الأمويون : دولة الفتوحات
الدكتور عبد الحليم عويس
الدكتور عبد الحليم عويس
لعل أبرز ما امتاز به عصر بني أمية كثرة الفتوحات شرقاً وغرباً، وبلوغ الدولة الإسلامية أقصى اتساع لها، فامتدت رقعتها قريباً من سور الصين شرقاً إلى حدود فرنسا غرباً؛ بحيث إن الخلفاء العباسيين الذين ورثوا هذه الخلافة الكبيرة المترامية الأطراف؛ عجزوا عن الاحتفاظ بكل ما فتح من أقاليم في عهد أسلافهم الأمويين.
ويشير ابن كثير إلى خصيصة الفتوحات التي اشتهر بها العصر الأموي ويقول :
"وكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله؛ وكان في جيوشهم الصالحون والعلماء وكبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه ... فكان سوق الجهاد قائماً في القرن الأول من بعد الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية ... في بلاد الروم والترك والهند".
وقد اقترن بفتوحات بني أمية انتشار الإسلام واللغة العربية، فعصر بني أمية هو العصر الذي اتخذت فيه الدولة طابعها العربي الإسلامي بشكل نهائي، حتى إن العروبة والإسلام هما الملمحان البارزان اللذان اتسمت بهاما البلاد المفتوحة في العصر الأموي.
وفيما يلي نبذة مختصرة عن الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي، والجهود الكبيرة التي بذلها خلفاء بني أمية لامتداد حدود الدولة، وتوسيع رقعتها.
أولاً : الفتوحات الأموية شرق العالم الإسلامي :
نشطت حركة الفتوحات عندما تولى معاوية بن أبي سفيان قيادة الأمة الإسلامية سنة (41هـ)، وذلك أن الفتوحات كانت قد توقفت عدة سنوات بسبب الفتنة الكبرى (35 ـ 41هـ) فاستولى المسلمون في عهد معاوية على هراة وكابل، كما غزا عبد الله بن سوار العبدي بلاد السند مما يلي خراسان سنة (43هـ) ، وواصل المهلب بن أبي صفرة من بعده غزو السند سنة (44هـ)، وهاجم الإقليم الممتد ما بين الملتان وكابل.
وفي سنة (54هـ) غزا عبيد الله بن زياد والي خراسان إقليم تركستان، كما تمكن المسلون من غزو بخارى وسمرقند .
وفي عهد يزيد بن معاوية قام مسلم بن زياد والي خراسان بفتح خوارزم وعبر نهر جيحون، واستولى على سمرقند، ووجه إلى خجندة فانهزم، كما جعل يشن غزواته من مرو على بلاد الصغد .
وقد نشطت الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر نشاطاً كبيراً حين ولي الحجاج بن يوسف الثقفي إقليم خراسان سنة (78هـ) في عهد عبد الملك بن مروان. فولى الحجاجُ خراسان للمهلب بن أبي صفرة الذي افتتح خجندة، وأدت إليه بلاد الصغد الجزية.
وفي سنة (86هـ) ولى الحجاج على خراسان القائد العربي الكبير قتيبة بن مسلم الباهلي، في أول خلافة الوليد بن عبد الملك، فكان ذلك إيذاناً بانتقال الفتوحات الإسلامية في المشرق إلى طور جديد من الازدهار؛ حيث أبدى قتيبة نشاطاً وافراً وهمة عالية، فغزا فرغانة وافتتح كاسان وأورشت وخشكت.
وفي سنة (87هـ) غزا قتيبة بيكند إحدى مدن بخارى وافتتحها عنوة، ثم عاد إلى مرو.
وفي سنة (88هـ) غزا نومشكت ورامثنة . وفي سنة (89هـ) غزا بخارى ونجح في الاستيلاء عليها سنة (90هـ)، فأسس بها جامعاً بعد أن دمر بيت النار، فصالحه أهل الصغد على جزية يؤدونها إليه.
وفي سنة(93هـ) افتتح قتيبة سمرقند، وغزا فرغانة والشاش "طشقند" سنة (95هـ)، ففتح كاشان وقصبة وفرغانة وخجندة .
وفي سنة (96هـ) غزا قتيبة كاشغر أدنى مدائن الصين فطرقت جيوشه بذلك أبواب الصين من الجهة الغربية . وهكذا ـ كما يقول د/ السيد عبد العزيز سالم ـ : كانت فتوحات قتيبة في بلاد ما وراء النهر فاتحة لاتصال العرب بالجنس التركي، كما كان لجهود قتيبة الموفقة أعظم الأثر في إنشاء مراكز جديدة للثقافة العربية والإسلامية في وسط آسيا، كما قويت ومكنت العلاقات بين الدولة العربية والصين.
وبعد مقتل قتيبة بن مسلم سنة (96هـ) وَلَّى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب على خراسان والعراق سنة (97هـ) فاتجه يزيد إلى فتح جرجان وطبرستان. ولم يكن المسلمون قد دخلوا هذين الإقليمين قبل ذلك .
وقد استولى يزيد أولاً على قهستان صلحاً ، ثم زحف منها إلى جرجان فدعاه أهلها إلا الصلح فأجابهم إليه. فأطمعه ذلك في الاستيلاء على مدينة طبرستان الواقعة إلى الجنوب من بحر قزوين، فصالح صاحبها ـ بعد عدة معارك ـ على سبعمائة ألف.
فتوح الأمويين في الهند :
كان من الطبيعي بعد أن أتم الأمويون فتح بلاد ما وراء النهر أن يفكروا في فتح إقليم السند باب الهند، الذي أصبح يجاور آخر الحدود الشرقية للدولة العربية الإسلامية. وكانت أنظار المسلمين تتطلع إلى بلاد الهند منذ الفتوحات الإسلامية الأولى .
وفي سنة (44هـ) غزا إقليم السند المهلب بن أبي صفرة واشتبك مع قوات نبة ولاهور، وهما بين الملتان وكابل. وظل المسلمون يغيرون على إقليم السند من ناحية سجستان؛ ففتحوا مكران وقندهار، وغزوا البوقان والقيقان، وغنموا غنائم كثيرة.
وفي سنة (89هـ) وجه الحجاج بن يوسف الثقفي جيشاً لغزو السند بقيادة ابن أخيه محمد بن القاسم الثقفي، فتمكن من فتح الديبل عنوة، واستولى على البيرون صلحاً، وجعل محمد بن القاسم الثقفي لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى اقترب من مهران، وهناك ألحق هزيمة كبيرة بجيوش داهر ملك السند، وبمقتل داهر تغلب محمد بن القاسم على بلاد السند، فافتتح مدينة روار عنوة، ثم زحف بجيوشه نحو الشمال الشرقي، فافتتح مدينة برهمنا باد التي كان قد تحصن بها ابن داهر. ثم تمكن من الاستيلاء على مدينة الرور عاصمة داهر.
ثم عبر محمد القاسم نهر بياس أحد رواقد السند، وتوجه صوب مدينة الملتان أكبر مدن السند الأعلى، فتمكن من الاستيلاء عليها بعد مقاومة شديدة ومعارك طاحنة .
وحين ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة سَيَّر عمراً بن مسلم الباهلي عاملاً إلى السند، وأوصاه بالرفق بأهلها وتشجيعهم على اعتناق الإسلام، فأقبل إبان ولايته عدد كبير من أبناء السند على الإسلام.
ثانياً : الفتوحات الأموية في غرب العالم الإسلامي :
لم يكد الأمر يستقر لمعاوية بن أبي سفيان سنة (41هـ) حتى وجه اهتمامه إلى استئناف سياسة الفتوحات في المغرب، فتمكن قائده عقبة بن نافع من فتح غدامس وودان سنة (42هـ). وبعد وفاة عمرو بن العاص سنة (43هـ) فصل معاوية ولاية إفريقية عن مصر، وجعلها ولاية مستقلة تتبع دمشق مباشرة، وجعل قيادة الجيوش لمعاوية بن حديج التجيبي، في وقت كانت تموج فيه إفريقية بالفوضى والاضطرابات. فخرج معاوية بن حديج من مصر سنة (45هـ) على رأس جيش ضخم لغزو إفريقية، فاشتبك في موضع يعرف بقمونية قرب قرطاجنة بجيوش البيزنطيين، وتمكن من إلحاق الهزيمة بها، ثم استولى على سوسة وجلولاء، ثم اتجه شمالاً وافتتح بنزرت .
ويذكر البلاذري أن معاوية بن حديج غزا صقلية لأول مرة سنة(46هـ) ، ثم اختتم غزواته في إفريقية بفتح جزيرة جربة سنة (47هـ).
وفي سنة (48هـ) ولى الخليفة معاوية عقبة بن نافع بدلاً من معاوية بن حديج الذي قفل راجعاً إلى مصر. فخرج عقبة على رأس جيوشه سنة (49هـ)، فأخضع ـ في غضون ستة أشهرـ الواحات الداخلية في برقة. ثم توجه إلى إفريقية متجنباً الطريق الساحلية، وافتتح غدامس وقفصة وقصطيلية وغيرها .
وفي سنة (50هـ) قرر عقبة بن نافع إنشاء قاعدة عربية إسلامية في إفريقية تكون معسكراً ثابتاً للمسلمين ، فاختط مدينة القيروان التي اكتملت عمارتها سنة (55هـ) ، وقدر لها أن تكون حاضرة المغرب الإسلامي كله في عصر الخلافة الأموية إلى أن انفصل المغرب عن الدولة العباسية في أواخر القرن الثاني للهجرة، وتكونت فيه إمارات مستقلة. وبتأسيس القيروان غدت إفريقية ولاية هامة من ولايات الدولة العربية الإسلامية.
وفي سنة (55هـ) ولي إفريقية أبو المهاجر دينار، فزحف بجيوشه إلى المغرب الأوسط وغزا قبائل أوربة البربرية، وهم من البرانس، واستطاع بحسن سياسته أن يستميل كسيلة زعيم تلك القبائل، فكان نصرانياً فأسلم، واستعان به أبو المهاجر في الاستيلاء على تلمسان، ثم شن هجوماً عنيفاً على قرطاجنة سنة (59هـ)، ولم يتركها إلا بعد أن تخلى البيزنطيون عن الأجزاء الواقعة جنوب قرطاجنة.
وفي سنة (60هـ) عاد عقبة بن نافع مرة أخرى إلى ولاية إفريقية، ووصال غزوه حتى وصل إلى المحيط الأطلسي ومعه بربر أوربة وزعيمهم كسيلة، وهزم في طريقه كل من اعترضه من البيزنطيين أو البربر، ووطنت الجيوش الإسلامية لأول مرة أرض المغرب الأقصى. بيد أن تلك الغزوة الكبرى انتهت باستشهاد عقبة في طريق عودته إلى القيروان سنة (63هـ). حيث طوق البربر عند منطقة أوراس بزعامة كسيلة، الذي كان قد خرج على طاعة عقبة، وغادر مع حشد كبير من البربر المعسكر الإسلامي. وقد اضطرب زهير بن قيس البلوي نائب عقبة على القيروان أن ينسحب بالحامية العربية إلى برقة قبل أن يفاجئهم كسيلة بالهجوم، وأقبل كسيلة بعسكره فاستولى على القيروان سنة (64هـ) .
ولما ولي عبد الملك بن مروان خلافة بني أمية بعث زهير بن قيس سنة (69هـ) على رأس جيش كثيف لاسترداد القيروان، فنجح زهير في إلحاق هزيمة كبيرة بالبربر وقتل زعيمهم كسيلة، ودخل زهير القيروان، ونظم أمورها، ثم عاد إلى مصر، وفي طريق عودته دارت بينه وبين البيزنطيين معركة استشهد فيها زهير ، فاضطربت بلاد المغرب، واضطرمت بها نار الفتن، وتمرد البربر. وظهرت من بينهم امرأة بربرية تزعمتهم يقال لها : الكاهنة.
ولم يكد عبد الملك يفرغ من القضاء على فتنة عبد الله بن الزبير حتى وجد جيشاً ضخماً لاستعادة المغرب بقيادة حسان بن النعمان الغساني، وذلك سنة(74هـ)، وإذا كان حسان قد نجح في اقتحام قرطاجنة والاستيلاء عليها، فإنه قد هزم هزيمة منكرة من قوات الكاهنة، فاضطر للتراجع بجيشه إلى برقة، وخرجت إفريقية بذلك من أيدي العرب.
وفي سنة (80هـ) أرسل عبد الملك إلى إفريقية جيشاً ضخماً بلغ عدته أربعين ألف مقاتل تحت قيادة حسان بن النعمان الذي نجح هذه المرة في هزيمة قوات الكاهنة، ثم أمعن في مطاردتها والتضييق عليها بعد أن سحق جيشها وأباده ، وقتلت الكاهنة نفسها في إحدى المعارك.
ثم نجح حسان في استرداد قرطاجنة من البيزنطيين وبنى تجاهها مدينة إسلامية تقع على البحر هي مدينة تونس، و أنشأ فيها داراً لصناعة الأسطول، كما أسس فيها مسجداً وداراً للإمارة، وما لبثت تونس أن غدت من أعظم مدن المغرب .
وقد بذل حسان جهوداً كبيرة في تنظيم أمور البلاد إداريًّا، وفي نشر الإسلام وتعريب البلاد، وبعث الفقهاء في أنحاء المغرب لتعليم البربر قواعد الدين واللغة، فأقبل البربر على الإسلام في حماسة شديدة ؛ حتى أصبح معظم جيش حسان منهم.
وهكذا فتح حسان إفريقية حربياً ومعنوياً في آن واحد، واستطاع أن يحولها إلى ولاية إسلامية قلباً وقالباً.
وفي سنة (85هـ) ولي إفريقية موسى بن نصير، فتابع الفتوحات الإسلامية في الشمال الإفريقي بنشاط وافر وهمة عالية، ونجح في استكمال فتح المغرب كله، وإن كان قد اصطنع في سبيل خطته كل وسائل العنف والإرهاب مع الثائرين والناكثين بالعهود من البربر.
المصدر : جريدة الوسط المصرية
عن موقع التاريخ