نحو تفسير أسهل
الدكتور عائض القرني
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الدكتور عائض القرني
سورة الإنسان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴿1﴾
أما مرَّ الإنسان على زمن طويل قبل أن تنفخ فيه الروح ، لم يكن خلقاً يذكر ولا شيئاً يُعرف ولا يوصف ، فلا خبر له ولا أثر ، لأنه في عالم العدم .
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾
إن الله خلق الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل والمرأة ، وهذا الماء هو أصله ، فامتحناه بالشريعة واختبرناه بالأمر والنهي فهيأناه لذلك بالسمع لسماع الآيات ، وبالبصر لرؤية الدلا لات ، فصار مستعدا للفهم قابلا للعلم.
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾
والله وضَّح له طريق الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والخير والشر ، ليكون شاكراً لنعم الله بالإيمان ، أو كافراً جاحداً معارضاً عن الهدى والقرآن.
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿4﴾
والله هيأ للكفار قيوداً من حديد تُربط بها أرجلهم مصفدين وأغلالاً تُشد بها أيديهم إلى أعناقهم مغلولين ، وناراً تحرقهم مقيدين ، فلكل عضوٍ حصته من العذاب ، وحقه من العقاب.
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿5﴾
إن الصادقين المخلصين الطائعين لرب العالمين يشربون من خمر ممزوجة بالكافور ، وهي من أحسن الطيب ، ليكون له لذة ولطعمه مذاق ، زيادة في النعيم.
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴿6﴾
وهذا الشراب الممزوج بالكافور من عين تفور ، يتصرف فيها الأبرار ، ويجرونها لكل قصر ودار ، تطاوعهم في الانسياب معهم في كل مسار.
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴿7﴾
ومن أوصاف هؤلاء الأبرار أنهم يؤمنون بما أوجبوه على أنفسهم من طاعة الله ، ويؤدون ما التزموه من النذور ، ويخافون العقاب يوم الحساب ، يوم يكون الهول خطيراً ، والكرب كبيراً ، فشا شرُّه وانتشر ، وعظم خطبه وكبر على من جحد وكفر.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8﴾
وَيُطْعِمُونَ المساكين والأيتام والأسرى طعامهم مع حبهم الشديد لهذا الطعام ، لجودته وحاجتهم إليه ، ولكن آثروهم على أنفسهم طلباً لمرضاة ربهم.
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾
ويستحضرون في أنفسهم النية الخالصة ، فهم إنما يحسنون لهؤلاء ابتغاء ما عند الله من الأجر العظيم ، ولا يريدون منهم ثواباً على هذا الطعام ، ولا حمداً ومدحاً على هذا الجميل.
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿10﴾
إنا نفعل الخير خوفاً من يوم عظيم ، عذابه شديد ، تعبس فيه الوجوه ، وتتقطب فيه الجباه لهوله ، فالمناظر كالحة ، والطلعات مسوّدة إلا من رحم الله.
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿11﴾
فَحَمَاهُمُ اللَّهُ شَدائد ذَٰلِكَ الْيَوْمِ ، وجنبهم أهواله ، ونجاهم من كرباته ، ومنحهم جمالاً وبهاءً في المنظر ، وسروراً في المخبر ، فالوجوه بهيجة ، والقلوب مسرورة.
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴿12﴾
وأثابهم بسبب صبرهم على الطاعات والمكاره ، وصبرهم عن المعاصي ، جنة راضية ، مقعد صدق آمن ، آكلين شاربين منعمين يلبسون الحرير ، ويتكئون عليه ويفترشونه .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴿13﴾
مُتَّكِئِينَ على الأسرة الوثيرة الناعمة المزينة بأجمل الألوان ، وأبهى الصور ، لا يجدون في الجنة حر الشمس ولا برد الزمهرير ، بل هو جو معتدل ، وهواء لطيف ، وظلٌ وارف.
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴿14﴾
وقريبة منهم أغصان الأشجار ، يستظلون بها تتعطف عليهم الأفنان ، وسهلت لهم الثمار في التناول على أي حال أرادوا من اضطجاع أو قعود أو قيام.
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿15﴾
وَيُطَوفُ عَلَيْهِمْ الغلمان بأواني الطعام ، وأكواب الشراب ، فالخام منعَّم مهذب قريب ، والطعام لذيذ شهي ، والشراب ماتع ، والآنية فاخرة جميلة من زجاج الفضة .
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿16﴾
وهذه الآنية من زجاج الفضة على قدر شرب الشارب قدرها الساقي بحسبان ، لا زيادة ولا نقصان وهذا ألذ شئ لدى الإنسان .
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ﴿17﴾
وَيُسْقَى هؤلاء البررة كأس خمر ، مزجت بالزنجبيل يأخذ طعمه بالألباب ، سُرت بها النفوس ، وفاحت في الأنوف ، وضوعت في المكان.
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ﴿18﴾
يشرب الأبرار من عين اسمها سلسبيل ، لسهولة الشراب ، وسلامته من الكدر ، ويُسر تناوله ، وسرعة مساغه.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ﴿19﴾
ويدور على الأبرار غلمان دائمون في النعيم ، إذا أبصرت حسنهم وجمالهم ظننتهم اللؤلؤ البراق المضئ ، لصفاء الألوان ، وإشراق البشر ، وبياض الأجسام.
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴿20﴾
وأينما نظرت في أي مكان من الجنة رأيت النعيم المقيم ، والملك العظيم ، خلود دائم ، وسرور مستمر ، وبهجة وقرة عين .
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴿21﴾
على أبدانهم ثياب من حرير رقيق اخضر يلي الأجسام ، وظاهره حرير سميك ، وفي أيديهم أسورة من فضة وشرابهم طاهر لا رجس فيه ولا دنس ، كمل اللباس ، وجمل المكان ، وحسن الشراب ولذّ .
إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴿22﴾
ويُهنئون ، فيُقال لهم : هذا ما أُعِد لكم ثواباً على أعمالكم الصالحة وكان سعيكم مقبولاً مرضياً ، فطوبى لكم بها الإنعام ومزيد الإكرام ، وطيب الكلام .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ﴿23﴾
أخبر سبحانه وتعالى أنه نزَّل كتابه القرآن الحكيم على نبيه الكريم ، وأنه وحي من عنده ، وهو كلامه المحكم ، وقد نزَّله منجماً .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾
فعليك بالصبر على ما حكم الله به وقدر ، من قضاء قدري وشرعي ولا تتبع من انغمس في الشهوات ، وتهالك في المحرمات ، وكفر بالرسالات والآيات البينات .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿25﴾
وداوم على ذكر الله أول النهار وآخره ، لأنها البداية والنهاية ، أوله قوة وعون وفي آخره استغفار وتوبة .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴿26﴾
وصلِّ لربك متنفلاً واذكره كثيراً في وقت طويل من الليل ، فتطوع الليل أفضل من تطوع النهار ، وهذا هو الزاد في طريق المصاعب والمشاق.
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴿27﴾
إِنَّ هَٰؤُلَاءِ الكفار يحبون الدنيا ويقدمونها على الآخرة ، ويعملون لها فحسب ، ويتركون خلف ظهورهم الاستعداد للآخرة ولا يسعون إلى النجاة من أهوال ذاك اليوم العظيم .
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾
والله وحده هو الذي خلقهم من العدم ، وصوًرهم وأحكم خلقهم ، وإذا أراد هلاكهم لا يمنعه من ذلك أحد ، ويأتي بأطوع له منهم وأعبد لربه من هؤلاء الفجرة .
إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾
إِنَّ هَٰذِهِ السورة الكريمة فيها موعظة عظيمة ، فمن أراد النجاة سلك طريق الطاعة إلى الله ليصل إلى رضوانه والفوز بجنانه .
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾
ولا يريد العباد أمراً من الأمور إلا بقضاء من الله وقدره ، ولا تتم مشيئتهم إلا بمشيئة الله ، إن الله عليم بالأعمال والأحوال والأقوال ، حكيم في التدبير والتصوير والتقدير .
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿31﴾
يُدْخِلُ مَنْ اراد من العباد في رحمته بعمل ما يحبه ، وفعل ما يرضاه ، أما الظالمون المتجاوزون للحدود العاصون للمعبود ، فقد هيأ لهم عذاباً موجعاً ونكالاً شديداً .