تعتبر القطارات النووية الصاروخية مشروعاً تحقق أثناء فترة الحرب الباردة وولد من رحم أحلك المخاوف في تلك الحقبة ولم يكن هناك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أدنى شك لا في موسكو ولا في واشنطن بأن ترسانة كل من البلدين قادرة على تدمير جميع اشكال الحياة على أرض الخصم أكثر من مرة .
توازن الرعب:
لقد بلغ عدد الرؤوس الحربية الاستراتيجية والتكتيكية في أمريكا ذروته وقارب نحو 30 ألف رأساً آنذاك ولم يتمكن الاتحاد السوفيتي اللحاق بها إلا في نهاية السبعينات من القرن الماضي. بدا وقتئذ للجميع أنه تم التوصل أخيراً إلى ما يسمى بتوازن الرعب الذي يحافظ على "ضمان الدمار المتبادل"، ولكن أثبت القادة العسكريون للقيادة السياسية بأن المعتدي الأول يمكن أن يفلت من الرد في حال تمكن من تدمير القوى الاستراتيجية للخصم بشكل مفاجئ.
ولهذا أصبحت المهمة الرئيسية في ظل المواجهة النووية بين القوتين العظميين في هذه المرحلة هي تصميم وتطوير منظومات أسلحة قادرة على الرد بعد تلقي الضربة الأولى من اجل تدمير العدو حتى ولو لم يبقى هناك معالم لدولة يمكن أن تدافع عنها هذه الصواريخ. وهنا أصبحت المجمعات الصاروخية المحملة داخل مقطورات السكك الحديدية من أنجح أنظمة الأسلحة المصممة من أجل تنفيذ الضربة الانتقامية.
تاريخ تصميم المجمعات الصاروخية:
في الحقيقة لا يمكن القول أن نصب الصواريخ البالستية على منصة السكك الحديدية هي من اختراع روسي بحت. إذ يشار إلى أن ضباط الصواريخ السوفيتية تعرفوا لأول مرة على مثل هذه التصاميم عندما قاموا بدراسة الوثائق التي حصلوا عليها كغنيمة بعد انتصارهم على الفاشية الألمانية، فقد قام الخبراء الألمان في نهاية الحرب بإجراء تجارب على إطلاق الصواريخ المتنقلة من طراز "فاو-2 " كما حاولوا وضعها على منصات مفتوحة من جهة وداخل مقطورات السكك الحديدية من جهة أخرى.
ومن أهم العلماء السوفييت الذين قاموا بتصميم القطارات الصاروخية: سميتانن وغالاسي وخورولسكي وبيرمينوف وغراتشوف وكوكوشكين وخبراء آخرين. وقد تم صناعة هذه القطارات الصاروخية الفريدة في مدينة دنيبروبتروفسك في مصنع "يوجماش" الشهير مع العلم أنه تم تسخير ما يقارب 30 وزارة وهيئة وشركة وأكثر من 130 مؤسسة دفاعية من أجل تصميم هذه القطارات الصاروخية القتالية. وقد واجهت هذه الفكرة البسيطة للوهلة الأولى وهي رفع الصواريخ ووضعها على عجلات، مجموعة كبيرة من المشاكل التنظيمية والتقنية.
أسطورة الفكرة المسروقة:
إن الأسطورة الشائعة تقول بأن فكرة تصميم القطارات الصاروخية في الاتحاد السوفيتي تعود للعلماء الأمريكان، وزعم آنذاك بأن ضباط الاستخبارات السوفيتية تمكنوا من الحصول على معلومات تفيد بأن الولايات المتحدة تستعد لتصميم قطارات قادرة على إطلاق صواريخ بالستية حتى أن الأسطورة تقول بأن جهاز ال كي جي بي كان قد حصل على صور تثبت ذلك والتي تظهر وجود نموذج صغير من القطارات الصاروخية... أما في واقع الأمر فإن فكرة هذه القطارات الفريدة من نوعها تعود للاتحاد السوفيتي حصراً.
تجدر الإشارة إلى أن ظهور أول فكرة للقطارات الصاروخية يعود إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، لكنها لم تر النور آنذاك وذلك لأن النظم الدفاعية الأخرى كانت توفر التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة علاوة على أنه لم ي& مزروع في الأرض على مسافة ألف كم. هذا ليس إلا دعاية للناس البسطاء، فكما هو معلوم جميع الصواريخ لها انحراف محدد وأبداً. ولكن الموضوع لا يكمن في مجرد الدعاية وإنما أصبح هناك خطر يهدد الصواريخ الموجودة داخل صوامع خاصة تحت الأرض ولهذا أصبح من غير الممكن أن نعرضها للقصف وبالتالي كان علينا أن نبحث عن رد لائق.
وقد كان صاروخ "مولوديتس" الرد اللائق الذي توصل إليه العلماء السوفيت علماً أن هذا النوع من الصواريخ يدخل ضمن إطار الاتفاق مع الأمريكيين ولهذا تقرر نشرها ضمن خيارين الأول نصبها داخل صوامع تحت الأرض والثاني نصبها على قاطرات للسكك الحديدية. ولهذا عاد العلماء لفكرة القطارات الصاروخية. والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي الميزة التي تختص بها القطارات الصاروخية؟. نعم إن ميزتها الرئيسية في أنها بعيدة المنال خلافاً لما هو عليه الحال لدى الصواريخ الموجودة داخل الصوامع تلك الأماكن التي يمكن أن تكون معروفة من قبل العدو مسبقاً.
إبرة في بيدر من القش:
ظهرت أسئلة كثيرة لدى خصومنا بشأن القطارات الصاروخية والتي لم يتمكن الأمريكان الإجابة عليها إلى يومنا هذا. حتى أن الولايات المتحدة قاموا بإنشاء مجموعة من الأقمار الصناعية العسكرية لرصد وتتبع هذه القطارات في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ولكن حتى من الفضاء تعثر على الأمريكان الكشف عن هذه القطارات وتحديد مكانها ولهذا فإن احدث المعدات التكنولوجية كانت تفقد أثر هذه القطارات في كثير من الأحيان.
لقد كانت هذه القطارات بعيدة المنال بسبب الشبكة المتطورة من السكك الحديدية للاتحاد السوفيتي ولهذا كان من الصعب تصور عدد صواريخ "البيرشينغ" التي يجب إطلاقها لتدمير قطار صاروخي واحد حتى أن الجنرال الأمريكي باول اعترف قائلاً:" إن البحث عن قطاراتكم الصاروخية كمن يبحث عن إبرة في بيدر من القش".
هذا مهم جداً لأنه دليل على زيادة عامل الردع، وهذه ليست معركة بين شخص وآخر كما في حالة الصواريخ المنصوبة في الصوامع تحت الأرض، وإنما الحديث هنا يدور على مستوى آخر...فليس هناك أدنى فرصة للعدو في أن يتخيل أنه يمكن أن يفلت من الرد المدمر.
صاروخ "مولوديتس" الملقب بالمشرط :
بدأ العمل لتأسيس مجمع من القطارات الصاروخية القتالية المتحركة القادرة على نشر صواريخ بالستية عابرة للقارات في منتصف السبعينيات من القرن الماضي علماً أن هذه المجموعات أصبحت إحدى المكونات الهامة الدفاعية للاتحاد السوفيتي في 28 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1983. بالمناسبة يمكن معرفة قدرة القطار الصاروخي الواحد من خلال مقارنته بما حدث على سبيل المثال في هيروشيما فالقطار الواحد قادر على تدمير هيروشيما 900 مرة.
لقد تم دراسة عدة احتمالات ووضعت خيارات مختلفة لكن الخيار الأفضل كان الرابع أو الخامس من الصواريخ المحسنة من طراز pt-23yttx "مولوديتس"، وقد عرف هذا النوع من الصواريخ في الغرب باسم ss-24 scalpel الذي كان أفضل ما تم إنتاجه من الصواريخ السوفيتية آنذاك.
إذا ما تحدثنا عن ميزاته الفنية فإن طول هذا الصاروخ يبلغ 22.6 م وقطره 2.4 م علماً أن هذا النوع من الصواريخ تعمل على 3 مراحل تمكنه من إيصال الشحنة القاتلة التي يبلغ وزنها 4050 كغ على مدى أقصاه 10100 كم. بالإضافة إلى أن هذه الشحنة لا تحتوي فقط على 10 رؤوس متعددة تزن الواحدة منها 550 كغ تستهدف مواقع بشكل مستقل إلى أنها مزودة بمنظومة يمكنها التغلب على نظام الدفاع الصاروخي.
ارتفاع قدره 30 م بواسطة جهاز يحوي على البارود المضغوط وتعمل النبضات على إزاحة الصاروخ جانباً عن نقطة الإنطلاق ومن ثم يتم تشغيل المحرك الرئيسي الذي يأخذ الصاروخ بعيداً إلى السماء تاركاً ورائه سحابة كثيفة من الدخان وهذه ميزة الصواريخ التي تعمل على الوقود الصلب.
تجدر الإشارة إلى أن صاروخ " مولوديتس مازال يعتبر من الأسلحة السرية للغاية حتى أن الخبراء يحافظون عليه بعيداً عن أنظار المتطفلين، ومن المستبعد أن تقدم روسيا في يوم من الأيام إلى بيع هذا النوع من الأسلحة إلى بلدان أخرى.
هذا السلاح الخطير يعتبر سلاح الضربة الانتقامية لأي عدو يمكن أن تراوده فكرة توجيه ضربة استباقية ضد روسيا الاتحادية.