عودة إلى سربرنيتشا
بقلم / يوسف عدس
يوم 8 يوليه من كل عام يوم مشهود في البوسنة .. يجدد فيه المسلمون أحزانهم ، ويتوجهون فيه من كل أنحاء البوسنة إلى مدينة [ سربرنيتشا ] المنكوبة التي قتلت فيه القوات الصربية ثمانية آلآف بُسنويّ مسلم ودفنتهم في مقابر جماعية متفرقة .. وقد جرت هذه المجازر البشعة تحت سمع وبصر القوات الدولية التي كانت اشترطت على سكانها نزع أسلحتهم وتسليمها تطبيقا لقرار الأمم المتحدة .. باعتبار سربرنيتشا من الملاذات الآمنة التي تقع مسئولية حمايتها على عاتق القوات الدولية .. وصدّق المسلمون أسطورة الملاذات الآمنة حتى فوجئوا بهجوم مباغت مبيّت بليل شنته القوات الصربية بالتواطؤ مع القوات الدولية ..
قتل الصرب من قتلوا ، وأخْلوا المدينة تمامًا ممن بقى فيها من السكان ، واستوْلوا عليها ليضمّوها إلى نصيبهم في عملية التقسيم بحكم الأمر الواقع .. كما تفعل إسرائيل الآن في مدينة القدس العربية .. أصبحت مدينة سربرنيتشا في أعين المسلمين اليوم أطلالا يأتون إليها كل عام للبكاء والبحث عن ذويهم الذين افتقدوهم منذ ثمانية أعوام لعلهم يستطيعون التعرّف على رفاتهم ضمن الجثث التي اكتشفت .. فلا يزال الحفر مستمرا والبحث عن الآلاف من جثث الضحايا قائما إلى اليوم ..
لقد أصبحت مأساة سربرنيتشا رمزا حيّا متجدّدًا لمأساة شعب خاض حربا غير متكافئة دفاعا عن أرضه وعرضه وحريته .. حدث هذا في قلب أوربا ، ولكن لأنه شعب مسلم لم تنهض أوربا لنصرته ضد العدوان الصربي .. بل فرضت على تسليحه حظرا دوليا حتى يعجز عن الدفاع عن نفسه ويستسلم للصرب بدون قيد ولا شرط .. وتواطأت مع عدوه عليه .. ولم تتدخل لوقف الحرب إلا في اللحظة التي بدأ فيها ميزان القوة يميل قليلا لصالح المسلمين .. وأدركت أن الصرب يخسرون إذا استمرت على ذلك المنوال الذي اتضحت معالمه في أكتوبر سنة 1994 .. حيث استطاع المسلمون أن يقيموا تحالفا مع كروات البوسنة .. واستطاعت قواتهم المشتركة أن تحاصر مدينة [ بنيالوكا ] معقل قيادة القوات الصربية .. وأدركت الدول الأوربية أن سقوط بنيالوكا قد أصبح وشيكا ... هنا فقط تدخلت لوقف أطلاق النار والبدء في عملية التفاوض التي انتهت باتفاقية [دايتون ] الظالمة .. التي كوفئ فيها المعتدى بالاحتفاظ بنصف أراضى البوسنة .. بينما يمثل الصرب أقل من ثلث سكانها .. واضطر المسلمون بقبول هذه التسوية المجحفة المفروضة عليهم من قبل المجتمع الدولي .. حيث لا خيار أمامهم إلا استمرار المجازر والتواطؤ الأوربي السافر ...
سربرنيتشا :
تقع سربرينيتشا فى خريطة البوسنة إلى الشرق من سراييفو قريبا من حدود البوسنة مع صربيا، وهي مدينة صغيرة لم يتجاوز تعداد سكانها قبل الحرب أكثر من ستة آلاف، ولكن مع عمليات "التطهير العرقي" الوحشية نزح إليها كثير من الهاربين بحياتهم من الموت حتى بلغ عدد سكانها خمسون ألفا ...
في إبريل 1993 قفز اسم تلك المدينة الصغيرة إلى صدر نشرات الأخبار العالمية عندما حاصرتها القوات الصربية وقطعت عنها إمدادات المياه والطعام ثم تحولت إلى سكانها لتمطرهم بقصف عشوائي ليل نهار، وفي نوبة شجاعة (على حد تعبير الصحفي محمد عوض) توجّه إليها "فيليب موريون" وكان حينذاك قائد قوات الأمم المتحدة في البوسنة، ارتاع الجنرال من الهول الذي شاهده هناك ، حيث جثث الموتى ملقاة على الأرض في شوارع المدينة، جثث لكبار السن ومرضى سقطوا موتى من شدة الزحام والتدافع فراراً من الجحيم ..
خشي السكان أن يهجرهم الجنرال الفرنسي ويتركهم لمصيرهم الرهيب فقسموا أنفسهم إلى نوبات تتغير كل أربع ساعات، افترشوا الأرض أمام سيارته المدرعة ليمنعوه من الخروج، فإذا كان مقدراً عليهم أن يموتوا في هذا الجحيم فليجرب الجنرال مذاق الجحيم معهم ...
يبدو أن الجنرال قد اقتنع بالبقاء مع السكان المروَّعين في "سربرنيتشا" إلى أن يحصل على اتفاق مع الصرب يضمن الإبقاء على حياتهم ، وفي لحظة صدق مع النفس صاح الجنرال أمام عدسات المصورين قائلا: "إن أي هجوم على سربرنيتشا هو هجوم على العالم، فإذا قبل العالم أن يغمض عينيه عن حرب فهل يغمض عينيه أيضاً عن مجزرة.. !"
هذا الموقف من جانب الجنرال "موريون" قد أثار سخط بطرس غالي وكان سبباً في إنهاء خدمته بقوات الأمم المتحدة .
في 8 إبريل 1993م تنازل سكان سربرنيتشا عن أسلحتهم القليلة الباقية تنفيذ للشروط الصربية الصارمة التي لم تستثن حتى السكاكين، وذلك مقابل فك الحصار الصربي والتزام الأمم المتحدة بحمايتهم، وفي 6 مايو أصبحت سربرنيتشا بقرار من مجلس الأمن ملاذا آمنا انضمت إليه فيما بعد خمس ملاذات أخرى.
بعد حوالي 28 شهراً عادت "سربرنيتشا" مرة ثانية تتصدر الأخبار العالمية حيث قرر الصرب أن يقوموا بجولتهم الثانية والقاضية ضد سربرنيتشا بعد أن تهيأت الظروف المواتية لهم فهي منزوعة السلاح ، وبها مجموعة من الجنود الهولنديين في قوة صغيرة من قوات الحماية الدولية مسلحين بأسلحة خفيفة ، ويقومون بأعمال المراقبة .. في هذه المرة لم يكن هناك ضابط مثل "مريون" وإنما جنود مطيعون ملتزمون بأوامر قياداتهم ألا يتصدّوْا للصرب ...
وفي يوم السبت 8 يوليه 1995 بدأ الصرب محاصرة القوة الهولندية فقصفوا مراكز مراقبتهم، واتصل قائد القوة تليفونيا يطلب دعما جوياً من الجنرال "برنار جانفييه" القائد العام لقوات الأمم المتحدة ليوغسلافيا، ولكن مرّ يوم السبت ويوم الأحد دون ظهور أي رد فعل دولي، هنالك تشجع الصرب وضربوا الضربة الثانية بالاستيلاء على مراكز المراقبة واعتقال 32 من جنود القوة الهولندية كرهائن ..
فلما علمت حكومة هولندا بالخبر طلبت على الفور إلغاء الدعم الجوي خوفاً على حياة الرهائن.
وهكذا أصبح الطريق ممهدا للضربة الثالثة ؛ ففي يوم الثلاثاء قام الصرب باكتساح الدفاعات البوسنوية المحدودة حول سربرنيتشا ، ثم شرعوا في قصف القاعدة العسكرية الهولندية، ولم تظهر طائرات حلف الأطلسي إلا في ظهر ذلك اليوم حيث قامت بغارة (رمزية) انسحب بعدها الهولنديون وهم يشعرون بالخزي والمذلة.
كان الصرب قد دخلوا قلب المدينة المذعورة وسيطروا عليها، وأمام عيون أفراد القوة الهولندية والمراقبين التابعين للأمم المتحدة بدأ القائد الصربي يشرف على عملية فرز الضحايا، فالنساء والأطفال يوضعون في شاحنات تمضي بهم خارج المدينة، أما الصبيان من سن 15 سنة إلى الشيوخ في سن الستين فأولئك يعتقلهم الصرب ويأخذونهم إلى أماكن مجهولة بحجة استجوابهم عن جرائم الحرب التي ارتكبوها ..
وطبعاً لم تكن هناك استجوابات ولا تحقيقات وإنما أُخذ أغلبهم إلى ساحات خالية في العراء ، وجاء الجنرال الصربي "راتكو ملا ديتش" فطمأنهم إلى أنهم سيُخلى سبيلهم عند توفير وسائل النقل الكافية لهم ، واستقل الجنرال طائرته الهليكوبتر، وبدلاً من أن تأتي إليهم وسائل النقل طوّقهم الجنود الصرب وأطلقوا عليهم النيران فقتلوهم ، ثم تأتي قصة المقابر الجماعية التي دفن فيها ثمانية آلاف من المسلمين في أماكن مجهولة .. يعرفها الصرب كما صورتها الأقمار الصناعية الأمريكية، ولكن بقي أمرها سراً عن الناس، حتى أقارب الضحايا لم يعرفوا حتى الآن أين توجد جثث موتاهم ..
حرص الصرب على الاحتفاظ بأفراد الوحدة الهولندية والمراقبين التابعين للأمم المتحدة لكي يحضروا العمليات التمهيدية لفرز السكان وترحيلهم حتى يكونوا شهودا أمام المجتمع الدولي على أن الصرب قاموا بعمليات مشروعة دون انتهاك لحقوق الإنسان ، ولكنهم اجتهدوا في إبعاد الجميع عن مسرح عمليات التعذيب والقتل الجماعي للمسلمين ، إلا أن هذه العمليات الوحشية كانت من الضخامة واتساع المدى في المكان والزمان بحيث لم يستطع الصرب إخفاء آثارها أو صورها وأخبارها عن العالم الخارجي الذي استجاب بثورة عارمة تعالت أصداؤها في أوساط الرأي العام العالمي ...
أما على المستوى الرسمي للدول الغربية فكانت الاستجابة مختلفة ، فقد أعلنت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها أنه كان من الخطأ أصلا اعتبار "سربرنيتشا" ملاذا آمنا ..! ، ولما عرض الرئيس الفرنسي "شيراك" استعداد بلاده للقيام بعمل عسكري فوريّ لاستعادة سربرنيتشا سخرت منه بريطانيا ، ولجأت إلى حيلها التقليدية لامتصاص الأزمات ، فدعت إلى اجتماع ثلاثي (أمريكي فرنسي بريطاني) على مستوى رؤساء أركان الحرب ، تلاه اجتماع ثانٍ على مستوى وزراء الدفاع ، ثم اجتماع ثالث موسع على مستوى وزراء الدفاع ووزراء الخارجية جميعاً وهو ما سمي بالمؤتمر الدولي الذي انعقد في لندن يوم الجمعة 21 يوليه 1995 أي بعد سقوط سربرنيتشا بعشرة أيام ...
هذا التنطع السياسي البريطاني والدولي هو الذي أعطى الفرصة السانحة للصرب أن ينقلوا هجومهم من سربرنيتشا بعد الإجهاز عليها إلى ملاذ آخر قريب منه هو "جيبا" .. وبينما كان المسلمون في جيبا لا يزالون يقاومون والقتل دائر في شوارعها على قدم وساق صدر البيان الختامي لمؤتمر لندن دون أي إشارة إلى جيبا التي تحتضر لأن السادة المجتمعين اعتبروا أنها قد سقطت وانتهت بالفعل ، ولم يذكر البيان شيئاً عن سربرنيتشا وكأنها لم تكن ، وإنما ورد في البيان تحذير إلى الصرب بأن يبتعدوا عن جوراشده ، وفي هذا تصريح ضمنيّ باستحلال ما قام به الصرب في سرببرنيتشا وجيبا ...
هكذا سمح المجتمع الدولي للصرب في هذه الجولة أن يمسحوا من الوجود تماماً مدينتين بسنويتين كانتا ضمن الملاذات الآمنة التي من المفروض أنها في حماية قوات الأمم المتحدة، انتزعها الصرب بقوة السلاح بعد أن طهروا أرضهما من السكان المدنيين قتلا وتشريدا دون أن يحرك للمجتمع الدولي ساكنا ، وارتفعت هناك راية الفاشية الصربية حيث سقط المجتمع الدولي ...
توالت الأخبار عقب سقوط سربرنيتشا لتكشف تفاصيل الكارثة التي أصابت المسلمين، ولتعرّى المواقف الدولية وهي تتخبط وتتضارب: يقفز بعضهم إلى الحلبة متطوعا بقواته للإنقاذ الفوري، ويتعالى صياح بعضهم بالشجب والاستنكار، ويتمحل بعضهم الأعذار لفوات أوان الإنقاذ ، ولا يجد البعض الآخر سوى الكلمات الفارغة من المعنى يلوكها بلسانه متلعثما وهو يحاول التخلص من هجمات الصحفيين واستنكارهم ...
شهود عيان:
وبينما هذا الهواء الصاخب يتردد على ألسنة الساسة في المجتمع الدولي كان تلفاز هيئة الإذاعة البريطانية يعرض برنامجا وثائقيا عن سقوط سربرنيتشا ظهر فيه ضباط هولنديون تابعون للقوات الدولية يراقبون- دون أن يتدخلوا- صرب البوسنة أثناء إعدادهم لمجزرة استهدفت مدنيين مسلمين.. قال معد البرنامج وهو "جون سويني" الصحفي المشهور في صحيفة "الأوبزرفر" البريطانية: "إن قائد الوحدة الهولندية الجنرال "هانس كوزي" قد اعترف بأنه أمر بإتلاف أفلام صورها مصور من قوة الحماية الدولية لتجنب التعرف على الضباط الهولنديين الذين ظهروا فيها .. وكانت الإذاعة البريطانية قد أدمجت في البرنامج فيلما آخر استطاعت أن تهرّبه من بلجراد قام بتصويره صحفي صربي كان حاضرا أثناء المجازر في "سربرنيتشا" واسمه "جوران بتروفيتش" ، كذلك استعان البرنامج بمقابلات أجريت مع عدد كبير من المسلمين الناجين من المجازر الصربية ، ومع بعض العاملين في منظمات حقوق الإنسان ، وصوّر شهادة الشهود من الوحدة الهولندية أمام محكمة جرائم الحرب في لاهاي ، من بين هؤلاء الضابط "كوربورال بول جرونيوجن" الذي قال: أنه في يوم 13 يوليه حوالي الساعة الرابعة مساء رأي أربعة يدخلون على مجموعة من المسلمين المحتجزين فيسحبون واحداً منهم جعلوه يقف ووجهه إلى الجدار ثم أطلقوا الرصاص على رأسه فأردوه قتيلا.. وأضاف الضابط أنه سمع في ذلك اليوم حوالي أربعين طلقة في كل ساعة خلف المبنى الذي تجمع فيه المعتقلون مما يدل على أن عمليات القتل كانت تسير بطريقة نظامية ، وقد أيدت هذه الواقعة الممرضة الألمانية "كريستينا شميت" التي كانت تعمل في مكان قريب من مبنى الاحتجاز ...
أما الصور التي بثها التلفاز البريطاني اقتباساً من فيلم الصحفي الصربي "بتروفيتش" فقد ظهر فيها جنود صربيون يضعون على رءوسهم قبعات الأمم المتحدة الزّرق التي استولوا عليها من الوحدة الهولندية ، وهم يفرزون المسلمين فيفرقون بين الرجال والنساء بينما يقف بالقرب منهم جنود الأمم المتحدة ، ثم تظهر مجموعة أخرى من المعتقلين الرجال يدفعهم الصرب في اتجاه حقل بينما كان هناك جنود صربيون يعدّون أسلحتهم لإطلاق النار على الضحايا ...
وما لم يظهر في برنامج بانوراما بالتلفزيون البريطاني قام به مؤلفان هولنديان بتوثيقه ونشره في كتاب عن سربرنيتشا .. هما "جان وليام هونيج " و " نوربرت بوث " .. استطاعا أن يبرزا فيه بشاعة المجزرة الصربية للمسلمين .. حيث تابعا مجرى الأحداث يوما بيوم .. وساعة بساعة .. بتفصيل دقيق ..
"هونيج" خبير معروف في شئون الحرب والأمن وسياسات الدفاع ، قام بالتدريس في جامعتي "أوتريخت" بهولندا و "نيويورك" كما عمل باحثا مشاركا في "معهد دراسات الأمن للشرق والغرب" في نيويورك، أما "نوربرت بوث" فكان أحد الخبراء الذين ساعدوا في عمليات التفاوض الدولية في البوسنة ، ثم انخرط مؤخرا في بحوث بجامعة "شيفيلد" عن السياسة الخارجية لهولندا إزاء الصراع اليوغسلافي ..
وضع المؤلفان لكتابهما ثلاثة أهداف: الأول هو وصف وتفسير مفصل لمعركة سربرنيتشا فيما بين يوم السادس والحادي عشر من يوليه 1995م وعمليات الترحيل السكاني المكثفة وما تلا ذلك من أعمال القتل والإبادة الجماعية ، والثاني هو شرح الأسباب التي دفعت الصرب للهجوم على سربرنيتشا وتدبير مذابح نظامية قتل فيها أعداد هائلة من المسلمين الرجال، وأما الهدف الثالث فهو تحليل لماذا لم يمنع المجتمع الدولي الهجوم على سربرنيتشا ؟.
وقد نجح المؤلفان في تحقيق الهدف الأول نجاحاً واضحاً خلال وصْفهما الدقيق لجيب سربرنيتشا وللأوضاع اللاإنسانية التي تردى إليها نتيجة للمجاعة والرعب والحصار الطويل الذي استمر أكثر من ثلاثة أعوام، كما قدما حشداً من الحقائق والتفاصيل عن الهجوم الصربي وآثاره مما لم يرد في أي مصدر آخر إلا نثارا متفرقا. أ
ما الهدف الثاني فقد نجحا في الكشف عن الاتجاه المبكر للاستيلاء على منطقة شرق البوسنة التي تقع فيها سربرنيتشا حيث كانت جزءًا أساسيا من مخططات "سلوبودان ميلوسفيتش" لإقامة صربيا الكبرى، ويكمن نجاحهما هنا في توثيق هذه الحقيقة، ولكنهما انزلقا بعيداً عن الموضوعية عندما جنحا مع الادعاءات الصربية عن انتهاك المقاومة المسلمة في سربرنيتشا لاتفاقية وقف إطلاق النار بمقاومتهم للحصار الصربي على القطاع ..
وعلى أي حال يبقى هذا الكتاب من أهم الشهادات الأوربية الموثّقة على أبشع جرائم الحرب في التاريخ الأوربي بعد هتلر ...
وتظل كارثة سربرينيتشا مشهدا مروعاً في الضمير الإنساني يحدث أثره عند كثرة من الرجال في هذا العالم من أمثال "تاديوز مازوفسكي" الذي عينته الأمم المتحدة لرئاسة سابقاً لوزراء بولندا.
استقال مازوفسكي من رئاسة اللجنة احتجاجاً على ما أصاب لجنة التحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان بيوغسلافيا ،وكان يعمل رئيساً "سربرنيتشا" وبعث برسالة شديدة اللهجة إلي بطرس غالي يشرح فيها أسباب استقالته متهما الصرب بارتكاب جرائم وحشية ضد المسلمين، ومتهما قادة العالم بالتردد والجبن في الدفاع عن حقوق الإنسان في البوسنة، وأكّد أن الأمم المتحدة قد سمحت بسقوط سربرنيتشا وجيبا ولم تحرك ساكنا.. وحذر في نهاية خطابه بأن الحضارة الإنسانية في خطر بسبب قضية البوسنة.
وتعقيباً على المتخاذل الدولي قال "علي عزت بيجوفيتش": "على الرغم من كل شيء سنظل نحمي الوطن والشرف حتى آخر قطرة من دمائنا، ولن يزيدنا سقوط المدن البسنوية في أيدي الوحوش الصربية إلا إصراراً على مواصلة الجهاد بضراوة أشد".
التعنت الصربي وحرب التحرير:
أفرزت حرب البوسنة مصطلحات جديدة لم تكن مألوفة من قبل، تداولتها الصحف في حينها وهي تحاول أن تصف "اللامعقول" في مواقف المجتمع الدولي ، من هذه المصطلحات: الغارات الرمزية والقصف الاستعراضي أو الضربات الجوية الاستعراضية، والعجز المفتعل، إلى غير ذلك من مصطلحات ، فإذا أخذنا المصطلح الأخير لرأينا أن النقاد السياسيين أرادوا أن يصفوا به تصريحات وسلوك الأمم المتحدة والدول الكبرى المنخرطة في العمليات الدولية بالبوسنة ، فهؤلاء يزعمون أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً أكثر مما فعلوا، بينما هم في الحقيقة قادرون على فعل الكثير، ويقفون في حالة مزرية من العجز عندما يقتل الصرب جنودهم أو يأسرونهم، وهم في الحقيقة قادرون على رد العدوان، هذا هو العجز المفتعل ...
أما الغارات الرمزية أو الاستعراضية فهي مصطلحات تدور على محور العجز المفتعل ، بعض الناس يقولون : إنها تهديدات للصرب حتى يرتدعوا، ولكن لما كانت تهديدات فارغة لا جدّية فيها فقد أدرك الصرب حقيقتها منذ البداية ،وتكيفوا معها ، وأصبحوا يتحدونها بمزيد من الانتهاكات ، ومن ثم فقد أصبح تكرارها من الأعمال العبثية العقيمة لا تنطلي على أحد.
وفي هذا تقول "ماجي أوكين": "أثبت الصراع في يوغسلافيا أن توازن القوى هو الذي ساعد على إقامة تسويات... فعندما هاجمت القوات الصربية مدينة "دبروفينك" في نوفمبر 1992م استطاعت كرواتيا الحصول على أسلحة ثقيلة، وعندما شرعت في استخدامها والرد على الصرب صمتت المدافع الصربية فوق الجبال وبدأت محادثات السلام. ولكن على النقيض من ذلك فشلت خطط السلام الأربعة في البوسنة ؛ لأن الصرب هم الذين رفضوها جميعاً: خطة "كارنجتون وكوتلييرو"، وخطة "فانس- أوين" وخطة "أوين ستولتنبرج، وخطة يوليه 1994 التي صاغتها لجنة الاتصال الدولية" وتمضي "ماجي أوكين" فتقول : "لقد ثبت أن الصرب يقبلون على المفاوضات فقط عندما يواجهون قوة حقيقية" وقبل ذلك قالت "مارجريت ثاتشر" رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في خطاب لها بالولايات المتحدة نشرته "الجارديان" "إن صربيا لن تستمع إلا إذا أجبرت على الاستماع" ...
وقائع الحرب في البوسنة تؤكد أن الصرب لا ينسحبون إلا عندما يشعرون بتهديد حقيقي وجاد، حدث هذا في حصار مدينة "ماجلاي" وفي "سراييفو" (4 فبراير 1994) وفي جوراشدة (إبريل 1994)، وكان يبدو في مسلكهم الرعب من الضربات الجوية ربما أكثر مما تصوّره رجال القوات الدولية أنفسهم .. ولكن ما أن تتحول أنظار العالم عن مذابح البوسنة ، وتتراجع ضغوط الرأي العام الغربي عن حكوماته يخرج الصرب مرة أخرى إلى الوجود ، فيحكمون قبضتهم من جديد على الجيوب المحاصرة ، وتتوقف قوافل الإغاثة وتُمتع طائرات الإغاثة من الهبوط في مطار سراييفو، وتُنصب نقاط التفتيش على طول الطرق المؤدية إلى الجيوب المسلمة، ويتنصل الصرب من جميع وعودهم والاتفاقيات التي وقّعوها مع القوات الدولية ، ويعودون أكثر استهانة ليجددوا مذابح المسلمين.
ظل هذا هو موقف الصرب لم يتغير منذ بداية الحرب حتى نهايتها، ولكن عام 1995 جاء بعوامل مختلفة تحمل في طياتها إرهاصات مرحلة جديدة من مراحل تطوير الصراع في البوسنة:
أولاً: المقاومة العنيدة لجيش البوسنة بدأت في يونيه 1994 ولكن ظهرت معالمها وآثارها واضحة في عام 1995، بعد أن غير الجيش من أساليبه في القتال وحصل جنوده على تدريب أفضل، كما تمكن من الحصول على بعض الأسلحة والذخائر من مصادر مختلفة.
ثانياً: تمكن الكروات من تصفية جيب "كرايينا" الذي كان يهدد المسلمين في بيهاتش، وجرى بين المسلمين والكروات تحالفاً عسكريا لصالح الطرفين، وكان هذا التحالف رغم هشاشته ذا أثر خطير في إرباك القوات الصربية وانهيار روحها المعنوية.
ثالثاً: تفاقم الخلافات بين القيادات الصربية ، واتّسام ردود أفعالها بدرجة أعلى من المغالاة والشطط والعنف والاستهتار ، مما أحرج أصدقاءها في القوات الدولية وأثار عليها الرأي العام العالمي.
رابعاً : اقتناع الدول الغربية في النهاية بأن الوضع لم يعد في صالح الصرب، وأن تسوية سريعة أفضل لهم من الاستمرار في قتال لم تعد نتائجه مضمونة .. ومن ثم رجحت الاتجاهات الأمريكية في تسوية النزاع بالطرق الدبلوماسية ...
انتهى النزاع الرهيب باتفاقية دايتون للسلام .. وتوقفت أنهار الدم المسفوح من أبناء البوسنة المسلمين . . وإن بقيت جراحهم تنزف .. وتخيّم على قلوبهم وعقولهم كوابيس عمليات التطهير العرقي .. وهواجس حرب صليبية تُحاك لهم بأساليب أخرى أكثر خفاءً ولكن أدهى وأمرّ ...!
المصدر : موقع التاريخ