيرًا بالحرب، عبرت القوات الفرنسية الحدود مع روسيا في حزيران يونيو عام ألف وثمانمائة واثني عشر لتبدأ بذلك الحرب الطويلة المتوقعة.
عمل في حراسات "نابليون" العريف "بروجوين" البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، وقد كتب لاحقًا مذكراته اليومية عن الحملة التي اعتبرت شاهدًا على انتصار النزعة الإنسانية في الظروف العصيبة.
في حزيران يونيو كانت هذه الظروف بعيدة جدًّا، فبالنسبة إلى الفرنسيين صار كل شيء على ما يرام، حيث كانت المعنويات مرتفعة.
المعلق الثاني:
في آذار مارس من عام اثني عشر كنا مشغولين بالتحضير لمعركة ضد الجيش الإنجليزي بقيادة "ولينجتون" وفي البرتغال تلقينا أوامر للتوجه نحو روسيا، عبرنا إسبانيا حيث كنا نشتبك مرة أو حتى مرتين في اليوم الواحد، وعلى هذا الحال وصلنا إلى "بايوب" أولى مدينة حدودية في فرنسا، حيث غادرنا هذا المكان سافرنا عبر مسافة طويلة إلى "باريس" حيث توقعنا البقاء والاستراحة.
ولكن بعد توقف دام يومين اطلع الإمبراطور على أحوالنا ورأى أننا لا نحتاج إلى الاستراحة وخرجنا إلى الاستعراض في "بوليفار "حيث وجدنا بضع مئات من العربات وسواها تنتظر.
توقفنا وأمر كل أربعة منا بالصعود إلى عربة، وهكذا انطلقنا في المسير ومن هناك توجهنا في العربات إلى الراين مسافرين ليلاً ونهارًا مررنا بمنطقة "نيمن" في القافلة، ودخلنا إلى "لتوانيا" أولى محافظة في روسيا.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
:
سعيًا لضمان الخضوع السريع لروسيا حشد "نابليون" ما كان يعتبر أكبر وأقوى جيش في التاريخ، وفي سبيل هذه المهمة تم حشد ستمائة وخمسين ألف رجل من جميع الدول تحت لواء الإمبراطورية الفرنسية.
المعلق الثاني:
في عام اثني عشر لم يكن "نابليون" غير مستعد للحملة التي سيقاتل فيها، كان يفكر في القيام بحملة تجبر حليفه القديم على العودة إلى النظام القاري الذي قام ببنائه، ولكنه بعد ذلك القتال لم يكن "نابليون" يفكر في متابعة المسير خمسين ميلاً آخر داخل الأراضي؛ لأنه كان يرى أنه يستطيع القيام بمعركة حاسمة في بداية الحملة، وكان تقديره موضوعيًّا، ولكنه لم يكن مستعدًا لحملة في الشتاء تحمله مباشرة إلى "موسكو".
:
بعد ستة عشر عامًا من الانتصارات الساحقة التي حققها كجنرال كان "نابليون" يبدي اهتمامًا بسبل التموين اللازمة لحملات عسكرية بهذا الحجم، كما كانت لديه فكرة واضحة عن الحملة بكاملها، ما أكد الكفاءات العالية التي بنى على أساسها تاريخه القتالي.
وزع الإمبراطور قوته البشرية على ثلاثة خطوط رئيسية، في الموجة الأولى أربعمائة وخمسة وأربعون ألف رجل شكلوا مجموعة القوات الثلاث التي يقود فيها حملته، ثم تأتي قوة من مائة وخمسة وستين ألف رجل ضمن خط احتياطي يعزز الخط الأول ويغطي الخلل عند اللزوم.
أخيرًا وضع ستين ألف رجل كاحتياطي استراتيجي شرقي "بروسيا" و"بولندا".
من خلال مجموعات التحري والاستقصاء كان يعلم بكل تحركات القوات الروسية التي تواجهه، وفي أثناء تركيزه على الحملة اختار الجيش الهائل الذي يقوده "باركلي ديتولي" الذي يتألف من مائة وسبعة وعشرين ألف رجل موزعين على جبهة عريضة طولها مائتان وخمسون ميلاً.
ضمن إستراتيجية كان يتبعها عادة للتغلب على قوة تفوقه عددًا فكر "نابليون" في تقسيم جيش "تولي" إلى جزئيين وذلك من خلال تقدم سريع، ومن ثم عبر عملية حصار سريعة، وتوقع هزيمة الجيش الروسي.
لقد اعتنى بكل التفاصيل، وركز وحدة متفوقة جدًّا لضرب كل قسم من الجيش الروسي على حدة، وفي رسالة كتبها اختصر "نابليون" إستراتيجيته بالقول: الهدف من كل ما أفعله هو تركيز أربعمائة ألف رجل في نقطة واحدة.
المعلق الثاني:
في حملة كالتي قام بها في عام اثني عشر كان على "نابليون" أن يعتمد على ضباطه الموالين، ففيما يتعلق بالجيش المركزي يأتي بعده شخصيًّا الأمير "أوجين بوهارني" وهو ابنه بالتبني، إضافة أيضًا إلى الأمير "جيرون بونابرت" الذي كان ابن أخيه وملك "ويست فاليا" وقد خذله كلا الرجلين بكل بساطة.
حيث أخفق الأمير "أوجين" بإزالة جيش "بجراشيون" من طريق الحملة، كما كان يحاول أن يفعل، أما السبب الرئيسي في ذلك فهو أنه ليس معتادًا العمل بوجود قافلة كبيرة تتحرك خلفه.
أما بالنسبة إلى "جيرون بونابرت" فكان عديم الكفاية لدرجة اضطر فيها الإمبراطور لإعفائه من القيادة، وفي اليوم العاشر من الحملة أعاده إلى ألمانيا.
المعلق الأول:
لتحقيق هذه الأهداف كان لدى "نابليون" أربعمائة وخمسون ألف رجل، كانت هذه القوة موزعة على ثمانين ألفًا من الفرسان وثلاثمائة وسبعين ألفًا من المشاة معززة بألف وأربعمائة مدفعية.
:
لمواجهة عدو بهذه القوة كان باستطاعة الروس حشد ثلاثة جيوش تتألف من مائتين وعشرين ألف رجل.
يعتبر الجيش الغربي بقيادة "تولي" أول هذه الجيوش، وهو يتألف من مائة وسبعة وعشرين ألف رجل.
الجيش الثاني يتألف من ثمانية وأربعين ألفًا بقيادة الجنرال "باجرسيون" وجيش الغرب الثالث يتألف من ثلاثة وأربعين ألفًا بقيادة الجنرال "تورماسوف" وهكذا يصبح لدى الروس أربعون ألفًا من الفرسان ومائة وثمانون ألفًا من المشاة وما يقارب ثمانمائة مدفعية.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
:
نوعية المقاتلين تدنت بعد النصر الكبير الذي تحقق عام ألف وثمانمائة وسبعة، الحرب الضروس التي وقعت في شبهة الجزيرة بين فرنسا وإسبانيا وبريطانيا والشهيرة بلقب قرحة "نابليون" الإسبانية استنزفت الآلاف من أفضل رجال الإمبراطور.
في فترة اجتياح روسيا كان على مائتي ألف من أفضل القوات أن تبقى في إسبانيا، الشبان الذين حلوا محل هذه الوحدات أمضوا جزءًا كبيرًا من الوقت في المعسكرات.
ولا يعرفون الكثير عن الأجواء العصيبة للحروب، هذا بالإضافة إلى اعتماد "نابليون" على حلفائه أكثر من أي وقت مضى، ما يعني أن نصف جيش فرنسا الكبير فقط كان فرنسيًّا، أما النصف الآخر فكان يتألف من مائة وتسعين ألف ألماني ونمساوي وسويسري وبروسي، وتسعين ألف بولندي وعشرين ألف إيطالي، ومجموعة من نخبة من الإسبان والبرتغاليين.
على الجانب الروسي كان القيصر يعلم أنه يستطيع الاعتماد على الطريقة التقليدية التي تمكن وحداته من التغلب على جميع الصعاب وتحمل أسوأ الظروف، أضف إلى ذلك أن النظام كان يطبق بينهم على أيدي ضباط ذوي بأس.
لقد كتب أحد رجال الفروسية الفرنسيين عن أنداده الروس يقول: برغم أن رجالنا يطلقون عليهم النار من على مسافة أمتار إلا أنهم يتابعون المسير من دون أي رد، كان الشارع يمتلئ بالقتلى والجرحى إلا أن الصراخ لم يكن مسموعًا.
وحدات التغطية النارية الروسية كانت تتشكل من الفلاحين الصرب الذين يؤلفون أدنى فئات المجتمع الروسي، وبما أن الصرب كانوا يعيشون في ظروف بائسة، وجدوا أنهم يستطيعون العيش ضمن الواقع القاسي لحياة الجيش الروسي من دون تذمر.
ومقابل هذه النوعية الجيدة من الرجال كان الضابط الروسي معروف عالميًّا بأنه الأسوأ في أوروبا.
سادت هذه المشكلة منذ ما قبل عهد "بطرس الكبير" الذي تمكن من التفوق على المشكلة باستيراد ضباط من أوروبا الغربية، إلى أن تم التخلص من أسوأ ضباط روسيا عام ألف وثمانمائة واثني عشر، علمًا أن لا داعي للمبالغة في مواصفات عدم الكفاءة.
الجنرال "ماركوف" مثلاً أعفي من مهامه القيادية عند التأكد من عدم قدرته على التمييز بين الطرقات والأنهر على الخريطة.
أما الجنرال "ليسي" القائد الأعلى للقوات العاملة في الأبيض المتوسط فكان يرتدي قبعة النوم أثناء المجالس الحربية ويغط في نوم عميق تاركًا الجنرالات يتخذون القرارات المناسبة.
أما إذا كانت نوعية الضباط قابلة للنقاش فإن الإستراتيجية التي يحددونها معًا كانت بلا أدنى شك أكثر فعالية من تلك التي يمكن أن تتخذها أفضل القيادات العسكرية في العالم.
كما اكتشف "هتلر" بعدما يزيد عن القرن من ذلك فإن الحجم الهائل بروسيا والظروف المناخية القاسية أكدت مرة بعد أخرى أنها السلاح الأقوى لدى الجيش الروسي.
كما كان الأمر مع السويد في القرن السابق ما كان على الروس سوى الانسحاب إلى داخل المساحات الشاسعة للبلاد حتى ينهار عدوهم بفعل التعب والإرهاق الذي يلحق به، كما أن خطوط الإمدادات تنتشر عبر مسافات طويلة، ما يشكل صعوبة في حمايتها.
حرارة الشمس الحارقة في المساحات الشاسعة لأراضي روسيا كانت عدوًّا لا يقل أهمية عن الشتاء الجليدي لروسيا الذي يتميز بالثلوج المنهمرة أشهرًا طويلة من دون توقف حيث إن الحرارة قد تصل إلى أربعين درجة تحت الصفر، حتى إن تنفس البشر قد يتحول إلى جليد لحظة الزفير.
بين عامي ألف وتسعمائة وواحد وأربعين وخمسة وأربعين اعتبر المسافات الطويلة وقسوة المناخ متفوقة على الآلة العسكرية لهتلر.
أما بالنسبة إلى جيش يتقدم مشيًا على الأقدام عبر مسافات تزيد ألف وخمسمائة ميل فلابد أن تكون العواقب وخيمة بعد أشهر قليلة.
الخسائر الناجمة من الإرهاق والأمراض وضربات الشمس وكثافة الجليد ليست إلا بعضًا مما ينجم من الجوع.
الأرض المحروقة هي السياسة الأخرى التي يتبعها الجيش الروسي إلى جانب الانسحاب، ويستفيد منها في محاربة المعتدين.
بعد أن ضاع في المساحات الشاسعة للأراضي كان الجيش الفرنسي يواجه جيشًا خياليًّا مستعدًا لأن يحرق مدنه وقراه ومواسمه الزراعية ليحرم "نابليون" من كل شيء في أثناء تقدمه.
قطعان كاملة من المواشي كانت تذبح وتترك في العراء إن لم يتمكنوا من نقلها، بينما كانت تدمر كل الأبنية والمزروعات التي يمكن أن يمر فيها "نابليون" في أثناء تقدمه.
مع انسحاب الجيش الروسي تدريجيًّا عبر المساحات الشاسعة للأراضي الروسية أجبر الفرنسيون على مطاردتهم أبعد وأبعد عبر أماكن نائية وخالية من المأوى أو الطعام، نجم من ذلك تقلص الجيش الفرنسي إلى مائة وخمسين ألف رجل، والباقون فروا أو ماتوا من شدة التعب والجوع والأمراض المنتشرة بعد ثلاثة أشهر من بدء الحملة.
توافق ذلك مع الحاجة الماسة إلى حماية خطوط الإمدادات الطويلة جعلت الأربعمائة وخمسين ألف الذين انطلقوا في حزيران يونيو من ذلك العام يتحولون إلى مائة وخمسين ألفًا بقوا للمشاركة في المعركة الحاسمة للحملة.
كان العريف "برجوين" يكتفي بأكل لحوم الجياد على الطريق المؤدية إلى موسكو في الأيام الذهبية بالمقارنة مع الأيام العصيبة للانسحاب.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
برجوين:
وضعت وحداتي على طريق مؤدية إلى القصر حين مر خادم بولوني كان سيده جزءًا من فرقة الإمبراطور، وهو يقود جوادًا محملاً بالحقائب، كان الجواد متعبًا فوقع في الجليد، ورفض النهوض بعدئذ وهكذا حمل الخادم الحقائب وتابع سيره، ما إن غاب عن الأنظار حتى قام الرجال الجائعون جدًّا بقتل الجواد وأمضينا تلك الليلة مشغولين بأكله وطبخه لليوم التالي، بعد لحظات مر الإمبراطور نفسه سيرًا على الأقدام برفقة "مايولر" يتجه نحو الطريق العام، وقفت أمامه لتقديم تحية السلاح، وقف الإمبراطور أمامنا قريبًا من الجواد الذي كان في عرض الطريق وسأل عما إذا كنا نأكله، فأجبته: نعم نأكله، فابتسم وقال: تحلوا بالصبر، سوف نصل إلى موسكو بعد أربعة أيام، حيث يمكنكم الاستراحة وتناول الطعام المناسب، كان طعم هذا الجواد شهيًّا بالفعل، بعد أربعة أيام من ذلك وصلنا بالفعل إلى تلك المدينة.
المعلق الأول:
قد يؤكد البعض أن تفادي كثير من الخسائر الهائلة التي تعرض لها الفرنسيون في طريقهم عبر روسيا كان ممكنًا، أما من وجهة النظر الفرنسية فإن مجموعة من التحضيرات سبقت الحملة الروسية بإشراف شخصي من قبل الإمبراطور.
كان "نابليون" يعلم أنه سيواجه مشاكل في الطرقات السيئة والمساحات الشاسعة والاحتمالات الضئيلة في العثور على مؤن، لهذا قام بتجهيز كميات من المؤن والعتاد لم يسبق أن تم تحضيرها لأي جيش في تاريخ ساحات القتال.
لا بد من أنه كان على حق عندما قال: يجب أن لا نتوقع شيئًا من الأرياف، لهذا يجب أن نأخذ كل شيء معنا.
لتمويل جيشه الهائل قام بتشكيل ست وعشرين فرقة للمواصلات كانت تتألف معًا من عشرة آلاف عربة محملة يجرها تسعون ألف جواد، هذه الكميات الهائلة من المؤن خرجت بصحبة قطعان كبيرة من الأبقار لتقدم اللحوم على الطريق، بالإضافة إلى أن الإمبراطور أصدر أمرًا بذبح الثيران بعد أن تفرغ العربات التي تجرها من المؤن وذلك لإطعام الجنود من لحومها الطازجة.
النظرة العامة توحي بأن الكارثة التي أصابت الجيش الفرنسي لم يكن لها صلة بالجيش الروسي، وأن هذه الكارثة نجمت من طول المسافات وقسوة المناخ التي تعرض لها الجيش الفرنسي الذي لو كان مجهزًا للشتاء لحقق النصر.
القبول بهذا الاعتقاد يعني الاستخفاف بإستراتيجية روسية محسوبة بدقة، ولم تنجم من صدفة على الإطلاق.
تعتمد الإستراتيجية الروسية على إدخال الفرنسيين إلى روسيا وبالتالي إبعادهم عن خطوط المؤمن، حيث يغوص الجوع والبرد والمرض عميقًا في عظام أفراد الجيش الفرنسي.
حتى أن الإسكندر بنفسه استعرض هذه الإستراتيجية حين قال: وحداتنا تتعرض لهزائم متلاحقة على أيدي الفرنسيين لكنها لم تهزم أو تستسلم، إنهم لا ينعمون بمساعدة المناخ أو ثرواتنا الطبيعية يجب أن لا نخاطر أبدًا، لدينا مساحات شاسعة وجيوشنا منظمة جدًّا، الجندي الفرنسي شجاع لكن المعاناة الطويلة وقسوة المناخ ستكونان ضده هذا ما قاله القيصر الكسندر.
أحداث الأشهر الأربعة التالية أكدت حقيقة ذلك، تم تجنيد الجيش الفرنسي ببراعة للقتال في حرب ضد روسيا، لكن الأمر الحاسم في تلك الخطة هي أن التحضيرات كانت لحرب قصيرة كان يتقد أنها ستقع في بولندا وغربي روسيا، وقد لا تستمر أكثر من أربعة أسابيع، لكن الانسحاب وجر الفرنسيين إلى أراضي روسيا الشاسعة أكدا أن القيصر يرسم إستراتيجية تضع "نابليون" على الطريق إلى موسكو لتدميره.
بعض مقدمات التدمير النهائي لـ"نابليون" تكمن في تغيير القلب الذي جعله يعدل خطته المبدئية المقتصرة على محاصرة جيش "تولي" وتدميره بالكامل.
حين علم أن "بجراسيون" كان يتحرك بالجيش الغربي الثاني فكر "نابليون" في أنه من الأفضل تدمير تلك القوة أولاً، إلا أنه قرر أن يكلف أتباعه بالقيام بهذه المهمة، فاختار جيش "يوجين" الإيطالي للقيام بها.
كما كان يحدث دائمًا أثبت أتباعه أنهم أقل مستوًى من المهمة الموكلة إليهم، تعيين الأمير "يوجين" على رأس الجيش الإيطالي كان قرارًا سياسيًّا وليس عسكريًّا، وسرعان ما أثبت الأمير عدم كفاءته القتالية وعجزه عن الاستمرار في القتال ضد "بجراسيون" ما عنى إضاعة أيام ثمينة من دون أي عمل يذكر.
في حين تمكن "بجراسيون" وجيش "تولي" من الانسحاب نحو الشرق من دون أن يزعجهما أحد كي يلتقيا لاحقًا في "سمولنسكي".
تبعت هذه الأيام العصيبة أسابيع من المسيرات الشاقة والطويلة التي حاول خلالها "نابليون" إجراء المناورة بعد الأخرى للإيقاع بالقوات الروسية التي مكنها أتباعه من الابتعاد، في حين كان من السهل توريطهم في القتال.
اتضح بعد ذلك أن "نابليون" فشل في إستراتيجية الأولية في تركيز وحداته ضد قوات العدو، وتدميرها بالكامل عبر سلسلة من المعارك، ما أدى إلى استنزاف جيشه بشده بفعل الأمراض والتعب والأوبئة وسوء التغذية.
الطريق الذي كان يتبعه جيشه في مطارده الروس حين كان يقترب أكثر وأكثر من "سمولنسكي" تميز بانتشار الأجسام المتعفنة تحت حرارة الشمس، بالإضافة إلى انتشار الأمراض بين صفوفه.
كتب الكابتن "ويرد" الذي كان جزءًا من الجيش عن ذلك يقول: مررنا بثلاثة آلاف جواد ميت على جانبي الطريق، بالإضافة إلى جثث البشر المتعفنة التي تترك في هذا الوقت من العام روائح لا تحتمل، لو أن الأمور استمرت على هذا المنوال من حر وغبار وجوع وتعب لوضع حد نهائي للجيش الكبير من دون عناء.
سكان روسيا والقيصر كانوا مستاءين جدًّا من سياسة الانسحاب المستمرة فضغطوا نحو مواجهة الفرنسيين.
أخيرًا عثر "نابليون" على عدو، لقد أصبح مستعدًّا للصمود والقتال، ووقعت أول مواجهة بين الجيشين في "سمولينكس" في السابع عشر من آب أغسطس، بعد هذه المعركة استمر الانسحاب الروسي حتى وصل إلى قرية تبعد ستين ميلاً عن "موسكو" حيث تأهبوا للقتال في معركة هي الأكثر دموية في ذلك العصر، معركة "بورودينو".
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
:
كان "باركلي ديتولي" وزير حرب مدة عامين مع حلول عام ألف وثمانمائة واثني عشر، وقد كان صاحب الإستراتيجية الروسية التي تفسح في المجال لدخول روسيا.
والحقيقة أنه جهز مجموعة من القلاع كتلك التي في "دونابيرج" على مسافة مائة ميل من الحدود الروسية، لتكون نقطة انطلاق للجيش الروسي في هجومه المضاد؛ لأن "باركلي" كان يعرف تبديل المساحة بالوقت.
ولكن يبدو أن السير كان مضطرًّا للموافقة على هذه النظرية رغمًا عنه، وما أن انسحب "تولي" من "سمولينكس" إلى جانب "بجراسيون" الذي انضم إليه في تلك المعركة بدأ السير يسأل: إلى أين ستنتهي هذه الانسحابات، فقد سقط العديد من الدول الهامة، بينما كان نبلاء كثيرون في "سانت بيتر سبول" يسخرون مما يجري، لهذا قرر إقالة "باركلي ديتولي" من القيادة العليا، لينصب مكانه المحارب القديم "كوتوسوف".
المعلق الأول:
رغم أنه كان يبلغ السبعين كان "كوتوسوف" يتمتع بشخصية فظة وقاسية لكنها شعبية جدًّا في الجيش الذي قاده في "أوسترليتس".
الإحساس الوطني العارم الذي كان يتدفق خلفه جعل منه الخيار الأنسب، وقد تم الترحيب به من قِبَل الجيش الذي قاده عام ألف وثمانمائة وسبعة، ما عزز المعنويات الروسية.
من جهة أخرى عام ألف وثمانمائة واثني عشر بدأ "نابليون" يعاني مشاكل صحية، ما أساء إلى قدراته كجنرال، وكما جرى في معارك حاسمة أخرى مثل "أوبيرلو" لم يكن على أفضل حال في "بورودينو" وهكذا لم تكن خطة معركته واضحة المعالم.
لا تتعدى خطة "نابليون" مجموعة من الضربات الصاعقة التي يوجهها ضد الخطوط الروسية على أمل أن تتحطم.
في الجانب الروسي أدت حاجتهم الماسة إلى الحفر والاستعداد للدفاع عن موسكو إلى أن لا يكون لديهم خطة محددة، ما يعني بالمقابل الصمود في وجه الهجوم الفرنسي والتمسك بالأرض مهما كلف الثمن.
يوم السادس من أيلول سبتمبر استولى الجيشان الروسيان الأول والثاني على مواقع لهما إلى الجنوب من نهر موسكو غربي المدينة لمنع الفرنسيين من التقدم أكثر نحو العاصمة.
اتضح الطابع الدفاعي للمعركة المقبلة من خلال مجموعات الخنادق والحفر على شكل حصن مؤقت يتسع لعشرين مدفعًا ثقيلاً، الكفاح المرير للحفاظ على هذا الموقع سيتحول إلى رمز للدموية التي ميزت تلك المعركة.
انتهت أعمال الحفر في الوقت المناسب حيث فتحت البنادق الفرنسية نيرانها وانطلق الجيش الكبير معلنًا هجومه.
طوال ذلك اليوم كان الجانبان يكرران عمليات الكر والفر من دون أي حماسة ذاتية.
لا شك في أن معركة "بورادينو" أشد معارك اليوم الواحد بؤسًا في التاريخ، يتحدث "بوردون" عن وقوع ستين ألف إصابة، والحقيقة أنه ما كان يعرف فهذا تعليق من ضابط برتبة عريف، لأن الإصابات كانت تفوق خمسة وسبعين ألف رجل في تلك المعركة بين الروس والفرنسيين على حد سواء، إذا أردنا مقارنة ذلك في الوقت الحاضر نقول: إن طائرة جامبو بما تحمله من ركاب تنفجر في مساحة خمسة أميال كل خمس دقائق من دون أن يخرج منها أحياء طوال ثماني ساعات.
المعلق الأول:
اندفع الروس إلى الخلف تدريجيًّا، ومع طلوع الفجر تمكن الفرنسيون من الاستيلاء على الخنادق والحفر ما أوقع الكثير من الخسائر في الطرفين.
برغم تخليهم عن الأرض إلا أن معنويات الروس القتالية لم تتحطم، هذا مع خسارتهم لذلك الرمز من كفاحهم ومقتل الجنرال الشعبي "بجراسيون" بينما تزايد عدد الوحدات الفرنسية التي زج بها في الهجوم على المدافعين الروس.
بعد أن أخرجوا من مواقعهم المتقدمة أجبر المشاة الروس على بناء تشكيلات مربعة لشل الهجمات الفرنسية المتكررة، ألا إنهم كانوا يتمتعون بمعنويات قتالية عالية.
شعر الروس أنهم ربما يهزمون من خلال قوة كبرى أخيرة، إلا أن "نابليون" لم يعد يملك إلا آخر قواته الاحتياطية، وهي حراساته الإمبراطورية الشخصية التي تتألف من خمسين ألف رجل.
رغم النداءات المتكررة من "مورا" و"دافو" و"ناي" رفض "نابليون" أن يزج بالحراسات مما أضاع فرصة هزيمة الروس، وبوجود مسافة تزيد عن ألف ومائتي ميل بين موقعه حينها وقواعده في الوطن اتخذ قراره بعدم المراهنة بآخر قوة بشرية لديه.
فشله في تصفية الجيش الروسي كان مميتًا، العريف "بورجو" كان في إحدى فرق حراسات النخبة، لهذا أمضى اليوم مع باقي الحراسات الإمبراطورية من دون عمل في ساحة القتال.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
بورجوا:
لم يكن مستعدًا برغم أن المعركة الكبرى ستبدأ في اليوم التالي، يقوم بعضهم بتنظيف البندقيات وأسلحة أخرى فيما يصنع الآخر ضمادات للمصابين، ويعالج آخرون جروحه، وينام الجزء الأخير أو يستريح دون اكتراث، الحراسات الإمبراطورية كلها تلقت أوامر بالبقاء جاهزة تمامًا، في الخامسة من صباح اليوم التالي كنا تحت السلاح مر الإمبراطور من أمامنا وهو يراقب الخط كاملاً وقد كان على جواده منذ ما يزيد على نصف ساعة.
وبدأت المعركة في السابعة صباحًا لا يمكن أن أصفها بالتفصيل، ولكن الجيش كاملاً كان يسمع هدير قذائف المدافع، ووقفنا أمامهم وجهًا لوجه.
هذه المعركة اكتسبت من خلال المدفعية التي أطلقت مائة وعشرين ألف قذيفة، وتكبد الروس خمسين ألفًا بين قتيل وجريح، أما خسائر الفرنسيين فكانت سبعة عشر ألف رجل، كانت ثمة أنباء تصل إلى الإمبراطور تقول: سيدي قتل هذا الجنرال أو أصيب ذاك، ولابد من أن يحل محله آخر، وهكذا رقي العقيد "أنيبير" إلى رتبة جنرال.
أنبير:
أتذكر ذلك جيدًا، كنت قريبًا من الإمبراطور على الدوام وكانت عباراته يومئذ تقول: أيها العقيد إني أعينك جنرالاً اذهب إلى قيادة الفرقة عند الخنادق الكبرى واستول عليها.
امتطى الجنرال جواده يتبعه العريف المرافق في ساحة القتال، بعد ربع ساعة من ذلك عاد المساعد إلى الإمبراطور ليبلغه الاستيلاء على الخنادق الكبرى وإصابة الجنرال الجديد، ومات بعد ثمانية أيام من ذلك مع أعداد أخرى، سمعت أن الروس خسروا خمسين جنرالاً بين قتيل وجريح، مع استمرار المعارك بقينا في الاحتياط، سقط العديد من القذائف في مواقعنا وبالقرب من الإمبراطور.
استمرت المعركة طوال اليوم وبقينا في ساحة المعركة طوال الليل، وأمضيت اليوم التالي أسير في ساحة القتال، كان مشهدًا حزينًا ورهيبًا.
:
طوال ذلك اليوم تحمل الروس الجزء الأكبر من الخسائر، عدم الاكتراث بالخسائر الذي يميز القيادة الروسية جعلها تصر على وقوف التشكيلات بصمود معرضين أنفسهم لنيران المدفعية الفرنسية، وفي كثير من الأحيان كانوا يفقدون نصف عددهم من دون أن يتحركوا من مكانهم أو حتى يطلقوا رصاصة واحدة.
أنقذ الكثيرون منهم في فترة ما بعد الظهر.
عند المساء توقف الجيش المتعب عن القتال، ستون ألف إصابة تنتشر على الأرض من دون تقدم الفرنسيين أكثر من نصف ميل، مع ذلك فإن حجم الجهود البشرية الهائلة والخسائر الجسيمة التي تعرضت لها جعل الروس يبدءون بالانسحاب في جنح الظلام، وأصبح الطريق إلى موسكو مفتوحًا على مصراعيه.
إن كان نصرًا فهو نصر مكلف، أخيرًا وجد "نابليون" نفسه سيدًا لعاصمة أعدائه، حالة المؤن لديه كانت يائسة، كان يتوقع ويحتاج إلى سعي الروس لتوقيع السلام مما سيمكنه من العودة إلى فرنسا قبل حلول فصل الشتاء، وجد موسكو غارقة في هدوئها أثناء انتظار عودة دوريته، ومرة أخرى أكد الروس أنهم لم يتخلوا عن القتال.
رغبتهم الوطنية في المقاومة أدت بهم إلى مستويات أخرى من التضحيات، الآن وبهدف هزيمة الفرنسيين غادر جميع السكان مدينة موسكو.
صباح الرابع عشر من أيلول سبتمبر وصل الجيش الفرنسي إلى موسكو ليجد مدينة خالية هجرها جميع السكان.
في الواحدة من بعد ظهر الرابع عشر من أيلول سبتمبر وبعد عبور غابة كثيفة رأينا تلة على مسافة ما وبعد نصف ساعة من ذلك وصل جزء من الجيش إلى أعلى جزء منها، مرسلاً علامة إلى الذين كانوا خلفه وهو يصرخ: موسكو موسكو.
وكانت المدينة واسعة فعلاً، لابد من أن نستريح هناك بعد كل هذا التعب؛ لأننا في الفيلق الإمبراطوري سرنا أكثر من ألف ومائتي ميل دون توقف.
كان اليوم صيفيًّا جميلاً، كانت الشمس تنعكس على جميع قبب القصور والكنائس، العواصم التي رأيتها كـ"باريس" و"برلين" و"وارسوا" و"فيينا" و"مدريد" كانت تترك أثرًا عاديًّا في نفسي، أما هذه فكانت تختلف جدًّا بدت بالنسبة إليَّ بل بالنسبة إلى الجميع رائعة فعلاً.
حين كنا نتسكع في المدينة وصلت أوامر بالتجهز التام.
ما كدنا نصل إلى ضواحي المدينة حتى التقينا عددًا من البائسين الذين أخرجوا من السجون في الكريملن، كانت ملامحهم مأساوية جدًّا، وهم مسلحون بالبندقيات والعصي وغيرها، أدهشنا أن لا نجد أحدًا يخرج إلينا، ما كنا لنفهم ذلك، الصمت الكامل، فتخيلنا أن السكان كانوا يخافون الخروج إلينا ولكنهم يسترقون النظر من خلف منازلهم.
المجموعات المجهولة التي شاهدها "بروجوين" هي بضع مئات من المجرمين الذين أطلقت سراحهم سلطات المدينة، كانت مهمتهم تكمن في إشعال النار في أرجاء المدينة لمواجهة عدو لدود مقابل إطلاق سراحهم، قام حارقو المباني بإنجاز عملهم على أكمل وجه، وسرعان ما تحول ثلثا المدينة إلى كتل من النيران.
بدأت النيران تشتعل بعد ساعة من وصولنا، على ميمنتنا شاهدنا دخانًا كثيفًا، ثم اشتعلت النيران لا نعرف من أين أتت، سرعان ما انتشرت النيران في كل مكان، وفي الحي التجاري.
لا شك في أن السجناء أشعلوا النيران في المحال التجارية بحثًا عن الطعام، ولكننا التقينا عددًا من حراس المدينة من الذين قالوا: إن الروس أنفسهم أشعلوا النار في المدينة، إلا أن السجناء قاموا بتنفيذ المهمة فقط.
فاجأنا بعد ذلك ثلاثة منهم يشعلون النار في كنيسة يونانية، حين شاهدنا اثنين منهم تخلصا من المشاعل وهربا، توجهنا نحو الثالث الذي احتفظ بالمشعل وبرغم وجود "ناتاب" عن القيام بعمله حتى ضرب على رأسه بمؤخرة البندقية عقابًا له على وقاحته.
التقينا حينئذ دورية من وحداتنا أضاعت الطريق، أبلغني العريف المسئول أنه شاهد سجناء روسيين يشعلون النار في منازل كثيرة، حاول إيقافهم فقتل واحدًا منهم.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
:
حين تنبهت قيادة الجيش الفرنسي إلى أن الروس يقومون بإشعال المدينة تحولت أوامر الحفاظ على النظام إلى عمليات لجمع الغنائم والقتل العشوائي.
كان الفرنسيون قساة مع كل مشبوه، وجاء عقابهم وحشيًّا وقاسيًا، حتى بعد وحشية "بورودينو" نشرت أعمال إرهابية الرعب في أرجاء العاصمة.
- في العاشرة صباحًا رأيت جنرالاً على ظهر جواده كنت أقود شابًّا يرتدي معطفًا من جلد الماعز، يربطه بحزام من الصوف الأحمر، سألني الجنرال إذا كنت مسئولاً عن الحراسة وحين أجبته بنعم رد بالقول: أحسنت أحسنت، يجب أن يقتل هذا الرجل رميًا بالرصاص، سبق أن رأيته يشعل النار في البيت الذي كنت أسكنه، لهذا طلبت إلى أربعة رجال أن يقوموا بتنفيذ أوامر الجنرال، ولكن الجنود الفرنسيين لا يحتملون هذا النوع برد فعل بارد.
- لم نتعمد أن تصيبه طلقاتنا، بل أبقيناه على قيد الحياة رأفة بشبابه، وهو لا يبدو من المجرمين، إلا أن الجنرال استمر بالمراقبة حتى رأى المسكين يسقط برصاصة جانبية.
في اليوم السادس عشر أعطيت أوامر بقتل كل من يشعل النار في المنازل، ونفذت تلك الأوامر مباشرة في باحة صغيرة بالقرب من القصر الحكومي، أطلق النار على عدد من مشعلي النيران وعلقوا على الأشجار، يقول شاهد عيان: حين كنت أنظر عبر النافذة رأيت من يطلق النار على محكوم آخر وقد رفض الركوع، فنفخ صدره وكأنه يتحدى قاتليه.
إلى جانب العنف الذي مُورِسَ على المشتبه بهم سمح الجنود الفرنسيون لأنفسهم بالقيام بأعمال السلب.
وبينما كان "نابليون" ينتظر عبثًا وصول مساعي السلام كان الخريف الروسي يعلن بدايته حاملاً معه الرياح الشتاء القارس.
جهل الفرنسيين بما ينتظرهم جعلهم يستمرون في أعمال جمع الغنائم، إن كارثة المدينة لم تؤثر في "نابليون" بالقدر الذي صورت فيه، إذ أن ثلث المباني نجا من الحرق ما يكفي لإسكان جميع أفراد جيشه.
الكارثة الفعلية لـ"نابليون" هي أن حرق المدينة أثبت بأن الروس لن يستسلموا، وأن الحرب سوف تُعلق إلى حين وقوعها في الشتاء على بعد ألف وخمسمائة ميل من فرنسا.
وبعد أن اتضح هذا الأمر لـ"نابليون" تأكد له أنه لا يستطيع الحصول على التموين والإمدادات لجيشه، وقد رأى "نابليون" أن الحل الوحيد هو العودة إلى الوطن.
- سبق أن تعرض لعوائق من قبل، في عام ألف وسبعمائة وتسعة وتسعين فشل في احتلال مدينة "عكا" في فلسطين، وفي عام ألف وثمانمائة وتسعة تعرض لكارثة جديدة في معركة "إيسبور نسلنج" ولكنه استرد سمعته بقوة بعد فوزه بمعركة "فاجرم" وعالج الظروف.
في عام اثني عشر تعرض لنصف مليون إصابة، وأخفق في تحقيق أي من الأهداف السياسية المحددة لتلك الحملة، بدأت بروسيا إحدى حليفاته تتفاوض على الهدنة، والحقيقة أنها انضمت إلى التوافق السداسي لاحقًا في عام ألف وثمانمائة وثلاثة عشر، وهكذا أصيب "نابليون" بنكسة مؤلمة، لم يعاود بعدها الحصول من جيشه على ما كان يعطيه في السنوات السابقة.
لا شك في أنه سيحقق أشياء كبيرة، ولكن يمكنك القول: إنه مع نهاية عام اثني عشر لم تعد مسألة: هل سيهزم "نابليون"؟ بل كم سيستغرق الوقت حتى ينزف ويهزم كليًّا؟
:
اتضح للإمبراطور أن جميع تمنياته بتوقيع معاهدة سلام مع روسيا ذهبت مع الريح، أي إن الباقين على قيد الحياة من حراسات الجيش الكبير أوشكوا على مغادرة موسكو وهم يحملون من الغنائم ما يجعلهم أقرب إلى التجار منهم إلى الجنود.
- أثناء انتظارنا لوصول القافلة أمضيت الوقت لتفقد جعبتي التي كانت ثقيلة الوزن، فعثرت على بضع أرطال من السكر وبعض الأرز والبسكويت، ونصف زجاجة من الشراب، وفستان صيني من الحرير مرصع بالذهب والفضة، والعديد من قطع الفضة والذهب، إلى جانب أيقونات ثمينة، وإطار من الفضة الذي أخذته من رجل كنت أساعده على إنزال قطع أخرى.
إلى جانب هذه كنت أحمل ملابسي وساعة جدار كبيرة وصورتين من الفضة، يبلغ طول كل منهما قدمًا واحدًا، وجميعها من الأشغال اليدوية، أحمل إلى جانب ذلك مجموعة من المفاتيح التي كان يحملها الأمير الروسي "سباتول"، كل هذه الأشياء كانت هدايا، وعثرت عليها في منازل التهمتها النيران.
لا أستغرب أن تكون الجعبة ثقيلة الوزن، للتخفيف من الوزن، أخرجت منها بنطالي الأبيض وأنا متأكد من أنني لم أعد بحاجة إليه بعد، ارتديت فوق ملابسي معطفًا حريريًّا أصفر مبطنًا من الداخل.
صنعته بنفسي من ملابس نسائية، فوقه رداء طويل وحقيبة تتدلى من الكتف تحت القبعة بسلسلة من الفضة، كانت مملوءة بعدة أشياء من بينها أيقونات من الفضة والذهب، وقطعة من الخزف الصيني، يبدو أن هذه الأشياء نجت بأعجوبة من الفوضى العارمة، وما زلت أحتفظ بها للذكرى، ولدي البندقية أيضًا وستة عشر مشطًا في جعبة الذخائر، إضافة إلى ذلك بعض من الصحة الجيدة والمعنويات المرتفعة لتكون لديك فكرة واضحة عن قدرات عريف في الحراسات الإمبراطورية.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
يوم الخامس والعشرين كنت أتولى الحراسة منذ الأمسية السابقة في منزل صغير حيث أمضى الإمبراطور ليلته، كان الضباب كثيفًا كالمعتاد في تشرين الأول أكتوبر، وفجأة دون إبلاغ أحد امتطى الإمبراطور جواده وتبعه بعض من الضباط العاديين.
ما كاد يخرج من هناك حتى سمعنا ضجيجًا مفاجئًا، في البداية ساد الظن بأننا سنسمع صرخة عاش الإمبراطور، بينما جاءت الأوامر تقول: إلى السلاح جميعًا، ستة آلاف من القوقاز وعلى رأسهم "بلاتوف" جاءوا لمفاجئتنا تحت وطأة الضباب.
فرت وحدات الحراسة الإمبراطورية عبر السهول، وتبعناها بعبور الجدول لاختصار المسافات، فوجدنا أنفسنا في مواجهة أولئك الوحوش يصرخون كالذئاب في حملتهم الهجومية، تمكنت وحداتنا من مواجهتهم واستعادت كل ما كانت تأخذه من عربات وحقائق موقعة خسائر جسيمة في صفوفهم.
حين وصلنا إلى السهل وجدنا الإمبراطور بين حشود القوقاز محاطًا بالجنرالات وبضباطه العاديين، حيث أصيب أحدهم إصابة مميتة، ما إن وصلت العصابات إلى السهل حتى قام العديد من الضباط بالدفاع عن أنفسهم وعن الإمبراطور الذي كان في وسطهم فعلاً باستخدام السيوف ضد القوقاز.
أحد الضباط العاديين فقد قبعته وسيفه بعدما قتل عددًا من رجال القوقاز، وما إن وجد نفسه عازلاً حتى ارتمى على أحد القوقازيين ليأخذ رمحه منه، في تلك اللحظة قامت مجموعة من الغرناطيين حين رأوه أعزل الرأس يحمل رمحًا بمهاجمته بعنف، عندما أدرك الغرناطي خطأه بذل كل ما في وسعه كي يقتل، فقذف بنفسه بين الأعداء يمنة ويسرة ولكن الجميع فروا من أمامه بعدما قتل عددًا من الرجال دون أن يتمكن من الموت عاد وحيدًا، تغطيه الدماء يسأل عن الضابط الذي أصابه ولكنه تعافى، وأخذ على حمالة إلى فرنسا، أذكر أن الإمبراطور بعد هذه الحادثة كان يتحدث إلى "ميورا" ساخرًا من الممر الضيق الذي خلصه من أيديهم في "مونت فورت".
وليد الغرناطي في فالنسيا أكد براعته من جديد بقتل أو إصابته عدد من القوقازيين، انتظرنا بعض الوقت في ذلك المكان، ثم عاودنا المسير تاركين "كالونجا" إلى اليسار، عبرنا نهرًا متوحلاً من خلال جسر سيء جدًّا، وخرجنا في اتجاه "جورجايسك".
لقد وقعت هذه المعركة قبل اثنين وخمسين يومًا.
:
مع استمرار توجه الجيش نحو الشرق بدأت الطرقات الروسية السيئة تؤثر سلبًا في خط الإمدادات، عثر "بورجوين" على جلد دب يقيه من البرد، وهكذا سقطت أول ثلوج الشتاء الروسي على الجيش الذي لم يكن يملك أي نوع من ملابس الشتاء.
كان الضباب كثيفًا يوم السادس من تشرين الثاني نوفمبر، بلغت الحرارة اثنتين وعشرين درجة تحت الصفر، تجمدت شفاهنا وعقولنا أيضًا، كل الأجواء كانت جليدية كانت الرياح مخيفة والثلوج تسقط قطعًا كبيرة، فقدنا رؤية السماء والرجال الذين أمامنا، كنا متراصّين قريبًا بعضنا من بعض عند غابة ما، كان علينا الانتظار قبل أن نتابع المسير لأن الطريق كانت ضيقة.
في خلال نصف الساعة الأول سقط الكثير من الرجال وماتوا، بينما وقع الكثيرون في أثناء مسيرة القافلة، أصبحت صفوفنا ضعيفة جدًّا، ولم تكن هذه إلا بداية مشاكلنا، حيث توقفنا لتناول الطعام، كانت الجياد التي خلفنا تُذبح، وكنا نجمع الدماء التي تخرج منها لتطهى وتؤكل، وكثيرًا ما كنا نجبر على أكلها قبل أن نجد الوقت للطهو فإما أن تطاردنا الوحدات الروسية، وإما أن نتلقى أوامر بالمسير.
ما كنا لنهتم كثيرًا، جل ما كنت أرى جنود يأكلون بهدوء فيما يقوم آخرون بإطلاق النار على الروس كي نتابع المسير.
كانت الأطباق معنا حيث كان كل منا يغمس يده ليخرج ما يحتاج إليه، ما جعل وجوهنا ملطخة بالدماء، كثيرًا ما كنا نجبر على ترك الجياد لقلة الوقت لتقطيعها ما يجعل بعض الرجال يختبئون كي لا يجبروا على اللحاق بوحداتهم ثم ينقضون على اللحوم كالطيور الجارحة، قل ما كانوا يعاودون الظهور، فإما أن يأسرهم العدو، وإما أن يقتلهم البرد.
- يومًا بعد يوم استمر السير عبر الشتاء القاسي، وتحت ضغوط الضربات المستمرة لفرسان القوقاز وأجنحة الجيش الروسي، تذكر العريف "بورجوين" تجربة الانسحاب الرهيبة بالقول: تركنا خلفنا أعدادًا كبيرة من القتلى والمصابين، لقد أجبرنا على السير فوق الأموات الذين تركوا على الطريق من قِبَل الفرق التي مرت قبلنا، كان الوضع سيئًا للحراسات الخلفية التي كانت شاهدة على المشاهد الرهيبة التي كان يتركها الجيش وراءه.
صرنا مجبرين على البدء في الصباح الباكر حتى ساعات متأخرة من الليل، أصبح النهار قصيرًا يبزغ الفجر في الثامنة صباحًا ليحل الظلام في الرابعة بعد الظهر، هذا ما جعل الكثيرين يفقدون السبيل، إذ إننا كنا نصل نهارًا إلى موقع المعسكر المؤقت حيث تصل جميع الوحدات منهكة.
كان الجو يائسًا والنفوس مضطربة، إنها مشاهد لا تُنسى، كان بعض الذين يمشون طوال اليوم مجبرين على البحث عن الوحدة التي ينتمون إليها حتى منتصف الليل، ومن دون أن يعوا ساعة الانطلاق في الصباح ينامون متأخرين، وحين يصحون يجدون الروس فوق رءوسهم، أسر آلاف الرجال على هذا المنوال، وسرعان ما كان الطريق محاطًا بالجثث، مما كان يحول دون استمراري في المسير، لقد وجدت صعوبة في جر قدمي خلفي، كثيرًا ما رأيت جنودًا يمسكون بأقدام المشاة يتوسلون مساعدتهم، وكثيرون ممن توقفوا للمساعدة سقطوا ولم يتمكنوا من النهوض بعدها.
http://www.majddoc.com/main.aspx?function=Item&id=13266&lang=#top
عثرت على بلطة كالتي تحملها الوحدات في حروبها، حاولت أن أقطع بعضًا من لحم جواد كان على الطريق، لكنه كان لحمًا مجلدًا وقاسيًا شعرت بالوهن لكن المحاولة بعثت في بعض الدفء، تمكنت من الحصول على بعض الثلج بعد كسره بالبلطة، فجأة شعرت بقوة دفعتني لمتابعة المسير.
تابعت السير باذلاً جهدي لتحاشي الأموات، تابعت السير، كنت أتوقف وأتحسس الطريق.
على الرغم من هذه الظروف القاسية تمكن الجيش الفرنسي من الحفاظ على بعض النظام العسكري، الماريشال "ناي" قاد قتالاً شرسًا على رأس وحدة من أفراد الحرس الإمبراطوري الناجين، وعلى رغم أعدادهم القليلة المدعمة ببعض الوحدات التي لم تصل مع الجيش إلى موسكو تمكنوا من مواجهة الروس في معركة "كراسلو".
التوافق بين العوائق الطبيعية وقسوة السكان وحدهما يستطيعان تحطيم المعنويات الفرنسية، نهر "بريتسينا" يشكل واحدًا من العوائق الطبيعية الذي يقف في طريق عدو قادم من الغرب، وبما أن قوة الجيش الفرنسي في روسيا بدت منهكة لم تتمكن من التوجه نحو جسور "بريتسينا" لذا حاولت الحشود المتبقية أن تعبر أحد الجسور وهي تتعرض لكثافة نيران القوات الروسية من الخلف.
لقد سبق أن أشرف "نابليون" على بناء جسر عسكري لجيشه، إلا أن الظروف تختلف اليوم.
شاهدنا رجالاً شجعانًا يعملون بجد لبناء جسر نعبره، عملوا طوال الليل وهم يقفون حتى الكتفين في المياه الجليدية، يبعث الجنرال فيهم الحماسة، ضحى هؤلاء الشجعان بحياتهم لإنقاذ الجيش، حتى إن أحد الزملاء أبلغني أنه شاهد الإمبراطور شخصيًّا يقدم إليهم الشراب مكافأة على ما قاموا به.
:
تحول عبور بسيط إلى محاولة لنصب كمين مع وصول وحدات روسية جديدة بعثت الرعب في قلوب المكافحين والفارين ممن ينتظرون دورهم للعبور مع ما تبقى من الجيش.
على الرغم من أن آلافًا قتلوا حتى الآن وعلى الرغم من الفوضى العارمة ما زال الجيش الفرنسي يتألف من أعداد كبيرة من الرجال.
في أثناء تدافع المئات لعبور الجسر سقط الكثيرون ليموتوا في الماء الجليدي، ومع انتشار الرعب سقط واحد من الجسرين لتسود أجواء الخوف الرهيب، بينما كان الجنود يسقطون في المياه القاتلة ويصرخون طلبًا للمساعدة.
إلى جانب الخوف الدائم من الموت على يد الجيش الروسي وفرسان القوقاز وقسوة الشتاء الروسي يضاف الآن انتقام الفلاحين الروس، تعرض هؤلاء الفقراء لكثير من الفظائع على أيدي الفرنسيين أثناء تقدمهم نحو موسكو، والآن حان وقت الانتقام.
مجموعات من الجنود المنفردين كانوا يتعرضون للقتل بأسوأ السبل الوحشية، الرجال الأضعف من أن يدافعوا عن أنفسهم كانوا أسرى الإرهاق والتعب بما لا يساعدهم على أدنى حدود المقاومة، ما إن تمكنت حشود الفارين من الابتعاد عن ضفاف نهر "بريتسينا" باتجاه فرنسا والأمل بالنجاة أصبح من الواضح أن جيش فرنسا الكبير أبيد عن بكرة أبيه.
في كانون الأول ديسمبر لم يبق أكثر من ثلاثة عشر ألفًا من أفراد الوحدات، أما الباقون فكانوا أشلاءً في الميدان.
حسم "نابليون" أمره وقرر أن لا جدوى من الإبقاء على وحدات متداعية فأمر بحرق صورة النسر المعلقة على صدور الوحدات، ثم ودع جيشه وسافر إلى باريس، لقد انتهت المغامرة الروسية البائسة بالنسبة إليه، أما بالنسبة إلى كثير من الرجال ممن كانوا على مسافة ثمانمائة ميل من الوطن فقد كان الطريق في بدايته.
منقول
:wink:
 
الله يسلمك شكرا لمرورك اتمنى ان يفيدك الموضوع
 
عودة
أعلى