شذرات من ترجمة العالم التركي الشيخ أحمد رأفت أكبازلي زاده/مَجْد مكي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,770
التفاعل
17,885 113 0
شذرات من ترجمة العالم التركي الشيخ أحمد رأفت أكبازلي زاده

حرَّرها: مَجْد مكي

اسمه ونسبه وكنيته:

هو العالم الفاضل المهاجر المجاهد الشيخ أحمد رأفت بن مصطفى أكبازلي زاده ،وكنيته : أبو شهاب.
وأكبازلي : نسبة إلى akbez، ومعناها: القماش الأبيض، بلدة تقع في أقصى شمال لواء إسكندرونة، يطلق عليها الأتراك اليوم:hatay، وهي اسم مقاطعة لواء إسكندرون ، وتشمل كلاً من مناطق: أنطاكية وإسكندرون ونواحيها . وقرية (أكباز) أو بالأصح (آق بز) تتبع ناحية (قرق خان) التابعة لأنطاكية ، ولا زالت القرية موجودة إلى الآن ، وتقع في منتصف الطريق بين عنتاب وأنطاكية. وزاده عند الأتراك تعني: آل، أو أسرة ، ويقابل هذا اللفظ عند أقوام ألفاظ أخرى تماثلها، مثل: خان عند الأفغان، وآيت عند الأمازيغ البربر، وآل عند العرب، وف عند الروس، ودرزه عند الجورجيين، ويان عند الأرمن.
وأصل الشيخ من قونية، وأُرسل والده الشيخ مصطفى من قِبَل الحكومة العثمانية آنذاك للدعوة والتعليم.

والدته:

أمُّه عربية نسيبة، وهي السيِّدة أمينة بنت الشيخ أحمد زين العابدين البالساني، من عائلة عريقة أصيلة شريفة النسب، يعود مسقط رأسها إلى كردستان، منطقة السليمانية، ناحية بالسان، في العراق من عشيرة كبيرة تعرف بـ خوشناو الكردية الأيوبية.

ولادته :

ولد رحمه الله تعالى في منطقة أنطاكية عام 1327هـ =1909م.

إخوته وأَخَواته:

وقد كان له شقيق أكبر منه، هاجر معه اسمه صدقي، وهو صوفي صالح، وله أختان، إحداهما أكبر منه، وهي: عاتكة الزوجة الثانية لمُلا رمضان البوطي، وأم ابنتيه خديجة وزينب، والثانية أصغر منه، وهي لُطْفيَّة .
كما أنَّ للشيخ أحمد رأفت إخوةً آخرين، منهم الشيخ زاهد، وهو أكبر الأشقاء، وأخ ثالث اسمه عمر، وهو أصغر الإخوة الذكور، وكان مقيماً في إستانبول، وله أخت من أبيه اسمها صدِّيقة وهي أكبر إخوتها.

تعليمه الأوَّلي:

تلقَّى الشيخ تعليمه الأوَّلي على والده الشيخ مصطفى، وكان حنفياً، مُغْرماً بالعلوم العقلية، مثله مثل العلماء الأتراك، فحُبِّب للشيخ أحمد قراءة المنطق وعلم الكلام والأصول.

ذكريات الطفولة:

وممَّا كان يذكره في طفولته أنه كان منزعجاً من لُبْس العمامة في صغره، وكان يشعر كأنما على رأسه صخرة، فكان يخرج إلى المزارع فينزع العمامة عن رأسه، وكان يتجوَّل من دونها فيشعر بارتياح وغبطة.
وكان في محيط أنطاكية غابات تكثُر فيها الدببة، وفي إحدى الليالي أصابته جنابة، فاستحيا أن يغتسل في البيت، فخرج إلى الغابة يقصد بركة ماء، فلما وصلها ونزل فيها سابحاً، إذا بأشياء تتساقط بقوة في الماء كأنها حجارة، فبدأ الوجل يتسرَّب إلى قلبه، فقد ظنَّ أن جِناً في الغابة أو دُبّاً قريباً منه، فأسرع في الخروج من الماء والعودة إلى البيت، وفي الصباح ذهب إلى البركة ليستطلع جليَّة الأمر فإذا بثمار الجوز في البركة تساقطت من شجرة كبيرة قرب البركة، فظنها في حينه أحجاراً.

هجرة الأسرة إلى حلب وصحبته لخاله العلامة محمد زين العابدين:

انتقلت الأسرة إلى مدينة حلب، وأصبح الشيخ قريباً من خاله العلامة الشهير محمد زين العابدين الحسني (ت 1370هـ=1950م)، وأخذ عنه العلم وتأثر به، فتحوَّل إلى المذهب الشافعي، وكذلك درس على ابن خاله الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الذي استوطن حلب كأبيه وأغلب إخوته، وبها توفي ـ رحمه الله تعالى ـ .

بينه وبين الشيخ أبي الخير زين العابدين:

وكان رصيفَه في الطلب ولَدَتَه، بل هو أصغر منه بالسنّ: ابنُ خاله الشيخ أبو الخير (ت1392هـ=1973م)، حيث كانت المنافسة والمساجلة العلمية بينهما دائمة. وكان يذكر الشيخ أحمد الكثير من المواقف التي كانت تقع بينهما، والتي تعدُّ مثالاً يُحتذى في احترام الخصم في القضايا العلمية، والتجرد والدوران حيث الحق دار.

شيوخه في حلب:

وفي حلب درس على بعض علمائها، منهم: مفتي الشافعية الشيخ أسعد العَبَجي ـ رحمه الله تعالى ـ(1393هـ=1973م).
ومن العلماء الذين تلقى العلم عنهم أيضاً: الشيخ أحمد الزرقا والد الشيخ مصطفى الزرقا رحمهما الله، ويذكر أنَّ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كان يقرأ (القاموس المحيط) على الشيخ أحمد الزرقا خلال فترة تردّده عليه.
وكانت هجرة عائلة الشيخ أحمد وأسرة خاله محمد زين العابدين عقب سيطرة الأتراك العلمانيين على لواء إسكندرون، فشعروا بالضيق فهاجروا بدينهم، وكانت الخطوة الأولى إلى حلب، أما الوجهة والهدف فكانت المدينة المنورة، وما زالت نية التوجُّه إلى المدينة المنورة ،وبقيت أسرة خاله في حلب، على مَضَضٍ وضيقٍ نفسي وعدم راحة.

انتقاله إلى دمشق وسكنه فيها:

انتقل الشيخ أحمد للإقامة بدمشق واستقر فيها؛ ولعل أختيه وزواجهما وإقامتهما بدمشق كما سيأتي، ثم زواجه من ابنة شيخه الفقيه الشافعي الكردي محمد جزو، في دمشق كان أحد الأسباب التي جعلته يستقر مع أسرته بدمشق.
فانتقلت الأسرة، الأخوان: أحمد وصدقي، والأختان: عاتكة ولُطْفية، والأم: أمينة زين العابدين إلى دمشق، وسكنت الأسرة أولاً في الصالحية ، ثم انتقلت إلى ركن الدين منطقة الحارة الجديدة. وفيها تزوَّج الشيخ أحمد، وبقي إلى عام 1960، ثم انتقل ـ رحمه الله تعالى ـ بأولاده جميعاً إلى منزل عمه العلامة الفقيه الكردي الشيخ محمد جَزّو في ساحة شمدين، حيث يعرف الناس فيها للأسرة مكانتها ويبادلونها المحبة، ويكنّون لها الاحترام العميق، بل كان الشيخ مرجعَهم العلمي والاجتماعي على مدى الأيام.

شيوخه في دمشق:

وفي دمشق تلقَّى العلم على عدد من العلماء منهم: الشيخ محمود العطار، والشيخ أبو اليُسر عابدين، والشيخ صالح العقاد، والشيخ ملا رمضان، وغيرهم، وتعرَّف على كثير من العلماء الوافدين إليها، كالشيخ محمد زاهد الكوثري، والشيخ محمد الخضر حسين، واللواء محمود شيت خطاب وغيرهم.
كما ربطته بعدد منهم صداقات حميمة، كالشيخ صلاح الدين الزعيم ـ رحمه الله تعالى ـ.
مناقشة علمية مع الشيخ أبي اليسر عابدين:
ومن الطرائف التي ذكرها الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ: أنه كان يدرس الفقه على العلامة الفقيه الكبير المفتي الشيخ أبي اليسر عابدين، فقال: على الإمام أن يترك قراءة سورة السجدة في صلاة الفجر يوم الجمعة حتى لا يظن بعض الناس فرضيتها، وقد خالف في هذا بعض جهلة الشافعية، فاعترض الشيخ على أستاذه قائلاً: عزو المخالفة لجهلة الشافعية يعني أنَّ جمهورهم من الجهلة، لأن الذي خالف في المسألة هم عموم الشافعية، والتعبير بحد ذاته نابٍ لا يحسُنُ تداوله بين العلماء، ومما قاله لشيخه العلامة الجليل أبي اليسر: أليس في الحنفية جَهَلة أيضاً؟ والحقيقة أنَّ الشافعية يعلِّمون الناس أن هذا سنة بالبيان لا بترك السنة، وإلا ينبغي للعالم أن يحلق لحيته مرة في العام ليعلم الناس أن إعفاءها سنة ـ على المفتى به عند الشافعية ـ وليس فريضة، وكذلك ينبغي أن نترك الأذان مرة في بعض الأحيان ليعلم الناس أن الأذان سنة، وهكذا، وليس هذا الأسلوب الشرعي لتعليم الناس ما هو الفرض وما هي السنة.


الإمامة والخطابة:

تولَّى الشيخ أحمد الإمامة والخطابة في جامع الركنية في ساحة شمدين لسنوات، واجه فيها مكايد لئيمة، لأنَّ مريدي بعض كبار المشايخ الرسميين لم يكونوا راضين عنه، فاشتكَوْا إلى الأوقاف بأنه لا يُحسن قراءة القرآن، فاسْتُدعي إلى الوزارة، وعُرض على لجنة علمية برئاسة العلامة الشيخ صلاح الدين الزعيم، ومن الأسئلة التي سألها الشيخ صلاح للشيخ أحمد: ما إعراب إنْ في قوله تعالى:[قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ] {الزُّخرف:81}. فقال الشيخ: (إنْ) هنا بمعنى ما النافية، فسُرَّ منه الشيخ الزعيم، ورَدّ الشكوى، وبكَّتَ الشكاة، فطلب الشيخ من اللجنة نقله من المسجد المذكور، فنُقل إلى مسجد (حَمُو ليلى) في جسر النحاس في حي ركن الدين، وهنا زادت شعبيته، وكانت الضارة التي كاد له بها حُسَّاده نافعة له وللمستفيدين منه، وبقي إماماً وخطيباً حتى عام 1988 قُبيل وفاته بمدة يسيرة، حيث لم يعد قادراً صحياً على الاستمرار في الخطبة والصلاة، لكنه كان يصلي في مسجده أحياناً وأحياناً يصلي في بيته.

ندوة أسبوعية :

وكانت تعقد ندوة أسبوعية بعد صلاة الجمعة في منزله ، وكان يواظب على حضور هذه الندوة العلمية : الأستاذ العلامة المحقق أحمد راتب النفاخ ، والأستاذ إبراهيم المارديني، والمحامي الحقوقي هيثم المالح ، والدكتور محمد أديب الصالح .

زواجه وأولاده:

تزوَّج الشيخ أحمد ـ كما تقدَّم ـ من ابنة العلامة الشافعي الصالح الشيخ محمد جَزّو العطار، ورُزق بثلاثة أبناء، وهم: شهاب الدين (المولود سنة 1944)، وهو خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية، ودرس في كلية الشريعة أيضاً مدة ثلاث سنوات وكان من المدرِّسين البارزين في ثانويات دمشق ، درَّس في ثانوية جودت الهاشمي، وهي من أرقى مدارس دمشق، ودرَّس قبلها في مدرسة الفرير (الأخوة).
وابنه الثاني: علاء الدين (1949ـ1980)خرِّيج كلية الشريعة في جامعة دمشق.
وابنه الثالث: محمد سعيد (1955ـ1980)وكان خطّاطاً توفوا ثلاثتهم شهداء سعداء في حياة والدهم ، رحم الله تعالى الجميع وتقبلهم ووالدَيْهم في عباده الصالحين.
أما البنات، فكُبراهنَّ زوجة الدكتور صالح خوجة، وأخرى متزوِّجة من السيد عبد الله دقماق ،وهي مقيمة مع زوجها في حي ساحة شمدين، والآنسة الفاضلة أمينة، وهي خريجة كلية الشريعة في جامعة دمشق، ثم رابعة متزوِّجة من الأستاذ منصور شرف من لبنان، وتقيم مع زوجها في جُدة ، والخامسة صُغْراهُنَّ وهي: السيدة الداعية مطيعة زوجة الشيخ حسن قاطرجي (وقد توفيت إثر مرض عضال عانت منه مساء 7 شعبان 1431هـ= 19تموز2010) رحمها الله تعالى وأثابها رضاه.

أخلاقه ومزاياه:

كان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ من نوادر الرجال، فكان يجمع بين التواضع الجمَّ والعزة الإسلامية القعساء، ولو أردنا أن نذكر الأمثلة على ذلك لطال الحديث، كما كان يتَّصف بالورع الشديد، والبُعد عن الشبهات، والابتعاد عن خلاف الأوْلى، ومراعاة الخلاف ولو كان ضعيفَ المأخذ.
نذكر مثالاً على ذلك: كان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يَعجب من تفسير الحنفية للكعبين بأنهما العظمان اللذان في أعلى مشط الرجل، فاشترطوا في النعل الذي يَلْبَسُه المُحرم بأن لا يغطي أعلى مشط الرجل، بينما هم في الوضوء يوافقون الأئمة الثلاثة، بأنهما العظمان الناتئان في أعلى القدم. لكنه لما أراد الحج اشترى حذاءً لا يغطي مشط الرجل مراعاةً لخلاف الحنفية الذي كان محل نَقْده.
كما كان الشيخ حريصاً على العمل بالسُّنن في الحل والتّرحال، وكان يحب العمل بالعزائم ولا يعمل بالرخص إلا عند الضرورة الشديدة، لكنه في الفُتيا كان يراعي أحوال الناس، فلا يحمل الناس على ما يطيقه هو ـ رحمه الله تعالى ـ. ويشق عليهم.
وممَّا يتَّصف به الشيخ ـ رحمه الله تعالى - أيضا : أنه كان منفتح العقل يقبل أيَّ رأي جديد قامت الحجَّة والبرهان على صحته، ولو خالف قناعات سابقة، فيعدِّل من رأيه كلّما اطّلع على جديد قامت الحجَّة على صحته، وفي هذا قال الأستاذ أحمد راتب النفّاخ ـ رحمه الله تعالى ـ: لم أر في حياتي شيخاً أنظف عقلاً من الشيخ أحمد أكبازلي، وكان يحترمه جداً ويبجِّله، ولا يصلِّي الجمعة إلا عنده ،ويُعجب بقصر خُطبته وسلامة لغته وصدق مواعظه وعدم نفاقه وتزلّفه ، وله في نفسه مكانة عظيمة، وكان الشيخ أحمد يبادل الأستاذ النفاخ هذا التقدير، فكان يقول فيه: إنه أحد أذكياء الدنيا.

شَغَفه بالعلم وإقباله على القراءة والتحصيل:

كان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ شغوفاً بالعلم، مقبلاً على القراءة والتحصيل، لا يَفْتُر ولا يَكلّ، وكان شديد العناية بالفقه وكتب السنَّة ، كما كان له عناية بالغة بكتب اللغة ، وتمكّن منها نحواً وصرفاً ومعاني.وكان دائم السؤال عمَّا صدر من جديد من كتب العلم، ويذكر بعض محبيه أنه زاره في أيامه الأخيرة ـ رحمه الله تعالى ـ، وكان صوته لا يُسمَع لضعفه، وسأله: ماذا صدر من كتاب (تهذيب الكمال) للمِزِّي؟ وفهم كلامَه من خلال حركة شَفَتَيْه، فقال له: صدر الجزء السابع، فقال: عندي.

إنصافه:

ومن صفاته العظيمة:الإنصاف، فكان ـ رحمه الله تعالى ـ يعطي العالم حقَّه، ولا تمنعه المخالفة في المذهب والمَشْرب من الإنصاف، فكانت كتب الشيخ ناصر الدين الألباني في مكان بارز في مكتبته، وكان يرجع إلى الجامع الصغير وزيادته بقسمَيْه الضعيف والصحيح؛ وقال لأحد تلامذته: هذا الرجل لن يعرف الناس قدره حتى يموت ويفقدوه. فكان يقرُّ بعلمه في علم الحديث ويخالفه في منهجه في الفقه والفتوى وأسلوبه مع مخالفيه ؛ وسأله أحد تلامذته مرة عن كتاب (فقه السنة) لسيد سابق، فقال له: هذا الكتاب يصلح لفئة من الناس ممن عندهم قدرة على التمييز بين ضعيف المسائل وراجحها ، و عندهم ملكة على النقد، فهو جيد بالنسبة إليهم لسهولة أسلوبه وحُسن ترتيبه وتعرّضه للمسائل المعاصرة، وللشيخ – رحمه الله تعالى - نقد لمنهج المؤلف ، وبيان لبعض المسائل التي خالف الفقهاء في تقريرها ، وكتب صفحات في ذلك.يسَّر الله نشرها .

شغفه بعلوم السنة:

أما شغفه بعلوم السنة فشيء عظيم، وكان يتحسَّر على أيام شبابه التي أمضاها في العلوم العقلية وعلوم الآلة، وقال لأحد تلامذته مرة: تمنيت لو أن أحداً نصحني في شبابي بقراءة كتب السنة. وكان يهتم بتخريج الأحاديث وتحقيق درجة الحديث من حيث الصحة أو عدمُها.

إعجابه بتفسير الشنقيطي:

وكان معجباً ـ كابنَيْ خاله : عبد الرحمن وأبي الخير ـ بكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) للشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي، يطرب بقراءته على الرُّغم من مخالفته في بعض المسائل العلمية.

نظامه الدقيق في حياته الشخصية ونظافته البالغة:

كان الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ منظَّماً جداً في سائر شؤونه حتى في أكله ، فهو دقيق المواعيد، وكان شديد العناية بصحة جسمه من ناحية الأكل فلا يتوسَّع فيه، ولا يُدخل الطعام على الطعام، وكان يمارس الرياضة، وكان رامياً ماهراً سريع الحركة ، لذا بقي منتصب القامة ممتَّعاً بصحته وقد قارب الثمانين. لم يكن يستعين بالنظارة إلا عند القراءة، . ولا يحمل العُكّاز إلا عملاً بالسنة لكنه لا يعتمد عليها البتة.
وكان يتميَّز بحرصه الشديد على الطهارة والنظافة ، وله في ذلك عادات صارمة.
وكان طلاب العلم في مجالس علمه يهابونه، ويجلسون وكأنَّ على رؤوسهم الطير.

عبادته وأوراده:

وكان يطيل القيام ساعات، حافظاً للقرآن لا يَفْتُر عن قيام الليل وتلاوة القرآن، والتزام الأوراد.
ويحرص على الصلاة وهو واقف ، رغم مرضه ، وخاصة في صلاة الفرض ، ولا يأخذ برخصة الجلوس إلا في السنن وعند العجز.

حَجُّه وعمراته :

وقد حجَّ ـ رحمه الله تعالى ـ عدة حجَّات كما اعتمر عدة عمرات، آخر عمرة استقبله فيها صهره الشيخ حسن قاطرجي مع زوجته مطيعة ابنة الشيخ، أول دراسته في المملكة عام 1984، وكانت بصحبته زوجتُه الصالحة وابنته البارة أمينة في مطار جدة، ونزل في مكة في منزل الشيخ مَجْد مكي، واحتفى به احتفاء مُميَّزاً، وفي هذه السفرة التقى بالعلامة الشيخ عبد الله الغماري، وتناقشا في بعض المسائل العلمية، واختلفا في بعضها بروحية وإنصاف اختلاف أهل العلم. وكتب رسالة أرسلها إلى الشيخ مجد مكي وفيها مناقشة السيد عبد الله بن الصديق في بعض المباحث العلمية ، وهي منشورة على الموقع في قسم المناشط .
وقد تكرَّم وأهدى الشيخ مجد مكي كتابين قيِّمين ، وهما : إعلاء السنن للتهانَوي ، والمعجم الوسيط في اللغة ، وكتب عليهما إهداءً له بخطه الجميل.

زيارته الأخيرة لتركيا وبيروت:

كان حفيده أحمد بن شهاب الدين يخدمه، ويُؤْنسه ويرافقه إلى المسجد وفي أسفاره، فقد رافقه في آخر سفرة له إلى تركيا عام 1986م ، حيث سافر إليها لمعالجة نظره وزيارة إخوته وأقاربه، وحضر جَمْعٌ من معارفه وأحبابه الأتراك في عدد من البلاد للقاء به ، والسلام عليه كما زار في آخر سنوات عمره بيروت مرتين بصحبة زوجه وابنته أمينة أقام فيهما في منزل ابنته مطيعة .

ذكريات سبطه الدكتور خالد خوجه:

وصحبه في هذه الزيارة سبطه الدكتور خالد خوجه ، وقد كتب بعض ذكرياته في صحبته لجده الشيخ أحمد ، فقال حفظه الله : رغم تركي للبلد وأنا ابن السابعة عشر عاماً بعد خروجي من السجن إلا أنَّ الله تعالى منَّ عليّ بملازمته وخدمته عند قدومه إلى تركيا في عام 1986 حيث قدم لزيارة إخوته وأقاربه.
وممّا أذكره أنني عندما خرجت من السجن ، وذهبت لزيارته قصَّ عليَّ فترة سجنه ، وكيف عرض عليه رئيس الفرع أن يتردَّد على الفرع كل خميس لمشاورته، فأجابه جدي : ألا تخجل من عرضك هذا على شيخ مُعمَّم ؟ ماذا سيظنُّ الناس عندما يشاهدون رجلاً معممَّاً يرتاد فرعكم ؟ ولمَّا رأى رئيس الفرع صلابة موقفه وصدقه ، أجلّه واعتذر منه، و أجلسه في غرفة خاصَّة، وجعل عليه سجَّاناً نصرانياً لخدمته، و في تلك الغرفه جرى حوار بينه وبين السجَّان النصراني، و أخبره جدي بأن المسلمين يؤمنون بسيدنا عيسى و برسالته، و أن هنالك سورة كاملة في القرآن عن السيدة مريم العذراء، فأصبح ذلك السجَّان - الذي لم يكن يعرف عن نظرة المسلمين تجاه سيدنا عيسى و أمها الصدِّيقة البتول - يبدي لجدي المودة و الاحترام، و يجلب له الطعام من الخارج بدلاً من طعام السجن .
ومما شاهدته أثناء زيارته الأخيرة : أنه كان شديد التضايق من التبجيل الزائد الذي كان يبديه أهل قريته والقرى المجاورة الذين كانوا يتوافدون ويقطعون عدة ساعات، وأحياناً يوماً كاملاً في الطرق الوعره لزيارته. وشهدت في إحدى المرات الزائرين يجلسون أمامه بصمت تام، وإذا قام أحدهم لا يعطيه ظهره، بل يخطو إلى الوراء ووجهه إلى جدي الشيخ حتى يغادر المجلس، فما كان من جدي إلا أن أبدى انزعاجه من هذا التبجيل الزائد وترك المجلس.
سألته في تلك الزيارة عن مقتضى الإسلام إذ كانت فتنة التكفير منتشره بين الطلاب، فقال لي: هل تشهد بأن لا إله إلا الله، وأنَّ محمد رسول الله؟ قلت: طبعاً قال: أنت مسلم وكفى . آنذاك سألته أن ينصحني بقراءة كتاب في العقيدة، فقال: لا تقرأ شيئاً تلك الشهادة تكفيك , وسألته عن الألباني و ابن عربي فأثنى على الاثنين مع التنويه أنَّ الأول لم يكن عليه أن يخوض في الفقه الأصغر ،و الآخر في الفقه الأكبر ,كان بجانبي علي ابن الحاج بسطامي متّو، فقال له: هو لا يسأل عن ابن العربي و إنما ابن عربي، فقال جدي: أعرف !
كما زار في آخر سنوات عمره بيروت مرتين أقام فيهما في منزل صهره الكريم العلم العامل الشيخ حسن قاطرجي وابنته مطيعة .

وفاته:

توفي ـ رحمه الله تعالى ـ بعد صلاة الظهر في 28 تشرين الثاني عام 1988م، وقد أوصى في مرض وفاته بقراءة سورة يس عند الاحتضار، فقرأتها كاملة ـ منفِّذة لوصيَّة والدها ـ ابنته البارة الفاضلة أمينة، ، وخرجت روحه الشريفة بكل لطف ـ كما شهدت ـ عند آخر آية منها ووجهه ممتلءٌ نوراً، ودُفن في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي، وصلَّى عليه محبُّوه وأفراد عائلته وعدد من المشايخ منهم الشيخ: ملا رمضان، بعد أن غسّله بعض الصالحين من الأتراك، وكانت جنازته ملتزمة بالسنة النبوية تماماً.

رحمه الله تعالى وجزاه عن دينه وأمته وعلمه وجهاده وصبره وهجرته وفَقْدِ أولاده واحتسابهم عند الله خير الجزاء ، وجمعنا به مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقاً.

بتصرف بسيط جدا عن مركز الشرق العربي
 
عودة
أعلى