اعاد الثنائي بوتين ــ مدفيديف وضع روسيا الحديثة على الخريطة السياسية العالمية والاقتصادية. واضافة إلى ترتيب البيت الداخلي، لم يغفل الحليفان ابداً العمل على إعادة الامجاد إلى الجيش الروسي، فوضعا الخطط والامكانيات المادية الكفيلة بإعادة صورة الجيش الذي لا يقهر
لم يكن اعلان الكرملين يوم السبت الماضي عن تولي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دوراً قيادياً في أحدث تجارب للترسانة النووية الاستراتيجية الروسية والأوسع منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، غريباً على المتابعين لمواقف «القيصر» من اهمية اعلاء شأن روسيا عسكرياً. فقبيل انتخابه في آذار الماضي، أكد «القيصر» أن «ضمان أمن روسيا أن نكون أقوياء» سيكون أساس خطة العمل التي ستعمل عليها الحكومة الروسية في الفترة المقبلة، استكمالاً لما بدأه حليفه، رئيس الوزراء الحالي، ديمتري ميدفيديف. ورأى بوتين، في مقالته في صحيفة «روسيسكايا غازيتا» في 20 شباط الماضي، قبيل اسبوعين من انتخابه رئيساً، أن تعزيز وتنمية قدرات الجيش تأتي لتعزيز موقع روسيا على الساحة الدولية وتقوية المؤسسات الديموقراطية، وهذا ما يتطلب برأيه أن يكون «الجيش على استعداد للدفاع عن روسيا».
كذلك يأتي تعزيز القدرات العسكرية الروسية في عالم متغير تحكمه المصالح «القومية» لكل دولة. من هنا كان ادراك القيادة الروسية لمخاطر الحروب في المستقبل، وهو ما أشار إليه صراحةً «القيصر» في مقالته بقوله «من الضروري بالنسبة لنا خلق آليات الرد، ليس فقط على المخاطر الراهنة، بل علينا تعلم النظر وراء الأفق، لتقييم طبيعة التهديدات للسنوات الـ30-50 المقبلة. إن هذه مهمة جديّة، تتطلب تعبئة امكانات العلوم المدنية والعسكرية والقيام بالتشخيص والتقييمات بعيدة المدى».
الرؤية الروسيّة الجديد تنطلق مما واجهته موسكو خلال العشرين عاماً الماضية من مشاكل عسكرية، والتي حاول خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، محاصرتها من خلالها، سواء في حربها مع الشيشان أو في حربها مع جورجيا.
خطط تأهيل الجيش، التي بدأها مدفيديف في عام 2009 خلال فترته الرئاسية في ظل وجود بوتين في رئاسة الحكومة، صدرت في مرسوم «حول استراتيجية الأمن القومي» حتى عام 2020. وجاء في البند المتعلق بالأمن القومي أن«الاهداف الاستراتيجية لتطوير الدفاع الوطني تكمن في الحيلولة دون نشوب نزاعات عالمية واقليمية، وكذلك تحقيق الردع الاستراتيجي في مصلحة ضمان الأمن العسكري للبلاد».
كما حدّد المرسوم، في بند ماهية الامور التي تشكل خطراً على الأمن العسكري للدولة، «سياسة بعض الدول الكبرى الرامية إلى كسب التفوق الفائق في المجال العسكري، وبالدرجة الاولى في مجال القوات النووية الاستراتيجية، نشر المنظومات الشاملة للدرع الصاروخية وعسكرة الفضاء الكوني، الامر الذي يمكن أن يؤدي إلى بدء جولة جديدة لسباق التسلح وانتشار التكنولوجيات النووية والكيميائية والبيولوجية وصنع اسلحة الدمار الشامل او مكوناتها ووسائل نقلها».
تغيير تنظيم الجيش
في نهاية آب الماضي، أكد الرئيس بوتين أن حكومته ستولي الاهتمام اللازم للجيش «لتعويض ما فات في السنوات الماضية، وتحقيق تقدم شامل قوي يماثل ما كان عليه الجيش في ثلاثينيات القرن الماضي». تصريح فسّرته صحيفة «بولسكا» البولندية بأن «بوتين بصدد استعادة صورة الجيش الروسي كجيش لا يقهر».
فمنذ 2009 وضعت الحكومة الروسية الخطط لإصلاح وتطوير الجيش بالمعدات والقدرات، وإكساب جيشها «وجهاً جديداً». فالتجارب التي خاضها الجيش الروسي منذ 1996 ضد الشيشيان والجيش الجورجي في 2008 اثبتت أن الجيش يعاني من نقص في التجهيز والتسليح، وهو ما تطلب برأي بوتين «إنشاء جيش جديد. جيش من النوع الحديث وجيش يتمتع بسرعة التحرك والاستعداد القتالي الدائم».
وتم خلال 3 سنوات تحويل أكثر من وحدة عسكرية، بما في ذلك 30 سرباً جوياً، إلى استخدام الأسلحة والتقنيات الحديثة، التي لن تقل نسبتها بحلول العام 2020 عن 70% من مجمل الأسلحة والتقنيات العسكرية المستخدمة في القوات المسلحة الروسية.
وتضمنت الخطة الجديدة للحكومة التخلي عن التنظيم الهيكلي «السوفياتي» لجيشها، واعتمدت تنظيماً جديداً عماده «لواء ــ كتيبة» بدلاً من «فرقة ــ فوج». وأعلن قائد القوات البرية الروسية، الجنرال فلاديمير تشيركين، أن القوات البرية ستشهد تشكيل 26 لواءً جديداً قبل عام 2020.
كذلك عملت قيادة الجيش على التخلص من «الارث السوفياتي» لعديد قوات الجيش، فمن 4.5 ملايين عسكري في نهاية الحقبة السوفياتية، انخفض عديد القوات إلى 1.2 مليون اليوم، كذلك يجري العمل اليوم على التخلص من عديد الضباط والجنرالات إلى أكثر من النصف، فمن أصل 310000 ضابط لن يبقى إلا 150000 فقط. والهدف من ذلك تبسيط القوات المسلحة. كما يجري العمل على التخلص من أعداد الموظفين المدنيين بما لا يقل عن 60 في المئة من مستوياتها الحالية من 22000 إلى 8،500 فقط.
ويخطط بوتين لأن يشمل الجيش الروسي بحلول عام 2017 نحو 700 ألف محترف من الضباط والطلاب العسكريين ونواب الضباط والعرفاء والجنود المتطوعين، وذلك ضمن مليون فرد تعداده الاجمالي. وسيقلص عدد المجندين بحلول عام 2020 حتى 145 ألف فرد.
ويشهد نظام التعليم العسكري إجراء إصلاحات جدية ومهمة، إذ يجري حالياً إنشاء عشرة مراكز تعليمية علمية كبرى. كما تم ترتيب كافة هذه المنشآت بشكل هرمي لتتيح للضباط، وفقاً لسير خدمتهم، إمكان رفع مستواهم المهني بشكل مستمر.
الانجازات المحققة
في مقالته في شباط الماضي، لخص بوتين جملة الانجازات التي تمكنت الحكومة من تحقيقها، وأبرزها دخول صنف جديد مناوبته القتالية، وهو صنف قوات الدفاع الجوي الفضائي، وفي إطار القوات الجوية تم إنشاء 7 قواعد جوية كبرى ذات بنية تحتية قوية ومتطورة. كما يجرى تحديث شبكة المطارات، إذ نفذت خلال السنوات الأربع الماضية عمليات إصلاح شامل لـ28 مطاراً وذلك للمرة الأولى منذ 20 عاماً، ويجري الآن التخطيط لتنفيذ عمليات إصلاح مماثلة لـ12 مطاراً عسكرياً آخر في العام الحالي.
اوعلن بوتين عن تطوير إمكانات منظومة الإنذار المبكر من الهجمات الصاروخية «بنحو جدّي»، وتم تدشين محطات للمراقبة، بالاضافة إلى تزويد كافة ألوية الدفاع الجوي الفضائي بمنظومات معاصرة لوسائل المكننة من طراز «أونيفيرسال-1 إس»، وتأمين الاستقرار المضمون والاكتفاء للعناصر البرية والبحرية والجوية المكونة للقوة النووية الروسية الاستراتيجية. كذلك لم تغفل الحكومة الروسية في خطتها تحسين الظروف المعيشية والحياتية لجنودها، فعملت على اصلاح نظام دفع الرواتب للعسكريين وزيادتها بمقادر ثلاثة اضعاف، فضلاً عن رفع رواتب التقاعد العسكرية. وعملت على تأمين السكن لجنودها، فاقتنت وزارة الدفاع في اعوام 2008 – 2011 ،140 ألف شقة للسكن الدائم و46 ألف شقة للسكن المؤقت للعسكريين.
عتاد نوعي متطور
بناءً على خطة التسليح الجديدة، سيتم خلال السنوات الثلاث المقبلة تحديث 45% من العتاد العسكري الحالي للجيش الروسي. اما على المدى البعيد فإن الجيش سيتسلم خلال الأعوام العشرة المقبلة أكثر من 400 صاروخ باليستيي عابر للقارات من الصواريخ التي تطلق من البر والبحر، بينها بـ50 صاروخاً باليستياً جديداً من نوع «توبول-ام». و8 غواصات صاروخية استراتيجية، ونحو 20 غواصة أخرى متعددة المهام، وأكثر من 50 سفينة، وحوالي 100 جهاز فضائي للأغراض العسكرية، وأكثر من 1600 طائرة حديثة بحدود2020، وهي 600 طائرة عسكرية و1000 طائرة هليكوبتر، بما في ذلك مقاتلات الجيل الخامس، و8 منظومات صواريخ مضادة للطائرات من طراز «إس-400» لتسليح أفواج الدفاع الجوي، و38 مجموعة من الصواريخ المضادة للطائرات من طراز «فيتياز» لتسليح الفرق، و10 منظومات صواريخ من طراز «إسكندر-إم» لتسليح ألوية الصواريخ و50 قاذفة استراتيجية «تو-160» و«تو-95»، وأكثر من 2300 دبابة حديثة، وزهاء 2000 منظومة مدفعية ذاتية الحركة، و17 ألف عربة عسكرية. إضافة إلى ذلك، تواظب روسيا على طرح الجديد في ترسانتها العسكريّة. وفي جولة سريعة على موقع «وكالة انباء روسيا» يمكن ملاحظة الكم الكبير من الاعلانات عن الانجازات العسكرية المهمة. آخر هذه الانجازات ما كشفه قائد القوات الصاروخية النووية، الجنرال سيرغي كاراكاييف، الذي أعلن أن بلاده ستحصل على صاروخ باليستي ثقيل بعيد المدى جديد بحلول عام 2018 قادر على اجتياز شبكة مضادة للصواريخ التي تقوم الولايات المتحدة بإنشائها في أوروبا. كما تعمل روسيا على إيجاد صاروخ تفوق سرعته الصوت، يماثل الصاروخ الأميركي «إكس 51»، الذي باءت تجربته الأخيرة بالفشل.
أيضاً اعلن قائد قوّات الطيران البعيد المدى، اللواء بافيل أندروسوف، أن قاذفة «تو -160» الاستراتيجية التي تمّ تحديثها وتطويرها، ستدخل الخدمة قريباً، فيما أكد قائد القوّات الجوية الروسية، الجنرال ألكسندر زيلين، أنّ العمل قد بدأ على تطوير جيل خامس من أسلحة الدفاع الجوي، يتفوّق على منظومة «أس - 400»، بالاضافة إلى الاعلان عن إجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ «إكس-25» لتدمير السفن الحربية في البحر.
بدوره، أعلن قائد القوات البرية، فلاديمير تشيركين، عن تسارع وتيرة العمل في مشروع دبابة المستقبل التي يجب أن تنجز أول نماذجها في عام 013 2، على أن يبدأ الإنتاج الصناعي لها في عام 2015. كذلك، أعلن نائب رئيس الحكومة، دميتري روغوزين، أن الجيش الروسي سيبدأ بتسلم أعداد كبيرة من الدبابات «أرماتا» الخفية بتقنية «ستيلث» خلال عام 2017. وفي الوقت نفسه، بدأت المناوبة القتالية للغواصات الاستراتيجية الحاملة للصواريخ من المشروع الجديد «بوريي». وتجري حالياً اختبارات رسمية لغواصتي «يوري دولغوروكي» و«الكسندر نيفسكي».
ومن بين إحدى المهام المطروحة على الصناعة الروسية إنشاء نظام بحري مضاد للصواريخ يماثل نظام «إيدجيس» الأميركي، وهو ما كشف عنه رئيس دائرة التصنيع العسكري بشركة «أو. أس. كا»، التي تشرف على صناعة السفن في روسيا، أناتولي شليموف.
ميزانية ضخمة للجيش
كان للوضع الاقتصادي المهترئ في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اثره الكبير على الجيش الروسي حتى وصل إلى المرتبة الخامسة بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبريطانيا في الميزانية العسكرية السنوية. اما اليوم فتغير المشهد، إذ إنه خلال 2011 أنفقت روسيا 71 مليار دولار على جيشها لتحتل المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين، وفقاً لتقديرات معهد استوكهولم لأبحاث السلام. كذلك سجلت الفترة من بين 2002 و2011 زيادة النفقات العسكرية بنسبة 79 في المئة.
ويتضمن مشروع الميزانية الروسية الجديدة، التي ستناقش في البرلمان هذا الشهر، زيادة كبيرة في الاعتمادات المخصصة للجيش. ويقضي مشروع الموازنة المقترحة لفترة 2013-2015 بزيادة الاعتمادات المخصصة للجيش بنسبة 26 في المئة في العام 2013 (135.5 مليار دولار) وبنسبة 18 في المئة في عام 2015 (153.6 مليار دولار) بحسب ارقام وزارة المال الروسية للانفاق المتعلقة بالدفاع والأمن. وإذا تمكنت الحكومة من تنفيذ برنامجها فسوف تبلغ ميزانية وزارة الدفاع الروسية في عام 2015 نحو 153 مليار دولار، ليصل مجمل ما انفق على تسليح الجيش إلى 750 مليار دولار قبل عام 2020. وسيكون التركيز في خطط الانفاق على تطوير القوات النووية والأصول الدفاع الجوي، ونظم الاتصالات والقيادة والسيطرة ونظم الاستطلاع والحرب الالكترونية والمركبات الجوية غير المأهولة والطيران والنقل، والأسلحة العالية الدقة وأنظمة الحماية الفردية للأفراد العسكريين، وتطوير الأسطول البحري في المنطقة القطبية الشمالية والشرق الأقصى الروسي.
بوتين كان واضحاً في عدم رغبة ادارته في خفض الاعتمادات المخصصة للشؤون الدفاعية وبرنامج تسليح الجيش الروسي، مشيراً إلى أن تنفيذ هذا البرنامج يدخل في قائمة أولويات الدولة. وتفادياً لتأثير التمويل على ميزانية الدولة، اعلن وزير المال، أنتون سيلوانوف، في تموز الماضي، أن وزارتي المالية والدفاع اتفقتا على استخدام قروض مصرفية تضمنها الدولة لتمويل برنامج تصنيع الأسلحة المطلوبة للقوات المسلحة الروسية في فترة 2013-2015، مشيراً إلى أن مصانع الإنتاج الحربي تستطيع أن تحصل على قروض قيمتها 300 مليار روبل (نحو 10 مليارات دولار) بفائدة لا تتجاوز 10 في المئة من أربعة بنوك حكومية في فترة ما بين 2013-2015.
نهضة اقتصاديّة
رغبة الكرملين في تقوية الجيش تلازمها رغبةٌ اخرى في تحقيق نهضة اقتصادية من خلال انماء الصناعة العسكرية، كما أشار إلى ذلك رئيس مركز الدراسات الأوروبية، أولاف أوسيتسا. وبينت معطيات معهد استوكهولم الدولي لدراسة القضايا العالمية أن روسيا تحتل المركز الثاني بتصدير الأسلحة في العالم. وفي تدقيق لبوتين بالأرقام، اعلن أن هذا الاعلان يساوي 24 بالمئة من حجم الصادرات العالمية للأسلحة، مشيراً إلى أن التقنيات ومنظومات الأسلحة الروسية تبتاع اليوم من قبل 55 دولة.
وذكر بوتين في نهاية آب الماضي أن إجمالي الصادرات الروسية من السلاح والعتاد العسكري في النصف الأول من عام 2012 تجاوز 6.5 مليارات دولار أميركي بزيادة نسبتها 14 في المئة عن العام الماضي، مضيفاً أن الصادرات العسكرية الروسية ارتفعت من 6 مليارات دولار في عام 2005 إلى 13 مليارا في عام 2011. كذلك احتلت روسيا المركز الثالث في صادرات الزوارق الحربية خلف الولايات المتحدة وفرنسا بحسب ما اورد المركز الروسي لتحليل التجارة العالمة إذ باعت سبعة زوارق حربية بقيمة إجمالية قدرها 322.5 مليون دولار في الأسواق الخارجية خلال الأعوام الأربعة الماضية.