سيد البحار خير الدين بارباروس
الدكتور محمد موسى الشريف
القسم الأول
الدكتور محمد موسى الشريف
القسم الأول
للمسلمين سادة وقادة بحريون مجاهدون كان لهم أثر جليل عظيم في إيقاف هجمات الصليبين في القرن التاسع والعاشر الهجريين / الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ، على سواحل افريقيا الشمالية ، وفعلوا بالكفار الأفاعيل ، وأمنوا طرق الحجاج في البحر ، وأحيوا روح الجهاد بعد موات طويل من قِبَل المسلمين حتى استولى الصليبيون على جُل المدن الساحلية في المغرب العربي الكبير من طرابلس إلى سبتة ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لكن سيد أولئك المجاهدين جميعاً كان هو البحار العثماني المجاهد خير الدين بارباروس ، وهو أشهرهم مطلقاً وأشدهم فتكاً ، وممن جمع بين الجهاد البحري والولاية والحكم ؛ فقد كان حاكماً عاماً للجزائر من قِبَل الدولة العثمانية ، ولقبه بارباروس لقبه به الأوروبيون ومعناه ذو اللحية الحمراء ، أما لقبه خير الدين فقد لقبه السلطان سليم الأول.
ولد في جزيرة ميديلي 877/1472 ، وقد فتح السلطان العثماني محمد الفاتح هذه الجزيرة ، وبقيت تابعة مدة طويلة للسلطنة العثمانية ثم هي اليوم تابعة لليونان وتسمى لسبوس ، وكان أبوه يعقوب جندياً عثمانياً ، وتزوج امرأة من بنات الجزيرة وأنجب منها أربعة أبناء : إسحاق ، وعروج ، وخيرالدين واسمه خضر لكن شهرته بخيرالدين طغت على اسمه ، والياس ، وحُبب إلى خير الدين البحر فكان يتاجر فيه بين بعض المدن البحرية العثمانية.
أسر أخوه عروج ، وحزن عليه كثيراً ، وحاول بكل ما استطاع أن ينقذه من الأسر فما قدر على ذلك ، لكن أخاه استطاع أن يحرر نفسه بنفسه – كما ذكرت في الحلقة الخاصة به - وتقابلا في جزيرة جربة التونسية ، وهناك قال خير الدين : " ما دام الموت هو نهاية كل حي فليكن في سبيل الله" وكانت هذه الجملة الرائعة بداية جهاد بحري طويل منظم ابتدأه الأخوان خير الدين وعروج رحمة الله تعالى عليهما ، ودخلا على سلطان تونس الحفصي وقالا له :
"نريد أن تتفضل علينا بمكان نحمي فيه سفننا بينما نقوم بالجهاد في سبيل الله ، وسوف نبيع غنائمنا في أسواق تونس فيستفيد المسلمون من ذلك وتنتعش التجارة ، كما ندفع لخزينة الدولة ثمن ما نحوزه من الغنائم"فرحب السلطان بهذا العرض وفتح لهما أبواب بلاده ، لكنه بعد ذلك غمره التخوف منهما وعمل على منعهما من سواحل تونس ، على أن خير الدين لم يخل بشرطه مع سلطان تونس أبداً ، لكنه خاف من أن يستولي خير الدين وعروج على تونس.
كان خير الدين ميمون النقيبة ، حسن الجهاد ، كثيره ، انتصر في معظم معاركه الحربية البحرية التي خاضها ، وحصل من الكفار على غنائم هائلة ، مما دعا بعض الأوربيين للقول :
"لقد ظهر تركيان اسمهما عروج وخيرالدين خضر ، يجب أن نسحق هاتين الحيتين قبل أن تتحولا إلى تنين ، علينا أن نمحو اسميهما من على وجه الأرض ، إننا إذا أتحنا لهم الفرصة سوف يسببان لنا متاعب كثيرة" لكن هؤلاء الكفار لم يستطيعوا القضاء على خير الدين على كثرة الحروب التي كانت بينهم ، ولله الحمد.
لم يكتف خيرالدين بمهاجمة سفن الكفار بل عمل ثلاثة أعمال عظيمة :
1- خلص عشرات الآلاف من مسلمي الأندلس ونقلهم إلى سواحل الجزائر وغيرها.
2- خلّص الجزائر من الاحتلال الإسباني.
3- حارب الحكام الخونة في الجزائر وتونس.
وفي مسلمي الأندلس قال خير الدين :
"كان الإسبان يقومون بمظالم كبيرة في حق المسلمين الذين كان الكثير منهم يعبدون الله سراً في مساجد سرية قاموا ببنائها تحت الأرض ، لقد دمر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد ، وصاروا كلما عثروا على مسلم صائم أو قائم عرضوه وأولاده للعذاب والإحراق ، خلال ذلك قمنا بحمل عدد كبير من المسلمين في السفن وإنقاذهم من أيدي الكفار ونقلهم إلى الجزائر وتونس" ، وكان يُجهد نفسه من أجل مسلمي الأندلس فإذا وصلوا إلى الجزائر قام بإسكانهم في أراض وهبها لهم ليستصلحوها ؛ فقد كانوا عمالاً مهرة.
وأما العملان الآخران العظيمان : محاربة الحكام الخونة ، وتخليص الجزائر من الاحتلال الاسباني فقد حصلا تحت الراية العثمانية ، فقد اتصل خير الدين بالسلطان العثماني سليم الأول ، وأرسل له رسالة تبين نجاحه وأخيه في الغزوات البحرية فما كان من السلطان إلا أن رفع يديه ودعا لهما قائلاً : "اللهم بيض وجهي عبديك عروج وخير الدين في الدنيا والآخرة ، اللهم سدد رميتهما ، واخذل أعداءهما ، وانصرهما في البر والبحر" وأرسل له ولأخيه سفينتين بحريتين عظيمتين ، وسيفين محلين بالماس ، ولباسين سلطانين ، ونيشانين ، ورسالة همايونية ، فلما استلم خير الدين الرسالة قبلها سبع مرات ووضعها على رأسه ، وأرسل السلطان سليم خان رسالة إلى حاكم تونس يوصيه فيها بخير الدين وعروج ، وهكذا صار خير الدين وعروج تابعين للسلطنة العثمانية ، وألُبس خير الدين حُلَة السلطان وسيفه في احتفال عظيم بتونس ، وهذا الذي أثار خوف سلطان تونس منه ومن أخيه عروج لأنه ظن أنهما سيأخذان منه تونس ويلحقانها بالسلطنة العثمانية.
أما الجزائر فقد عمل خير الدين وأخيه عروج على تخليصها من الاحتلال الإسباني ، وفي بجاية جاهد الأخوان جهاداً جليلاً حتى فتحوها ، وقصة فتحها بإيجاز أن خير الدين اتجه إلى بجاية في عشر سفن وألفين وثلاثة وثلاثين بحاراً ، ومائة وخمسين مدفعاً وأسرى يجدفون ، وحاصر قلعة بجاية تسعة وعشرين يوماً ، لكنه لم يتمكن من فتح القلعة ، ووصل الخبر إليه بأن قوات إسبانية كبيرة تحركت من جزيرة ميورقة تريد نصرة المحاصرين في بجاية ، فانسحب إلى جيجل يترقب سفن الإسبان ، فظهرت لهم عشر سفن كبيرة مشحونة بالأسلحة والمعدات فهجم عليها وهو وأخوه عروج وبحارتهما مهللين مكبرين وانتصر على الإسبان واستولى على السفن ، ورفع عليها الرايات الصليبية واتجه بها نحو بجاية ، وكان الإسبان في القلعة ينتظرون السفن فلما رأوها فرحوا وفتحوا أبواب القلعة ، وهنا خرج البحارة من السفن التي كمنوا فيها مهللين مكبرين ، فلما سمعهم الإسبان ولوا هاربين وفتحت القلعة ولله الحمد ، وعقب الفتح جاء شيوخ العرب وقوادهم إلى بجاية وبايعوا خير الدين ملكاً على الجزائر ، ولقد بلغ ما استولى عليه خير الدين من البارود فقط ثمانمائة برميل ، وهو قَدْر هائل جاءه على قَدَر ، فقد كان البارود الذي معه على وشك النفاد ، ولم يعد سلطان تونس يقبل بتزويده البارود بعد إعراضه عنه ، فعوضه الله تعالى خيراً.
وفتح خير الدين كذلك قلعة تنس ، وكان حاكمها أحد العرب الخونة وكان قد استعان بفرقة إسبانية تتولى حمايته ، وقُبيل فتح القلعة هرب حاكم تنس إلى عمه سلطان تلمسان وقال : "ملك إسبانيا سينقم لي من هؤلاء الأتراك" وفي هذا يقول خير الدين رحمه الله تعالى :
"لقد تبين لنا أن هذا الرجل لم يبق في قلبه ذرة من الإسلام ، فقد كان يظن أن الإسبان قادرون على انتزاع الجزائر من أيدينا وجعله سلطاناً عليها".
وللأسف بعد ذلك رجع حاكم تنس إليها بمعونة الإسبان والأعراب ، ثم خلصها منه بعد ذلك المجاهد عروج ، وقتل حاكم تنس وبعض رؤساء العرب ، ووطّد الحكم العثماني في تنس.
وقُتل عروج بعد ذلك في موقعة تلمسان رحمه الله تعالى ، فلما وصل خبره إلى خير الدين حزن عليه جداً وقال :
"عندما وصل خبر استشهاد أخي إلى الجزائر قررت أن أعيش لغاية واحدة هي المضي في نفس الطريق الذي سار فيه أخي ، تلك الغاية التي تتمثل في التضييق على الكفار في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط فما قيمة الحياة بعد مقتل أخي".
وفي مقتل عروج وبقاء خير الدين قال بعض الإسبان :
"الشكر لعيسى ؛ فقد استرحنا من البلاء الأكبر ، والآن يجب أن نتخلص بسرعة من البلاء الأصغر قبل أن يتحول الثعبان إلى تنين".
وأرسل إليه ملك إسبانيا كارلوس – شارل الخامس أوشارلكان - رسالة يقول فيها :
"لقد مات أخوك ، وقُتل أكثر جنوده ، فكُسر جناحك ، مَن تحسب نفسك حتى تقف في وجه أقوى ملك مسيحي بدون أخيك ؟ ماذا يمكنك أن تفعل ؟ خذ سفنك ورجالك واخرج من الجزائر فوراً ، وإياك أن تطأ قدماك أرض افريقيا مرة أخرى ، إن هذا آخر إنذار أوجه إليك ، سوف أملأ البحر بالسفن وأعود إلى الجزائر قريباً ، فإذا تمكنت منك هناك فلتعلم بأن عاقبتك ستكون وخيمة "وهذا تحذير شديد من الملك النصراني لخير الدين وقد كان والياً على الجزائر من قِبل الدولة العثمانية آنذاك ، أو بيلرباي الجزائر باللغة العثمانية ، فرد عليه خير الدين رداً قوياً في غاية الشدة ، فأرسل عقب تسلمه الرد أسطولاً كبيراً اشترك فيه ملوك نابولي وصقلية وألمانيا وهولندا وبلجيكا ، ورست سفنهم قبالة ساحل الجزائر وبدأوا بإنزال قواتهم إلى البحر ، لكن خير الدين كان قد استعد لتلك الحملة ، فاستطاع الانتصار على العسكر الكثيف ، وأسر منهم بضع مئات ، وقتل آلافاً ، وفر الباقون ، ولله الحمد والمنة.
وهنا استقرت ولاية الجزائر للعثمانيين وصار خير الدين هو الوالي عليها ، وكان في ذلك خير ويُمن وبركة على كل الساحل الافريقي الشمالي.
ولم يكن أمراء العرب الذين يحكمون بعض بقاع وبلاد في شمال افريقيا على قدر المسؤولية ، وكان لكثير منهم صلات مع الكفار يوالونهم ضد المسلمين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولنعرف مقدار الخيانة الكبيرة التي كان فاشية في بعض حكام شمال افريقيا آنذاك إليكم هذا النص من خير الدين بربروس :
"لم يكن ثمة شك في أن أكبر أعدائنا هم كفار إسبانيا ، كما كنا في حالة حرب مع أمم كافرة أخرى كالجنويين ، إلا أننا منذ استقرارنا بالجزائر كنا مضطرين إلى الانشغال بالأمراء المحليين وأشباههم في الجزائر وتونس والمغرب الذين كانوا مستائين من وجودنا ، شرع ملوك وأمراء تونس وتلمسان في التحالف مع كفار إسبانيا ، وحبك المؤمرات ضدنا سراً وعلانية ، بفضلنا استغنى التونسيون وازدهرت المدن التونسية بعد أن كانت خراباً... وبفضلنا أيضاً تخلص سلطان تونس من تسلط الإسبان والجنويين وامتلأت خزانته بالأموال نتيجة للخراج الذي كنا ندفعه له ، لقد كنا سعداء به ، والله يشهد أننا لم يكن لنا مطمع لا في مملكته ولا في أمواله ، وإلا لو كنا نريد ذلك فقد أتيحت لنا فرص كثيرة كان بإمكاننا أن نقضي عليه فيها لكننا لم نفعل... إن هذا السلطان لم يكن قادراً على مواجهتي بمفرده ، ولذلك كان يستعين بالإسبان تارة ، ويحرض الأمراء المحليين ضدي تارة أخرى ، وكان على رأس المستجيبين لتحريضه سلطان تلمسان ، لقد كان هذا السلطان تابعاً لي إلا أنه لم يكن يتردد في الاتصال بالاسبان والتحالف معهم سراً".
عمل خير الدين على فتح تلمسان التي قتل فيها أخوه عروج – رحمهما الله تعالى – وانتهز الفرصة عندما استعان به أخو سلطان تلمسان مسعود ضد أخيه ، فهرب سلطان تلمسان وتولى مسعود عوضاً عنه ، وذلك بمساعدة كبيرة من خير الدين عسكرية ومادية ، ولما جلس السلطان مسعود على عرش تلمسان أرسل له خيرالدين رسالة قال له فيها :
"الآن بفضل سلطاننا جلست على عرش أجدادك ، فاحذر مما كان سبباً في حرمان أخيك من عرشه وإياك وظلم المسلمين ، ولا تخالف أوامري قيد أنملة ، ولا تتأخر عن دفع الخراج السنوي يوماً واحداً ، ولا أسمع عنك أنك أقمت أي علاقة بالإسبان فهم سوف يقضون عليك عندما يتمكنون منك ، وتذكر بأن أخويك الكبيرين في وهران لاجئين عند الإسبان ، وإذا كنت لا تريد أن ترى أحداً منهما جالساً على عرشك فخذ ما يلزم من تدابير لحماية نفسك وعرشك" لكن مسعوداً لم يتعظ ولم يعتبر فشرع في ظلم الناس ونهب أموالهم ، ولما وصل إليه كتاب خير الدين مزقه !!
وفي تلك الأثناء اتصل سلطان تلمسان المخلوع اللاجئ للإسبان في وهران بخير الدين ورجاه أن يعيده إلى حكم تلمسان فرأى خير الدين المصلحة في إعادته وساعده على أخيه بجنود واستطاعوا فتح القلعة وإعادتها إلى حكم السلطان المخلوع ، وفر مسعود في ثلة من رجاله.
وفي تلك الأثناء وقعت في يدي خير الدين رسالة أرسلها أحد شيوخ العرب بالجزائر يُدعى ابن القاضي إلى ملك تونس يدعوه فيها للعصيان والاتحاد يداً واحدة ضد خير الدين ، فعزم خير الدين على معاقبة سلطان تونس والدخول إليها ، واستطاع ذلك بسهولة ، لكنه عفا عن سلطان تونس وكان ذلك خطأ كبيراً من خير الدين فياليته قتله ، وسيحدث هذا الخائن في أرض تونس مجزرة هائلة بالاستعانة بالصليبيين كما سأبين في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
وعاد إلى الجزائر بعد ذلك ، ونجا من كمين أعده له ابن القاضي في ممر ضيق فقد فيه خير الدين 750 شهيداً من البحارة ، ثم قام ذلك الشقي بمهاجمة خير الدين بجيش كبير لكن خير الدين تمكن من هزيمة الجيش وقتل قائده ، واستتبت الأمور في الجزائر لكنه رأى أن يخرج من الجزائر ويقيم في جيجل ، ولم يستمع لرجاء الجزائريين والعلماء له أن يبقى بل قرر أن يؤدب الجزائريين ويغادر مدينتهم بعد أن كثر خروجهم عليه ومناوشتهم له.
وبعد استقراره في جيجل خرج للغزو البحري فغنم أكثر من ثلاثين سفينة ، وغنم من الغلال والأسلحة والأموال والقماش ما لا يوصف كثرة وجودة.
يتبع
عن موقع التاريخ
لكن سيد أولئك المجاهدين جميعاً كان هو البحار العثماني المجاهد خير الدين بارباروس ، وهو أشهرهم مطلقاً وأشدهم فتكاً ، وممن جمع بين الجهاد البحري والولاية والحكم ؛ فقد كان حاكماً عاماً للجزائر من قِبَل الدولة العثمانية ، ولقبه بارباروس لقبه به الأوروبيون ومعناه ذو اللحية الحمراء ، أما لقبه خير الدين فقد لقبه السلطان سليم الأول.
ولد في جزيرة ميديلي 877/1472 ، وقد فتح السلطان العثماني محمد الفاتح هذه الجزيرة ، وبقيت تابعة مدة طويلة للسلطنة العثمانية ثم هي اليوم تابعة لليونان وتسمى لسبوس ، وكان أبوه يعقوب جندياً عثمانياً ، وتزوج امرأة من بنات الجزيرة وأنجب منها أربعة أبناء : إسحاق ، وعروج ، وخيرالدين واسمه خضر لكن شهرته بخيرالدين طغت على اسمه ، والياس ، وحُبب إلى خير الدين البحر فكان يتاجر فيه بين بعض المدن البحرية العثمانية.
أسر أخوه عروج ، وحزن عليه كثيراً ، وحاول بكل ما استطاع أن ينقذه من الأسر فما قدر على ذلك ، لكن أخاه استطاع أن يحرر نفسه بنفسه – كما ذكرت في الحلقة الخاصة به - وتقابلا في جزيرة جربة التونسية ، وهناك قال خير الدين : " ما دام الموت هو نهاية كل حي فليكن في سبيل الله" وكانت هذه الجملة الرائعة بداية جهاد بحري طويل منظم ابتدأه الأخوان خير الدين وعروج رحمة الله تعالى عليهما ، ودخلا على سلطان تونس الحفصي وقالا له :
"نريد أن تتفضل علينا بمكان نحمي فيه سفننا بينما نقوم بالجهاد في سبيل الله ، وسوف نبيع غنائمنا في أسواق تونس فيستفيد المسلمون من ذلك وتنتعش التجارة ، كما ندفع لخزينة الدولة ثمن ما نحوزه من الغنائم"فرحب السلطان بهذا العرض وفتح لهما أبواب بلاده ، لكنه بعد ذلك غمره التخوف منهما وعمل على منعهما من سواحل تونس ، على أن خير الدين لم يخل بشرطه مع سلطان تونس أبداً ، لكنه خاف من أن يستولي خير الدين وعروج على تونس.
كان خير الدين ميمون النقيبة ، حسن الجهاد ، كثيره ، انتصر في معظم معاركه الحربية البحرية التي خاضها ، وحصل من الكفار على غنائم هائلة ، مما دعا بعض الأوربيين للقول :
"لقد ظهر تركيان اسمهما عروج وخيرالدين خضر ، يجب أن نسحق هاتين الحيتين قبل أن تتحولا إلى تنين ، علينا أن نمحو اسميهما من على وجه الأرض ، إننا إذا أتحنا لهم الفرصة سوف يسببان لنا متاعب كثيرة" لكن هؤلاء الكفار لم يستطيعوا القضاء على خير الدين على كثرة الحروب التي كانت بينهم ، ولله الحمد.
لم يكتف خيرالدين بمهاجمة سفن الكفار بل عمل ثلاثة أعمال عظيمة :
1- خلص عشرات الآلاف من مسلمي الأندلس ونقلهم إلى سواحل الجزائر وغيرها.
2- خلّص الجزائر من الاحتلال الإسباني.
3- حارب الحكام الخونة في الجزائر وتونس.
وفي مسلمي الأندلس قال خير الدين :
"كان الإسبان يقومون بمظالم كبيرة في حق المسلمين الذين كان الكثير منهم يعبدون الله سراً في مساجد سرية قاموا ببنائها تحت الأرض ، لقد دمر الإسبان وأحرقوا جميع المساجد ، وصاروا كلما عثروا على مسلم صائم أو قائم عرضوه وأولاده للعذاب والإحراق ، خلال ذلك قمنا بحمل عدد كبير من المسلمين في السفن وإنقاذهم من أيدي الكفار ونقلهم إلى الجزائر وتونس" ، وكان يُجهد نفسه من أجل مسلمي الأندلس فإذا وصلوا إلى الجزائر قام بإسكانهم في أراض وهبها لهم ليستصلحوها ؛ فقد كانوا عمالاً مهرة.
وأما العملان الآخران العظيمان : محاربة الحكام الخونة ، وتخليص الجزائر من الاحتلال الاسباني فقد حصلا تحت الراية العثمانية ، فقد اتصل خير الدين بالسلطان العثماني سليم الأول ، وأرسل له رسالة تبين نجاحه وأخيه في الغزوات البحرية فما كان من السلطان إلا أن رفع يديه ودعا لهما قائلاً : "اللهم بيض وجهي عبديك عروج وخير الدين في الدنيا والآخرة ، اللهم سدد رميتهما ، واخذل أعداءهما ، وانصرهما في البر والبحر" وأرسل له ولأخيه سفينتين بحريتين عظيمتين ، وسيفين محلين بالماس ، ولباسين سلطانين ، ونيشانين ، ورسالة همايونية ، فلما استلم خير الدين الرسالة قبلها سبع مرات ووضعها على رأسه ، وأرسل السلطان سليم خان رسالة إلى حاكم تونس يوصيه فيها بخير الدين وعروج ، وهكذا صار خير الدين وعروج تابعين للسلطنة العثمانية ، وألُبس خير الدين حُلَة السلطان وسيفه في احتفال عظيم بتونس ، وهذا الذي أثار خوف سلطان تونس منه ومن أخيه عروج لأنه ظن أنهما سيأخذان منه تونس ويلحقانها بالسلطنة العثمانية.
أما الجزائر فقد عمل خير الدين وأخيه عروج على تخليصها من الاحتلال الإسباني ، وفي بجاية جاهد الأخوان جهاداً جليلاً حتى فتحوها ، وقصة فتحها بإيجاز أن خير الدين اتجه إلى بجاية في عشر سفن وألفين وثلاثة وثلاثين بحاراً ، ومائة وخمسين مدفعاً وأسرى يجدفون ، وحاصر قلعة بجاية تسعة وعشرين يوماً ، لكنه لم يتمكن من فتح القلعة ، ووصل الخبر إليه بأن قوات إسبانية كبيرة تحركت من جزيرة ميورقة تريد نصرة المحاصرين في بجاية ، فانسحب إلى جيجل يترقب سفن الإسبان ، فظهرت لهم عشر سفن كبيرة مشحونة بالأسلحة والمعدات فهجم عليها وهو وأخوه عروج وبحارتهما مهللين مكبرين وانتصر على الإسبان واستولى على السفن ، ورفع عليها الرايات الصليبية واتجه بها نحو بجاية ، وكان الإسبان في القلعة ينتظرون السفن فلما رأوها فرحوا وفتحوا أبواب القلعة ، وهنا خرج البحارة من السفن التي كمنوا فيها مهللين مكبرين ، فلما سمعهم الإسبان ولوا هاربين وفتحت القلعة ولله الحمد ، وعقب الفتح جاء شيوخ العرب وقوادهم إلى بجاية وبايعوا خير الدين ملكاً على الجزائر ، ولقد بلغ ما استولى عليه خير الدين من البارود فقط ثمانمائة برميل ، وهو قَدْر هائل جاءه على قَدَر ، فقد كان البارود الذي معه على وشك النفاد ، ولم يعد سلطان تونس يقبل بتزويده البارود بعد إعراضه عنه ، فعوضه الله تعالى خيراً.
وفتح خير الدين كذلك قلعة تنس ، وكان حاكمها أحد العرب الخونة وكان قد استعان بفرقة إسبانية تتولى حمايته ، وقُبيل فتح القلعة هرب حاكم تنس إلى عمه سلطان تلمسان وقال : "ملك إسبانيا سينقم لي من هؤلاء الأتراك" وفي هذا يقول خير الدين رحمه الله تعالى :
"لقد تبين لنا أن هذا الرجل لم يبق في قلبه ذرة من الإسلام ، فقد كان يظن أن الإسبان قادرون على انتزاع الجزائر من أيدينا وجعله سلطاناً عليها".
وللأسف بعد ذلك رجع حاكم تنس إليها بمعونة الإسبان والأعراب ، ثم خلصها منه بعد ذلك المجاهد عروج ، وقتل حاكم تنس وبعض رؤساء العرب ، ووطّد الحكم العثماني في تنس.
وقُتل عروج بعد ذلك في موقعة تلمسان رحمه الله تعالى ، فلما وصل خبره إلى خير الدين حزن عليه جداً وقال :
"عندما وصل خبر استشهاد أخي إلى الجزائر قررت أن أعيش لغاية واحدة هي المضي في نفس الطريق الذي سار فيه أخي ، تلك الغاية التي تتمثل في التضييق على الكفار في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط فما قيمة الحياة بعد مقتل أخي".
وفي مقتل عروج وبقاء خير الدين قال بعض الإسبان :
"الشكر لعيسى ؛ فقد استرحنا من البلاء الأكبر ، والآن يجب أن نتخلص بسرعة من البلاء الأصغر قبل أن يتحول الثعبان إلى تنين".
وأرسل إليه ملك إسبانيا كارلوس – شارل الخامس أوشارلكان - رسالة يقول فيها :
"لقد مات أخوك ، وقُتل أكثر جنوده ، فكُسر جناحك ، مَن تحسب نفسك حتى تقف في وجه أقوى ملك مسيحي بدون أخيك ؟ ماذا يمكنك أن تفعل ؟ خذ سفنك ورجالك واخرج من الجزائر فوراً ، وإياك أن تطأ قدماك أرض افريقيا مرة أخرى ، إن هذا آخر إنذار أوجه إليك ، سوف أملأ البحر بالسفن وأعود إلى الجزائر قريباً ، فإذا تمكنت منك هناك فلتعلم بأن عاقبتك ستكون وخيمة "وهذا تحذير شديد من الملك النصراني لخير الدين وقد كان والياً على الجزائر من قِبل الدولة العثمانية آنذاك ، أو بيلرباي الجزائر باللغة العثمانية ، فرد عليه خير الدين رداً قوياً في غاية الشدة ، فأرسل عقب تسلمه الرد أسطولاً كبيراً اشترك فيه ملوك نابولي وصقلية وألمانيا وهولندا وبلجيكا ، ورست سفنهم قبالة ساحل الجزائر وبدأوا بإنزال قواتهم إلى البحر ، لكن خير الدين كان قد استعد لتلك الحملة ، فاستطاع الانتصار على العسكر الكثيف ، وأسر منهم بضع مئات ، وقتل آلافاً ، وفر الباقون ، ولله الحمد والمنة.
وهنا استقرت ولاية الجزائر للعثمانيين وصار خير الدين هو الوالي عليها ، وكان في ذلك خير ويُمن وبركة على كل الساحل الافريقي الشمالي.
ولم يكن أمراء العرب الذين يحكمون بعض بقاع وبلاد في شمال افريقيا على قدر المسؤولية ، وكان لكثير منهم صلات مع الكفار يوالونهم ضد المسلمين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولنعرف مقدار الخيانة الكبيرة التي كان فاشية في بعض حكام شمال افريقيا آنذاك إليكم هذا النص من خير الدين بربروس :
"لم يكن ثمة شك في أن أكبر أعدائنا هم كفار إسبانيا ، كما كنا في حالة حرب مع أمم كافرة أخرى كالجنويين ، إلا أننا منذ استقرارنا بالجزائر كنا مضطرين إلى الانشغال بالأمراء المحليين وأشباههم في الجزائر وتونس والمغرب الذين كانوا مستائين من وجودنا ، شرع ملوك وأمراء تونس وتلمسان في التحالف مع كفار إسبانيا ، وحبك المؤمرات ضدنا سراً وعلانية ، بفضلنا استغنى التونسيون وازدهرت المدن التونسية بعد أن كانت خراباً... وبفضلنا أيضاً تخلص سلطان تونس من تسلط الإسبان والجنويين وامتلأت خزانته بالأموال نتيجة للخراج الذي كنا ندفعه له ، لقد كنا سعداء به ، والله يشهد أننا لم يكن لنا مطمع لا في مملكته ولا في أمواله ، وإلا لو كنا نريد ذلك فقد أتيحت لنا فرص كثيرة كان بإمكاننا أن نقضي عليه فيها لكننا لم نفعل... إن هذا السلطان لم يكن قادراً على مواجهتي بمفرده ، ولذلك كان يستعين بالإسبان تارة ، ويحرض الأمراء المحليين ضدي تارة أخرى ، وكان على رأس المستجيبين لتحريضه سلطان تلمسان ، لقد كان هذا السلطان تابعاً لي إلا أنه لم يكن يتردد في الاتصال بالاسبان والتحالف معهم سراً".
عمل خير الدين على فتح تلمسان التي قتل فيها أخوه عروج – رحمهما الله تعالى – وانتهز الفرصة عندما استعان به أخو سلطان تلمسان مسعود ضد أخيه ، فهرب سلطان تلمسان وتولى مسعود عوضاً عنه ، وذلك بمساعدة كبيرة من خير الدين عسكرية ومادية ، ولما جلس السلطان مسعود على عرش تلمسان أرسل له خيرالدين رسالة قال له فيها :
"الآن بفضل سلطاننا جلست على عرش أجدادك ، فاحذر مما كان سبباً في حرمان أخيك من عرشه وإياك وظلم المسلمين ، ولا تخالف أوامري قيد أنملة ، ولا تتأخر عن دفع الخراج السنوي يوماً واحداً ، ولا أسمع عنك أنك أقمت أي علاقة بالإسبان فهم سوف يقضون عليك عندما يتمكنون منك ، وتذكر بأن أخويك الكبيرين في وهران لاجئين عند الإسبان ، وإذا كنت لا تريد أن ترى أحداً منهما جالساً على عرشك فخذ ما يلزم من تدابير لحماية نفسك وعرشك" لكن مسعوداً لم يتعظ ولم يعتبر فشرع في ظلم الناس ونهب أموالهم ، ولما وصل إليه كتاب خير الدين مزقه !!
وفي تلك الأثناء اتصل سلطان تلمسان المخلوع اللاجئ للإسبان في وهران بخير الدين ورجاه أن يعيده إلى حكم تلمسان فرأى خير الدين المصلحة في إعادته وساعده على أخيه بجنود واستطاعوا فتح القلعة وإعادتها إلى حكم السلطان المخلوع ، وفر مسعود في ثلة من رجاله.
وفي تلك الأثناء وقعت في يدي خير الدين رسالة أرسلها أحد شيوخ العرب بالجزائر يُدعى ابن القاضي إلى ملك تونس يدعوه فيها للعصيان والاتحاد يداً واحدة ضد خير الدين ، فعزم خير الدين على معاقبة سلطان تونس والدخول إليها ، واستطاع ذلك بسهولة ، لكنه عفا عن سلطان تونس وكان ذلك خطأ كبيراً من خير الدين فياليته قتله ، وسيحدث هذا الخائن في أرض تونس مجزرة هائلة بالاستعانة بالصليبيين كما سأبين في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
وعاد إلى الجزائر بعد ذلك ، ونجا من كمين أعده له ابن القاضي في ممر ضيق فقد فيه خير الدين 750 شهيداً من البحارة ، ثم قام ذلك الشقي بمهاجمة خير الدين بجيش كبير لكن خير الدين تمكن من هزيمة الجيش وقتل قائده ، واستتبت الأمور في الجزائر لكنه رأى أن يخرج من الجزائر ويقيم في جيجل ، ولم يستمع لرجاء الجزائريين والعلماء له أن يبقى بل قرر أن يؤدب الجزائريين ويغادر مدينتهم بعد أن كثر خروجهم عليه ومناوشتهم له.
وبعد استقراره في جيجل خرج للغزو البحري فغنم أكثر من ثلاثين سفينة ، وغنم من الغلال والأسلحة والأموال والقماش ما لا يوصف كثرة وجودة.
يتبع
عن موقع التاريخ