كلمات نبوية لبناء الدولة الإسلامية
هيثم إبراهيم
هيثم إبراهيم
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس لعبادة الله وحده لا شريك له، وقد تحمل في سبيل ذلك أذى كثيرًا من كفار مكة، ولم يؤمن بدعوته أكثر أهل مكة، حتى أذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، فوجد أهلها ينتظرونه خير انتظار، ويتشوقون إلى لقائه -وحُقَّ لهم ذلك رضي الله عنهم-.
إلا إنه قد كان من بين هؤلاء الناس رجل ينتظر لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرى وجهه ويسمع كلامه؛ حتى يعلم هل هو صادقٌ في دعواه (النبوة) أم لا؟ هذا الرجل هو أحد علماء اليهود، بل هو أفضلهم بشهادة اليهود أنفسهم، الذين قالوا عنه قبل أن يعلموا بإسلامه: "خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا". فلما علموا بإسلامه قالوا: "شرُّنا وابن شرنا"، وتنقَّصوه! هذا الرجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه..
جاء ليرى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامه! فما الذي رأى؟ وما الذي سمع؟
هذا ما سيحدثنا عنه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فلنترك له الحديث؛
يقول -رضي الله عنه-:
" لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه[1]، وقيل: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أنْ قال:
" يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام "[2].
لقد عَلِمَ عبد الله بن سلام صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط برؤية وجهه الشريف -بأبي هو وأمي- قبل أن يسمع منه ولو كلمة واحدة! وهذا شأن من يبحث عن الحق, يهتدي إليه برحمة الله بأقصر الطرق، وأمَّا من لم يرد الحق فلو أتيته بقراب الأرض حججًا وبينات لن يهتدي أبدًا!!
ونحن سوف نتوقف مع أولى كلمات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة لتأسيس الدولة المسلمة، فإن الإنسان ليتعجب من قلة عدد هذه الكلمات، وكذلك من بساطتها؛ بحيث يفهمها كل أحد، بل ويعمل بها بلا مشقة عليه. ثم إنَّ فيها النفع العظيم في العاجل والآجل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك إصلاح الفرد في نفسه، وإفشاء المحبة بين المسلم وأخيه في المجتمع، ثم إنه يجعل نظر الفرد دائمًا للآخرة لا لهذه الدنيا فحسب.
لم يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته بذكر ما حدث له مع أهل مكة، وما لاقاه منهم طيلة هذه السنين، فإن كل ذلك يحتسبه عند الله فلن يضيع! المهم الآن النظر فيما هو آتٍ، المهم الآن إصلاح الرعية؛ لأجل أن يتحملوا مسئولية الإسلام!
فانظروا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أفشوا السلام ".. أكَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمر به؛ لأن السلام هو أعظم الأمور التي تجلب المحبة بين المسلمين، وقد جاء في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم ".
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من حق المسلم على المسلم أنه إذا لقيه سلَّمَ عليه[3].
ولقد تعلَّم الصحابة ذلك حتى انتشرت بينهم المحبة والمودة حتى كان ابن عمر -رضي الله عنه- ليبادر بالبدء بالسلام فلا يسبقه أحد بالسلام[4]. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين "[5]؛ يعني التأمين في الصلاة.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنص على أن إفشاء السلام يورث بين الخلق المحبة، وإذا سادت المحبة بيننا فسوف نتعاون مع بعضنا البعض في الخير، ويقبل المرء من أخيه النصيحة، ومن ثَمَّ ينصلح حال المجتمع أجمع.
وأنت لو قرأت فقه السلام في كتب الحديث وما ذكره العلماء من الآداب النبوية في السلام لقلت: أين هذا من واقع المسلمين اليوم؟!! والله المستعان.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أطعموا الطعام ".. وهذا من جملة مكارم الأخلاق التي تُشعر الفقراء بأن الأغنياء لم ينسوهم بل يسارعوا بتقديم الطعام لهم، فيرى الفقير كم يبذل الغني من مالٍ لإطعامه، فلا يحقد الفقير على الغني، ولا يغتر الغني بماله ويشكر نعمة الله عليه؛ فتطيب نفوس الجميع، ويصفو المجتمع من التحاسد والأحقاد.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " وصلُّوا والناس نيام ".. وهنا إصلاح للفرد في نفسه، فإن المسلم إذا اعتاد على القيام بالليل ولو باليسير يتغير حاله كثيرًا، ويشعر بحلاوة الإيمان حقًّا، خاصة وهو يناجي ربه بالليل تلاوةً ودعاءً، وقد قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: " واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ".
وهكذا.. إذا فعل المسلمون هذه الأمور سينصلح كل فرد في نفسه، ومن ثَمَّ ينصلح الجميع، فينصلح المجتمع المسلم، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وأخيرًا يربط النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه بالآخرة، فيجيب عن سؤال مقدَّر -ماذا لو فعلنا ذلك؟- الجواب: " تدخلون الجنة بسلام ".
ولعل أكبر الدروس التي نستفيدها من هذا الحديث أن بناء الدولة الإسلامية لا يحتاج لشعارات براقة ولا لمصطلحات معقدة لا يفهمها الناس، يطلقها البعض ليقال: هو عالم!! وإنما تُبنى الدولة الإسلامية بالصدق مع الله أولاً، وإحسان العمل الديني والدنيوي، والأخذ بأسباب الفلاح والنصر في الدنيا والآخرة.
فليصلح كل واحد منا نفسه، ويتعاون مع غيره في البر والتقوى لإصلاح المجتمع، ونيته في ذلك التمكين للإسلام؛ لعل الله برحمته ييسر لنا ذلك. فإن تحقق ما نريد فبها ونعمت، وإن لم يتحقق لاقينا الله ونحن نسعى في ذلك.
المصدر: جريدة الفتح المصرية.
عن موقع قصة الإسلام
الهوامش
[1] انجفل الناس إليه: أي ذهبوا مسرعين نحوه.
[2] رواه الترمذي، وصححه، وكذا الألباني.
[3] متفق عليه.
[4] كما عند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
[5] أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني.
إلا إنه قد كان من بين هؤلاء الناس رجل ينتظر لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ليرى وجهه ويسمع كلامه؛ حتى يعلم هل هو صادقٌ في دعواه (النبوة) أم لا؟ هذا الرجل هو أحد علماء اليهود، بل هو أفضلهم بشهادة اليهود أنفسهم، الذين قالوا عنه قبل أن يعلموا بإسلامه: "خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا". فلما علموا بإسلامه قالوا: "شرُّنا وابن شرنا"، وتنقَّصوه! هذا الرجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه..
جاء ليرى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامه! فما الذي رأى؟ وما الذي سمع؟
هذا ما سيحدثنا عنه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فلنترك له الحديث؛
يقول -رضي الله عنه-:
" لما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه[1]، وقيل: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أنْ قال:
" يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام "[2].
لقد عَلِمَ عبد الله بن سلام صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط برؤية وجهه الشريف -بأبي هو وأمي- قبل أن يسمع منه ولو كلمة واحدة! وهذا شأن من يبحث عن الحق, يهتدي إليه برحمة الله بأقصر الطرق، وأمَّا من لم يرد الحق فلو أتيته بقراب الأرض حججًا وبينات لن يهتدي أبدًا!!
ونحن سوف نتوقف مع أولى كلمات النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة لتأسيس الدولة المسلمة، فإن الإنسان ليتعجب من قلة عدد هذه الكلمات، وكذلك من بساطتها؛ بحيث يفهمها كل أحد، بل ويعمل بها بلا مشقة عليه. ثم إنَّ فيها النفع العظيم في العاجل والآجل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك إصلاح الفرد في نفسه، وإفشاء المحبة بين المسلم وأخيه في المجتمع، ثم إنه يجعل نظر الفرد دائمًا للآخرة لا لهذه الدنيا فحسب.
لم يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته بذكر ما حدث له مع أهل مكة، وما لاقاه منهم طيلة هذه السنين، فإن كل ذلك يحتسبه عند الله فلن يضيع! المهم الآن النظر فيما هو آتٍ، المهم الآن إصلاح الرعية؛ لأجل أن يتحملوا مسئولية الإسلام!
فانظروا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أفشوا السلام ".. أكَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأمر به؛ لأن السلام هو أعظم الأمور التي تجلب المحبة بين المسلمين، وقد جاء في الحديث الآخر الذي رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم ".
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من حق المسلم على المسلم أنه إذا لقيه سلَّمَ عليه[3].
ولقد تعلَّم الصحابة ذلك حتى انتشرت بينهم المحبة والمودة حتى كان ابن عمر -رضي الله عنه- ليبادر بالبدء بالسلام فلا يسبقه أحد بالسلام[4]. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين "[5]؛ يعني التأمين في الصلاة.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنص على أن إفشاء السلام يورث بين الخلق المحبة، وإذا سادت المحبة بيننا فسوف نتعاون مع بعضنا البعض في الخير، ويقبل المرء من أخيه النصيحة، ومن ثَمَّ ينصلح حال المجتمع أجمع.
وأنت لو قرأت فقه السلام في كتب الحديث وما ذكره العلماء من الآداب النبوية في السلام لقلت: أين هذا من واقع المسلمين اليوم؟!! والله المستعان.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أطعموا الطعام ".. وهذا من جملة مكارم الأخلاق التي تُشعر الفقراء بأن الأغنياء لم ينسوهم بل يسارعوا بتقديم الطعام لهم، فيرى الفقير كم يبذل الغني من مالٍ لإطعامه، فلا يحقد الفقير على الغني، ولا يغتر الغني بماله ويشكر نعمة الله عليه؛ فتطيب نفوس الجميع، ويصفو المجتمع من التحاسد والأحقاد.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: " وصلُّوا والناس نيام ".. وهنا إصلاح للفرد في نفسه، فإن المسلم إذا اعتاد على القيام بالليل ولو باليسير يتغير حاله كثيرًا، ويشعر بحلاوة الإيمان حقًّا، خاصة وهو يناجي ربه بالليل تلاوةً ودعاءً، وقد قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: " واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ".
وهكذا.. إذا فعل المسلمون هذه الأمور سينصلح كل فرد في نفسه، ومن ثَمَّ ينصلح الجميع، فينصلح المجتمع المسلم، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وأخيرًا يربط النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه بالآخرة، فيجيب عن سؤال مقدَّر -ماذا لو فعلنا ذلك؟- الجواب: " تدخلون الجنة بسلام ".
ولعل أكبر الدروس التي نستفيدها من هذا الحديث أن بناء الدولة الإسلامية لا يحتاج لشعارات براقة ولا لمصطلحات معقدة لا يفهمها الناس، يطلقها البعض ليقال: هو عالم!! وإنما تُبنى الدولة الإسلامية بالصدق مع الله أولاً، وإحسان العمل الديني والدنيوي، والأخذ بأسباب الفلاح والنصر في الدنيا والآخرة.
فليصلح كل واحد منا نفسه، ويتعاون مع غيره في البر والتقوى لإصلاح المجتمع، ونيته في ذلك التمكين للإسلام؛ لعل الله برحمته ييسر لنا ذلك. فإن تحقق ما نريد فبها ونعمت، وإن لم يتحقق لاقينا الله ونحن نسعى في ذلك.
المصدر: جريدة الفتح المصرية.
عن موقع قصة الإسلام
الهوامش
[1] انجفل الناس إليه: أي ذهبوا مسرعين نحوه.
[2] رواه الترمذي، وصححه، وكذا الألباني.
[3] متفق عليه.
[4] كما عند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
[5] أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني.
التعديل الأخير: