{ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }/د.عبد المجيد البيانوني

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,784
التفاعل
17,901 114 0
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }

الدكتور عبد المجيد البيانوني


كلمتان معجزتان أحاطت بالحياة الزوجيّة من أطرافها، لا أكتم القارئ الكريم أنّني حرت زمنًا في اكتشاف سرّ هذا الجمع القرآنيّ بينهما، ولطالما سمعت الخطباء والمتكلّمين يتحدّثون في مناسبة الأعراس عن هذه الآية، ويمرّون بهاتين الكلمتين مرورًا عابرًا، لا يستكنه شيئًا من أسرار ذكرهما، والجمع بينهما، واستعنت بما لديّ من كتب اللغة والتفسير، فلم أهتد إلى ما يروي ظمأي بوضع الكلمتين في نصابهما الصحيح، وخير ما وقفت عليه من التفريق بين المودّة والرحمة، من أقوال السلف من المفسّرين قول السّدّي: "المودّة: المحبّة، والرحمة: الشفقة".

ومن أقرب ما وقفت عليه من أقوال المفسّرين السابقين والمعاصرين في ذلك؛ قول الإمام الرازيّ: "قال بعضهم: محبّة حالة حاجة نفسه، ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه، وهذا لأنّ الإنسان يحبّ مثلاً ولده، فإذا رأى عدوّه في شدّة من جوع وألم قد يأخذ من ولده، ويصلح به حال ذلك، وما ذلك لسبب المحبّة وإنّما هو لسبب الرحمة.

ويمكن أن يقال: ذكر من قبل أمرين أحدهما: كون الزوج من جنسه، والثاني: ما تفضي إليه الجنسية، وهو السكون إليه، فالجنسية توجب السكون، وذكر ها هنا أمرين أحدهما: يفضي إلى الآخر؛ فالمودّة تكون أولاً، ثمّ إنّها تفضي إلى الرحمة، ولهذا فإنّ الزوجة قد تخرج عن محلّ الشهوة بكبر أو مرض، ويبقى قيام الزوج بها (1).

ويقول الشيخ ابن عاشور -رحمه الله-: "فإنّ المودّة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوّة والبنوّة، فما ظنّكم بآصرة جمعت الأمرين، وكانت بجعل الله تعالى، وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان"(2).

ويقول أيضًا: "جُعل بين كلّ زوجين مودّة ومحبّة؛ فالزوجان يكونان من قبل التزواج متجاهلين، فيصبحان بعد التزواج متحابّين، وجعل بينهما رحمة، فهما قبل التزواج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل وما يتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدّة في قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}(الرعد) ، وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان: صنف الذكر، وصنف الأنثى، وإيداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما"(3).

ويقارب مؤلّفو التفسير الواضح المعنى المقصود إذ يقولون: "والإنسان الذي يجتمع مع المرأة في الحلال يدرك بوضوح معنى السكنى إليها والميل لها، والهدوء النفسيّ عندما يزورها، ومن هنا سُمّي المكان الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة سكنًا ومسكنًا، لأنّ فيه تسكن النفس وتهدأ، ويطمئنّ الرجل، ويستريح من وعثاء الطريق، ومشاقّ الحياة الكادحة.
وجعل بينكم مودّة ومحبّة، وصلة روحية قويّة، قد تفوق في غالب الأحيان صلتك بأقرب الناس إليك، والشرع الشريف يلاحظ هذا جيدًا في تقدير الميراث والنفقات والمخالطة الداخليّة، والإسرار إلى الزوجات بذات الصدور.

وجعل بينكم رحمة وشفقة، وعطفًا عميقًا، ليس مصدره الغريزة الجنسيّة، والاتصال الماديّ، بل مبعثه اختلاط الأرواح، واتّصال النفوس، والاجتماع لغرض واحد وبناء عش الزوجيّة على أسس كريمة، ودعائم قويمة: { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ...(187)}(البقرة) (4).

كما قارب ذلك الدكتور الزحيلي في التفسير المنير إذ يقول: "{.. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.. } وجعل بين الجنسين المودّة أي المحبّة، والرحمة أي الشفقة، ليتعاون الجنسان على أعباء الحياة، وتدوم الأسرة على أقوى أساس وأتمّ نظام، ويتمّ السكن والاطمئنان والراحة والهدوء، فإنّ الرجل يمسك المرأة ويتعلّق بها؛ إمّا لمحبّته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك"(5).

وقال سيد قطب -رحمه الله-: "والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصوّر هذه العلاقة تصويرًا موحيًا، وكأنّما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحسّ: { لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ...} ، { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. . } { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }..

فيدركون حكمة الخالق في خلق كلّ من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطريّة: نفسيّة وعقليّة وجسديّة، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودّة والرحمة، لأنّ تركيبهما النفسيّ والعصبيّ والعضويّ ملحوظ فيه تلبية رغائب كلّ منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثّل في جيل جديد"(6).

ويقول الشيخ الشعراوي -رحمه الله-: "ولو تأملنا هذه المراحل الثلاثة ( يعني: السكن والمودّة والرحمة ) لوجدنا السكن بين الزوجين؛ حيث يرتاح كُلٌّ منهما إلى الآخر، ويطمئن له ويسعد به، ويجد لديه حاجته، فإذا ما اهتزّتْ هذه الدرجة ونفرَ أحدهما من الآخر جاء دور المودّة والمحبّة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية وتوفر لكليهما قَدْرًا كافيًا من القبول، فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الآخر جاء دور الرحمة، فيرحم كل منهما صاحبه، يرحم ضَعْفه، يرحم مرضه، وبذلك تستمر الحياة الزوجية، ولا تكون عُرْضة للعواصف في رحلة الحياة.

فإذا ما استنفدنا هذه المراحل، فلم يَعُدْ بينهما سَكَن ولا مودّة، ولا حتّى يرحم أحدهما صاحبه فقد استحالتْ بينهما العِشرة، وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للآخر، وهنا شرع الحق سبحانه الطلاق ليكون حلاً لمثل هذه الحالات، ومع ذلك جعله ربّنا سبحانه أبغض الحلال، حتّى لا نقدم عليه إلاّ مُضطرِّين مُجْبرين"(7).

ويختلف الكاتب مع الشيخ الشعراوي -رحمه الله- في تحليله للآية الكريمة، فالقرآن الكريم دقيق غاية الدقّة في تعبيره، إذ هو يفصل بين حاجة الرجل خاصّة، وبين أمرين مشتركين بين كلا الزوجين؛ فالسكن خصّه القرآن بالرجل، فقال تعالى: { لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ...} ، وأمّا المَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ فقد جعلهما أمرًا مشتركًا بينهما، وذلك لحاجة كلّ منهما الفطريّة إلى ذلك، فقال تعالى: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }..
وألخّص فهمي لموقع هذه الكلمات: "السَّكَنُ، المَوَدَّةُ، الرَّحْمَةُ "من العلاقة بين الزوجين، في النقاط التالية :

1 ـ "السَّكَنُ" ممّا تتطلّبه فطرة الرجل، وتركيبه النفسيّ أكثر من المرأة، ولذا خُصّ به الرجلُ في هذه الآية، وهُو ما يدعُو الرجلَ إلى البحث عن المرأة، والسعي إليها.

2 ـ و"السَّكَنُ" النفسيّ يمثّل خطّ الدفاع الأوّل عن العلاقة بين الزوجين، فإذا انهار هذا الخطّ أصبحت العلاقة على شفا جرف هارٍ..

3 ـ وأمّا " المَوَدَّةُ ، وَالرَّحْمَةُ " فهما مشتركان بطبيعتهما بين الزوجين، فلا يتصوّر أن تقوم علاقة إنسانيّة بهما، أو بأحدهما من طرف واحد.

4 ـ ففي حال الصحّة والشباب تتجلّى علاقة الحبّ والمودّة بين الزوجين، لأنّ كلاًّ منهما يعيش في ربيع العمر.. والحبّ ينعش هذه العلاقة ويؤلّقها.

5 ـ وفي حال الكبر والضعف تتجلّى علاقة الرحمة، لأنّ ضعف الصحّة في الشيخوخة يجعل الإنسان بحاجة إلى رحمة الآخرين وشفقتهم، وأقرب الناس إلى الزوج زوجه.. فهو يطّلع على ما لا يطّلع عليه والد ولا ولد، ومن هنا كانت الرحمة ضمانة مهمّة لحياة ينال فيها الإنسان الرعاية الكريمة من شريك حياته، ومن كان يصفوه المودّة حال شبابه.

6 ـ كلّما تألّقت علائق المودّة في حال الصحّة والشباب توثّقت عُرَا الرحمة في حال الكبر والضعف، فالرحمة هي البوّابة العميقة للحبّ، أو هما وجهان لحقيقةٍ واحدة.. تظهر ثمراتها في أوقات الشدّة، والضعف والحاجة.

7 ـ ومن وجهة أخرى فإنّ المودّة هي الفضل، والرحمة هي العدل، المَوَدَّةُ هي الحدّ الأعلى، وَالرَّحْمَةُ هي الحدّ الأدنى، فإن لم يستطع الزوجان أو أحدهما أن ينعما بالفضل في العلاقة بينهما، فلا أقلّ من أن تقوم على العَدلِ، وهو الرحمة، وإلى ذلك يشير قول عمرَ، رضي الله عنه: "ليسَ كلُّ البُيوتِ تُبنَى على الحبّ، ولكنّ الناسَ يَتعاشَرُونَ بالإسلامِ والأحسَابِ".

8 ـ فإن لم تستقم العلاقة على ذلك، وفقد الرجل السكَنَ النفسيّ نحو زوجه، فعندها يأتي التحاكم إلى حكمين عاقلين راشدين، ليبحثا عن الأسباب، ويحاولا معالجتها، فإن لم يقدرا على رأب الصدع وجمع الشمل، يأتي قول الله تعالى: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}(النساء).

هذا، والله تعالى أعلم، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ونبيّه سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله ربّ العالمين.

عن موقع قصة الإسلام

الهوامش
(1) مفاتيح الغيب (25/ 92).
(2) التحرير والتنوير (1/ 626).
(3) التحرير والتنوير (21/ 32).
(4) التفسير الواضح (3/ 22).
(5) التفسير المنير للزحيلي (21/ 69).
(6) في ظلال القرآن (5/ 2763).
(7) تفسير الشعراوي (ص: 4970).
 
عودة
أعلى