في أواخر شهر ديسمبر من العام 2008 كان القصف الإسرائيلي على مدينة غزة قد بدأ في حملة عسكرية حملت إسم "الرصاص المصبوب"، وهي عملية لوحظ معها أن الحكومة الأمنية في إسرائيل قد قررت القضاء بشكل نهائي على وجود حركة المقاومة الإسلامية حماس الفلسطينية، إذ لم توفر الطائرات الإسرائيلية أي هدف سانح من قادة حماس، وإلا كانت تتجه إليه بطلعة جوية، ودكه بشكل جنوني، لتحقيق الهدف، وقد نجحت الى حد كبير في تصفية العديد من القادة العسكريين والميدانيين للحركة، مع عائلاتهم، من خلال إستهداف منازل بوحشية شديدة.
في أواخر هذا الشهر كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني يُقِيل على نحو مفاجئ مدير المخابرات العامة الجنرال محمد الذهبي من منصبه خلال إجتماع لمجلس الأمن القومي، أغضب خلاله الذهبي الملك من خلال سؤال وجهه الذهبي حول الجدوى التي يمكن أن تتاح للدولة الأردنية من إستمرار المسيرات والمظاهرات المنددة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وحينما قال الملك أن الشعب غاضب جدا مثله لما يحدث في قطاع غزة، قال الذهبي رافعا يديه:"إذا أنا مش مسؤول عن تدهور الوضع الأمني إذا خرجت هذه المظاهرات عن طبيعتها".. بالمحصلة لم يعجب الملك بكلام الذهبي، فقال له الملك كلاما غاضبا جدا، قبل أن يُنْهِي الملك حديثه الى الذهبي قائلا: "تجاوزت حدودك. الله يعطيك العافية. خذ ملفك واقعد في بيتك".
في الردهة المجاورة للمكتب الذي يعقد فيه الإجتماع كان ضابط أردني آخر قد أستدعي فورا لإلتقاء الملك، وهو ما يوضح أن قرار الملك بإقالة الجنرال الذهبي كان متخذا أساسا، إذ بمجرد إنتهاء الإجتماع، دخل الضابط الخجول والمغمور في عالم الإستخبارات الأردني محمد رثعان الرقاد، وكان يعمل مساعدا للذهبي، إذ فاجأ الرقاد الملك بعد تعيينه رسميا بنحو أسبوعين تقريبا، بملف سري وخاص، إذ لوحظ بين ثنايا معلومات الملف أن الإستخبارات الأردنية تعلم بشكل دقيق مكان إختباء قادة كبار في حركة حماس داخل منازل عشوائية وغير محصنة في قطاع غزة، وهو ما عجزت عنه إسرائيل وأجهزتها الإستخبارية، لكن المعلومة الأخطر هو أن الجنرال الذهبي كان على إطلاع مباشر بهذه المعلومات منذ أسبوع، ولم يبلغ الملك بها.
وهنا ساد الإعتقاد أن الذهبي ربما كان يريد من وراء هذه المعلومات مجدا شخصيا عند أحد الأطراف الدولية، أو مقايضة مع أحد الأطراف الفلسطينية، لكن الملك طلب من الرقاد على نحو فوري إبلاغ من يلزم في قيادة حماس داخليا أو خارجيا بهذه المعلومات، إبراءا للذمة، وقبل أن تصل إليهم الطائرات الإسرائيلية، إذ أن معلومات الإستخبارات الأردنية كانت تشير صراحة الى معرفة يقينية بأماكن تواجد كلا من العقل المدبر لحركة حماس القيادي محمود الزهار، وكذلك رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية، إضافة الى وزير الداخلية الفلسطيني سعيد صيام، إذ نُقِلت المعلومات في الليلة ذاتها الى مستويات سياسية وأمنية في حركة حماس، وجاء الرد الحمساوي على شكل برقية مقتضبة: "شكرا للأصالة الأردنية التي تسمو فوق الجراحات والخلافات.. تم العلم، وجرى نقل القادة المعنيين الى أماكن أخرى".
في يوم الخميس الخامس عشر من شهر يناير 2009 ، بعد خروج إسماعيل هنية من المقر السري الذي كان يقيم فيه بنحو ساعتين، وهو مقر يمتلكه شقيق الوزير صيام تحركت مقاتلات حربية إسرائيلية، ودمرت المكان بشكل شديد، لوحظ معه أن إسرائيل كانت متيقنة من وجود هدف مهم جدا في هذا المكان، لكن عدد الشهداء كان كبيرا، نظرا لوجود مكان إختباء هنية في حي شعبي شبه عشوائي، علما أن المعلومة الإستخبارية التي حصلت عليها إسرائيل كانت معكوسة من أحد العملاء الفلسطينيين في غزة، فقد اعتقد العميل الفلسطيني أن الجلبة التي حدثت مع خروج هنية من المكان، هو دخوله إليه، فتحركت الطائرات الإسرائيلية فورا، لكن أحد شهداء هذا الهجوم كان وزير الداخلية سعيد صيام، الذي لم يثق كثيرا بالمعلومات الأردنية، وخشي أن تكون محاولة إستخبارية لإخراج قادة حماس من أماكنهم سرية لإستهدافهم.
بعد إنتهاء حرب غزة، توقف مراقبون في الشرق الأوسط عند دلالات ومعاني أن يوجه رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة في غزة إسماعيل هنية الشكر والتقدير للأردن ملكا وحكومة وشعبا، مؤكدا ذلك بحرارة شديدة، خصوصا وأن الأردن لم يكن يقيم علاقات طيبة مع حماس، وهناك خلاف سياسي أوجد قطيعة بين الطرفين منذ العام 2006، لكن الشكر الحمساوي في واقع الحال كان موجها لإنقاذ الأردن قادة في الحركة من إغتيال إسرائيلي محقق.
لمصدر