مستقبل نظام الملاحة الأوربي " غاليليو "
في ظل المنافسة الدولية على الملاحة عبر الأقمار الاصطناع
بعد خمس سنوات على إطلاقه بشكل رسمي في( 2002 ) ، يواجه نظام "غاليليو" الأوربي للملاحة الفضائية والتحكم عن بُعد تحديات فعلية على الصعيدين المالي والعسكري تهدد بنسفه بشكل جدي . وتجري العديد من الاتصالات داخل المؤسسات الاتحادية و المؤسسات الصناعية الكبرى والدوائر العسكرية والأمنية الأوربية لإنقاذ المشروع .
توحي العديد من المؤشرات بصعوبة تمكن الدول الأوربية من ضمان الاستمرارية لنظام غاليليو . وكانت وكالة الفضاء الأوربية أعلنت أن نظام الملاحة وتحديد المواقع العالمي الأوربي غاليليو - وهو الرد العملي على النظام الأمريكي " GPS " - سيبدأ في العمل بحلول عام 2011 مع مخاوف من احتمال تأخره حتى عام 2014 .
ويبدو حالياً أن الاتحاد الأوربي لن يكون قادراً على الالتزام بهذه التواريخ مما يعني حصول تأخير جوهري على مجمل البرامج المرتبطة بهذا النظام والتي كان يعول عليها الأوربيون لإحداث نقلة علمية وفنية واستراتيجيه ومالية في مجال الملاحة الفضائية والتحكم عن بعد لتوجيه المركبات المختلفة وتطوير أعمال الكشف عن المعادن وغيرها من المجالات الحيوية .
وكانت مؤسسة " بيتكو" الألمانية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أول من قرع جرس الإنذار وأعلنت أنها تخشى تأجيل انطلاق المشروع الذي تبلغ تكلفته (3.4 مليار يورو) حتى عام 2014 .
وأضافت في بداية العام الجاري أن تضارب المصالح الوطنية يعطل بداية عمل المشروع وهو ما حصل بالفعل خلال الفترة القليلة الماضية .
ويقول الخبراء أن إعلان المفوضية بأنها مستعدة لتكريس مبلغ (3 مليار و400 مليون يورو ) للمراحل الأولية للمشروع في حالة موافقة الدول الأعضاء هو إعلان سياسي ولن يرقى إلى مرحلة التنفيذ الفعلي وبأنه إعلان غير واقعي حيث أن التقديرات الأولية لتمويل المراحل الأولى من نظام غاليليو لم تكن تتجاوز المليار يورو .
في الوقت ذاته تخطط الولايات المتحدة إلى اعتماد نظام تقني جديد ومتطور (NAV STAR) للمراقبة خلال الفترة من 2012 حتى 2014 . وهذه الخطة الأمريكية تجعل من التقنية الأوربية موضوعاً تجاوزته الأحداث والمواصفات الفنية .
يقول الخبراء أن النظام الأوربي بعد أن يتم اعتماد النظام الأمريكي الجديد سيكون غير صالح لأية دولة أجنبية سوى للدول التي لا تريد أن تكون أعضاء في النظام الأمريكي للمراقبة أو متعاملة معه .
وترغب بعض الأوساط في أوربا في أن يساهم النظام الأوربي الجديد في تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة خاصة وأن نظام تحديد الملاحة والمواقع العالمي " GPS " يديره الجيش الأمريكي ويمكن وقف بث إشاراته من جانب واحد .
وحينما درس مشروع نظام غاليليو للمرة الأولى في نهاية التسعينيات كان من المتوقع أن يبدأ العمل في العام 2008 . وترقبت شركات الاتصالات والملاحة وشركات مراقبة الطرق الأوربية وغيرها بداية عمل النظام الجديد الذي يتوقعون أن يساهم في انطلاق سوق بقيمة عشرات المليارات .
ويقول الدبلوماسيون الأوربيون أن السبب الفعلي غير المعلن وراء الفشل اللاحق بنظام غاليليو يعود بالدرجة الأولى إضافةً إلى المنافسة المحمومة بين المؤسسات الأوربية نفسها إلى الدور المزدوج الذي لعبته بريطانيا وهولندا منذ البداية واللتان قامتا بالتخلي عن نظام غاليليو الأوربي في منتصف الطريق .
ويضيفون كذلك أن هولندا وبريطانيا تراجعتا عن دعم النظام الأوربي ورددتا خلال الاجتماعات الأوربية أنهما تتمتعان بخدمات مجانية من نظام " GPS " الأمريكي ضمن إطار حلف الناتو .
وتقول بريطانيا أنها لن تؤيد أي توجه استقلالي تقني أوربي قد يحمل في طياته في نهاية المطاف بعداً عسكرياً استقلالياً عن الولايات المتحدة .
وتتمتع واشنطن بلوبي عسكري قوي داخل أوربا بما ، بما في ذلك ضمن المؤسسات الصناعية الأوربية التي تفضل التعاون مع الولايات المتحدة في إقامة برامج فضائية وفي مجال الطيران والتقنية المتقدمة بدلاً من منافستها ، كما يؤيد العديد من العسكريين الأوربيين العاملين في الناتو فكرة التخلي عن مشروع غاليليو .
وكانت بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والمغرب إلى جانب دول مثل البرازيل والهند وإسرائيل والنرويج وسويسرا أعلنت عن رغبتها في الاستفادة من خدمات نظام غاليليو عند إطلاق فكرة إرساله عام 2002 .
ولكن وبرغم كل المعوقات فإن المفوضية الأوربية تبذل جهوداً فعلية لإنقاذ النظام الأوربي وذلك عبر بعض التحركات المحددة ومنها :
- التوجه بتكليف الوكالة الأوربية للفضاء بالإسراع بتنفيذ المراحل الأولى عبر تمويل خاص ومن الموازنات العامة .
- إقصاء الدول غير المنتمية للإتحاد والممولة جزئياً للوكالة الأوربية للفضاء من المراحل الأولى للتنفيذ لتجنب حصول ضغوط سياسية .
- إدماج جوانب عسكرية في برامج غاليليو لإقناع الأوربيين بصلابته ومصداقيته .
مع العلم أن عملية إدماج الشق العسكري في المشروع قد يتسبب في خلافات داخل الناتو حسب المصادر المطلعة ، حيث تردد واشنطن أن أية مصاريف مالية أوربية إضافية يجب أن تركزها على تحسين أداء القوات الأوربية والأمريكية في أفغانستان ومناطق أخرى من العالم بدلاً من صرفها في نظام مشابه للنظام الأمريكي الذي يقدم خدمات مجانية للأوربيين .
خلفية فنية
النظام الأمريكي: Global Positioning System:
الجدير بالذكر أن الجيش الأمريكي يعلن باستمرار أنه سيعمد إلى قطع موجة الاستخدام المدني لهذا النظام إذا دخلت الولايات المتحدة في حرب مع دولة تستخدمه .
النظام الروسي GLONASS:
من الناحية التقنية يستخدم النظامان أساليب علمية متشابهه جداً ، وكما هو الحال بالنسبة للنظام الأمريكي فإن النظام الروسي يدار كذلك من قبل وزارة الدفاع الروسية ، ويعتقد بعضهم أنه غير موثوق لأن روسيا لم تنفق جهوداً وأموالاً كثيرة على تطويره وتحديثه وخصوصاً في السنوات الأخيرة .
وعلى الرغم من أن النظامين ، وخصوصاً الأمريكي متوفران للاستخدام المدني بصورة واسعة فإن سيطرة العسكريين على عملهما يجعل الاتحاد الأوربي حساساً حيال ذلك .
فكيف يمكن مثلاً بناء أنظمة للملاحة البحرية والتي تحرك بضائع مؤثرة بالنسبة إلى الاقتصاد الأوربي بالاعتماد على نظام يسيطر عليه العسكريون الأمريكيون ولديهم الحق في توقيفه في أي وقت .
الأرجح أن تلك الأسباب وغيرها دفعت الاتحاد الأوربي إلى تكليف الوكالة الأوربية للفضاء ببناء نظام مواز يمتلك تقنية دقيقة وكفاءة عالية في الأداء ، وعند اكتماله في العام 2010 من المتوقع أن يتألف غاليليو من 30 قمراً اصطناعياً ، وتدور المركبات الفضائية المكونة لغاليليو في مدارات لها زوايا مختلفة ، ما يكفل نشوء وضع تستطيع فيه كل نقطة على سطح الأرض أن ترى 4 أقمار اصطناعية على الأقل وفي أي وقت .
ويتمثل مبدأ عمل النظام في الاعتماد على موجات راديو ترسل من الأقمار الاصطناعية إلى الجهاز الذي يبث إشارة استقبال الموجة ، ويحتسب القمر الفارق بين لحظتي الإرسال والاستقبال لتحديد الموقع ، ومن الواضح أن دقة إيجاد الموقع تعتمد أساساً على دقة قياس الوقت في النظام الفضائي والجهاز الأرضي .
وللإيضاح أكثر فإن القمر الاصطناعي يبث الموجه نفسها إلى جميع الأجهزة ، وعلى تردد واحد ، وتسجل تلك الموجه الوقت الذي أرسلت فيه من القمر الاصطناعي بدقة عالية ، وكلما زادت هذه الدقة كلما كانت عملية تحديد الموقع الذي تصله على الأرض بشكل أدق ، وتصل الدقة في نظام غاليليو الأوربي إلى " النانو ثانية " أي ما يوازي جزء من بليون من الثانية .
وتكتمل الصورة مع جهاز استقبال الموجه أرضياً الذي يحفظ في ذاكرته مدارات الأقمار الاصطناعية وزوايا دورانها إضافةً إلى قدرته على قراءة وقت وصول الموجه الفضائية ، وفي خطوة تالية يتعرف الجهاز على لحظة خروج الإشارة من القمر ليحتسب الفارق بين اللحظتين وبالتالي يقدر المسافة بين الجهاز ومركبة الفضاء ، وأخيراً يقارن الجهاز الإشارة الصادرة من 4 أقمار مختلفة مما يمكنه من تحديد موقعة على الأرض .
من الواضح أن الدقة في قياس الوقت هي المبدأ الأكثر أهمية في نظام تحديد المواقع الذي يعتمد على الأقمار الاصطناعية .
ومبدئياً تحتوي الأقمار الاصطناعية في نظام غاليليو على ساعة ذرية تقيس الوقت بالنانو ثانية ، وإضافة إلى تحديد المواقع من المتوقع أن يستخدم نظام غاليليو في ضبط التوقيت بالنسبة لمجموعة الأدوات الحساسة مثل الساعات الأساسية في وكالات الفضاء والمطارات والمفاعلات الذرية وغيرها ، وبذلك يساهم غاليليو في توجيه تحركات وسائط النقل كالطائرات والسفن والقطارات والسيارات سواءً بين الدول أو داخل المدن ، إضافة إلى تمكين الأشخاص من السفر براً بسهولة ، ومعرفة حال المواصلات ومدى سيولتها والطرق البديلة في حال الازدحام وغيرها .
من الواضح كذلك أن الأجهزة المستخدمة لحالات الطوارئ مثل سيارات الإطفاء وطائرات مكافحة الحرائق وسيارات الإسعاف تستفيد من نظام غاليليو في رفع مستوى أدائها ، كما يساهم النظام أيضاً في رفع مستويات الحماية للتعاملات الإلكترونية التي تجري بين دول متباعدة باستخدام الانترنت والتلفونات النقالة وغيرهما.
هذه الأبعاد الإستراتيجية هي التي تفسر حدة الجدل الحالي حول النظام الأوربي المقترح وحدة المواجهة بين لوبي الاستقلال الأوربي ولوبي القوى المؤيدة للتحالف العضوي مع الولايات المتحدة الأمريكية .