و تنجب ندرومة الخالديـن ******* فتعلى الجزائر منا الجبين
و يصنــــع وحدتنا ابن علي ******* فيرفــــع رايتـــها باليميــن
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ، = إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ
عبد المؤمن بن علي الكومي (487 هـ- 558 هـ، 1094 - 1163م) هو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان، أبو محمد الكومي نسبته إلى كومية، من قبائل الأمازيغ، ولد بمدينة ندرومة ـ 100 كلم شرق تلمسان غرب الجزائر. وفيها نشأ وتعلم. وكان والده صانع خزف.
تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس شيئا من الفقه والسيرة النبوية، ثم رحل إلى تلمسان، وكانت من حواضر العلم، وتلقى العلم على عدد من كبار العلماء، في مقدمتهم الشيخ " عبد السلام التونسي " إمام عصره في الفقه والحديث والتفسير، ثم استعد للرحلة إلى المشرق؛ طلبا للمزيد من المعرفة. وقبل الرحيل سمع بوجود فقيه جليل يتحدث الناس عن علمه الغزير، فاشتاق إلى رؤيته، فاتجه إليه حيث يقيم في بلدة "ملالة" القريبة من " بجاية " عاصمة الدولة الحمادية. وفي هذا اللقاء أُعجب عبد المؤمن بشخصية " ابن تومرت " وغزارة علمه وقدرته على حشد الأنصار والأتباع، وتخلى عن فكرة السفر إلى المشرق، ولزم ابن تومرت، ودرس على يديْه، وكان عالما كبيرا وفقيها متبّحرا، ودرس في بلاد المغرب الكبير، ورحل إلى المشرق، وقابل العلماء، وأخذ عنهم، ثم توثقت الصلة بين الرجلين، ثم غادرا "ملالة"، واتجها إلى " فاس "، وفي أثناء الرحلة لم يكف المهدى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى وصل إلى مدينة فاس، فأقام بها يدرّس العلم إلى سنة (514 هـ== 1120 م)، ثم ارتحل ومعه عبد المؤمن بن علي الكومي إلى مراكش عاصمة دولة المرابطين، فأقاما بها في (ربيع الأول 515 هـ == 1221 م).
رأى عبد المؤمن أن الفرصة قد سنحت للقضاء على المرابطين، فآثر أن يسرع في ذلك، وأن يبدأ بمهاجمتهم في قلب دولتهم، فجهز جيشًا عظيمًا لهذا الغرض، وخرج به من قاعدته " تينمل " سنة (534 هـ = 1140 م)، واتجه إلى شرق المغرب الأقصى وجنوبه الشرقي؛ لإخضاع القبائل لدعوته، بعيدًا عن مراكش مركز جيش المرابطين القوي، وأنفق عبد المؤمن في غزوته الكبرى أكثر من سبع سنوات متصلة، أبدى فيها ضروبًا من الحيل الحربية والمهارة العسكرية؛ وهو ما جعل الجيش المرابطي يحل به الوهن دون أن يلتقي معه في لقاءات حاسمة ومعارك فاصلة.
في أثناء هذه الغزوة توفي علي بن يوسف سلطان دولة المرابطين سنة (537 هـ == 1142 م) وخلفه ابنه تاشفين، لكنه لم يتمكن من مقاومة جيش عبد المؤمن، الذي تمكن من دخول تلمسان سنة (539 هـ=1144)، فتراجع تاشفين، إلى مدينة " وهران "، فلحقه جيش الموحدين، وحاصروا المدينة وأشعلوا النيران على باب حصنها، ولما حاول تاشفين الهروب من الحصن سقط من على فرسه ميتًا في (27 من رمضان 539 هـ == 23 من مارس 1145 م)، ودخل الموحدون مدينة وهران، وقتلوا من كان بها من المرابطين.
بعد وهران تطلع عبد المؤمن إلى فتح مدينة فاس، فاتجه إليها، وضرب حولها حصارًا شديدًا، ظل سبعة أشهر، وعانى أهلها من قسوة الحصار، واضطر واليها إلى التسليم فدخلها الموحدون في (14 من ذي القعدة 540 هـ = 5 من مايو 1145 م).
ثم دخلت كل من مدينتي سبتة وسلا في طاعة دولة الموحدين قبل أن يتجهوا إلى تراشك لفتحها، وكان يعتصم بها إسحاق بن علي بن تاشفين، وضرب الموحدون حصارًا حول المدينة دام أكثر من تسعة أشهر، أبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة والبسالة، لكنها لم تغن عنهم شيءًا، واستولى الموحدون على المدينة في (18 من شوال 541 هـ = 24 من مارس 1147 م)، وقتلوا إسحاق بن علي آخر أمراء المرابطين بعد أن وقع أسيرًا، وبذلك سقطت دولة المرابطين، وقامت دولة جديدة تحت سلطان عبد المؤمن بن علي الكومي الذي تلقب بلقب "خليفة".
حكم عبد المؤمن بن علي أربعًا وثلاثين سنة تعد من أزهى عصور بلاد المغرب (شمال إفريقيا)، ورث عن ابن تومرت حركة ثائرة فحولها إلى دولة، ومد سلطانها حتى شلمت بلاد المغرب كله وما بقي من الأندلس ووضع لها القواعد والنظم الإدارية التي تمكن من تسيير أمور الدولة وإدارة شئونها. ويحفظ التاريخ رسالة طويلة بعث بها عبد المؤمن إلى أهل الأندلس، تعد دستورًا لنظم الحكم الموحدية.
نظم عبد المؤمن أمور دولته وجعل لها مؤسسات، فللعدل والنظر في الشكايات وزير، ولأعمال الحرب والجهاد وزير يسمى "صاحب السيف"، وللثغور وزير، وللشرطة رئيس يسمى "الحاكم"، وجعل للكتابة والمراسلات وزيرًا من أهل الرأي والبلاغة، وكان لعبد المؤمن مجلس خاص للنظر والمشاورة يحضره الفقهاء ونواب القبائل وكبار رجال الدولة.
عني عبد المؤمن بن علي بالجيش حتى صار من أعظم الجيوش في وقته، وكان هو نفسه قائًدا عظيمًا وجنديًا ممتازًا، يشاطر جنوده مشقة الطريق وتقشف الحياة العسكرية، واجتمع له من الجيوش الجرارة ما لم يجتمع لملوك بلاد المغرب مثله، حيث حقق به انتصارات رائعة.
بالغ الموحدون (عبد المؤمن بن علي وخلفاؤه) في التعليم الإجباري، وكان على كل من انضوى تحت راية الموحدين أن يتعلّم، ولم يقتصر دور التعليم الديني على الرجال، فقد كانت النساء يشاركن الفقهاء في نهضة العلوم الدينية والدنيوية.
فقد أنشأ الموحّدون مدرسة لتعليم الملاحة بمدينة الرباط، وأخرى لتخريج الموظفين بمراكش، وكان عبد المؤمن بن علي يربي الحفّاظ ـ صغار الطلبة ـ بحفظ كتاب (الموطأ) وغير ذلك من تواليف المهدي، وكان يدخلهم في كل يوم جمعة بعد الصلاة داخل القصر فيجتمع الحفّاظ فيه, وهم نحو ثلاثة آلاف كأنهم أبناء ليلة من المصامدة وغيرهم، قصد بهم سرعة الحفظ والتربية على ما يريده، فيأخذهم يوماً بتعليم الركوب، ويوماً بالرمي بالقوس، ويوماً بالعوم في بحيرة صنعها خارج بستانه مربّعة، ويوماً يأخذهم بأن يحدّقوا على قوارب صنعها لهم في تلك البحيرة ؛ وكانت نفقتهم وسائر مؤونتهم من عنده، وخيلهم وعددهم كذلك، ولما كمل له هذا المراد فيهم عزل بهم أشياخ المصامدة عن ولاية الأعمال والرئاسة وقال: العلماء أولى منكم فسلّموا لهم.
امتازت مدارس الموحّدين بالمبالغة في اختيار مشاهير الأساتذة، وعلى غرار منهج مدرسة عبد المؤمن "عبد المؤمن" جرت مناهج خلفاء الموحّدين من بعده.
نقل الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الواحد المراكشي قوله: أخبرني غير واحد ممن أرضى نقله، أنه (عبد المؤمن بن علي) لما نزل مدينة سلا - مدينة بأقصى المغرب ...- عبر النهر، وضُربت له خيمة على الشاطئ، وجعلت العساكر تعبر قبيلة بعد قبيلة... فخرَّ ساجدًا، ثم رفع وقد بلَّ الدمع لحيته... فقال: أعرف ثلاثة أشخاص وَرَدُوا هذه المدينَة لا شيء لهم إلاَّ رغيف واحد، فراموا عُبور هذا النهر، فأتوا صاحب القارب، وبَذَلُوا له الرغيف على أن يعبروا ثلاثتهم، فقال: لا آخذه إلا على اثنين خاصة. فقال لهم أحدهم وكان شابًّا جلدًا: خذا ثيابي معكما وأعبر أنا سباحة... فجعل الشاب يسبح، فكلما أعيا دنا من القارب ووضع يده عليه ليستريح، فيضربه صاحبه بالمجداف الذي معه حتى يؤلمه؛ فما بلغ البرَّ إلاَّ بعد جهد شديد. فما شكَّ السامعون للحكاية أنه هو العابر سباحة، وأن الاثنين المذكورين هما: ابن تومرت، وعبد الواحد الشرقي
ذكر الذهبي في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب أنه كان ملكًا عادلاً، سائسًا، عظيم الهيبة، عالي الهمة، متين الديانة، كثير المحاسن، قليل المِثْل، وكان يقرأ كلَّ يوم سُبُعًا من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير -وهذا يعني أنَّ لبس الحرير كان عادة وإلفًا في زمانه- وكان يصوم الاثنين والخميس، ويهتمُّ بالجهاد والنظر في الْمُلْك كأنما خُلق له. ثم بعد هذه الأوصاف نجد هذه العبارة التي تحمل كثيرًا من علامات الاستفهام حيث يقول: وكان سفَّاكًا لدماء مَنْ خالفه!
وقال عنه الزركلي في الأعلام: وكان عاقلاً حازمًا شجاعًا مُوَفَّقًا، كثير البذل للأموال، شديد العقاب على الجرم الصغير، عظيم الاهتمام بشئون الدين، محبًّا للغزو والفتوح، خضع له المَغْرِبَان (الأقصى والأوسط)، واستولى على إشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، والجزائر، والمهدية، وطرابلس الغرب، وسائر بلاد إفريقية، وأنشأ الأساطيل، وضرب الخراج على قبائل المغرب، وهو أول مَنْ فعل ذلك هنالك
ومثل هذه الأوصاف ذكرها ابن كثير-أيضًا- في البداية والنهاية، بقوله: «وكان مَنْ لا يحافظ على الصلوات في زمانه يُقتل، وكان إذا أَذَّن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد... ولكن كان سفاكًا للدماء، حتى على الذنب الصغير». وهذه بالطبع هي تعاليم محمد بن تومرت.
وإضافة إلى هذا المنهج العقيم وتلك الصفة السابقة -التساهل في أمر الدماء- فقد كان محمد بن تومرت حين يعلم أن أتباعه ينظرون إلى الغنائم، التي حصَّلوها من دولة المرابطين في حربهم معهم، كان يأخذها كلها فيحرقها.. وكان يُعَذِّر بالضرب مَنْ يفوته قيام الليل من جماعته؛ فنشأت جماعة من الطائعين الزاهدين العابدين، لكن على غير نهج رسول الله ، الذي لم يكن يحرق الغنائم، أو يضرب المتباطئين أو المتثاقلين عن قيام الليل، أو يَتَّبع مثل هذا المنهج وتلك الرهبنة المتشدِّدَة.
وعلى كلٍّ فقد كان عبد المؤمن بن علي -على ما يبدو- غير مقتنع بفكرتَيِ العصمة والمهديَّة، اللتين ادَّعاهما محمد بن تومرت واقتنع بهما أتباعه من بعده؛ ويدفعنا إلى ذلك أن رجلاً بعلم وعقل عبد المؤمن لا شك علم –على الأقل بعد وفاة ابن تومرت- أنه ليس المهدي الذي ذكرت الأحاديث أنه يملأ الأرض عدلاً، ثم يتبعه نزول المسيح ابن مريم وما إلى ذلك من الحوادث، لكنه على الجانب الآخر فإن عبد المؤمن بن عليٍّ لم ينفِ مثل هذه الأفكار الضالَّة صراحة؛ وذلك لأن غالبَ شيوخ الموحِّدين كانوا على هذا الفكر وذلك الاعتقاد، فخاف –على ما يظهر- إن هو أعلن أن أفكار محمد بن تومرت هذه مخالفة للشرع، أن ينفرط العِقد ويحدث التفكُّك في هذه الفترة الحرجة من دولة الموحدين
جزاكم مثله
دولة المرابطين كانت إمبراطورية ضخمة ممتدة الأركان أخرت سقوط الأندلس قرنين على الأقل ونشرت الإسلام فى غرب إفريقيا
وأتى هذا الرجل فبث فيها الفتن وتسبب فى سقوطها
وكون دولة بديلة ضعيفة وغير مستقرة على أنقاض إمبراطورية قوية
هو عبد المؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية، ولد في قرية تاجرا بندرومة، تلقى تعليمه الأول بجامع تلمسان، ثم قرر الذهاب إلى المشرق لطلب العلم، وفي طريق عودته التقى بابن تومرت الذي كان يريد بناء دولة موحدة للمغرب، أصبح خليفة و قائدا عسكريا لهذه الدولة الناشئة بعد وفاة ابن تومرت، عرف عنه أنه كان عالما في التاريخ واللغة وعسكريا مخططا ومدبرا في الحروب، توفي سنة 1163م.
قيل : إنه قال -أعني عبد المؤمن- : إنما نحن من قيس غيلان بن مضر بن نزار، ولكومية علينا حق الولادة ، والمنشأ فيهم ، وهم أخوالي .
وكان الخطباء إذا دعوا له بعد ابن تومرت ، قالوا : قَسِيمُه في النَّسب الكريم .
مولده سنة سبع وثمانين وأربع مائة .
وكان أبيض جميلا ، ذا جسم عمم تعلوه حمرة ، أسود الشعر ، معتدل القامة ، جهوري الصوت ، فصيحا جزل المنطق ، لا يراه أحد إلا أحبه بديهة ، وكان في كبره شيخا وقورا ، أبيض الشعر ، كث اللحية ، واضح بياض الأسنان ، وكان عظيم الهامة ، طويل القعدة ، شَثْن الكفِّ ، أشهل العين ، على خده الأيمن خال.
يقال : كان في صباه نائما ، فسمع أبوه دَوِيًّا ، فإذا سحابة سمراء من النحل قد أهْوت مطبقة على بيته ، فنزلت كلها على الصبي ، فما استيقظ ، فصاحت أمُّه ، فسكَّنها أبوه ، وقال : لا بأس ، لكني متعجب مما تدل عليه ، ثم طارت عنه ، وقعد الصبي سالما ، فذهب أبوه إلى زاجر ، فذكر له ما جرى ، فقال : يوشك أن يكون لابنك شأن ، يجتمع عليه طاعة أهل المغرب .
وكان محمد بن تومرت قد سافر في حدود الخمس مائة إلى المشرق ، وجالس العلماء ، وتزهد ، وأقبل على الإنكار على الدولة بالإسكندرية وغيرها ، فكان ينفى ويؤذى ، ففي رجعته إلى إفريقية هو ورفيقه الشيخ عمر الهنتاتي صادف عبد المؤمن ، فحدثه ووانسه ، وقال : إلى أين تسافر ؟ قال : أطلب العلم. قال : قد وجدت طلبتك. ففقهه ، وصحبه ، وأحبه ، وأفضى إليه بأسراره لما رأي فيه من سمات النبل ، فوجد همته كما في النفس ، فقال ابن تومرت يوما لخواصه : هذا غلاب الدول.
ومضوا إلى جبل تينمل بأقصى المغرب ، فأقبل عليهم البربر ، وكثروا ، وعسكروا ، وشقوا العصا على ابن تاشفين ، وحاربوه مرات ، وعظم أمرهم ، وكثر ت جموعهم ، واستفحل أمرهم ، وخافتهم الملوك ، وآل بهم الحال إلى الاستيلاء على الممالك ، ولكن مات ابن تومرت قبل تمكنهم في سنة أربع وعشرين وخمس مائة .
وكانت وقعة البحيرة بظاهر مراكش بين ابن تاشفين صاحب المغرب وبين أصحاب ابن تومرت في سنة إحدى وعشرين ، فانهزم فيها الموحدون ، واستحر بهم القتل ، ولم ينج منهم إلا نحو من أربع مائة مقاتل ، ولما توفي ابن تومرت كتموا موته ، وجعلوا يخرجون من البيت ، ويقولون : قال المهدي كذا ، وأمر بكذا .
وبقي عبد المؤمن يغير في عسكره على القرى ، ويعيشون من النهب ، وضعف أمرهم ، وكذلك اختلف جيش ابن تاشفين الذين يقال لهم : المرابطون ، ويقال لهم : الملثمون ، فخامر منهم الفلاكي من كبارهم ، وسار إلى عبد المؤمن ، فتلقاه بالاحترام ، واعتضد به ، فلما كان بعد خمسة أعوام أفصحوا بموت ابن تومرت ، ولقبوا عبد المؤمن أمير المؤمنين ، وصارت حصون الفلاكي للموحدين ، وأغاروا على نواحي أغمات والسوس الأقصى ، واستفحل بهم البلاء.
وقال صاحب "المعجب" عبد الواحد المراكشي استدعى ابن تومرت قبل موته الرجال المسمين بالجماعة وأهل الخمسين والثلاثة عمر أرتاج وعمر إينتي ، وعبد الله بن سليمان ، فحمد الله ، ثم قال : إن الله -سبحانه ، وله الحمد- منَّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده ، وخصكم بحقيقة توحيده ، وقيَّض لكم من ألفاكم ضُلاّلاً لا تهتدون ، وعميا لا تبصرون ، قد فشت فيكم البدع ، واستهوتكم الأباطيل ، فهداكم الله به ، ونصركم ، وجمعكم بعد الفُرقة ، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين . وسَيُورِثُكم أرضهم وديارهم ، ذلك بما كسبت أيديهم .
فجددوا لله خالص نياتكم ، وأروه من الشكر قولا وفعلا مما يزكي به سعيكم ، واحذروا الفرقة ، وكونوا يدا واحدة على عدوكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس ، وأسرعوا إلى طاعتكم ، وإن لا تفعلوا شملكم الذل ، واحتقرتكم العامة ، وعليكم بمزج الرأفة بالغلظة ، واللين بالعنف .
وقد اخترنا لكم رجلا منكم ، وجعلناه أميرا بعد أن بلوناه ، فرأيناه ثبتا في دينه ، متبصرا في أمره ، وهو هذا - وأشار إلى عبد المؤمن - فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع ربه ، فإن بدل ففي الموحدين بركة وخير ، والأمر أمر الله يقلده من يشاء. فبايع القوم عبد المؤمن ، ودعا لهم ابن تومرت.
وقال ابن خلكان ما استخلفه بل أشار به. قال : فأول ما أخذ من البلاد وهران ، ثم تلمسان ، ثم فاس ، ثم سلا ، ثم سبتة ، ثم حاصر مراكش أحد عشرا شهرا ، فأخذها في سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة ، وامتد ملكه ، وافتتح كثيرا من الأندلس ، وقصدته الشعراء ، ولما قال فيه التيفاشي قصيدته : ما هَزَّ عِطْفَيْهِ بَيْنَ البِيضِ والأسَلِ
مثْلَ الخَلِيفَةِ عبدِ المُؤْمِنِ بنِ عليِّ أشار إليه أن يقتصر على هذا المطلع ، وأمر له بألف دينار ، وانقطعت الدعوة العباسية بموت أمير المسلمين علي بن تاشفين وولده تاشفين ، وكانت دولة تاشفين ثلاث سنين.
قال ابن الجُوزي في "المرآة" استولي عبد المؤمن على مراكش ، فقتل المقاتلة ، وكف عن الرعية ، [وأحضر اليهود والنصاري] وقال : إن المهدي أمرني أن لا أقر الناس إلا على ملة الإسلام ، وأنا مخيركم بين ثلاث ، إما أن تسلموا ، وإما أن تلحقوا بدار الحرب ، وإما القتل.
فأسلم طائفة ولحقت أخرى بدار الحرب ، وخرَّب كنائسهم ، وعملها مساجد ، وألغى الجزية ، فعل ذلك في جميع مدائنه ، وأنفق بيوت الأموال ، وصلي فيها اقتداء بعلي ، وليُرِيَ الناس أنه لا يكنز المال .
وأقام كثيرا من معالم الإسلام مع سياسة كاملة ، ونادى : من ترك الصلاة ثلاثا فاقتلوه ، وأزال المنكر ، وكان يؤم بالناس ، ويتلو في اليوم سبعا ، ويلبس الصوف الفاخر ويصوم الاثنين والخميس ، ويقسم الفيء بالشرع ، فأحبوه.
قال عزيز في كتاب "الجمع" : كان عبد المؤمن يأخذ الحق إذا وجب على ولده ، ولم يدع مشركا في بلاده لا يهوديا ولا نصرانيا ، فجميع رعيته مسلمون.
وقال عبد الواحد بن علي وزر له -أولا- عمر أرتاج ثم رفعه عن الوزاره ، واستوزر أبا جعفر أحمد بن عطية الكاتب ، فلما أخذ بجاية استكتب من أهلها أبا القاسم القالمي ، ثم في سنة 53 قتل ابن عطية وأخذ أمواله ، واستوزر عبد السلام الكومي ، ثم قتله سنة سبع ، واستوزر ابنه عمر .
وولى قضاءه ابن جبل الوهراني ، ثم عبد الله بن عبد الرحمن المالقي وأسر يحيى الصنهاجي صاحب بجاية ، وكان هو وآباؤه من بقايا نواب بني عبيد الرافضة ، ثم أحسن إلى يحيى ، وصيَّره من قُوّادِه ، وكان عبد المؤمن مؤثرا لأهل العلم ، محبا لهم ، ويجزل صلاتهم ، وسميت المصامدة بالموحدين لأجل خوض المهدي بهم في علم الاعتقاد والكلام .
وكان عبد المؤمن وزينا وقورا ، كامل السؤدد ، سريا ، عالي المهمة ، خليقا للإمارة ، واحتلت أحوال الأندلس ، وتخاذل المرابطون ، وآثروا الراحة ، واجترأ عليهم الفرنج ، وانفراد كل قائد بمدينة ، وهاجت عليهم الفرنج ، وطمعوا
فجهز عبد المؤمن عمر إينتي ، فدخل إلى الأندلس ، فأخذ الجزيرة الخضراء ، ثم رندة ، ثم إشبيلية وقرطبة وغرناطة ، ثم سار عبد المؤمن بجيوشه ، وعدى البحر من زقاق سبتة ، فنزل جبل طارق ، وسماه جبل الفتح ، فأقام أشهرا ، وبني هناك قصورا ومدينة ، ووفد إليه كبراء الأندلس ، وقام بعض الشعراء منشدا : ما للعِـدى جُنَّـةٌ أوْقَـى مِـنَ الهَرَبِ
والبحــرُ قــد مَلأَ الـبرَّيْنِ بـالعَرَبِ فأعجب بها عبد المؤمن ، وقال : بمثل هذا يُمدح الخلفاء. ثم أمر على إشبيلية ولده يوسف ، وعلى قرطبة أبا حفص عمر إينتي ، وعلى غرناطة عثمان ولده .
وقرر بالأندلس جيشا كثيفا من المصامدة والعرب وقبائل بني هلال ، وكان قد حاربهم مدة ، وظفر بهم ، وأذلهم ، ثم كاتبهم ولاطفهم ، فخدموا معه ، وخلع عليهم ، وكان دخوله إلى الأندلس في سنة ثمان وأربعين ، ومما لاطف به العرب واستمالهم قصيدة له وهي : أقِيمُـوا إلى العَلْيَاءِ هُوجَ الرَّوَاحِــلِ
وَقُودُوا إلى الهَيْجَاءِ جُرْدَ الصَّوَاهِــلِ وقُومُـوا لِنَصْـرِ الدِّينِ قَوْمَةُ ثَائِــرِ
بها نُنْصِـفُ التَّحـقِيق مِـن كُلِّ بَاطـِلِ فَلا تَتَوَانَــوا فَــالبِدَارُ غَنِيمَــةٌ
وللمُدْلِجِ السَّـارِي صَفـاءُ المَنَاهــِلِ قال عبد الواحد المراكشي حدثني غير واحد أن عبد المؤمن لما نزل سلا -وهي على البحر المحيط ينصب إليها نهر عظيم ، ويمر في البحر- عبر النهر ، وضربت له خيمة ، وجعلت جيوشه تعبر قبيلة قبيلة ، فخر ساجدا ، ثم رفع وقد بل الدمع لحيته ، فقال : أعرف ثلاثة وردوا هذه المدينة ، لا شيء لهم إلا رغيف واحد ، فراموا عبور هذا النهر ، فبذلوا الرغيف لصاحب القارب على أن يعدي بهم ، فقال : لا آخذه إلا عن اثنين ، فقال أحدهم وكان شابا : تأخذ ثيابي وأنا أَسْبَحُ ، ففعل ، فكان الشاب كلما أعيا دنا من القارب ، ووضع يده عليه يستريح ، فيضربه بالمجذاف ، فما عدى إلا بعد جهد. فما شك السامعون أنه هو السابح ، والآخران ابن تومرت ، وعبد الواحد الشرقي.
قال ثم نزل عبد المؤمن مراكش ، وأقبل على البناء والغراس وترتيب ملكه ، وبسط العدل ، وبقي ابنه عبد الله ببجاية يشن الغارات على نواحي إفريقية ، وضايق تونس ، ثم حاصرها مدة ، وأفسد مياهها ، وقطع أشجارها ، وبها ابن خراسان نائب صاحب صقلية لوجار بن الدوقة الرومي ، فطال على ابن خراسان الحصار ، فبرز ، والتقى الموحدين ، فهزمهم ، وقتل خلقا منهم ، فبعث عبد الله يستمد أباه ، فتهيأ في سنة 553 لتونس ، وأقبل في جيوشه حتى نازلها ، فأخذها عنوة ، وانتقل إلى المهدية وهي للنصارى لكن رعيتها مسلمون ، فطال الحصار لحصانتها ، يقال : عرْضُ سُورِها ممر ستة أفراس ، وأكثرها في البحر ، فكانت النجدات تأتيها من صقلية .
قال ابن الأثير نازل عبد المؤمن المهدية ، فبرز شجعان الفرنج ، فنالوا من عسكره ، فأمر ببناء سور عليهم ، وصابرها ، وأخذ سفاقس وطرابلس وقابس ، وجرت أمور وحروب يطول شرحها ، وجهز من افتتح توزر وبلاد الجريد ، وطرد عنها الفرنج ، وطهر إفريقية من الكفر ، وتكمل له ملك المغرب من طرابس إلى السوس الأقصى وأكثر مملكة الأندلس ، ولو قصد مصر لأخذها ، ولما صعبت عليه.
وقيل : إنه مر بقريته ليصل بها ذوي رحمه ، ويزور قبر أمه ، فلما أطل عليها وجيوشه قد ملأت الفضاء ، والرايات والبنود على رأسه ، وضرب نحو من مائتي طبل ، وطبولهم كبار جدا تزعج الأرض ، فقالت عجوز منهم: هكذا يعود الغريب إلى بلده ! وصاحت بذلك .
ولما دخلت سنة ثمان وخمسين أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم ، واستنفر الناس عاما ، ثم سار حتى نزل بسلا ، فمرض ، وجاءه الأجل بها في السابع والعشرين من جمادى الآخرة وارتجت المغرب لموته ، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدا ، وكان لا يصلح لطيشه وجذام به ولشربه الخمر ، فتملك أياما ، وخلعوه ، واتفقوا على تولية أخيه يوسف بن عبد المؤمن ، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة. وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدا ذكرا .
قال صاحب كتاب "الجمع" : وقفت على كتاب كتبه عن عبد المؤمن بعض كتابه : من الخليفة المعصوم الرضي الزكي ، الذي بشر به النبي العربي ، القامع لكل مجسم غوي ، الناصر لدين الله العلي ، أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي.