وضعت كليَّة القانون في أشهر الجامعات الأمريكيَّة "هارفارد"، الآية 135 من سورة النّساء، على حائط في المدخل الرّئيس للكليّة، واصفةً إيّاها بأنها أعظم عبارات العدالة في العالم والتاريخ.
ونُقشت الآية الكريمة على الحائط المقابل للمدخل الرّئيس للكليَّة، وهو حائط مخصَّص لأهمّ العبارات الّتي قيلت عن العدالة عبر الأزمان.
والآية الكريمة المعنيَّة هي قول الله عزَّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النّساء: 135].
وتعليق..
أمرنا الله تعالى بالعدل والإحسان والتزام طريق الحقّ في كلّ أمر من أمور الحياة، ونبذ الظّلم، وكثيرة هي الآيات الّتي تتحدَّث عن هذا الموضوع، يقول عزّ وجلّ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النّحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}[النّساء: 58]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]، وعن النبيّ(ص): "العدل ميزان الله في الأرض، فمن أخذه قاده إلى الجنّة، ومن تركه ساقه إلى النّار".
وما كتب على حائط جامعة هارفارد، يدلّل على أنَّ النَّفس الإنسانيَّة مجبولة بطبيعتها الفطريَّة على حبِّ العدل والصّلح والسّلم، وبغض الظّلم بكلِّ أشكاله وألوانه.
وفي هذا السّياق، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض): إنَّ الله تعالى أراد للعدل أن يشمل العالم كلّه، وأراد للنّاس أن يعيشوا العدل، وقد أكَّد الله تعالى في القرآن، أنّ كلّ الرّسالات جاءت من أجل تحقيق العدل في الحياة: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ولذلك فإنَّ معنى أن تكون مسلماً أن تكون عادلاً؛ عادلاً مع نفسك فلا تظلمها بالمعصية، وعادلاً مع ربّك فلا تظلمه بالشّرك، وعادلاً مع غيرك، وهكذا... ولا بدَّ لنا من أن نقف ضدّ الظالمين والمستكبرين في كلّ أوضاعهم وخطوطهم ومواقعهم، هذا هو خطّ الإسلام الَّذي لا بدَّ للإنسان من أن يربّي نفسه للسّير فيه، وعليك عندما تريد أن تنام، وقد ظلمت أهلك وجيرانك وظلمت الناس، أن تفكّر في ما قاله الشّاعر:
تنام عينك والمظلوم منتبه ***** يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
وفي معرض تفسيره للآية 135 من سورة النّساء، يقول سماحته: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، والقسط هو العدل، أن يكونوا قائمين به؛ أن يجعلوا حياتهم قياماً به، من أجل أن يستوعب كلّ علاقاتها ومعاملاتها وأعمالها وأقوالها، بحيث تتحوَّل كلّ نشاطاتهم إلى حركة دائبة في هذا السّبيل، لا أن يكون ذلك جانباً محدوداً من النّشاطات.
{شُهَدَآءِ للَّهِ} لا للعاطفة ولا للمزاج؛ ولا للمصلحة، أو للطّمع، على أساس أنَّ دور الشّهادة هو أن يكشف الحقيقة، لتكون أساساً للعدل الّذي هو ـ في محتواه ـ لله، {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}، لأنَّ الله أقرب إليه من نفسه، فلا ينظر في شهادته مصلحة نفسه ورضاها، بل مصلحة العدل الّذي يلتقي به رضا الله. {أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا قيمة للعلاقات الشخصيَّة أمام علاقته بالله. {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، فلا يفكّر الإنسان ـ أمام خطّ العدل ـ في أن يشهد لمصلحة الغنيّ لغناه، أو ضدّ مصلحته من أجل العقدة الذاتيّة تجاه الغني، أو يشهد للفقير على أساس العاطفة التي تتفاعل إنسانيّاً وعاطفيّاً مع مظاهر الفقر وآلامه، مما قد يوحي بالانحراف عن الحقّ. {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، فإنَّ الله هو الَّذي يتكفَّل بمصالح عباده برحمته الّتي تشملهم جميعاً، {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}، اتّبعوا الحقّ الّذي يقودكم إلى العدل. {وَإِن تَلْوُواْ} أي إن تنحرفوا، {أَوْ تُعْرِضُواْ} عن السّير مع وصايا الله وتعليماته، فستواجهون الموقف الصّعب أمامه غداً يوم القيامة؛ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}، فلا تحاولوا أن تعتذروا بما لا مجال لقبول العذر فيه، لأنَّ الله يعلم واقع الأشياء، إذا كان النّاس من حولكم يعلمون ظواهرها من دون النّفاذ إلى الأعماق.[تفسير من وحي القرآن، ج 7، ص 501، 502].