كان قيام دولة الأغالبة في إفريقية عام 184 هـ - 800م مرتبطا ارتباطا وثيقا بما كان يسود بلادها من اضطراب وفوضى وصراع مذهبي وثورات الجند العرب والبربر في الفترة الممتدة من خلافة هشام بن عبد الملك ( 105 هـ - 125 /724 م - 743م ) إلى نهاية الدولة الأموية 132 هـ /750 م [1].
لمحة سريعة عن إمارة إفريقية
بعد أن انتصر المسلمون على الروم في موقعة سبيطلة ( 27 هـ -648م) بدأت ولاية إفريقية في الظهور عندما أنشا عقبة بن نافع مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي ( 50هـ - 55هـ / 670م - 675م )، قامت ولاية إفريقية الإسلامية ولاية مستقلة بنفسها، لها واليها لإدارتها المستقلة عن ولاية مصر.
وعندما تولى تلك الولاية حسان بن النعمان الغساني ( 71 هـ - 85 / 690م - 704م ) وضع أساس النظام الإداري لتلك الولاية الجديدة وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية، فإن إفريقية البيزنطية كانت تشمل ولاية طرابلس مضافا إليها إفريقية نفسها، وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءا مما عرف فيما بعد بإقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين، وكانت إفريقية البيزنطية بهذه الحدود ولاية كبيرة تضم مساحة واسعة من الشمال الإفريقي، وإذا كنا نستطيع أن نحد حدودها الغربية بشكل دقيق نقول: إنها كانت تشمل إقليم قسطيلية وما يليه شمالا حتى ساحل البحر، ويمتد غربا فيشمل النصف الشرقي من جبال أوراس وتقف عند حدود ما يعرف اليوم ببلاد القبائل في الجزء الشرقى من جمهورية الجزائر الحالية - فتدخل فيها قلعة لمبيزة أو قلاقل لمبيزة وباغاية وتصل إلى البحر فتشمل ولاية بيجيا الحالية وتصل إلى مجرى نهر شلف، ونظن أن هذه كانت حدود ولاية إفريقية في التنظيم الذي وضعه حسان بن النعمان [2].
وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير اللخمي أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى.
وفي أواخر الدولة الأموية ونتيجة لأحداث الفتنة المغربية الكبرى التي بدأت في المغرب من سنة 122هـ في ولاية عبيد الله بن الحبحاب واستمرت حتى نهاية العصر الأموي. والتي أخرجت بدورها المغربين الأوسط والأقصى عن السلطان الفعلي للخلافة الأموية.
واضح أن العباسيين عندما ورثوا الخلافة من الأمويين وجدوا أن دولتهم تمتد وتغطي مساحة شاسعة جدا لم تستطع قواهم أن تسيطر عليها سيطرة كاملة خاصة وأن انتقال مركز الدولة من دمشق إلى بغداد زاد من مسئوليتها الأسيوية، وفرض عليها مطالب جديدة لم تكن تشغل بال الأمويين بالصورة التي كانت عليها أيام العباسيين. ونتيجة لذلك نجد أن العباسيين ركزوا جهدهم كله في المحافظة على ذلك الجزء الذي كان لدولتهم بصورة فعلية من إفريقية. ولم تتمكن الحكومة المركزية العباسية من أن تسيطر على ولاية إفريقية بسبب عدم الاستقرار فيها نتيجة للصراع الداخلي الذي شغل الخلافة العباسية، ولم يترك لها من الفراغ ما يمكنها من محاولة بسط سلطانها على بقية بلاد المغرب.
ولاية الأغلب بن سالم على إفريقية
لما عُزل محمد بن الأشعث الخزاعي، أسند أبو جعفر المنصور ولاية إفريقية لزعيم من زعماء العرب وهو الأغلب بن سالم بن عقال التميمي [3]، وكان من كبار جند مصر، فسار الأغلب بن سالم وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج أبو حاتم تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب بالمغرب الأوسط، وبدأ يمهد الأمر لنفسه.
ولاية المهالبة على إفريقية
ولاية عمر بن حفص المهلبي
انتهى رأي المنصور إلى تقليد ولاية إفريقية لرجل من ذوي الكفاية من بني المهلب بن أبي صفرة، وهو عمر بن حفص المهلبي سنة 151هـ، فاشتدت الثورات عليه واتحدت الخوارج الصفرية والإباضية على قتال الجيش العباسي، وكتب عمر بن حفص بالنجدات من المنصور، ولكنه قُتل قبل أن تصله النجدات والتعزيزات سنة 154 هـ / 771م، واحتل أبو حاتم الإباضي القيروان سنة155 هـ/ 772 م، وهكذا تمكن الخوارج من السيطرة على إفريقية وأصبح تعداد أنصارهم ما يقرب 400.000 مقاتل.
ولاية يزيد بن حاتم المهلبي
فاستخدم المنصور الحماس الديني ضد الخوارج باسم الجهاد، فاسند ولاية إفريقية ليزيد بن حاتم المهلبي، واستطاع أن يقمع ثورات الخوارج حتى عام 170 هـ، مكث يزيد بن حاتم واليا على إفريقية حوالي خمسة عشر عاما، تعد من أحسن فترات عصر الولاة على إفريقية وأكثرها خيرا سواء في الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعمارية، فأعاد بناء المسجد الأعظم بالقيروان، وأعطى للفقهاء المالكية مكانة وأهمية كبيرة واعتمد عليهم في محاربة الخوارج، فكان يستشيرهم ويأخذ برأيهم، مما جعل إفريقية قاعدة للمذهب السني أو قاعدة للسنة على مذهب الإمام مالك بن أنس في بلاد المغرب
انتهاء ولاية المهالبة
ولما توفى يزيد بن حاتم تقلد ولاية إفريقية بعده ابنه داود وظل داود مقيما في إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم ليتقلد إمارة إفريقية من قبل هارون الرشيد، ثم عزله الرشيد الفضل بن روح بن حاتم الذي تولى سنة 77 1 هـ / 793م ولم يمكث في حكمه إلا سنة ونصف تقريبا، وثار عليه جند إفريقية والمغرب لاستبداده بالسلطة، فقام عبد الله بن عبدويه الجارود قائد جند تونس، فتمكن من الاستلاء على السلطة وقتله سنة 178 هـ- 794م
ولاية هرثمة بن أعين
أرسل هارون الرشيد على إفريقية قائده هرثمة بن أعين، وكان شيخا مجربا في فن الحروب وحكم الولايات حكم هرثمة بن أعين إفريقية قرابة من العامين من (180هـ- 1 8 1 هـ /796 م - 797م) وخلال هذه الفترة القصيرة ساد إفريقية واستقرار، فعمل هرثمة على تجديد ما تخرب من المدن والموانئ والمنشآت؛ ليعيد ثقة الناس في الدولة العباسية، وقد تقرب إليه إبراهيم بن الأغلب فولاه الزاب .
ولاية محمد بن مقاتل العكي
في سنة 181هـ ولَّى أمير المؤمنين الرشيد على إفريقية بعد هرثمة محمد بن مقاتل العكي، وكان رضيع الرشيد، ولم يكن محمود السيرة فيما تولى للرشيد من ولايات، ولذلك فإنه عندما دخل إفريقية لم يسر في حكمها بطريقة تعجب الناس، فاضطربت الأمور في إفريقية، فثار الشعب والجند ضده، كما ثار عليه واليه على تونس تمام بن تميم التميمي سنة 183 هـ.
دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس) (184 ـ 296 هـ / 800 ـ 909م)
ولاية إبراهيم بن الأغلب
في هذه الظروف برز إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية في إفريقية، فقد مكَّن للعكي في مقاتلة تمام بن تميم ومكَّن له، فعزل الرشيد أخاه محمد بن مقاتل العكي وولي مكانه إبراهيم بن الأغلب على إفريقية عام 184 هـ، وبدأ إبراهيم منذ توليته الإمارة على تأسيس دولة له ولأبنائه من بعده.
عرف الرشيد رغبة إبراهيم بن الأغلب، ومع ذلك فقد استبقاه في الإمارة بل ودعمه ما دام يعمل باسم العباسيين، وخاصة أن الرشيد كان مشغولاً بحرب الروم، وهجوم الخزر، ومشكلات المشرق، وفي الوقت نفسه يريد أن يحمي الأجزاء الغربية من الإمارات التي قامت في المغرب والأندلس من خوارج وأدارسة وأمويين، ولم يكن لدى الرشيد أسطول يحمي أقاليم البحر المتوسط فاكتفى بالإشراف على دولة إبراهيم بن الأغلب، ورأى ذلك خيرًا وأفضل من أن يخرجوا من إشرافه نهائيًّا كباقي الإمارات
واستطاع إبراهيم بن الأغلب أن يحقق التزاماته نحو الخلافة فكون قوة عسكرية كبيرة من البربر المستعربة الذين عملوا كجند في الجيش الأغلبي كما استكثر إبراهيم بن الأغلب من الصقالبة، كذلك كون إبراهيم بن الأغلب قوة بحرية هائلة مكنت الأغالبة بعد ذلك من غزو صقلية ومالطة والسواحل الإيطالية، ولم يطمئن على حكمه إلا بعد أن تم له إنشاء كل هذه القوات خلال السنوات الأولى من حكمه لإفريقية، كما أقام إبراهيم الخطبة لبني العباس على المنابر ورفع شعار بني العباس، ودفع الخراج المقرر عليه وهو أربعون ألف دينار، ونقش اسم الخليفة على السكة، وشيد مدينة جديدة أطلق عليها العباسية ( القصر القديم ) تمجيدا لهم وتقع على بعد ثلاثة أميال جني القيروان.
في عهد إبراهيم بن الأغلب ثار بتونس رجل من كبار رجالات العرب يسمى حمديس ونزع السواد شعار بني العباس، فأرسل إبراهيم قائد عمران بن مجالد في جيش كبير للقضاء على حركته، فالتقى عمران معه في معركة قرب تونس انهزم فيها حمديس وأنصاره، وقتل منهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وتمكن عمران من دخول تونس، وبرغم أن عهد بن الأغلب لم يخل من الثورات والفتن ولكنها كانت لا تقاس بالثورات التي كانت تضطرم في إفريقية في العهود السابقة.
على أي حال تمكن إبراهيم بن الأغلب بفضل ما لديه من كفاءة وشجاعة وذكاء وقوة مؤيديه من الجماعات اليمنية والقيسية من أن يقيم دولة جديدة تمثل الدولة العباسية في بلاد إفريقية
ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب (196 – 201 هـ)
ولى إبراهيم بن الأغلب ابنه أبا العباس عبد الله العهد من بعده، فلما مات سنة 196 هـ، كان عبد الله في طرابلس فتولى زيادة الله الأمر من بعده وأخذ له البيعة على أهله ونفسه ورجاله وخدمه، ولكن عبد الله لم يعد إلى إفريقية إلا في سنة 197 هـ، حيث سلم له أخوه زيادة الله مقاليد الأمور، ولما قتل الأمين في سنة 198 هـ وولى الخلافة المأمون العباسي أقر عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب على إفريقية.
وكان عبد الله سيء السيرة حتى مع أهله وأخيه زيادة الله، وأساء معاملتهم، كما اشتط في دفع الضرائب على شعبه فكرهه الناس، حتى دعا عليه أهل الدين والفقه أن يريحهم الله من جوره وظلمه، حتى مات سنة 201 هـ وولي من بعده أخوه زيادة الله
ولاية زيادة الله بن إبراهيم (201 – 223 هـ)
كانت ولايته من قبل المأمون سنة 201هـ، فطالت أيامه واستقام الأمر وبنى جامع سور القيروان ودار سوسة وبنى جامع القيروان بعد هدمه ما عدا محرابه، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنى قنطرة باب الربيع، وحصن الرباط بسوسة، وفتح في أيامه جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات وكان قاضى القيروان.
فتح صقلية
وفي عهد زيادة الله فتحت جزيرة صقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات، قال ابن رشيق: "سيَّره في نحو من عشرين ألفا من الجيش وأركبه من سوسة، وسار إلى صقلية والتقى بجانبها، يقال: أنه كان مائة ألف وخمسين ألف مقاتل فهزمه أسد بن الفرات، وخذل الله الكافرين وغنم المسلمون أموالهم وبددوا شملهم واستفتحوا من صقالية مواضع كثيرة، ومات أسد بن الفرات محاصرا لسرقوسة في ربيع الآخر سنة 213 هـ، واستولى المسلمون على الجزيرة واستوطنوها، ودفن أسد هناك".
وأقام زيادة الله على أعماله إلى أن مات سنة 223هـ في خلافة المعتصم. وكان زيادة الله يقول: "ما أبالي إن شاء الله تعالى بأهوال يوم القيامة وقد قدمت أربعة أشياء: بناء الجامع القيروان، وقد أنفقت عليه ثمانين ألف دينار، وبناء القنطرة بباب الربيع، وبناء حصن الرابط بسوسة، وتولية أحمد بن محرز القضاء وكان من العلماء العالمين الزاهدين (توفي في سنة 221 هـ)".
ولما مات زيادة الله ولي بعده أخو أبى عقال
ولاية أبي عقال الأغلب إبراهيم بن الأغلب (223 – 226 هـ)
وهو أخو زيادة الله، كانت ولايته من قبل المعتصم بالله، وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، فمكث أبي عقال المذكور مدة ولم تطول أيامه، ومات سنة 226 هـ في خلافة المعتصم، وكانت مدة ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر وتولى بعده أخو العباس.
ولاية أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب (226 هـ - 242 هـ)
كانت ولايته من قبل المعتصم، وقد أمنت السبل في أيامه، وكان في عهده الإمام سحنون بن سعيد، وقد منع الإمام سحنون في زمانه أهل الأهواء من مسجد الجامع، وكان قبل ذلك يجتمعون فيه ويتناظرون في مذاهبهم الفاسدة مثل الإباضية والصفرية والزنادقة والمعتزلة فمنعهم سحنون من الاجتماع لذلك في المسجد، وكان أمير صقيلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة، تولاها سنة 237هـ ففتح فيها الفتوحات الجليلة ومنها فتح قصريانة يوم الخميس منتصف شوال من السنة المذكورة، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، فكان الملك قبل ذلك يسكن سرقوسة فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة انتقل الملك إلى قصريانة المذكور لحصانتها، ففتحها العباس المذكور كما قلنا وبنى فيها المسجد في الحال ونصب فيه منبرا وخطب عليه وصلى فيه الجمعة وذلك على عهد أبي العباس بن فزارة المذكور وذلك في خلافة المتوكل ومات أبو العباس بن الأغلب سنة 242 هـ وتولى بعده ولده إبراهيم
ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد (242 – 249 هـ)
كانت ولايته بعد أبيه من قبل الخليفة المتوكل على الله، وقد اجتمع له من الفضائل لم يعمل بها أبدا أي أمير أغلبي آخر، بمثل صدقه وحسه السياسي وروح الاستمرار، فأحبه الناس، وكان حكمه هادئا كل الهدوء، باستثناء المصاعب التي لاقاها مع البربر بولاية طرابلس، وهي مصاعب تشهد لا محالة على ما وصل إليه الحكم الأغلبي من انتشار والعدل والقرب من الرعية
باقي أمراء الأغالبة
ظلت دولة الأغالبة قائمة يتعاقب عليها أمراء البيت الأغلبى، وهم:
زيادة الله الثاني (249- 250 هـ)، محمد الثاني أبو الغرانيق (250 – 261 هـ)، إبراهيم الثاني (261- 289 هـ)، عبد الله الثاني بن إبراهيم بن الأغلب (289- 290 هـ)، زيادة الله الثالث بن عبد الله (290 ـ 296هـ).
سقوط دولة الأغالبة
تولى عبد الله الثاني الإمارة في سنة (289هـ=902م)، ولم يستمر بها سوى عام ونصف العام، حيثُ قُتل على يد ابنه زيادة الله الثالث، وكانت فترة حكمه امتدادًا لسياسة والده إبراهيم بن أحمد في الحكم، فبدأت عوامل الضعف والوهن تدب في أوصال دولة الأغالبة، ولما تولى زيادة الله الثالث الحكم (290هـ=903م) عقب مقتل أبيه، وانتهج سياسة أبيه وجده، وتتبع أفراد أسرته بالقتل، في الوقت الذي نشط فيه أبو عبد الله الشيعى وأحرز الانتصارات تلو الأخرى، واستولى على كثير من
المدن الأغلبية، ولم تفلح جيوش زيادة الله في صده أو إيقاف زحفه، فوجد زيادة الله نفسه عاجزًا عن الحفاظ على ملك آبائه وأجداده، فآثر الهرب إلى مصر، وحمل معه كل ما استطاع حمله من مال وعتاد، ورحل من رقادة في (26من جمادى الآخرة عام 296هـ = مارس 909م)، فباتت المدينة سهلة المنال لأبى عبد الله الشيعى، فبعث عروبة بن يوسف أحد قادته للاستيلاء عليها، فدخلها دون قتال، وطويت بذلك صفحة الأغالبة
الحضارة والعمران في دولة الأغالبة
تعتبر فترة الأغالبة في إفريقية من أمجد فترات تاريخها كما يروي المؤرخون، فقد دامت هذه الفترة أكثر من قرن من الزمان ساد في أثنائها الاستقرار السياسي النسبي لبلاد إفريقية، وكان للمذهب السني وشيوخه نصيب كبير في إقامة وتثبيت دعائم هذا الاستقرار، فقد تمكن الفقهاء بمعاونة أمراء الأغالبة من إخراج الخوارج من بلاد إفريقية، فلم يعودوا يعيشون إلا في جبل نفوسة جنوب ولاية طرابلس من أملاك الأغالبة، أما طرابلس نفسها فقد كانت سنية يسودها الفقه المالكي، وعندما أقام الخوارج الإباضية دولة لهم أقاموها خارج بلاد الأغالبة في إقليم تاهرت، وهو الجز الغربي من المغرب الأوسط.
إن قيام دولة الأغالبة جعل لإفريقية وأهلها شخصية مميزة وفريدة تختلف كل الاختلاف عن بقية بلدان المغرب، فكانت المدن والقرى الإفريقية محطات ومراكز العلم والشيوخ والتجار، فنهضت حركة العمران والانشاءإلى جانب الزراعة والرعي.
الإنجازات العمرانية
تجديد مسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة
من أعظم إنجازات الأغالبة المعمارية تجديد مسجدي القيروان وتونس وهما المعروفان بمسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة، فمسجد القيروان قد تعرض لعدة تجديدات منذ أن أسسه عقبة بن نافع إلى نهاية عصر الأغالبة، وذلك في عهود: حسان بن النعمان وحنظلة بن صفوان وزيادة الله بن الأغلب الذي أدخل عليه التجديدات الحاسمة ورفع قبابته ومئذنته وإعطائه صورته الحالية، ويذكر ابن عذاري أن زيادة الله أنفق أموالا كثيرة في هذا العمل، وكان يفتخر بهذا العمل.
كما قام زيادة الله بتجديد وتوسيع جامع تونس ولكن المنية أدركته قبل أن يكملها، فتولى بعده إبراهيم بن أحمد سادس أمراء الأغالبة فهو الذي أمر ببناء قبابه المضلعة، ووضع فيه أعمدة الرخام وزينه بالزخارف والنقوش والكتابات الكوفية الجميلة، وكذلك أمر إبراهيم بن أحمد ببناء القبة الكبيرة الموجودة الآن في جامع القيروان وهي من أجمل القباب في تاريخ المساجد الإسلامية.
بناء رباط وجامع سوسة
قام أبو العباس محمد بن الأغلب خامس أمراء الأغالبة ببناء جامع سوسة، الذي يعتبر من أجمل الآثار المعمارية الإسلامية في إفريقية، ومن منشآته أيضا رباط سوسة المعروف بقصر الرباط.
الاهتمام بالمنشآت العسكرية والمدنية
وإذا كان بنو الأغلب قد اعتنوا بالمنشآت الدينية فإن عنايتهم بالمنشآت العسكرية والمدنية لا تقل أهمية، فقد أنشأ الأغالبة الكثير من الأسوار والأبراج للمدن وخاصة التي تقع على الساحل، ولا ننسى دار تونس لبناء السفن ودار سوسة لصناعة الأسلحة واللتان كانت لهما أمجاد في تاريخ البحرية الإسلامية وخاصة في حوض البحر المتوسط وخير مثال على ذلك فتح جزيرة صقلية.
الرباطات
ومن أشهر المنشآت العسكرية في عصر الأغالبة الرباطات، وهي قريبة الشبه بالقصور، ولكنها كانت تخصص للمجاهدين والمرابطين بين حاميات رسمية وأفراد من المتطوعين، ولكن من المعروف أن الرباط كان للأفراد، أما الجند الرسمي فكانت تبنى لهم معسكرات، وقد وصف لنا حسين مؤنس الرباطات فقال: (يحيط بالرباط عادة سور مرتفع، تقوم على أركانه وعلى مسافات منه أبراج يقف فيها الحراس، وتوقد فيها النيران وقت الخطر وقد بقي لنا من رباطات عصر الأغالبة رباط سوسة وهو من بناء زيادة الله بن الأغلب أسسه في سنة 206 هـ، وتاريخ الإنشاء مسجل على لوحة من الرخام بأعلى مدخل المنار، تقرأ عليها النص التالي: "مما أمر به الأمير زيادة الله بن إبراهيم أطال الله بقاءه على يد سرور الخادم مولاه في سنة ست ومائتين، "اللهم أنزلنا منزلا مبارك وأنت خير المنزلين").
بناء مدينة القصر أو العباسية ومدينة رقادة
أما المنشات المدنية وخاصة مدينة القصر القديم التي بناها إبراهيم بن الأغلب وتبعد ثلاثة كيلومترات جنوبي مدينة القيروان لتكون معسكرا لجنده ومقاما له ومعقلا لأسرته كانت تتكون من قصور وحدائق ومعسكرات وأماكن للعبادة، ولم يبق من آثار هذه المدينة الآن شيء، كما كانت تسمى العباسية ثم سميت بالقصر القديم تميزًا لها عن مدينة القصر الجديد (رقادة) التي بناها إبراهيم بن أحمد سنة 264 هـ.
واعتنى الأغالبة كذلك ببناء صهاريج المياه وجبابها، والصهريج عبارة عن خزان ماء فوق الأرض، أما الجب فلا يكون إلا في باطن الأرض، والجب مخزن واسع يتكون من حجرة واسعة قد يصل قطرها إلى أربعين مترا، وعمقها نحو عشرين مترا ثم يبنون عند الماء حجرة أو قبوا واسعا بالحجر أو الطوب الأحمر أو الطوب المغطى بالبلاط الذي لا تؤثر فيه المياه.
الازدهار الاقتصادي
مما لا شك فيه أن الحياة الاقتصادية قد ازدهرت في إفريقية بقيام الأغالبة، فاستفادوا من وضع البلاد الجغرافي فجمعوا الثروات الطائلة، وبفضل المواني المنتشرة على شاطئ البحر المتوسط، وهي مواني سوسة وتونس وبجاية، أمكن للأمراء الأغالبة أن يقيموا الأساطيل ويحرزوا الانتصارات، كما احتكروا دور الوساطة التجارية بالنسبة للتجاره العالمية بين الشرق والغرب وجنوا من وراء ذلك أطيب الثمار.
وأصبحت القيروان من أكبر المراكز التجارية في غرب البحر المتوسط، وأيضا سوسة والأربس وقفصة وغيرهم، كذلك اشتهرت رقادة بالأسواق والفنادق والقصور وكذلك العباسية، وكانت إفريقية الأغلبية تصدر القمح والشعير إلى الإسكندرية والرقيق السوداني إلى بلاد الشام كما كانوا يصدرون أيضا النسيج والأبسطة والأقمشة الفاخرة إلى بغداد، ولم يكتف الأغالبة بما تجود به أرضهم من بعض أنواع الزراعة بل استوردوا بعض المحاصيل الزراعية من المشرق مثل القطن وقصب السكر، وما جناه الأغالبة من ثروات طانلة ظهرت أثارها فيما أقاموه من منشآت وعمائر بإفريقية.
وتعتبر فترة إبراهيم ين الأغلب وابنه زيادة الله الأول من أزهى فترات دولة الأغالبة، حيث ساد الرخاء الاقتصادي في عهدهما، فضربت الدنانير والدراهم على نمط الطراز العباسي، كما دونت الدواوين، مثل ديوان الخراج وكان من يسند إليه يعتبر من الشخصيات المرموقة وصاحب ثقة في البلاط الأغلبي، وديوان الخاتم الذي أسنده إبراهيم بن الأغلب لابنه عبد الله، وكذلك دار الطراز التي كانت تنتج ما يرسله الأمير من الكساوي والإنعامات إلى مشاهير وكبار رجال الدولة في المناسبات، كما عرف الأغالبة الحسبة والعس، وكان بلاط الأغالبة صورة مصغرة للبلاط العباسي
لمحة سريعة عن إمارة إفريقية
بعد أن انتصر المسلمون على الروم في موقعة سبيطلة ( 27 هـ -648م) بدأت ولاية إفريقية في الظهور عندما أنشا عقبة بن نافع مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي ( 50هـ - 55هـ / 670م - 675م )، قامت ولاية إفريقية الإسلامية ولاية مستقلة بنفسها، لها واليها لإدارتها المستقلة عن ولاية مصر.
وعندما تولى تلك الولاية حسان بن النعمان الغساني ( 71 هـ - 85 / 690م - 704م ) وضع أساس النظام الإداري لتلك الولاية الجديدة وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية، فإن إفريقية البيزنطية كانت تشمل ولاية طرابلس مضافا إليها إفريقية نفسها، وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءا مما عرف فيما بعد بإقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين، وكانت إفريقية البيزنطية بهذه الحدود ولاية كبيرة تضم مساحة واسعة من الشمال الإفريقي، وإذا كنا نستطيع أن نحد حدودها الغربية بشكل دقيق نقول: إنها كانت تشمل إقليم قسطيلية وما يليه شمالا حتى ساحل البحر، ويمتد غربا فيشمل النصف الشرقي من جبال أوراس وتقف عند حدود ما يعرف اليوم ببلاد القبائل في الجزء الشرقى من جمهورية الجزائر الحالية - فتدخل فيها قلعة لمبيزة أو قلاقل لمبيزة وباغاية وتصل إلى البحر فتشمل ولاية بيجيا الحالية وتصل إلى مجرى نهر شلف، ونظن أن هذه كانت حدود ولاية إفريقية في التنظيم الذي وضعه حسان بن النعمان [2].
وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير اللخمي أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى.
وفي أواخر الدولة الأموية ونتيجة لأحداث الفتنة المغربية الكبرى التي بدأت في المغرب من سنة 122هـ في ولاية عبيد الله بن الحبحاب واستمرت حتى نهاية العصر الأموي. والتي أخرجت بدورها المغربين الأوسط والأقصى عن السلطان الفعلي للخلافة الأموية.
واضح أن العباسيين عندما ورثوا الخلافة من الأمويين وجدوا أن دولتهم تمتد وتغطي مساحة شاسعة جدا لم تستطع قواهم أن تسيطر عليها سيطرة كاملة خاصة وأن انتقال مركز الدولة من دمشق إلى بغداد زاد من مسئوليتها الأسيوية، وفرض عليها مطالب جديدة لم تكن تشغل بال الأمويين بالصورة التي كانت عليها أيام العباسيين. ونتيجة لذلك نجد أن العباسيين ركزوا جهدهم كله في المحافظة على ذلك الجزء الذي كان لدولتهم بصورة فعلية من إفريقية. ولم تتمكن الحكومة المركزية العباسية من أن تسيطر على ولاية إفريقية بسبب عدم الاستقرار فيها نتيجة للصراع الداخلي الذي شغل الخلافة العباسية، ولم يترك لها من الفراغ ما يمكنها من محاولة بسط سلطانها على بقية بلاد المغرب.
ولاية الأغلب بن سالم على إفريقية
لما عُزل محمد بن الأشعث الخزاعي، أسند أبو جعفر المنصور ولاية إفريقية لزعيم من زعماء العرب وهو الأغلب بن سالم بن عقال التميمي [3]، وكان من كبار جند مصر، فسار الأغلب بن سالم وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج أبو حاتم تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب بالمغرب الأوسط، وبدأ يمهد الأمر لنفسه.
ولاية المهالبة على إفريقية
ولاية عمر بن حفص المهلبي
انتهى رأي المنصور إلى تقليد ولاية إفريقية لرجل من ذوي الكفاية من بني المهلب بن أبي صفرة، وهو عمر بن حفص المهلبي سنة 151هـ، فاشتدت الثورات عليه واتحدت الخوارج الصفرية والإباضية على قتال الجيش العباسي، وكتب عمر بن حفص بالنجدات من المنصور، ولكنه قُتل قبل أن تصله النجدات والتعزيزات سنة 154 هـ / 771م، واحتل أبو حاتم الإباضي القيروان سنة155 هـ/ 772 م، وهكذا تمكن الخوارج من السيطرة على إفريقية وأصبح تعداد أنصارهم ما يقرب 400.000 مقاتل.
ولاية يزيد بن حاتم المهلبي
فاستخدم المنصور الحماس الديني ضد الخوارج باسم الجهاد، فاسند ولاية إفريقية ليزيد بن حاتم المهلبي، واستطاع أن يقمع ثورات الخوارج حتى عام 170 هـ، مكث يزيد بن حاتم واليا على إفريقية حوالي خمسة عشر عاما، تعد من أحسن فترات عصر الولاة على إفريقية وأكثرها خيرا سواء في الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعمارية، فأعاد بناء المسجد الأعظم بالقيروان، وأعطى للفقهاء المالكية مكانة وأهمية كبيرة واعتمد عليهم في محاربة الخوارج، فكان يستشيرهم ويأخذ برأيهم، مما جعل إفريقية قاعدة للمذهب السني أو قاعدة للسنة على مذهب الإمام مالك بن أنس في بلاد المغرب
انتهاء ولاية المهالبة
ولما توفى يزيد بن حاتم تقلد ولاية إفريقية بعده ابنه داود وظل داود مقيما في إفريقية حتى قدم عمه روح بن حاتم ليتقلد إمارة إفريقية من قبل هارون الرشيد، ثم عزله الرشيد الفضل بن روح بن حاتم الذي تولى سنة 77 1 هـ / 793م ولم يمكث في حكمه إلا سنة ونصف تقريبا، وثار عليه جند إفريقية والمغرب لاستبداده بالسلطة، فقام عبد الله بن عبدويه الجارود قائد جند تونس، فتمكن من الاستلاء على السلطة وقتله سنة 178 هـ- 794م
ولاية هرثمة بن أعين
أرسل هارون الرشيد على إفريقية قائده هرثمة بن أعين، وكان شيخا مجربا في فن الحروب وحكم الولايات حكم هرثمة بن أعين إفريقية قرابة من العامين من (180هـ- 1 8 1 هـ /796 م - 797م) وخلال هذه الفترة القصيرة ساد إفريقية واستقرار، فعمل هرثمة على تجديد ما تخرب من المدن والموانئ والمنشآت؛ ليعيد ثقة الناس في الدولة العباسية، وقد تقرب إليه إبراهيم بن الأغلب فولاه الزاب .
ولاية محمد بن مقاتل العكي
في سنة 181هـ ولَّى أمير المؤمنين الرشيد على إفريقية بعد هرثمة محمد بن مقاتل العكي، وكان رضيع الرشيد، ولم يكن محمود السيرة فيما تولى للرشيد من ولايات، ولذلك فإنه عندما دخل إفريقية لم يسر في حكمها بطريقة تعجب الناس، فاضطربت الأمور في إفريقية، فثار الشعب والجند ضده، كما ثار عليه واليه على تونس تمام بن تميم التميمي سنة 183 هـ.
دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس) (184 ـ 296 هـ / 800 ـ 909م)
ولاية إبراهيم بن الأغلب
في هذه الظروف برز إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية في إفريقية، فقد مكَّن للعكي في مقاتلة تمام بن تميم ومكَّن له، فعزل الرشيد أخاه محمد بن مقاتل العكي وولي مكانه إبراهيم بن الأغلب على إفريقية عام 184 هـ، وبدأ إبراهيم منذ توليته الإمارة على تأسيس دولة له ولأبنائه من بعده.
عرف الرشيد رغبة إبراهيم بن الأغلب، ومع ذلك فقد استبقاه في الإمارة بل ودعمه ما دام يعمل باسم العباسيين، وخاصة أن الرشيد كان مشغولاً بحرب الروم، وهجوم الخزر، ومشكلات المشرق، وفي الوقت نفسه يريد أن يحمي الأجزاء الغربية من الإمارات التي قامت في المغرب والأندلس من خوارج وأدارسة وأمويين، ولم يكن لدى الرشيد أسطول يحمي أقاليم البحر المتوسط فاكتفى بالإشراف على دولة إبراهيم بن الأغلب، ورأى ذلك خيرًا وأفضل من أن يخرجوا من إشرافه نهائيًّا كباقي الإمارات
واستطاع إبراهيم بن الأغلب أن يحقق التزاماته نحو الخلافة فكون قوة عسكرية كبيرة من البربر المستعربة الذين عملوا كجند في الجيش الأغلبي كما استكثر إبراهيم بن الأغلب من الصقالبة، كذلك كون إبراهيم بن الأغلب قوة بحرية هائلة مكنت الأغالبة بعد ذلك من غزو صقلية ومالطة والسواحل الإيطالية، ولم يطمئن على حكمه إلا بعد أن تم له إنشاء كل هذه القوات خلال السنوات الأولى من حكمه لإفريقية، كما أقام إبراهيم الخطبة لبني العباس على المنابر ورفع شعار بني العباس، ودفع الخراج المقرر عليه وهو أربعون ألف دينار، ونقش اسم الخليفة على السكة، وشيد مدينة جديدة أطلق عليها العباسية ( القصر القديم ) تمجيدا لهم وتقع على بعد ثلاثة أميال جني القيروان.
في عهد إبراهيم بن الأغلب ثار بتونس رجل من كبار رجالات العرب يسمى حمديس ونزع السواد شعار بني العباس، فأرسل إبراهيم قائد عمران بن مجالد في جيش كبير للقضاء على حركته، فالتقى عمران معه في معركة قرب تونس انهزم فيها حمديس وأنصاره، وقتل منهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وتمكن عمران من دخول تونس، وبرغم أن عهد بن الأغلب لم يخل من الثورات والفتن ولكنها كانت لا تقاس بالثورات التي كانت تضطرم في إفريقية في العهود السابقة.
على أي حال تمكن إبراهيم بن الأغلب بفضل ما لديه من كفاءة وشجاعة وذكاء وقوة مؤيديه من الجماعات اليمنية والقيسية من أن يقيم دولة جديدة تمثل الدولة العباسية في بلاد إفريقية
ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب (196 – 201 هـ)
ولى إبراهيم بن الأغلب ابنه أبا العباس عبد الله العهد من بعده، فلما مات سنة 196 هـ، كان عبد الله في طرابلس فتولى زيادة الله الأمر من بعده وأخذ له البيعة على أهله ونفسه ورجاله وخدمه، ولكن عبد الله لم يعد إلى إفريقية إلا في سنة 197 هـ، حيث سلم له أخوه زيادة الله مقاليد الأمور، ولما قتل الأمين في سنة 198 هـ وولى الخلافة المأمون العباسي أقر عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب على إفريقية.
وكان عبد الله سيء السيرة حتى مع أهله وأخيه زيادة الله، وأساء معاملتهم، كما اشتط في دفع الضرائب على شعبه فكرهه الناس، حتى دعا عليه أهل الدين والفقه أن يريحهم الله من جوره وظلمه، حتى مات سنة 201 هـ وولي من بعده أخوه زيادة الله
ولاية زيادة الله بن إبراهيم (201 – 223 هـ)
كانت ولايته من قبل المأمون سنة 201هـ، فطالت أيامه واستقام الأمر وبنى جامع سور القيروان ودار سوسة وبنى جامع القيروان بعد هدمه ما عدا محرابه، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار، وبنى قنطرة باب الربيع، وحصن الرباط بسوسة، وفتح في أيامه جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات وكان قاضى القيروان.
فتح صقلية
وفي عهد زيادة الله فتحت جزيرة صقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات، قال ابن رشيق: "سيَّره في نحو من عشرين ألفا من الجيش وأركبه من سوسة، وسار إلى صقلية والتقى بجانبها، يقال: أنه كان مائة ألف وخمسين ألف مقاتل فهزمه أسد بن الفرات، وخذل الله الكافرين وغنم المسلمون أموالهم وبددوا شملهم واستفتحوا من صقالية مواضع كثيرة، ومات أسد بن الفرات محاصرا لسرقوسة في ربيع الآخر سنة 213 هـ، واستولى المسلمون على الجزيرة واستوطنوها، ودفن أسد هناك".
وأقام زيادة الله على أعماله إلى أن مات سنة 223هـ في خلافة المعتصم. وكان زيادة الله يقول: "ما أبالي إن شاء الله تعالى بأهوال يوم القيامة وقد قدمت أربعة أشياء: بناء الجامع القيروان، وقد أنفقت عليه ثمانين ألف دينار، وبناء القنطرة بباب الربيع، وبناء حصن الرابط بسوسة، وتولية أحمد بن محرز القضاء وكان من العلماء العالمين الزاهدين (توفي في سنة 221 هـ)".
ولما مات زيادة الله ولي بعده أخو أبى عقال
ولاية أبي عقال الأغلب إبراهيم بن الأغلب (223 – 226 هـ)
وهو أخو زيادة الله، كانت ولايته من قبل المعتصم بالله، وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، فمكث أبي عقال المذكور مدة ولم تطول أيامه، ومات سنة 226 هـ في خلافة المعتصم، وكانت مدة ولاية الأغلب سنتين وتسعة أشهر وتولى بعده أخو العباس.
ولاية أبي العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب (226 هـ - 242 هـ)
كانت ولايته من قبل المعتصم، وقد أمنت السبل في أيامه، وكان في عهده الإمام سحنون بن سعيد، وقد منع الإمام سحنون في زمانه أهل الأهواء من مسجد الجامع، وكان قبل ذلك يجتمعون فيه ويتناظرون في مذاهبهم الفاسدة مثل الإباضية والصفرية والزنادقة والمعتزلة فمنعهم سحنون من الاجتماع لذلك في المسجد، وكان أمير صقيلية العباس بن الفضل بن يعقوب بن فزارة، تولاها سنة 237هـ ففتح فيها الفتوحات الجليلة ومنها فتح قصريانة يوم الخميس منتصف شوال من السنة المذكورة، وهي المدينة التي بها دار الملك بصقلية، فكان الملك قبل ذلك يسكن سرقوسة فلما أخذ المسلمون بعض الجزيرة انتقل الملك إلى قصريانة المذكور لحصانتها، ففتحها العباس المذكور كما قلنا وبنى فيها المسجد في الحال ونصب فيه منبرا وخطب عليه وصلى فيه الجمعة وذلك على عهد أبي العباس بن فزارة المذكور وذلك في خلافة المتوكل ومات أبو العباس بن الأغلب سنة 242 هـ وتولى بعده ولده إبراهيم
ولاية أبي إبراهيم أحمد بن محمد (242 – 249 هـ)
كانت ولايته بعد أبيه من قبل الخليفة المتوكل على الله، وقد اجتمع له من الفضائل لم يعمل بها أبدا أي أمير أغلبي آخر، بمثل صدقه وحسه السياسي وروح الاستمرار، فأحبه الناس، وكان حكمه هادئا كل الهدوء، باستثناء المصاعب التي لاقاها مع البربر بولاية طرابلس، وهي مصاعب تشهد لا محالة على ما وصل إليه الحكم الأغلبي من انتشار والعدل والقرب من الرعية
باقي أمراء الأغالبة
ظلت دولة الأغالبة قائمة يتعاقب عليها أمراء البيت الأغلبى، وهم:
زيادة الله الثاني (249- 250 هـ)، محمد الثاني أبو الغرانيق (250 – 261 هـ)، إبراهيم الثاني (261- 289 هـ)، عبد الله الثاني بن إبراهيم بن الأغلب (289- 290 هـ)، زيادة الله الثالث بن عبد الله (290 ـ 296هـ).
سقوط دولة الأغالبة
تولى عبد الله الثاني الإمارة في سنة (289هـ=902م)، ولم يستمر بها سوى عام ونصف العام، حيثُ قُتل على يد ابنه زيادة الله الثالث، وكانت فترة حكمه امتدادًا لسياسة والده إبراهيم بن أحمد في الحكم، فبدأت عوامل الضعف والوهن تدب في أوصال دولة الأغالبة، ولما تولى زيادة الله الثالث الحكم (290هـ=903م) عقب مقتل أبيه، وانتهج سياسة أبيه وجده، وتتبع أفراد أسرته بالقتل، في الوقت الذي نشط فيه أبو عبد الله الشيعى وأحرز الانتصارات تلو الأخرى، واستولى على كثير من
المدن الأغلبية، ولم تفلح جيوش زيادة الله في صده أو إيقاف زحفه، فوجد زيادة الله نفسه عاجزًا عن الحفاظ على ملك آبائه وأجداده، فآثر الهرب إلى مصر، وحمل معه كل ما استطاع حمله من مال وعتاد، ورحل من رقادة في (26من جمادى الآخرة عام 296هـ = مارس 909م)، فباتت المدينة سهلة المنال لأبى عبد الله الشيعى، فبعث عروبة بن يوسف أحد قادته للاستيلاء عليها، فدخلها دون قتال، وطويت بذلك صفحة الأغالبة
الحضارة والعمران في دولة الأغالبة
تعتبر فترة الأغالبة في إفريقية من أمجد فترات تاريخها كما يروي المؤرخون، فقد دامت هذه الفترة أكثر من قرن من الزمان ساد في أثنائها الاستقرار السياسي النسبي لبلاد إفريقية، وكان للمذهب السني وشيوخه نصيب كبير في إقامة وتثبيت دعائم هذا الاستقرار، فقد تمكن الفقهاء بمعاونة أمراء الأغالبة من إخراج الخوارج من بلاد إفريقية، فلم يعودوا يعيشون إلا في جبل نفوسة جنوب ولاية طرابلس من أملاك الأغالبة، أما طرابلس نفسها فقد كانت سنية يسودها الفقه المالكي، وعندما أقام الخوارج الإباضية دولة لهم أقاموها خارج بلاد الأغالبة في إقليم تاهرت، وهو الجز الغربي من المغرب الأوسط.
إن قيام دولة الأغالبة جعل لإفريقية وأهلها شخصية مميزة وفريدة تختلف كل الاختلاف عن بقية بلدان المغرب، فكانت المدن والقرى الإفريقية محطات ومراكز العلم والشيوخ والتجار، فنهضت حركة العمران والانشاءإلى جانب الزراعة والرعي.
الإنجازات العمرانية
تجديد مسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة
من أعظم إنجازات الأغالبة المعمارية تجديد مسجدي القيروان وتونس وهما المعروفان بمسجد عقبة بن نافع ومسجد الزيتونة، فمسجد القيروان قد تعرض لعدة تجديدات منذ أن أسسه عقبة بن نافع إلى نهاية عصر الأغالبة، وذلك في عهود: حسان بن النعمان وحنظلة بن صفوان وزيادة الله بن الأغلب الذي أدخل عليه التجديدات الحاسمة ورفع قبابته ومئذنته وإعطائه صورته الحالية، ويذكر ابن عذاري أن زيادة الله أنفق أموالا كثيرة في هذا العمل، وكان يفتخر بهذا العمل.
كما قام زيادة الله بتجديد وتوسيع جامع تونس ولكن المنية أدركته قبل أن يكملها، فتولى بعده إبراهيم بن أحمد سادس أمراء الأغالبة فهو الذي أمر ببناء قبابه المضلعة، ووضع فيه أعمدة الرخام وزينه بالزخارف والنقوش والكتابات الكوفية الجميلة، وكذلك أمر إبراهيم بن أحمد ببناء القبة الكبيرة الموجودة الآن في جامع القيروان وهي من أجمل القباب في تاريخ المساجد الإسلامية.
بناء رباط وجامع سوسة
قام أبو العباس محمد بن الأغلب خامس أمراء الأغالبة ببناء جامع سوسة، الذي يعتبر من أجمل الآثار المعمارية الإسلامية في إفريقية، ومن منشآته أيضا رباط سوسة المعروف بقصر الرباط.
الاهتمام بالمنشآت العسكرية والمدنية
وإذا كان بنو الأغلب قد اعتنوا بالمنشآت الدينية فإن عنايتهم بالمنشآت العسكرية والمدنية لا تقل أهمية، فقد أنشأ الأغالبة الكثير من الأسوار والأبراج للمدن وخاصة التي تقع على الساحل، ولا ننسى دار تونس لبناء السفن ودار سوسة لصناعة الأسلحة واللتان كانت لهما أمجاد في تاريخ البحرية الإسلامية وخاصة في حوض البحر المتوسط وخير مثال على ذلك فتح جزيرة صقلية.
الرباطات
ومن أشهر المنشآت العسكرية في عصر الأغالبة الرباطات، وهي قريبة الشبه بالقصور، ولكنها كانت تخصص للمجاهدين والمرابطين بين حاميات رسمية وأفراد من المتطوعين، ولكن من المعروف أن الرباط كان للأفراد، أما الجند الرسمي فكانت تبنى لهم معسكرات، وقد وصف لنا حسين مؤنس الرباطات فقال: (يحيط بالرباط عادة سور مرتفع، تقوم على أركانه وعلى مسافات منه أبراج يقف فيها الحراس، وتوقد فيها النيران وقت الخطر وقد بقي لنا من رباطات عصر الأغالبة رباط سوسة وهو من بناء زيادة الله بن الأغلب أسسه في سنة 206 هـ، وتاريخ الإنشاء مسجل على لوحة من الرخام بأعلى مدخل المنار، تقرأ عليها النص التالي: "مما أمر به الأمير زيادة الله بن إبراهيم أطال الله بقاءه على يد سرور الخادم مولاه في سنة ست ومائتين، "اللهم أنزلنا منزلا مبارك وأنت خير المنزلين").
بناء مدينة القصر أو العباسية ومدينة رقادة
أما المنشات المدنية وخاصة مدينة القصر القديم التي بناها إبراهيم بن الأغلب وتبعد ثلاثة كيلومترات جنوبي مدينة القيروان لتكون معسكرا لجنده ومقاما له ومعقلا لأسرته كانت تتكون من قصور وحدائق ومعسكرات وأماكن للعبادة، ولم يبق من آثار هذه المدينة الآن شيء، كما كانت تسمى العباسية ثم سميت بالقصر القديم تميزًا لها عن مدينة القصر الجديد (رقادة) التي بناها إبراهيم بن أحمد سنة 264 هـ.
واعتنى الأغالبة كذلك ببناء صهاريج المياه وجبابها، والصهريج عبارة عن خزان ماء فوق الأرض، أما الجب فلا يكون إلا في باطن الأرض، والجب مخزن واسع يتكون من حجرة واسعة قد يصل قطرها إلى أربعين مترا، وعمقها نحو عشرين مترا ثم يبنون عند الماء حجرة أو قبوا واسعا بالحجر أو الطوب الأحمر أو الطوب المغطى بالبلاط الذي لا تؤثر فيه المياه.
الازدهار الاقتصادي
مما لا شك فيه أن الحياة الاقتصادية قد ازدهرت في إفريقية بقيام الأغالبة، فاستفادوا من وضع البلاد الجغرافي فجمعوا الثروات الطائلة، وبفضل المواني المنتشرة على شاطئ البحر المتوسط، وهي مواني سوسة وتونس وبجاية، أمكن للأمراء الأغالبة أن يقيموا الأساطيل ويحرزوا الانتصارات، كما احتكروا دور الوساطة التجارية بالنسبة للتجاره العالمية بين الشرق والغرب وجنوا من وراء ذلك أطيب الثمار.
وأصبحت القيروان من أكبر المراكز التجارية في غرب البحر المتوسط، وأيضا سوسة والأربس وقفصة وغيرهم، كذلك اشتهرت رقادة بالأسواق والفنادق والقصور وكذلك العباسية، وكانت إفريقية الأغلبية تصدر القمح والشعير إلى الإسكندرية والرقيق السوداني إلى بلاد الشام كما كانوا يصدرون أيضا النسيج والأبسطة والأقمشة الفاخرة إلى بغداد، ولم يكتف الأغالبة بما تجود به أرضهم من بعض أنواع الزراعة بل استوردوا بعض المحاصيل الزراعية من المشرق مثل القطن وقصب السكر، وما جناه الأغالبة من ثروات طانلة ظهرت أثارها فيما أقاموه من منشآت وعمائر بإفريقية.
وتعتبر فترة إبراهيم ين الأغلب وابنه زيادة الله الأول من أزهى فترات دولة الأغالبة، حيث ساد الرخاء الاقتصادي في عهدهما، فضربت الدنانير والدراهم على نمط الطراز العباسي، كما دونت الدواوين، مثل ديوان الخراج وكان من يسند إليه يعتبر من الشخصيات المرموقة وصاحب ثقة في البلاط الأغلبي، وديوان الخاتم الذي أسنده إبراهيم بن الأغلب لابنه عبد الله، وكذلك دار الطراز التي كانت تنتج ما يرسله الأمير من الكساوي والإنعامات إلى مشاهير وكبار رجال الدولة في المناسبات، كما عرف الأغالبة الحسبة والعس، وكان بلاط الأغالبة صورة مصغرة للبلاط العباسي