ذكر أبو حامد الغزالي أن المنصور قدم مكة ـ شرفها الله ـ
حاجاً، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به أحد ،
فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، وأقيمت الصلاة فصلى بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر ، فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع.
فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور؛ ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ؟ ومن يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم ؟..
فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها ، وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت.
فقال: ويحك ! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي ، والحلو والحامض في قبضتي؟ قال:
وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم ، فأغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر ، وأبواباً من الحديد ، وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم ، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها ، واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة ، إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان ، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق ..
فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا:
هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا ؟ فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره ..
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم ، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك
، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية ، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل ؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك ، وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ، ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته ، وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ، ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث ، وهو يدفعه ويعتل عليه..وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ..
ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف؛ ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي:
يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف..
ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه؟ ..
هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه،
وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه ، فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ، ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يشاء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع ، وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد.
وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ..
يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل؟ قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم ، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك؟..
فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا؟..
فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أكُ شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً؟ قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانتصر للمظلوم من الظالم ، وامنع المظالم ، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل ، وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك.
فقال المنصور : اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
نقلا من كتاب " إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 185 وما بعدها ) " بتصرف
.
فهل لمثل هؤلاء من عودة ، وهل يجود علينا الزمن بمثل هذا الرجل في إخلاصه فيدعو الله بدعوة يَسمعها الله فيحضر الحاكم ليكون شاهدا عليها ، وهل يجود علينا بحكماء يخافون على مصيرهم فتنصت آذانهم لمثل نصح هذا الرجل ؟؟!
أدعو الله أن يحقق لنا ذلك ، ولكن بعد أن نغير من أنفسنا فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
المصدر : موقع التاريخ
حاجاً، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به أحد ،
فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، وأقيمت الصلاة فصلى بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر ، فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع.
فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور؛ ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ؟ ومن يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم ؟..
فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها ، وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت.
فقال: ويحك ! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي ، والحلو والحامض في قبضتي؟ قال:
وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم ، فأغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر ، وأبواباً من الحديد ، وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم ، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها ، واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة ، إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان ، نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق ..
فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا:
هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا ؟ فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره ..
فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم ، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك
، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية ، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل ؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك ، وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ، ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته ، وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ، ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث ، وهو يدفعه ويعتل عليه..وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ..
ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف؛ ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي:
يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف..
ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه؟ ..
هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه،
وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه ، فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ، ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يشاء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع ، وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد.
وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ..
يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل؟ قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم ، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك؟..
فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا؟..
فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أكُ شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً؟ قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب ، وسهل الحجاب ، وانتصر للمظلوم من الظالم ، وامنع المظالم ، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل ، وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك.
فقال المنصور : اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل.
نقلا من كتاب " إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 185 وما بعدها ) " بتصرف
.
فهل لمثل هؤلاء من عودة ، وهل يجود علينا الزمن بمثل هذا الرجل في إخلاصه فيدعو الله بدعوة يَسمعها الله فيحضر الحاكم ليكون شاهدا عليها ، وهل يجود علينا بحكماء يخافون على مصيرهم فتنصت آذانهم لمثل نصح هذا الرجل ؟؟!
أدعو الله أن يحقق لنا ذلك ، ولكن بعد أن نغير من أنفسنا فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
المصدر : موقع التاريخ