سلسلة فتح مكة/د. عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,784
التفاعل
17,903 114 0
سلسلة فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الأول

لما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم ‏ أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ‏.‏

وكان بين خزاعة وبكر دم ، لكن حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بعد صلح الديبية عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له ‏:‏ الوتير إذ اغتنم الهدنة بنو الديل من بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرهم القديم ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم ، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيّتَ خزاعة وهم على الوتير - ماء لهم - فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوزوا واقتتلوا ‏.‏

ورفدت قريشٌ بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه ، قالت بنو بكر ‏:‏ يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم ، إلهَك إلهَك ، فقال ‏:‏ كلمة عظيمة ، لا إله له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيّتوهم بالوتير رجلاً ، يقال له ‏:‏ منبه ‏.‏

وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له ‏:‏ تميم بن أسد ، وقال له منبه ‏:‏ يا تميمُ انجُ بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد انبَتَّ فؤادي . وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا منبها فقتلوه ، فلما دخلت خزاعة مكة ، لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له ‏:‏ رافع

إضاءة

1- صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة حين انطلق المسلمون بقيادة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة يريدون العمرة ، وسمعَتْ بهم قريش فأرسلت فرسانها بقيادة خالد بن الوليد فالتقى المسلمين في منطقة ( الحديبية) ولم يكن مناوشات تذكر ،ثم كان صلح بين المسلمين والمشركين من بنوده أن من أحب أن يدخل في حلف أحد الفريقين فليدخل، ودخلت خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

2- كان للإسلام تأثير كبير على المشركين وهم في مكة فتشاعلوا به عن ثاراتهم إلى حين ، فقد كان الإسلام عدوهم المشترك كما هو الحال في كل زمان ومكان ، يتناسون خلافاتهم الآنية ليتصدوا له ويجتمعون عليه لإحساسهم أنه بآدابه وتشريعاته ومبادئه يقتلع جذورهم الفاسدة ، فإذا وصلوا إلى بعض مآربهم أو ظنوا أنهم ظهروا عليه ظهرت خلافاتهم بينهم من جديد.

3- كان في بني خزاعة عدد من المسلمين ذوو مكانة رغبوا أن يكونوا في صف المسلمين فأجابتهم القبيلة إلى رغبتهم ، أما عدوهم من بني بكر فقد رأوا أن ينحازوا إلى قريش عسى أن يستعينوا بها عدداً وعُدّة في نيل ثأرهم من خزاعة إن وجدوا فرصة سانحة ولم يكن الإسلام فيهم ظاهراً .

4- لم يحفظ بنو الديل من بكر المعاهدة ورأوا غفلة من خزاعة على ماء الوتير فاغتنموها دون مراعاة للهدنة ، فهم لا يرقبون عهداً ولا ذمّة ، وقد تعمي المصالح الآنيّة عن التفكير بالعواقب ، فباغتوهم في أخَرَة من الليل وأصابوا منهم رجلاً ورفدتهم قريش بالسلاح ظانة أن الأمر يبقى سراً لا ينكشف ، بل قاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً .

5- حين انكشفت بنو خزاعة إلى الحرم ، والحرم في دين العرب- حتى الجاهليين منهم - له حُرمة ، ومن دخله كان آمناً انتبه بعض رجال بكر إلى أنهم انتهكوا كبيرة من الكبائر، فلا ينبغي القتال في الحرم وهذا يغضب الله تعالى ، فحذّروا قائدهم نوفل بن معاوية إلى هذا الخطر وأرادوه أن ينكفئ .

6- انطلقت من بعضهم كلمة ( إلهَكَ ، إلهَكَ) أي احذرْ غضبه والزمْ حدوده. فكان جواب السفيه البعيد عن الحق الواقع في كفره الشديد (أنْ لا إله اليوم). والإله – سبحانه- يرى ويسمع فيشتد مقته لأمثاله ويشتد غضبه –سبحانه- على المجرمين المارقين .

7- هذا طاغية سورية المجرم يهدم بيوت الله على رؤوس المصلين ويقتل منهم الآلاف يومياً لا يَرِفُّ له جفن بل يُمعن في القتل وتدمير المدن فوق ساكنيها ويقلب حياتهم جحيماً فيُهجّر منهم الملايين داخل سورية وخارجها بل يدّعي أكثر من ذلك حين ينتشي خيلاء وهو يرى أتباعه من التافهين يزعمون أنه إلهُهُمْ وفرعونهم الأوحد.

8- ويعيد التاريخ نفسه اليوم . فكما قال زعيم بكر يومذاك لأتباعه (فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه) يقول طاغية سورية اليوم لأتباعه ( اقتلوا واذبحوا المسلمين، ودمّروا عليهم ، ولكم سلبهم وأموالهم وأعراضهم) . إن الطغاة هم الطغاة في كل عصر وفي كل مكان { بل هم قوم طاغون }.

9- وتوقف طاغية بكر حين انحاز بنو خزاعة إلى دار بديل بن ورقاء ومولى لهم يقال له رافع، فهل للمسلمين في سورية الصابرة من العرب والمسلمين من يدفع عنهم الظلم ويمد لهم يد العون؟ أم إن عرب الجاهلية أكثر شرفاً وأعظم مروءة من الشعوب العربية النائمة والدُّمَى التي تقودهم؟!

10- ولعل منبّه حين قال لتميم : (انجُ بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد انبَتَّ فؤادي) أستحضر نوحَ الثكالى واستصراخ العذارى اللواتي عبث المجرمون بأعراضهنّ،وضعفَ الأطفال المذبوحين وسقوط الشيوخ المقتولين وارى الشرق والغرب يتعامَون عن كل ذلك لأنّ طاغية سورية ينفذ المخطط الإجرامي الذي رسموه له بكل همجية ووحشية... فلا نامت أعينُ الجبناء.

يتبع
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق2)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني

لما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وخزاعةُ في عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، ثم أحد بني كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ،وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس ، فقال: ‏

يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمُ ولدا وكنا والدا * ثمّتَ أسلمنا فلم ننزِع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا * وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا * وهم أذلُّ وأقلُّ عددا
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا * وقتلونا ركعا سجدا​
يقصد أن خزاعة أسلمتْ

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏: نصرت يا عمروُ بنَ سالم ‏.‏ ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنانٌ من السماء ، فقال ‏:‏ إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏.‏ ‏

ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقد ، ويزيد في المدة ‏.‏
ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذين صنعوا ‏.‏
فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي ؛ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً ‏؟‏ قال:‏لا ؛ فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان ‏:‏ لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديلٌ محمداً ‏.‏

إضاءة:

1- إن اعتداء بني بكر حلفاء قريش على بني خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومساعدة قريش لهم على هذا الاعتداء ينقض العهد بين الطرفين ويجعل الطرفين في حل منه إلاّ إذا كانوا جميعا راغبين في استمرار العهد فإنهم يوثّقونه ويؤكدونه. وهذا يستدعي لقاء ممثلين عن الطرفين لإصلاح ما فسد .

2- يلجأ الطرف الضعيف المعتدى عليه إلى حليفه يستصرخه ويوضح ما حصل من إخلال بالاتفاق ، لقد مضى على إبرام العهد عامان من السنوات العشرة – مدة الاتفاق- نقضت فيه قريشٌ وحليفتها بنو بكر صلح الحديبية حين اعتدت بنو بكر على خزاعة حليفة المسلمين فكان لا بد من اللجوء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتخذ قراره.

3- ينطلق أحد زعماء خزاعة من بني كلب " عمرو بن سالم الخزاعي "إلى المدينة المنوّرة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَسْط ِالأمر بين يديه ، فما إن يصل إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني الناس حتى بستصرخه – كعادة العرب- بقصيدة وضّح فيها اعتداء قريش وحليفتها على قبيلته ، ويطلب النجدة .

4- فصّل عمرو بن سالم الشكاة حين ناشد رسولَ الله الوفاء بالحلف وذكّره بالعلاقة الوطيدة بينهما قبل الإسلام ، ثم أعلن أن بني خزاعة أسلمت فزاد على الحلف قوةُ العقيدة التي جمعت بين خزاعة والمسلمين ( والمؤمنون إخوة ) وطلبَ النصرَ والمدد حين شكّت قريشٌ أن ينتصر رسولُ الله – وهو في المدينة - لمسلمي خزاعة - وهم في مكة بين ظهراني المشركين.

5- كان الإيجاب النبوي سريعاً حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ( نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم ) والمسلم أخو المسلم لا يخذله فاستعمل الفعل " نُصِرَ " بصيغة الماضي المبني للمجهول . قالها على ملأٍ من المسلمين الذين يملأون المسجد ، فترتاح نفس عمر بن سالم ، ويحمل البشرى إلى قومه في مكة .

6- وينظر النبيُّ الكريم إلى السماء فيرى سحاباً يمتد في أفق المدينة المنوّرة، فيتفاءل برضى رب السماء عن نصرة المظلوم وما السحاب إلى عنوان الغيث والنُّصرة، وينقل تفاؤله هذا إلى أصحابه يشجعهم ويستنهض هممهم حين يقول مبشراً بفتح الله تعالى ( إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ).

7- كانت هذه الجملة إيذاناً بانتهاء صلح الحديبية واستهلال فتح مكة ، وكأنه يقول لهم : أوقعَتْ قريش نفسها بحبائلها. وفتحت لنا طريقاً إلى مكة كان قبلُ مغلقاً .

8- ولتأكيد خزاعة ما استصرخ له عمرو بن سالم قام وفد من خزاعة بزيارة المدينة بقيادة شيخها " بديل بن ورقاء الخزاعي " يشرح للرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل ما فعله بنو بكر بمظاهرة قريش حليفتها من اعتداء صارخ على خزاعة فسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يُرَطب خاطرهم ويأسو جراحهم.

9- حين يكون القائد عليماً ببواطن الأمور ، خبيراً بحال عدوّه وإمكاناته ،بصيراً بردة فعله يستشف ما يمكن أن يفعله الطرف الآخر . ورسول الله صلى الله عليه وسلم قرشيٌّ مُطّلع على خبايا زعماء قريش وتفكيرهم وقد آتاه الله تعالى الحكمة وحسن تقدير الأمور . فاستشرف ما قد يفعله أبو سفيان زعيم مكة للحفاظ على العهد وتلافي الخطأ الذي وقعت فيه قريش وحليفتها، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ( كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العَقد ، ويزيد في المدة ).

10- وكان ما توقعه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ،فقد التقى وفد خزاعة بقيادة بديل بن ورقاء – وهم عائدون - بأبي سفيان بن حرب زعيم مكة منطلقاً إلى المدينة المنوّرة ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهب المشركون ما صنعوه في لحظة انفعالية لم يحسبوا عواقبها ، التقوه في ( عسفان على طريق المدينة قريبة من ساحل البحر).

11- خاف أبوسفيان بن حرب أن يكون وفد خزاعة سبقه إلى المدينة يؤلب المسلمين على قريش ، فأحب ان يتأكد حين سأل بُديل بن ورقاء عن المكان الذي جاء منه، فكانت الاستعانة على قضاء الحوائج تستدعي الكتمان والسرية ، فكان جوابُ بديل أنه كان وأصحابُه في بعض بيوت خزاعة على الساحل ، فلما صارحه أبو سفيان بظنه قائلاً : أوَ ما جئت محمداً ؟ قال : لا . والحربُ كما نعلم خُدعة ، وتأزُّمُ الموقف بين خزاعة وقريش حرب خفية تنبئ القلوبُ والألسنة عن خباياها.

12- التحرّي عن الحقيقة مطلب يعين على اتخاذ الموقف الأقرب للواقع، فلما لم يقتنع أبو سفيان بِردّ بديل ولم يكن بين الاثنين سوى اللقاء العابر، ثم مضى بديل بوفده إلى خزاعة يقول أبو سفيان :لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى. فنزل أبو سفيان عن ناقته يستجلي حقيقة الأمر ، فأتى مبرك ناقة بديل ،ففتّتَ بعرها فصدق حدسه إذ رأى نوى المدينة واستيقن أن القوم كانوا عند محمد صلى الله عليه وسلم يشكون قريشاً وبني بكر.

13- انطلق أبو سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدّة وهو يعلم أن المهمّة شاقة ،
ولا أشق من خطإ جسيم يرتكبه المرء حماقة ثم يحاول رتقه ، ولا أصعب من موقف فيه ضعف يقفه المرء دون أن يحسب له حساباً.

يتبع
 
التعديل الأخير:
رد: فتح مكة/د. عثمان قدري مكانسي

بارك الله فيك .. فى انتظار ما تعلمنا اياه عن فتح مكه .. ان شاء الله تعالى
 
فتح مكة(ق3)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ؛ فقال ‏:‏ يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ‏؟‏
قالت ‏:‏ بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛
قال ‏:‏ والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر ‏.‏
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فقال ‏:‏ ما أنا بفاعل ،
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال ‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ‏.‏
ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها حسن بن علي ، غلام يدب بين يديها ،
فقال ‏:‏ يا عليُّ ؛ إنك أمَسُّ القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى محمّد ؛
فقال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه ‏.‏
فالتفت إلى فاطمة ، فقال ‏:‏ يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بُنَيَّك هذا فيجيرَ بين الناس ، فيكونَ سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏
قالت ‏:‏ والله ما بلغ بُنَيَّ ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
قال ‏:‏ يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي ، فانصحني ؛
قال ‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ؛
قال ‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ‏؟‏
قال ‏:‏ لا والله ، ما أظنه ، ولكني لا أجد لك غير ذلك ‏.‏
فقام أبو سفيان في المسجد ،
فقال ‏:‏ أيها الناس إني أجرت بين الناس ‏.‏ ثم ركب بعيره فانطلق ،
فلما قدم على قريش ، قالوا ‏:‏ ما وراءك ‏؟‏
قال ‏:‏ جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو ، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، وقد أشار عليَّ بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ‏؟‏
قالوا ‏:‏ وبم أمرك ‏؟‏ قال ‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلتُ ؛
قالوا ‏:‏ فهل أجاز لك محمد ‏؟‏
قال ‏:‏ لا ،
قالوا ‏:‏ ويلك ‏!‏ والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ‏.‏
قال ‏:‏ لا والله ، ما وجدت غير ذلك ‏.‏

إضاءة:

1- أبو سفيان زعيم مكة يشعر أن صلح الحديبية شابه النقصانُ إن لم يكن قد انهدّ كاهله وانتهى مفعوله . ومن الذي عمل على نقضه ؟ إنها قريش التي أعانت حليفتها بني بكر على استباحة بني خزاعة أحلافِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان عليه أن يتدارك الأمر قبل استفحاله. وليس له إلا أن ينطلق إلى المدينة يرتق الخرق قبل اتساعه. وهكذا فعل.

2- مرت سنتان كاملتان على صلح الحديبية ، ظلت مكة فيهما تنمّي ثروتها وتهتم بتجارتها ليس غير. أما المسلمون فقد وثبوا وثبات جبارة في تقوية الدولة الإسلامية في المدينة وإثبات وجودها وزرع هيبتها ودعوتها في قلوب الجوار ، ففتح المسلمون ( خيبر) شمال المدينة في العام التالي لهدنة الحديبية ، وقضوا على قوة اليهود فيها ، ثم قطعوا الطريق عل قبيلة غطفان – الحليف القوي لمكة حول المدينة فاشتدّ ساعد المسلمين وهابتهم القبائل .

3- أثبت المسلمون في أول العام الثامن للهجرة قوتهم حين انطلق جيشهم الصغير عدداً ( ثلاثة آلاف ) القوي مبدأً وعقيدة وثباتاً إلى مؤتة في الأردن ليبسطوا هيبتهم في قلوب عرب الشام وإمبراطورية الروم . وقاتلوا جيش الروم وكان عدده مئة ألف – وشتان ما بين العددين - وعلى الرغم من استشهاد القادة الثلاثة في معركة مؤتة ، فقد انسحب الجيش المسلم بقيادة القائد الجديد خالد بن الوليد إلى قلب الجزيرة العربية بسلام مخلفاً في نفوس العرب هيبة وجلالاً ، وجعل الروم يحسبون حساب هذه القوة العربية الناشئة ، ويحذرون منها.

4- كان أبو سفيان يعلم تمام العلم أن أعداءه المسلمين تتنامى قوتهم ، وتتعاظم هيبتهم ، وقد يفجأون أهل مكة بما ليس في حسبانهم ، فما عليهم إلا أن يصلحوا خطأهم مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان إسراع زعيمهم واضحاً إلى المدينة يشد عرى الصلح ويزيد في المدة . هذا ما عقد الأمر عليه.

5- ولعل من السياسة أن يطرق الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أعين الرقباء ، فيلج إليه من ناحية الرَّحِم والنسب فيستعطف قلبه الرحيم ، فليدخل على ابنته رملة (أم حبيبة) – زوج النبي صلى الله عليه وسلم - يصل رَحمها ويطمئن عليها ، ولعلها ترقق قلب زوجها المصطفى فيصل أبو سفيان إلى غايته من أقرب الطرق. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها.

6- استقبلته ابنته استقبالاً يليق بأبيها واحتفت به ، فلما أن أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ومنعته أن يجلس عليه،وأشارت إلى مكان آخر يجلس عليه ، ورأى الوالد عمل ابنته هذا فلم يدرِ السببَ ،فسألها مستفسراً : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ‏؟‏ إن جوابها يقطع الظن باليقين ويبيّن مدى الفائدة من وساطتها، ولعل سرعة طيّها لفراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجلس أبوها عليه يرجّح أنه رغبت به عنه، وأن دخوله على ابنته لن يؤتيّ أكُلًه.

7- وشتان ما بين الإيمان والكفر والنهار والليل ، شتان ما بين سيد البشر رسول الله وزعيم كفار مكة – آنذاك- ولو كان أباها ، فلن تسمح لمشرك أياً كان أن يطأ طهارة فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالتها دون مماراة ولا مواربه ، قالت كلمة خلّدها الزمان وسارت بها الأيام عنواناً للمفاصلة بين الخير والشر . قالتها بلهجة المؤمن المطمئن بما يعتقد" بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحبَّ أن تجلسَ على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.

8- يُفاجأ الرجل بقوة جوابها لا بصدق عملها ، فهو يعلم أن حبها لزوجها ونبيها أكبر من حبها لأبيها بما لا يُقارن ، لكنه ما كان يتوقع أن يكون جوابها فيصلاً هكذا ولا جابهاً بهذا الوضوح وهذه القوة. فيقول متعجباً : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. هذا مبلغ علمه ، وأنّى لرجل ملك الكفرُ عليه – إذ ذاك – مساربَ الإيمان أن يفقه حقيقة الأمر ؟!

9- ثم يخرج من عندها وهو يعلم أن الأمر شاقٌّ وأن المهمّة صعبة ، فما رآه من ابنته التي ظن أنها قد تتوسط له عند زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قمينٌ أن يفهم منه ذلك ..

10- وينطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكلمه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقوله ، حتى إذا انتهى مما يريد لم يسمعْ من النبي صلى الله عليه وسلم إجابة ، بل كان السكوت أبلغَ ردّ وأنصعَه. وتصوّرْ معي دخول زعيم مكة على رسول الله ثم خروجه دون أن يكلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ،فكأنه لم يدخل ولم يخرج ، إنها إهانة ليس بعدها إهانه ، وجواب ليس أبلغَ منه جواب .

11- كان يكفيه هذا ، وعليه أن يُسرع إلى مكة يُعدّ العُدة لمواجهة الهجوم الذي يتوقعه من المسلمين، ويحصّن بلده من الهجوم المحتمل بل المؤكَّد. لكن أهل مكة مشغولون بأموالهم وتجارتهم، وما أشبه اليومَ بالأمس فأموال المسلمين وكنوزهم مشاع لغيرهم ، تؤخذ منهم دون أن يحركوا ساكناً ، ولا حرج أن يكون جيش الغرب أو الشرق بين ظهرانَيهم ما داموا يعيشون كما تعيش الأنعام.

12- المسلمون يد واحدة ورأي واحد في اتخاذ القرار : قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم : " نُصرت يا عمرو بن سالم" فهل يُجيرُ أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قد قال القائدُ قوله وحسم الأمر ، والمسلمون رهنُ امره وهو جنود مخلصون لنبيهم ودينهم ، لن يخترقهم أحد . هذا ما ينبغي أن يكون المسلمون عليه في كل زمان ومكان.

13- هذا ما فعله الصدّيق رضي الله عنه حين طلب إليه أبو سفيان أن يشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له: " ما أنا بفاعل" كلمتان لخّصتا موقف الصدّيق أبي بكر وعضّدتا موقف الحبيب صلى الله عليه وسلم. والاختصارُ دليل الحزم والقوة.

14- أما عمر فلم يكن أكثر صلابة من الصديق في ردّه إلا أنه أبان عن مكنون نفسه حين قال :" أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏" فوضّح هذا الاستفهامُ الإنكاري ما يعتمل في نفسه ثم صرّح بقسمه أنه سيجاهدهم بما يستطيع ولو كان قليلاً " فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به" رحم الله الشيخين أبا بكر وعمر ورضي عنهما (فنِعْمَ الوزيران هما) .

15- وكذلك كان علي رضي الله عنه، إن أبا سفيان حين جاءه ملتمساً شفاعته لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بقوة المؤمن بربه ونبيه " ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه" ولا أدري لماذا أبان أبو سفيان عن ضعفه حين ذكر الرحم والقرابة وتناسى أن قريشاً قاتلت المسلمين في السنوات الست الأولى من الهجرة قتالاً شرساً ينبئ عن كره شديد ومقت كبير للمسلمين ، ولكنّ الله تعالى يمهل ولا يُهمل ، وليفضحنّ أعداءه وليمكننّ للمسلمين ولو بعد حين.

16- وكان على أبي سفيان أن ينطلق إلى مكة خاليَ الوفاض، فلما استيئس تصرّف بما لا يليق بزعيم ولا رئيس حين دفعه يأسه أن يطلب من أم الصغير ( الحسن ) ولم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره ان يجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان جواب أمه فاطمة رضي الله عنها عينَ الجواب وغاية الفهم والنجابة.

17- كيف يجير بين الناس من يطلب الجيرة؟! ولا تُقبل الإجارة إلا حين يرضى الطرفان المتخاصمان جيرةَ المصلح بينهما ، وأبو سفيان رأس أحد الفريقين المتخاصمين ، فكيف يجير ، وعلام يُجير ، وممّ يجير؟! ولكنّ الغريق يتعلّق بقشة .. لقد قال له قومه : ويلك ‏!‏ والله إنْ زادَ الرجلُ على أنْ لعبَ بك ، فما يغني عنك ما

قلت....
ولقد سبق السيفُ العذلَ.

يتبع
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق4)/د. عثمان قدري مكانسي


فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها ، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال ‏:‏ أي بنية ‏:‏ أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ‏؟‏
قالت ‏:‏ نعم فتجهز ، قال ‏:‏ فأين ترينه يريد ‏؟‏ قالت ‏:‏ لا والله ما أدري ‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال:‏
اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ‏.‏ )
فتجهز الناسُ ‏.‏)

كتاب حاطب يحذر أهل مكة ‏:‏

فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم ‏.‏
ثم أعطاه امرأة من مزينة ، أوهي مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ‏.‏

الخبر من السماء بما فعل حاطب ‏:‏

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما ، فقال ‏:‏ أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها ليس بعيداً، فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً ‏.‏
فقال لها علي بن أبي طالب ‏:‏ إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا ، ولتُخرِجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجِدَّ منه ، قالت ‏:‏ أعرضْ فأعرضَ فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ‏.‏

فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، فقال ‏:‏ يا حاطبُ ما حملك على هذا ‏؟‏
فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرتً ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ‏.‏
فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضربْ عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ::: ((وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ‏.‏
فأنزل الله تعالى في حاطب:
{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ‏)‏............. } إلى قوله ‏:‏ ‏(‏
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده }‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏

إضاءة

1- يتجهز القائد قبل الجميع للحرب ، فيكون قدوة يأتسي به أتباعه ، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ، وهكذا يكون القائد الناجح ، لقد روى علي رضي الله عنه – وهو مَن هو في البطولة والشجاعة – أنه :"كنّا إذا حَمِي الوطيس واحمرّت الحِدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه". ويتجهز المسلمون كما أمرهم رسول الله دون أن يعرفوا وجهته ، وهذه الطاعة من أسباب النصر ودواعي الفوز والنجاح.

2- يتابع المسلم الاريبُ قائدَه ويراقبه أولاً بأول ويجهز نفسه لما يتوقعه ، فكأنه يقرأ ما في أفكاره ليعمل مثلما يعمل ، وقد رأينا في المقال السابق إجابة الصديق أبي بكر لأبي سفيان الذي طلب منه أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم في تجديد الهدنة فقال: " ما أنا بفاعل". وهنا نجده رضوان الله عليه يسأل ابنته الصديقة مستعلماً ، فتجيبه "أي نعم" وتريد من أبيها أن يتجهز قبل أن يأمر النبيُّ المسلمين بذلك. هذا ما يفعله الجندي اليقظ والمريد الأريب.

3- تظل أمور مهمة في نفس القائد لا ينبغي البوح بها لأقرب المقربين إليه حتى تكتمل الفكرة في رأسه وتختمر ، ولا أقرب من الصديق إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ، ويحس الصديق أن هناك شيئا يعتمل في ذهن قائده ويتجنب سؤاله المباشر عنه لكنّه يستجليه من طرف آخر قريب من صاحب القرار، أما صاحب القرار نفسه فقد حجب صريح الجهة عن أهل بيته ليطلقه في الوقت المناسب.

4- لا بد من توضيح الهدف ليكون الجميع على علم ودراية فيجهزوا أنفسهم لما يناسب . فرسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز نفسه ويأمر المسلمين بالجهاز الحثيث والتهيؤ الجادّ، ويخبرهم بالهدف( فتح مكة ) ليكونوا على استعداد. ولا شك أن من حضر لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بعمرو بن سالم التي استصرخ النبي لنصرة بني خزاعة وقوله ( نصرت يا عمرو بن سالم ) يجعلهم متأهبين لتوقع الأمر بين لحظة وأخرى والتهيؤ النفسي له.

5- لا بد من السِّرّيّة قدر الإمكان فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد الجهة المرادَ غزوُها إلا بعد ان تجهز المسلمون وخرج بهم شمال المدينة المنوّرة يعمّي عن المنافقين الجهة التي يريدها – وهي مكة جنوب المدينة- فلا ينبهونهم ،فيفجأ قريشاً في عقر دارها غافلة عما يُراد لها فلا تستعد الاستعداد المطلوب فيكون دخولها أسهل وخسائر الطرفين أقل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد فتحها، لاتدميرَها وقتلَ أهلها، فهم أهله أولاً وفيها بيت الله ثانياً ولعل الله يشرح صدورهم للإسلام ثالثاً فيكونوا من جنوده الأوفياء.

6- ويعلن القائد عن وجهته في جيشه بعيداً عن أعين الرقباء ثم يميل إلى الغرب قليلاً ثم إلى الجنوب قاصداً مكة. ثم يدعو الله تعالى أن تغفل قريش عن هذا المسير :
( اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ) .
إن السريّة من أسباب النصر ، وقد علمنا رسولنا هذا في قوله:
( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ) .

7- ولا بد أولاً بعد هذا أن نتوكل على الله وان نستعينه ونستنصره فالأمور كلها بيده سبحانه ، وهو ناصر عباده على عدوّه وعدوّهم . لا شك أنّ على المرء أن يستعد للمعركة بما استطاع وأن يجِدّ في ذلك :
{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل...} لكننا نضع نصب أعيننا قوله تعالى :
{ فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميت إذ رميتَ ولكنّ الله رمى..}
وما نحن إلا أداة ظاهرة تتحرك من ورائها قوة الله تعالى ليحقق ما يشاء . وما أروع قول القاضي الفاضل في نصر المسلمين في فتح بيت المقدس بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي" ينسب النصر لله تعالى: "الحمد لله الذي جعل نصره على أيدينا" .

8- خلق الإنسان ضعيفاً ، قد يتصرف بما يضر وهو يظن أنه يُحسن صنعاً ، إن الصحابي حاطب بن أبي بلتعة كان من أهل بدر، وحضر كثيراً من الغزوات ، وكان رسولَ رسولِ الله إلى مقوقس مصر في السنة السادسة للهجرة ، وأحسن في سفارته هذه ، لكنّ ضعف الإنسان ( والإنسان خطّاء) قاده حين علم أن رسول الله يقصد مكة إلى إخبارهم بهدف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ظاناً أنه يقدم يداً بيضاء إليهم يحفظونها له – وقد كانَ أحدَ مواليهم- دون أن يفشي سراً يقود إلى الخيانة ! . وخانه اجتهاده بأن الكافر لا يحفظ عهداً ولا ذمّة. والتاريخ على امتداده يضرب لنا أمثلة كثيرة في ذلك.

9- تصرّفٌ كهذا يتسحق صاحبه العقوبة الرادعة إن ثبتت خيانته، ويستحق عقوبة أخرى إن لم يكن يقصد الخيانة ، لكنّ ما فعله حاطب ليس بالأمر السهل، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن ارتأى قتله جزاء وفاقاً ، لكنْ للقائد الواعي الحاذق بنتائج ما حصل والعالم بسيرة المخطئ- حاطب- يُقدّر الأمر ويحلل دوافعه، ويعفو إن رأى العفو ممكناً. شرط أن يوضح سبب العفو ودافع الشفقة.

10- كثيراً ما ردد رسول الله بحق أهل بدر :
( لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال ‏:‏ اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم )‏.‏
إنهم كانوا مقدّمة المجاهدين في معركة الإسلام الأولى فلهم من التكريم ما يغطي على أخطائهم ، ولعل استعادة الكتاب من المرأة أنهى القصة من جذورها ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم رأى اعتراف الرجل بخطئه صادقاً فتجاوز عنه . فإذا قسنا أموراً مشابهة لهذا الخطأ فلا بأس أن يكون العفو سبيلنا إلى امتلاك قلوب الآخرين حين تسير الأمور على ما يرام .

11- أن تكون مع الله فقد أيقنتَ أن الله معك، وأنه سبحانه مؤيدك ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الأسباب ثم يتكل على رب الإسباب ويسأل الله أن يسدد خطاه ، والله تعالى مع عبده ييسر أمره ويعينُه في مهمّته ويفتح له مغاليق الأمور ويدفع عنه الضرر، وياخذ بيده إلى كل خير ، جبريلُ ينزل فيخبر رسول الله بأمر حاطب ،والمسلم حين يتقي الله يجعل له من أمره مخرجاً ويسدد خطاه ويحفظه من كل سوء.

12- عليٌّ رضي الله عنه مثال المسلم الواعي ينفذ المهمّة واثقاً بحكمة قائده وصدقه، يبحث عن الكتاب ، فلما لم يجده في أمتعتها – وقد جهد إذ دقق في البحث – يعلم أنها أخبأته في مكان حريز لا ينبغي للرجال ان يمسوه . فلما أيقنت أنّ عليها أن تظهره حين سمعت علياً يقسم بالله أن رسول الله لا يكذب وانه قد يتصرف بما لا تريد من كشفها أخرجت الكتاب من قرنيها.

13- للمرأة حرمتها في الإسلام وينبغي الحفاظ عليها ، وما نراه من انتهاك الأعراض وقتل النساء وقتل صغارهنّ في بلادنا الحبيبة المنكوبة انتقاماً من رجالهنّ الأحرار دليلٌ على الكفر وانحطاط الأخلاق وفساد الدين. قد يتناسى المرء قتل الرجال وسلب الأموال وهدم الممتلكات ، لكنّه لا ينسى الاعتداء على الأعراض ولا يتناسى حوادث الشرف والاغتصاب، إن الشرف أغلى من كل هذه الممتلكات وأغلى من الروح وأعزُّ من الحياة.

14- ولعلك ترى علياً والزبير رضي الله عنهما يتنحّيان حين تطلب المرأة الكافرة منهما أن يبتعدا – وهي شريفة- لتظهر ذوائبها بعديداً عن أنظارهما فيجيبان طلبها، وهذا يعني الحفاظ على حرمتها وكرامتها ، غير أن أزلام الطغيان في بلادنا يفعلون فعل الشياطين ويمتهنون كرامة الإنسانية كلها ويدوسون على طهر المسلمات وعفافهنّ ويتبجحون بذلك إمعاناً في الظلم والإرهاب وإظهاراً لفساد الطوية وسوء النية .

15- إنّ الآيات التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة تعلمنا دروساً واقعية، وتزرع فينا معاني تربوية رائدة ،منها:

1- لا يجوز اتخاذ العدوّ وليّاً وصاحباً.

2- لا لقاء بين الكفر والإيمان في الدارين جميعاً.

3- مودةُ الكافر ضلال.

4- إذا تمكن العدو وسيطر فسيبدأ بمن والاه قبل الآخرين.

يتبع
 
التعديل الأخير:
رد: فتح مكة/د. عثمان قدري مكانسي

جميل جدا بارك الله فيك
 
فتح مكة(ق5)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكُديد ، بين عسفان وأمج أفطر ‏.‏
ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، فتبعته قبيلتا سليم ، ومزينة ، وفي كل القبائل عدد وإسلام ، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد ‏.‏
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولايدرون ما هو فاعل ‏خرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة مسلماً مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.

إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبدالله بن أبي أمية ‏:‏

وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب (بين مكة والمدينة) ، فالتمسا الدخول عليه ، فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك ؛ قال ‏:‏:
لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمي فهتك عرضي ، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال ‏.‏
‏ فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان ولدٌ له ‏.‏ فقال ‏:‏ والله ليأذننَّ لي أو لأخذنَّ بيدي بُنيّ هذا ، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً ؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه ، فأسلما ‏.‏ ...

إضاءة:

1- لا بد من نائب للقائد يحل مكانه مؤقتاً إذا غاب في سفر أو حرب أو مرض يمنعه من أداء مهماته يقوم على خدمة الدولة الناشئة في غيابه ويحفظ فيها النظام. وقد يسمي القائد نائباً عاماً له ، كلما غاب القائد ناب عنه ، وقد يُختار لكل غياب نائب آخر، وهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله . فهو عليه الصلاة والسلام يريد أن يصنع القادة والرجال ويدربهم على أن يسوسوا الأمة .

2- ولم يكن من يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم من كبار الصحابة أو من المهاجرين حصراً أو من الأنصار ، فقد يكونون من عامة الصحابة المشهود لهم بالدين والأخلاق والنباهة وحسن التصرف ، وهذا أدعى إلى أن يشعر الصحابة جميعاً بوجوب تحمّل المسؤولية، والإحساس بالمساواة .

3- استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة رجلاً من بني غفار هو ( أبو رهم) كلثوم بن الحصين بن عتبة الغفاري . أسلم بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يشهد بدراً ، وشهد ( أحداً ) ورُميَ بسهم في نحره فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبصق فيه فبَرَأ، وكان يسمّى
( المنحور) وكان ممن بايع تحت الشجرة ، سكن المدينة واستعمله رسول الله عليها مرتين : الأولى في عمرة القضاء ، والثانية في فتح مكة .

4- خرج رسول الله من المدينة في العاشر من رمضان السنة الثامنة للهجرة ، وكان صائماً والمسلمون صيام معه ، ورمضان مدرسة الصوم وشهر الجهاد ، فيه كانت معركة بدر الكبرى وفيه غزوة تبوك ، وفتح مكة ، وفيه الكثير من حروب المسلمين كمعركة عين جالوت وغيرها ، ولم يكن شهر رمضان شهر الكسل والنوم كما اعتاده كثير ممن لا يفهمون الإسلام حق الفهم .

5- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة صائماً والمسلمون صائمون وساروا أيام، حتى وصلوا قريباً من مكة – خمسين كيلو متراً تقريباً - وشق على المسلمين الصيام ، وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر الذي رواه العسقلاني:
كُنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ زمانَ غزوةِ تبوكَ ، فمرَّ برجلٍ في ظِلِّ شجرةٍ يُرَشُّ الماءُ عليهِ ، فقال : ما بالُ هذا ؟ فقالوا : صائمٌ فقال : ليس من البِرِّ الصيامُ في السفر " ، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن الناس شق عليهم الصيام أفطر فافطر معه الناس ، وكان دعا بإناء ماء بعد العصر فشرب منه وشرب رجل على جانبه فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : أولئك العصاة أولئك العصاة " رواه مسلم والترمذي عن جابر.

6- وصل المسلمون مر الظهران (وادي فاطمة) قرب جبل يقال له الأصفر، على أميال يسيرة من مكة ، شرقي محطة أبي عروة وشمالي الجموم، وبجوار هذا الجبل كانت توجد عين ماء، وأخذ الله تعالى عنهم عيون قريش وهذا فضل من الله تعالى ، وقد أخذ المسلمون بأسباب التستر وعدم إفشاء هدفهم ، والأخذ بالأسباب من الواجبات في كل عمل يدل على النباهة والحزم والتخطيط .

7- بديل بن ورقاء الخزاعي ينتظر بفارغ الصبر مجيء المسلمين ويعلم أنهم قادمون خرج يتنسم أخبارهم ، أما أبو سفيان بن حرب فخرج خائفاً يترقب مجيئهم وشتان بين ترقب كل منهما فالأول راغب والثاني راهب ، والأول متفائل يُمنِّي نفسه بالثأر والقضاء على بؤرة الكفر الرئيسية والثاني متشائم لا يدري ما يفعل ، ولو كان يدري لأخذ معه سرية أو مجموعة من الجيش متأهبة أما حكيم بن حزام ، ابن أخت السيدة خديجة رضي الله عنها ، فقد كان بين بين ، ولعله أقرب نفساً وهدفاً إلى بديل بن ورقاء . وسوف نرى في المقال القادم جواب بديل الذكي الذي عمّى فيه على أبي سفيان حين رأى نار المسلمين الكثيفة .

8- من واجب المسلمين أن يؤازروا إخوانهم ويكونوا معهم في إيعابهم واستعدادهم ، فالحرب حربهم والقضية تهمهم فالمسلم أخو المسلم وهدفهما واحد ، وعلى هذا فإن المسلمين من القبائل عندما كان جيش المدينة بقيادة نبيهم يمرون عليهم ، كانوا ينضمون إليهم ، حتى أربى عدد المسلمين على عشرة آلاف مقاتل ، أما القاعدة الصلبة التي يعتمد عليها القائد دائماً فهي ممن يحيطون به وهم رهن أمره دائماً ( المهاجرين والأنصار ) الذين لم يتخلف منهم أحد.

9- لعل العباس عم رسول الله حين علم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكون من المهاجرين ، وكان مسلماً يخفي إسلامه ولا يُعدّ من هاجر إلى المدينة مهاجراً بعد فتح مكة . ولعل مكاتبات بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قادته إلى الجحفة – قرب رابغ وهي ميقات أهل الشام ، تبعد عن مكة شمالاً مئة وخمسين كيلومتراً ناحية البحر- فانطلق بعياله إلى رسول الله . لقد كان عم رسول الله قريباً إلى قلبه فقد آزره في دعوته في مكة وخفف عنه أذى المشركين .

10- قريباً من الجحفة – نيق العقاب - وصل أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أبو سفيان ابن عم رسول الله مماثلاً له في السن، وكان يحبه ويحب مجالسته - وكان اخاه في الرضاعة عند حليمة السعدية- ظل الامر كذلك حتى بُعث الرسولُ فتحول الحب إلى كره وهجاه في الشعر. ثم أنار الله بصيرة أبي سفيان وقلبه للإيمان، وخرج مع ولده جعفر إلى رسول الله -- تائباً لله رب العالمين، وأتى الرسول -- وابنه مُلثّمَين، فلما انتهيا إليه قالا: (السلام عليك يا رسول الله)...
فقال رسول الله: (أسْفِرا تُعْرفا)...
فانتسبا له وكشفا عن وجهيهما وقالا: (نشهد أن لا اله الا الله، وأنك رسول الله)...
فقال رسول الله --: ( أيَّ مَطْرَدٍ طردتني يا أبا سفيان، أو متى طردتني يا أبا سفيان )...
قال أبو سفيان بن الحارث: (لا تثريبَ يا رسول الله) – والتثريب :المعاتبة
قال رسول الله : ( لا تثريبَ يا أبا سفيان )...
وقال رسول الله -- لعلي بن أبي طالب: ( بصِّرْ ابن عمّك الوضوء والسنة ورُحْ به إليّ )...
فراح به إلى رسول الله -- فصلّى معه، فأمر رسول الله -- علي بن أبي طالب فنادى في الناس: (ألا إنّ الله ورسولَهُ قد رَضيا عن أبي سفيان - ابن الحارث- فارْضَوا عنه)...

11- أما عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فأمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله - وهو أخو أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها. عادى رسولَ الله، و نزل فيه وفي أضرابه:
{ وانطلق الملا منهم ان أمشوا وإصبروا على ألهتكم ان هذا لشئ يراد }
روى ابن هشام أنه قال للرسول" يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثم سألوك لأنفسهم أموالا ليعرفوا بها منزلتك من الله ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل... فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما... وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك"

12- لا أشد من الألم حين يعاديك القريب الذي ينبغي أن يكون عوناً لك ومؤازراً ، ألم يقل الشاعر القديم :
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهنّد​
عاداه هذا الرجلان أحدهما ابن عمه وثانيهما ابن عمته ، وكانا عوناً للكفار عليه صلى الله عليه وسلم ، فلما أحسا أن النبي قاب قوسين أو أدنى من مكة أرادا النجاة من العقاب – هذا إن أسأنا الظنّ – ولعلهما – إن أحسنّا الظنّ- دخل الإسلام قلبيهما ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وحسن الظنّ بالمسلم عامّة مقدّم، أما هذان الرجلان فقد كانت نهاية أحدهما سعيدة يتمناها كل مسلم . وهي الشهادة . وأما الثاني فقد نادى عليٌّ رضي الله عنه – بأمر النبي صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى ورسوله رضيا عنه ،

ونسأل الله ان يرضى عنا.

13- للمرأة دور في ترقيق قلوب الرجال على أرحامهم، فهذه أم سلمة رضي الله عنها تستعطف قلب النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمه وابن عمته ، وهما بالباب يلتمسان الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتذكر إساءاتهما فينفر قلبه ، فلْيسلما وليؤمنا بالله ربا وبالإسلام ديناً وبه صلى اللله عليه وسلم نبيا ورسولاً ، ولكنّه لا يريد أن يراهما للألم الذي تركاه في قلبه الشريف ، فيقول والألم يعتصر قلبه : ( لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمي فهتك عرضي ، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال ). فلما استعطفه ابن عمّه ، والرسول أرحم الرحماء
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }
رقّ قلبه الشريف فأدخلهما عليه وعفا عنهما .

14- أما أبو سفيان بن الحارث فسيكون له موقف رائع في حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما عبد الله بن المغيرة فقد أصابه سهم في الطائف فمات شهيداً ، وكتب الله تعالى له النهاية السعيدة في الدارين ، نسأل الله تعالى أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار . حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع . فيسبق عليه الكتاب . فيعمل بعمل أهل الجنة . فيدخلها ).

اللهم اجعلنا بفضلك ومنّك من أهل الجنّة.

يتبع

 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق6)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس

إسلام أبي سفيان بن حرب على يد العباس بن عبدالمطلب ‏:‏

( فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، قال العباس بن عبدالمطلب ‏: واصباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ‏.‏

‏ فجلس ( العباس ) على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجَ عليها حتى جاءَ الأراك (موضِعٌ قُربَ نَمِرَةَ وقيل هو مِنْ مواقِفِ عَرَفَةَ بعضُه من جهةِ الشّامِ وبعضُه من جهةِ اليَمَنِ) ، فقال ‏:‏ لعلِّي أجد بعض الحطّابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة ، فيخبرَهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ‏.‏

قال ‏:‏ فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ،‏ فيقول بديل ‏:‏ هذه والله خزاعة حمشتها الحربُ ‏.‏ فيقول أبو سفيان ‏:‏ خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ‏.‏
قال العباسُ ‏:‏ فعرفت صوته ، فقلت ‏:‏ يا أبا حنظلة ،
فعرف صوتي ، فقال ‏:‏ أبو الفضل ‏؟‏
قال ‏:‏ قلت ‏:‏ نعم ،
قال ‏:‏ ما لك ‏؟‏ فداك أبي وأمي ،
قال ‏:‏ قلت ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، واصباح قريش والله ، قال ‏:‏ فما الحيلة ‏؟‏ فداك أبي وأمي ،
قال ‏:‏ قلت ‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك ؛
قال ‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحبُه ‏.‏
قال ‏:‏ فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين ، قالوا ‏:‏ من هذا ‏؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها ، قالوا ‏:‏ عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته ‏.‏

حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ وقام إلي ؛ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ، قال ‏:‏ أبا سفيان عدو الله ‏!‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضْتُ البغلة ، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء ‏.‏ فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه ‏.‏

‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت برأسه ، فقلت ‏:‏ والله لا يناجيه الليلة دوني رجل ؛
فلما أكثر عمر في شأنه قلت ‏:‏ مهلاً يا عمر ، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ؛ فقال ‏:‏ مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامُك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحتَ فأتني به ؛
قال ‏:‏ فذهبت به إلى رحلي ، فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ‏؟‏
قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ والله قد ظننت أن لو كان مع الله إلهٌ غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ،
قال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟‏
قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏!‏ أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ‏.‏
فقال له العباس ‏:‏ ويحك ‏!‏ أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك ‏.‏ قال ‏:‏ فشهد شهادة الحق ، فأسلم ‏.‏
قال العباس ‏:‏ يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال ‏:‏ نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ،
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا عباس ، أحبسه بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها ‏.‏
فخرج به فحبسه بمضيق الوادي ، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحبسه
‏.‏
عرض الجيش على أبي سفيان ‏:‏

قال ‏:‏ ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال ‏:‏ يا عباس من هذه ‏؟‏
فأقول ‏:‏ سليم ، فيقول ‏:‏ ما لي ولسليم ،
ثم تمر القبيلة فيقول ‏:‏ يا عباس ، من هؤلاء ‏؟‏ فأقول ‏:‏ مزينة ، فيقول ‏:‏ ما لي ولمزينة ،
حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها ، فإذا أخبرته بهم ، قال ‏:‏ ما لي ولبني فلان ،
حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ‏.‏ وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها ‏.‏فيها المهاجرون والأنصار ، رضي الله عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال ‏:‏ سبحان الله ‏:‏ يا عباس من هؤلاء ‏؟‏
قال ‏:‏ قلت ‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال ‏:‏ ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، قال ‏:‏ قلت ‏:‏ يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال ‏:‏ فنعم إذن ‏.‏

إضاءة:

1- ما كان للعباس رضي الله تعالى عنه أن يخرج خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودون إذنه ومعرفته ، فقد أذن له الرسول بذلك فركب بغلته ، وانطلق يريد لقاء بعضٍ من أهل مكة يعلمون بخبر رسول الله وقد صار بينهم بجيشه وهم لا يدرون ، فيقبلون بالأمر الواقع فيأتون مستأمنين راغبين بالسلام ، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد لهم الهلاك وهو الرحيم ذو القلب العطوف .

2- عمّى رسول الله صلى الله عليهم أول الأمر قدومه كي لا يتجهزوا للقتال فهو - عليه الصلاة والسلام - يريد حقن الدماء والوصول إلى الهدف بأقل الخسائر من الطرفين ، كيف لا وهو القائل حين عرض عليه ملك الجبال ان يطبق عليهم الأخشبين : لا : اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

3- وما قول العباس " واصباح قريش " إلا تعبيراً عما يجول بخاطر المسلمين وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنهم يرغبون أن تفتح قريش سلماً يكون فيه للقرشيين – قوم النبيّ- العزة في الدخول في الإسلام طواعية وهذا شرف كبير لهم ، وأي شرف أعظم من أن تكون مسلماً تحفظ كرامتك وتكون من جنود الحق مدافعاً عنه داعياً إليه؟!.

4- يُعرف عدد الجيش في الليل من عدد النيران التي يوقدها ، ومن العادة أن توقد الجماعة من سبعة جنود إلى عشرة ناراً تُدفئها وتنير لها المكان وعدد المسلمين عشرة آلاف إذ ذاك ، فلا غرو أن يوقد الناس ألف نار أو أكثر بقليل ، بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلمين جميعاً أن يوقد كل ٌّ منهم ناراً ، وبهذا يلقي الرعب في قلوب الأعداء ، إذ يعتقدون أن عدد الجيش ينوف على حقيقته أضعافاً كثيرة . وهذه الحرب الإعلامية الناجحة إذ تخيف عدوك قبل أن تقاتله فيشل الخوفُ إرادته.

5- أمّا بُديل بن ورقاء،المسلم الذي يخفي حقيقة يعرفها فإنه – من بعيد وبحس المسلم الواعي – يوحي إلى أبي سفيان بن حرب أكثر من أمر يفتُّ بعزيمته :

أولها : أنّه يخفي معرفته بالقادمين ،
ثانيها : التعمية على الحقيقة فيتركها مبهمة تحيّر العدوّ .
ثالثها : الإيحاء إليه أنه ليس من الأعداء بل من الأصدقاء فيكون معه في إظهار تحرّي حقيقة الجيش ، بل يذكر خزاعة التي خمشتها الحرب فهي تريد الثأر .

كل هذه الأمور تجعل العدو في حالة يُرثى لها لا يدري ما يفعل .. والحقيقة أن قريشاً ضعفت وقادها بعد مقتل سادتها في بدر من لم يستطع ملء فراغهم – ابو سفيان بن حرب- فتراه ضعيفاً مشتتاً كما حدث في غزوة السويق وغزوة الخندق وتقصفه في المدينة حين أراد أن يرتق فتق بني بكر فكان ما كان من موقف ضعيف لا يُحسد عليه.

6- موقف الضعيف – أبي سفيان بن حرب- يظهر فور لقاء العباس به في الليل يعرض عليه أن يذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمنه ، وليس له غير ذلك ، فالجيش الجرار على مشارف مكة ، وأهلها لا يدرون ما يفعل بهم ، إنه موقف خطير يستدعي الإقرار بالواقع والعملَ بما يناسب . ولو أنه عاد إلى مكة لم يستطع أن يفعل شيئاً ولصبحهم الجيش يستبيحهم أويستأصل شأفتهم. هذا ما ينبغي أن يفعله القائد ليخفف من حجم الخسائر.

7- الحرب النفسية حين يحسن صاحبها استخدامها ينتصر قبل أن يبدأ معركته، فهذا العباس يصرخ في وجه أبي سفيان يخوفه من مصير مرعب :
"ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، واصباح قريش والله " ثلاث جمل فيها الوعيد والتخويف تجعل الضعيف يُبلس ،
فترى ردّ أبي سفيان الضارع السريع:" فما الحيلة ‏؟‏ فداك أبي وأمي " يسأله عما يمكن أن يفعل ، ويفديه بأبيه وأمه. فينثني عليه العباس مُخوّفاً أن يقتله رسولُ الله إن لم يبادر إليه فوراً " والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك" ولا يتركه يفكر بل يعرض عليه ان يحمله إلى رسول الله " فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولماذا يأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليُفاوضه؟ انتهى وقت المفاوضات. وما عاد ذاك الندَّ الذي يُفاوض ، إنه يبحث عن الأمان والسلامة بذلة وخضوع" فاستأمنه لك ". وهو الآن يبحث عن مخرج لنفسه وامان لها وحده . ما عاد منذ الآن يمثّل أحداً سوى نفسه.

8- والملاحظ أن دور بُديل بن ورقاء انتهى حين وصل العباس رضي الله عنه وبدأ حديثه مع أبي سفيان. فما كان بُديلٌ طرفاً إنما كان وسيلة جمعت العباس بأبي سفيان ، يقول العباس رضي الله عنه :" فركب أبو سفيان- خلفي ورجع صاحبُه ‏.‏ ولقد أبلى الجندي الخفيّ ( بُديل ابن ورقاء) دوره فأحسن أداءه .

9- من الحرب النفسية كذلك أن يرى العدو المنهزم قوة المسلمين فيذعن للأمر ويستكين ، وهذا ما كان حين مر به العباس على نيران المسلمين المتيقظين المستعدين للمعركة العارفين بهدفهم على عكس ما كان عليه أهل مكة المتخبطين لا يدرون ماالله صانع بهم.

10-الناس في استقبال الأمور نوعان :
الأول جندي يعلم أن عليه إطاعة الامر وتنفيذ المهمة ، لا يهتم بأكثر من هذا ، ونحن نرى المسلمين يمر عليهم العباس رضي الله عنه راكباً بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفسحون له الطريق غير عابئين بمن أردفه خلفه .
أما النوع الثاني ( القائد) فيمثله الفاروق - رضي الله عنه - إذ يرى أبا سفيان حين قدم المدينة يريد شد عقد الحديبية وزيادة المدة سياسياً معصوم الدم يمثل طرفاً ، أما الآن وهو خلف العباس ينشد الأمان لنفسه ، قد أصبح عاطلاً عن الحصانة مهدورَ الدم فلْينل منه ، فلطالما أثخن في المسلمين . ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه جزاءً وفاقاً .

11-إن المسلم حين يخالط الإيمان قلبه يرى أخاه في الإسلام أقرب إليه من أبيه وأمه غير المسلمين، أو يرى الصالح من إخوانه أفضل وأحق بالرعاية من أقربائه البعيدين عن آداب الإسلام هذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم ، وإنني لأقف موقف الحب والتعظيم أمام عملاق الإسلام عمر رضي الله عنه إذ يطلب العباس من رسول الله أن يبعد عمر عن أبي سفيان فلما ألح عمر على الاقتصاص منه نرى العباس يعاتب عمر : (مهلاً يا عمر ، فوالله أنْ لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف). أماعمر الذي تربى في مدرسة الإسلام ، فلم يكن ما قاله العباس فيه صحيحاً وتراه يرد على عم الرسول صلى الله عليه وسلم بأدب جم يدل على عميق إيمانه وتعظيم الرسول صلى الله عليه وآله : (مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامُك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم ‏.)‏

12- من أساليب التربية ( الإعراض ) قد يتساءل أحدنا : كيف يكون الإعراض أسلوباً تربوياً وهو إلى الإهمال أقرب؟! إن أبا سفيان لما جاء إلى المدينة والتقى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلمه النبي ولم يجبه ، فكان الإعراض أعظم جواب أوحى للطرف الثاني مراده دون أن يكلمه ، وهنا في هذه الليلة يتكلم العباس وعمر رضي الله عنهما في أمر أبي سفيان بحضوره وبمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأمر النبي عمه أن ينطلق بأبي سفيان دون أن يكلمه . وهذا يزرع الخوف في نفسه ويهيئه أن يتطامن وأن يتصاغر حين يلقاه في الصباح. وقد عُرف عن أبي سفيان تعاظمه وتكبره . إن مثل هذين الموقفين يحجّم من غلواء المستكبر ، ويجعله منكمشاً ، والتكبرُ على المتكبّر تواضع.

13- وأثمر هذا الأسلوب حين عاد العباس صباحاً بأبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " قال ‏:‏
ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ‏؟‏ قسَم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهادة إلى قسمين والاصل أن يًذكرا معاً لأنه الإسلام الخالص، ولكن ( التدرّج في الدعوة ) أدعى إلى القبول . لقد آن – والله- فقد مرّ على إباء أبي سفيان دعوةَ التوحيدَ قرابةُ واحد وعشرين عاماً رفضها وحاربها وصدّ عنها بكل ما أوتي من عنفوان وقوة. فيجيب جواب الحائر المتخوّف المنكسر " والله قد ظننت أن لو كان مع الله إلهٌ غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد" ثم يفجؤه الرسول صلى الله عليه وسلم بالقِسم الثاني من الشهادة
" ويحك يا أبا سفيان ‏!‏ ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟‏
إنّ ما كان يدفع أبا سفيان عن الإسلام الزعامةُ التي سيفقدها إن أقر بنبوّة محمد ، فيعلن عنها بأسلوب اللف والمماراة " أمّا هذه – والله- فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً ‏.‏ إذاً هي النفس الأمارة بالسوء التي تأبى ما لا يروق لها.

14- وهناك أسلوب تربوي آخر يلجأ إليه أبو سفيان يخفف بها غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حين يسبق جوابَه ذاك الاستعطافُ والاسترحام ( بأبي أنت وأمي .. ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏!‏) يذكر حلم النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وحسن صلته بأرحامه.. إن التقرب والاستعطاف والاسترحام يهدّئ النفوس ويستل السخيمة.

15- إن فرْضَ الإيمان في الإسلام غير مقبول ، إنّ أمر العباس أبا سفيان ان يُسلم قبل ان تُضرب عنقه غير وارد في أدبيات الإسلام ، لكنّه الموقف الذي يستدعي أن يكون مع غيره من المواقف ليثبت في روع أبي سفيان أن يحمل رسالة الاستسلام إلى قريش ، وهذا ما كان حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطّلع أبو سفيان على العرض العسكري المهيب فيهتز قلبه فرَقاً ويحمل الرسالة كاملة ، فقد حبسه العباس في خطْمِ الوادي ليرى جنود الله تترى وهو يقول : لقد أصبح ملك ابن اخيك عظيماً .والعباس يصحح له: (إنها النبوّة) حتى يُقِرّ بها. ويقول : نعم.

16- معرفة النفوس جيداً يساعد على كسبها ، هذا أبو سفيان يحب الفخر فلْيحظَ ببعضه دون ممالأة :
(من دخل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ ) ولا تتسع دارُه لقريش ربعِها ولا خمُسِها ، ولا عُشرِها ، "لكنه نادى بها أوّل ما نادى" ثم قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
وظل يذكرها ويفاخر بها وقادته إلى الجهاد في سبيل الله ،حتى إنه فقد إحدى عينيه في معركة اليرموك ، وكان وزيرَ إعلامها يقرأ سورة الأنفال فيها ويطوف بها بين المقاتلين. ..

يتبع​
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق7)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع

خاطب العباسُ أبا سفيانَ: النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبَل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ، فأخذت بشاربه ، فقالت ‏:‏ اقتلوا الحمّيت الدسم الأحمس ، قبُح من طليعة قوم. ‏
والحَمِّيت :الزق لا شعر عليه ( وتقصد أنه سمين )
والدسم : (القذر)
والأحمس: (الغليظ) .فهي تسبّه وتشتمه.
قال ‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قِبَل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ؛
قالوا ‏:‏ قاتلك الله ‏!‏ وما تغنى عنا دارك ؛
قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ،
فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ‏.‏

فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حَبَرةٍ حمراء ( والحَبَرَةُ نوعٌ من برود اليمن مُنَمَّر)، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ‏.‏، ( والعثنون شعرات لحيته الطويلة ).
لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنة من أصغر ولده - وقد كُفَّ بصره - ‏:‏ أي بنية ، اظهري بي على أبي قبيس (جبل في مكة) ؛ ‏
فأشرفت به عليه ، فقال ‏:‏ أي بنية ماذا ترين ‏؟‏
قالت ‏:‏ أرى سواداً مجتمعاً ،
قال ‏:‏ تلك الخيل ؛
قالت ‏:‏ وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك مقبلاً ومدبراً.
قال ‏:‏ أي بنية ، ذلك الوازع ، يعني ‏:‏ الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ؛ ثم قالت:‏ قد والله انتشر السواد ‏.‏
فقال ‏:‏ قد والله إذن دفعت الخيل ، فأسرعي بي إلى بيتي ،
فانحطّت به ، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته ، وكان في عنق الجارية طوق من ورِق ، فتلقاها رجل فاقتطعه من عنقها ‏.‏
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ودخل المسجد ، أتى أبو بكر بأبيه يقوده ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ‏ هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏
قال أبو بكر ‏:‏ يا رسول الله ، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت ؛ فأجلسه بين يديه ، ثم مسح صدره ، ثم قال له ‏:‏ أسلم ، فأسلم،‏ فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ‏ غيروا هذا من شعره ‏.‏
ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته ، وقال ‏:‏ أنشد الله والإسلام طوق أختي ، فلم يجبه أحد ؛ فقال :‏
أي أخيه ، احتسبي طوقك ، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل ‏.‏

إضاءة :

1- ما ترك العباسُ أبا سفيان إلا بعد أن داخل قلبَه الخوفُ والفزع مما رأى من عدد المسلمين وعُدّتهم ، وانقلب سفيراً للمسلمين – شاء أم أبى – يدفع عنهم خَطَرات المشركين في أن يستعدوا لهم ويقاتلوهم . ولئن انتظروا ما يأتيهم به من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إنهم لم يكونوا مستعدين كما ينبغي أن يفعلوا وهم يعلمون نقضَهم للعهد وغضبَ رسول الله المتوقّعَ . فكيف ينطلق أبو سفيان وحده يتقصّى الخبر ؟ وأين مجموعة الرصد التي كان عليها أن تجوب مساحات واسعةً ومسافات متقدمة تستطلع ما يفعله المسلمون وما خططوا له؟!. لقد تشتت أمرهم وتصدّعت قوتُهم.

2- وكأن العباس لقّن أبا سفيان ما ينبغي أن يفعله ( النجاء إلى قومك ) وعلم أبو سفيان قلة حيلته وحيلة قومه فلم ينطلق إلى دار الندوة يجمعهم ويطلعهم على خارطة الموقف ، إنما كانوا ينتظرون رسول الله مستسلمين لما قد يكون ، كما أنّ بعضهم كان ينتظر وصول أبي سفيان في داره. وهذا ينبئ عن ضعفهم الشديد الذي وصلوا إليه ، فلما التقاهم صاح بأعلى صوته ‏:‏ "يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به." وهل يفعل هذا إلا من أيقن بهزيمته ابتداءً ، فقد ساغ هذه الحقيقة حين التقى رسول الله وعاين قوة المسلمين ، فنطق الكلمة التي أعلن فيها الاستسلام ، فضعضع من كان يفكر في قتال المسلمين.

3- وكان قوله ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) يعني أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاين الموقف وذَلّ له فنال الأمان . وإذا كان رأس قريش الذي قاد الحروب ضد المسلمين وشحن نفوس القوم وجمع الجموع في السنوات الماضية لحربهم يعلن من بيته الموقف الواضح ، فما على القوم إلا أن يتابعوه وإلا فالهزيمة النكراء مصيرهم . اختصر النبأ بهاتين الجملتين القصيرتين اللتين تنبئان عن حقيقة الموقف .

4- إنه أمن على نفسه فما بال أهل مكة وما يصنعون؟! ندّت عن زوجه كلمات قالتها منفعلة مما نطق، فسفّهته في هذا الموقف العصيب - ولمن تتسع داره ؟!- أهذا ما جاء به وهو الزعيم دون منازع؟! أين اهتمامه بقومه ؟ وكيف يرضى النجاء بنفسه ؟ قالوها بلسانها وإن لم ينطقوها بأفواههم . إنها تشتمه وتحرّض عليه ، وتعنفه ولا أدل على ذلك من إهانته امام القوم حين أخذت بشاربه . ولعل أحدهم في هذه اللحظة الحَيرى يثب عليه فيقتله ، فقد غدر بهم ... إنها لحظات رهيبة يفقد فيها المرء توازنه ويُبلس. وقد يتصرف برعونة ولا يدري ما يفعل.

5- في زحمة هذه الأفكار التي أحاطت الجمع الغفير أمام بيته ، يُنبّههم أبو سفيان أن يتداركوا أمورهم ويتصرفوا بحكمة فلا يصدر عنهم أفعال لا يُحمد عقباها ، ويكرر مقولته الأولى التي لم ينطق بغيرها حتى هذه اللحظة :
( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
إذ ذاك يشتمونه مستنكرين ( قاتلك الله ‏!‏ وما تُغنى عنا دارك )؟
وهنا حين يستيقن أنهم تابعوه فيما يحفظ حياتهم وأموالهم يفتح لهم سبل النجاة : ( ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن) .
وينطلق الناس إلى دورهم . ومن كانت داره بعيدة لجأ إلى البيت الحرام يطلب فيه الأمان والنجاة.

6- وفي ( ذي طوى) أقرب أودية مكة إليها وعلى تخومها يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته ويحني ظهره تواضعاً لله، إقراراً بفضل الله سبحانه. فالنصر من عند الله ، وما ينبغي لذي لب أن ينسب الفضل لغير الله سبحانه. وما يتعالى في مثل هذا الموقف إلا أهل الهوى والغافلون عن الحقيقة الذين لا يرون إلا ذواتهم ، المتكبرون في أنفسهم .. يقرأ سيد القادة قوله تعالى :
{ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديَك صراطاً مستقيماً * وينصرك الله نصراً عزيزاً } .

7- من رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعلم حُسن الأدب فهذا الصدّيق أبو يكر رضي الله تعالى عنه يأتي بأبيه الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض إسلامه فيقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه ، ويقول مشفقاً على الشيخ العجوز متحبباً إلى صاحبه ورفيق دربه: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏" " أدب راق ونفس متواضعة وخلق رائع.

8- والصدّيق صاحب الحبيب وتلميذه النابه وسيد الصحابة وخليفته من بعده يجيب بأدب جمّ ، فيه حبٌّ ولطف، وفيه درسٌ بليغ للمسلمين يوضح مكانة النبيّ في نفوس أصحابه " هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت " صلى عليك الله يا سيدي ، ورضي الله عن أبي بكر الصدّيق العظيم.

9- ما يزال الرجل الاول في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه يمدحه المصطفى قائلاً " إنَّ أبا بكرٍ خيرُ من طلَعَت عليهِ الشَّمسُ وغرُبَت " - رواه أبو الدرداء- يعلمنا البر بالوالدين ، فمن برّه حرصه على إسلامه ليكون من أهل الرضوان والجنة .

10- كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجّه الناس إلى التجمل والظهور بمظهر حسن إذ يرى شعر والد الصدّيق أبي بكر أبيض يابساً فينبه إلى تغيير لونه بما يناسب سنّه ، ، ولابأس أن يصبغ الشابُّ والقريب من الشباب شعره بالسواد ، ويتجنب العجوز اللون الأسود " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " .

11- ليس كل المسلمين ذلك الرجل المؤمن الواعي الملتزم بالأخلاق ، منهم التقي ومنهم دون ذلك . أكانَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم كان في هذا الزمن فالإسلام نبتة تُبذر في القلب وتُسقى من نبع الإيمان الصافي ، فمن اعتنى بهذه النبتة بسقت شجرةً وارفة الظلال ، ومن أهملها اعوجّت وضعفت ، ولربما سقطت أوراقها وهزلت غصونها.

12- وعلى هذا نجد بعض المسلمين يخالفون هدي النبي وأوامره في عدم التعرض للمسالمين من أهل مكة ، فيمد أحدهم – وهو على فرسه- يده إلى إحداهنّ فيقتطع من عنقها حُليَّها وحين يُطالب أهل الحق برد ما سُلب يتغافل السارق ، ونسمع قول الصدّيق متألماً " فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل "

فماذا نقول اليوم وقد طمّ الأمر واستفحل الخطبُ حتى إن الدماء لتُسفك والقتل يستَحِرّ والنهب يعُمّ وانتهاك الحُرُمات ينتشر والمفاسد تستعِرُ؟ ماذا نقول أيها الصدّيقُ ، والظالم في بلاد المسلمين يفعل الأفاعيل قتلاً ونهباً وتدميراً وتشريداً تحت مرأى المتشدقين بحقوق الإنسان وسمعهم دون أن يحرّكوا ساكناً .؟

اللهم إليك المشتكى يا ناصر المستضعفين ويا أمان الخائفين ..

يتبع​
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق8)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن

حين فرق الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه من ذي طوى ، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى ، وكان الزبير على المجنبة اليسرى ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء ‏.‏

ذكر بعض أهل العلم أن سعد بن عبادة حين توجه داخلاً ، قال ‏:‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ؛ فسمعها عمر بن الخطاب - فقال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ اسمع ما قال سعد بن عبادة ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ‏:‏ أدركه ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها ‏.‏
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، فدخل من الليط ، أسفل مكة في بعض الناس ، وكان خالد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب ‏.‏
وضرب أبو عبيدة بن الجراح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بأعلى مكة .

وجمع المشركون وعلى رأسهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ناساً بالخندمة ليقاتلوا ، وقد كان حماسُ بن قيس بن خالد ، أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصلح منه ؛ قالت له امرأته ‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏
قال ‏:‏ لمحمد وأصحابه ؛
قالت ‏:‏ والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء ؛
قال ‏:‏ والله إني لأرجو أن أُخدِمك بعضهم ، ثم قال ‏:‏
إن يقبلوا اليوم فما لي علة *
هذا سلاح كامل وألّه *
وذو غرارين سريع السلة *
ثم شهد الخندمةَ مع صفوان وسهيل وعكرمة ؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ، ناوشوهم شيئاً من قتال ، وقُتل رجلان من جند خالد ،شذا عنه فسلكا طريقاً غير طريقه ، ،وأصيب رجل من جند خالد في اشتباك مع المشركين

وأصيب من المشركين ناس قريب من أثني عشر رجلاً ، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ، ثم قال لامرأته ‏:‏ أغلقي علي بابي ؛
قالت ‏:‏ فأين ما كنت تقول ‏؟‏ فقال ‏:‏
إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوانٌ وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم كالموتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة
يقطعن كل ساعد وجمجمة * ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة
لهم نَهيتٌ خلفنا وهمهمة * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة ‏.‏​

وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة و حنين والطائف ، من المهاجرين ‏:‏ يا بني عبدالرحمن ، وشعار الخزرج ‏:‏ يا بني عبدالله ، وشعار الأوس ‏:‏ يا بني عبيد الله ‏.‏

أسماءُ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ‏:‏

‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة ، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عبدالله بن سعد ، أخو بني عامر بن لؤي ‏.‏
وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قد كان أسلم ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش ، ففر إلى عثمان بن عفان ، وكان أخاه للرضاعة ، فغيّبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة ‏.‏ فاستأمن له فصمت طويلاً ، ثم قال ‏:‏ نعم ، فلما انصرف عنه عثمان ، قال رسول الله ‏:‏ لمن حوله من أصحابه ‏:‏ لقد صمَتُّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ‏.‏
فقال رجل من الأنصار ‏:‏ فهلا أومأت إلي يا رسول الله ‏؟‏
قال ‏:‏ إن النبي لا يقتل بالإشارة ‏.‏
‏ ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر ‏.‏

وأمر رسول الله بقتل عبدالله بن خطل وهو رجل من بني تيم بن غالب، كان مسلماً ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلماً ، فنزل منزلاً ، وأمر المولى أن يذبح له تيساً ، فيصنع له طعاماً ، فنام ، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ‏.‏ وقتله سعيد بن حريث المحزومي وابو برزة الأسلميّ
وكان لابن خطل هذا قينتان ‏:‏ فرتنى وصاحبتها ، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه ‏.‏ وقتلت إحدى القينتين وهربت الأخرى ثم استأمنت رسول الله فامّنها .

وكان العباس بن عبدالمطلب حمل فاطمة وأم كلثوم ، ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمى بهما إلى الأرض ‏، فقتله علي بن أبي طالب.
أما مقيس بن حبابة ‏:‏ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ ، ورجوعه إلى قريش مشركاً ‏،فقتله نميلة بن عبد الله – رجل من قومه.

وسارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب كانت تؤذيه بمكة، فهربت، فاستؤمن لها فأمنها ، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً في زمن عمر ابن الخطاب بالأبطح فقتلها ‏.‏

وأمر بقتل عكرمة بن أبي جهل ‏.‏ فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمنه ، فخرجت في طلبه إلى اليمن ، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ‏.‏

قالت أم هانئ: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، فر إلي رجلان من أحمائي ، من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي ‏.‏ قالت ‏:‏ فدخل علي علي بن أبي طالب أخي ، فقال ‏:‏ والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي ‏.‏
فقال ‏:‏ مرحباً وأهلاً يا أم هانئ ، ما جاء بك ‏؟‏
فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي ؛
فقال ‏:‏ قد أجرنا من أجرت ، وأمّنا من أمّنت ، فلا يقتلهما ‏.‏ وهما الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة ‏.‏

إضاءة:

1- ( ذو طُوى قرب مكة ) يعرف الآن بالزاهر، يُروى ان آدم عليه السلام كان إذا أتى البيت خلع نعليه بذى طوى ( والطوى بئر بأعلاها) حفرها عبد شمس بن عبد مناف- ذكره الزَّبيدي في تاج العروس. أما كَداء –كسماء- فاسم لعرفات ) وقيلَ ( جبل بأعلى مكة ) وهى الثنية التى عند المقبرة وتسمى تلك الناحية (المعلاة ) عند ذي طوى قرب شعب الشافعيين ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه ) وأما كُدَى فجبلٌ باسفلها ) (وأما الليط فأقرب مكان إلى بيوتات مكة )

2- لا بد من ترتيب الجيش قبل البدء بالحملة العسكرية من تعيين القادة وتوزيع المقاتلين على منافذ المدينة والإحاطة بها وتحديد المنافذ التي تدخلها السرايا، وتحديد مسؤوية كل منها.فكان للزبير مدخل كدي، ولسعد بن عبادة كَداء ،ولخالد الليطُ .وهكذا .وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، ومكة بلدة محرّمة لم يحل القتال فيها إلا ساعةَ دخلها النبي صلى الله عليه وسلم.

3- حين يخطئ أحد القادة فينِدّ عنه جنوح إلى القتال من غير ما سبب يُنبَّه أو تؤول القيادة إلى غيره على الرغم من مكانته – فسعد بن عبادة سيد الخزرج من الأنصار ، ولا بدّ من التزام أمر القائد العام وتنفيذ الخطة ، ويبقى سعد ذا مكانة ووجاهة، وحين تنزع منه القيادة المؤقتة لصالح الخطة يلتزم السمع والطاعة للقائد الأعلى ، هكذا يكون المسلم .

4- المستشار مؤتمن يعرض الصورة كما هي ويقترح الحل للأمر الطارئ أو ويوضح آثار الجنوح المدمّر، فحين سمع عمر رضي الله تعالى عنه قالة سعد بن عبادة حين توجه داخلاً :‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة - قال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ اسمعْ ما قال سعدُ بن عبادة ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة . وترى عمر ينبه رسول الله بأدب الجندي المحب لقائده ويقترح تعريضاً وتلميحاً - لمكانة الرسول العظيمة .

5- وسرعان ما يستجيب القائد لمشورة صاحبه إذ يأمر احد قادته المقربين – عليّاً رضي الله تعالى عنه أن يستلم من سعد القيادة ، ونلحظ أمراً مهماً في فنّ القيادة ، فالقائد الفذّ يهيء قيادات بديلة جاهزة تسد الخلل المفاجئ ، وينبغي أن يظل هؤلاء حول القائد العام جاهزين ينتظرون أمره. ولاحظ معي صيغة التكليف النبوي " ( أدركه ، ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها ) فالقائد الثاني يسد الخلل ويصوّب الأمر حتى إذا عادت الأمور إلى نصابها وصلُح الخطأ عادت القيادة إلى الأول ومارس مهمته التي انتدب لها.

6- يختار القائد العام مكاناً مشرفاً على المعركة ليتابع مهمته بوضوح ، لقد ضرب أبو عبيدة ابن الجراح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قُبة بأعلى مكة نسميها ( غرفة العمليّات ) يحرك منها جيشه فيصدر أوامره ويتلقى المعلومات وتكون بيده مفاصل الحركة كلها .

7- إن تعمية خبر جيش المسلمين خفّف من استعداد قريش له ، واستسلامَ زعيمها فرّق كلمة المشركين .فمنهم من دخل بيته ومنهم من دخل المسجد الحرام ، وقلّة منهم عقدت عزمها حتى اللحظة الأخيرة ان تدافع في فلول متقطعة عن نفسها ،ولا يُقدّم عملها هذا في النتيجة ولا يؤخر. ولا بد من التحسب لهذا الأمر كي تنتهي عملية الفتح بأقل الخسائر .

8- إن التزام الجنود بالتعليمات والأوامر يحافظ عليهم ، لكننا نجد في أكثر الجيوش التزاماً بعضَ الهَناتِ والأخطاء تعود على مرتكبيها بالخسارة أولاً وعلى هذا وجدنا أن رجلين من سرية خالد شذا عنه فاصطادتهما فلول قريش قبل أن يقضي عليها خالد ، ولعل سوء تقدير الأمور وعدم الانضباط لدى أمثال هذين في كل زمان ومكان يوقع صاحبه في شر أعماله ، وقد يُقال : إن قدرهما ساقهما إلى ما فعلاه ،فنحن نذكر بما ينبغي ان نفعل وما يمكن أن يكون، وما قدّره الله سبحانه كائن لا محالة.

9- وإذا تغاضينا عما فعله صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل فإنهم خافوا على أنفسهم أن يؤسروا فيُقتلوا ، وآثروا أن يُقتلوا في معركة خير لهم وأكرم! وغاب عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الحلماء الرحيم بالناس يعفو عن شانئيه إذا آبوا إلى الحق ولا يغضب لنفسه ،وشعارُه : ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) إذا تغاضينا عما فعلوه علمنا أن السرّيّة في التحرك والتخطيط آتت أكُلَها.

10- ولعل امرأة حماس بن قيس بن خالد من بني بكر الذين كانوا سبب إنهاء صلح الحديبية حين قتلوا بعض خزاعة كانت أعقل من زوجها حين ارادت ثنيه عن التعرض للمسلمين فكان جوابه بعيداً عن الواقع وبعيداً عن الصواب فأعلن في لحظة اندفاع أنه سيُخدِمها بعض المسلمين ثم اندفع هارباً يعلل هربه . وكان أولى به أن يتصرف بحكمة وتعقّل ، إلا أن سوء التصرف وسرعة الحمية توقع صاحبها ومن معه في مآزق هو في غنى عنها.

11- إن التزام كل مجموعة من المسلمين بشعار يرددونه في معركتهم يُعرّف بعضَهم بعضاً إذا التقوا في غبار المعركة خشية أن يقتل أحدهم أخاه ، ويدفع إلى التمايز وبذل أقصى العطاء ، ويدفعهم إلى التعاون على عدوهم حين يلتقونه ..

12- بعض المشركين استنفدوا فرص العفو والنجاة ، بعضهم كان مسلماً فارتدّ ،وبعضهم أفحش في عداوة المسلمين وكان بوقاً ينثر الشتائم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويؤلب المشركين عليهم ، ومنهم من اشتد في الإيذاء فقتل بعض المسلمين .فليس لهؤلاء عفو لمثابرتهم حتى اللحظة الأخيرة على مواقفهم المشينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم ( وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ) وهذا حكم قطعيّ ليعلم هؤلاء أن من يسيء إلى المسلمين لا رحمة بحقه ولا هوادة فقد حكم على نفسه بالقصاص العادل قبل أن يُحكم عليه.

13- بعض هؤلاء قتل قصاصاً ، وبعضهم الآخر استأمن وتاب وهو في مكة فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذلّ وخضع ، وقسم ثالث هرب ونجا من القصاص الدنيويّ إلا أنه اعلن الرغبة في العودة والتوبة إلى الله فقبل رسول الله توبته، فكان عفوه صلى الله عليه وسلم عنه درساً لنا في الصفح والمغفرة وفي النظرة البعيدة والفهم الصحيح الصافي . إن من هؤلاء من قاتل في سبيل الله وذهب شهيداً ، وبعضهم حسُن إسلامُه وكان داعية إلى الله وثبّت الله على يديه جماعة المسلمين أن يرتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

14- ما فعلته أم هانئ في إجارة بعض أحمائها دليل على انّ للمرأة في الإسلام مكانة وكرامة وأنها جزء من المجتمع ينبغي أن يكون له الدور الإيجابي ، لم تكن المرأة متاعاً وحسب بل كانت الأم والأخت والبنت والزوجة ، إنها نصف المجتمع الجميل وشطره اللطيف .

15- إننا نرى الحياة البسيطة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد فتحها ، لم يستولِ على أفخم بيوتها ليكون مقر إقامته ، ولم يعد إلى أحد بيوتاته التي باعها ابن عمه عقيل بن أبي طالب فلم تعد له ، ولم يقل إن عقيلاً سلبها دون حق فأنا أستردها وعلى عقيل أن يعيد لمن اشتراها منه ثمنها ، لقد قال : ما ترك لنا عقيل بيتاً .

16- يغتسل خارج خيمته بجفنة قديمة فيها أثر العجين ، تستره ابنته فاطمة رضي الله عنها ، فليس مِن إماء يخدمنه! ويصلي فبعد الاغتسال يُستحب الصلاة ، ثم يُقبل على قاصده يستقبله ويقضي حاجته .. إنه خير أسوة ، صلى الله عليه وسلم.

يتبع
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق9)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم التاسع

لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعاً على راحلته ، يستلم الركن بمحجم في يده ؛ فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكَفَّ ( اجتمع) له الناسُ في المسجد ‏،
فقال: ‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ، ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها ‏.‏
يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب
، ثم تلا هذه الآية: ‏{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏)‏.‏‏.‏‏.‏ } الآية كلها ‏.‏
ثم قال ‏:‏ يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم ‏؟‏
قالوا ‏:‏ خيراً أخ كريم ، وابن أخ كريم ،
قال ‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء ‏.‏

إقرار أمر السدانة لعثمان بن طلحة ‏:‏
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أين عثمان بن طلحة ‏؟‏ فدعي له ، فقال ‏:‏ هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ‏.‏
طمسه صلى الله عليه وسلم ما كان في الكعبة من الصور ‏:‏
لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت يوم الفتح ، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال: ‏ قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ما شأن إبراهيم والأزلام ‏!‏{‏( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }‏)‏ ‏.‏ ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست ‏.‏

إسلام عتاب والحارث بن هشام وسببه ‏:‏
دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد ‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه ‏.‏ فقال الحارث بن هشام ‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته ، فقال أبو سفيان ‏:‏ لا أقول شيئاً ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى ، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ قد علمت الذي قلتم ، ثم ذكر ذلك لهم ؛ فقال الحارث وعتاب ‏:‏ نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول أخبرك ‏.‏

إضاءة:

1- المسجد للمسلم رَوح وريحان ، وأمن وأمان، ، بيت الله يؤمه المسلمون خمس مرات في اليوم ويقفون بين يديه سبحانه يصلون مجتمعين يرجون ثوابه ويخافون عقابه يسألونه الهدى والتقى والعفاف والغنى، فالمسجد عنوان وحدة المسلمين، ودليل التزامهم بهذا الدين العظيم والصلاة ثاني أركان الإسلام وإذا قُبلت قُبل ما بعدها.

2- كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد إلى المدينة من غزوة أو سرية أو دعوة يمّم وجهه نحو مسجده فصلى فيه ركعتين قبل أن ينطلق إلى أبياته ، ومن سنن الحجّ أن يقف الحاجّ في مسجد حيّه - حين يعود من حجه- يستقبل مهنّئيه بالحج ويدعو لهم فدعاؤه قبل دخوله بيته مقبول ، فإن دخل بيته كان كبقية الناس.

3- تحية المسجد أن تصلي فيه ركعتين إلا المسجد الحرام فتحيّته الطواف حول الكعبة سبعة أشواط ، وهذا ما فعله الحبيب المصطفى لما اطمأنّ الناس ودخلت مكة في دين الله وأسلم أهلها أمرَهم لله ورسوله.

4- كانت سدانة البيت في الجاهلية لبني شيبة فلما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة وأخذ منه المفتاح ، فرغب فيها علي بن ابي طالب وسأل رسول الله أن يجمعها لبني هاشم مع السقاية التي كانت لهم لكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل الكعبة وصلى داخلها ركعتين وخرج للناس أعاد المفتاح لآل شيبة ممثلين بكبيرهم عثمان ابن طلحة وأعلن أن هذا اليوم الأغرّ يوم خير وبركة وبِرٍّ ووفاء. وهو – صلى الله عليه وسلم يعلّمنا أن الحاكم لا ينبغي له أن يستأثر بالمفاخر ولا ينسب لنفسه وآله المكارم كلها – وهو سيد البشر وقمة المكارم - كما يعلمنا صلى الله عليه وسلم كيف نتألّف القلوب ونكسب ود الأعداء والأصدقاء على حد سواء بوضع الأمور في نصابها والحفاظ على مكانة الآخرين وشرفهم.

5- روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ المصوِّرونَ ) فهم يضاهئون فعل الله تعالى ويُقال لهم " أحيوا ما خلقتم" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ رأى حمامة من عيدان في البيت كسرها بيده ثم رماها، ثم أمر بطمس الصور ،فالمساجد لله تعالى وحده . وترى كثيراً من المسلمين يترخّصون بوضع التماثيل في بيوتهم يقلدون غيرهم عن جهل وبُعد عن فهم الدين والتزامه .

6- اجتمع الناس أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون ما يقرر في أمر مكة وأهلها الذين ناصبوه العداء ثلاثة عشر عاماً وهو فيهم، وثمانية أعوام وهو مهاجر إلى المدينة ،ما فتئوا يكيدون له ويمكرون به ويحاربونه ويحاولون وأد هذا الدين العظيم { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } لكنّ الداعية يغفر ويعفو ، ويسامح وينسى أذاهم ، إنه حين يظفر بهم يحمد الله تعالى أنْ مكّنه منهم ليهديهم به إلى الطريق المستقيم والنور القويم ، ومثاله الساطع قول الله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }.

7- قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تظنون أني فاعل بكم؟" وماذا يفعل الكريم إذْ ظفر بأعدائه فذلوا له وأذعنوا ؟ إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، لكنه الجحود والاستكبار منعهم من الإيمان به .. والآن يقرون بفضله وكرمه ونبل أخلاقه: ( أخ كريم وابن أخ كريم ) أفيعاقبهم ويقتص منهم ؟! كلا إنهم يعطيهم أبلغ درس في الغفران والعفو ( اذهبوا فأنتم الطلقاء العُتقاء ) فتسري في مكة الفرحةُ العارمة بين الناس ويُقبلون على دين الله أفواجاً.

8- أما النصر فإنه من الله { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } ورسول الله أول من يُقرُّ بهذا فيصدح على سمع البرية كلها بتعظيم الله وردّ الفضل له سبحانه" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده" فهو الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد، لا شريك له ولا ولد ، صدق اللهُ رسولَه إذ وعده بالنصر فحققه وكان له الفضل أولاً وآخراً، وما المسلمون وهم يقاتلون إلا أداة لإحراز النصر الإلهي : { فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى } فلا ينسبَنّ أحد الفضل لنفسه ، كلُّ شيء بأمر الله تعالى والسعيد من عرف هذا وعمل له وسلّم أمره لمولاه..

9- ويقِرّ الحبيب الرسول جملة من التشريعات المناسبة ويغرس فسائل الحق والخير لتكون في قابل الأيام أشجاراً باسقة وظلالاً وارفة للمجتمعات الإسلامية على مر الدهور وكرّ العصور.

أ‌- ـ فلا تسابق بين المسلمين إلا بالعمل الصالح.
ب‌- ـ الناس سواسية ، لا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى. يدخل الرسول الكعبة ومعه بلال بن رباح رضي الله عنه – وما أدراك ما بلال- ثم يرتقي بلال ظهر الكعبة ويصدح بالأذان فتنتشي بطاح مكة وبيوتاتها وجبالها بصوته العذب يرطّبُ أنداءَها ويعلن راية التوحيد فيها.
ت‌- ـ ما تعارف عليه الناس في الجاهلية موضوع إلا ما جمعهم على الخير ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).فألغى ما خالف الشرع وثبّتَ ما وافقه.

10- تأييد الله لرسوله واضح في سيرته ودعوته صلى الله عليه وسلم ، إن الله تعالى يؤيد الدعاة ما أخلصوا وكان عملهم لله وحده، وقصة عتاب بن أُسيد والحارث بن هشام وسفيان بن حرب مثال واضح على ذلك ، فأولهم مشرك لم يدخل الإيمان قلبه ، وثانيهم يبحث عن الحق ولمّا يصلْ إليه ، وثالثهم أسلم وكان إسلامه إذ ذاك رقيقاً . ويخبر جبريلُ عليه السلام رسولَ الله بما جرى بينهم من حديث ، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّثهم بما قالوا دون تقريع ولا تانيب، لكنه مسَّ شَغاف قلوبهم ، فيزداد الثالثُ إيماناً، ويُسلم الآخران ويحسن إسلامهما .

يتبع
 
التعديل الأخير:
فتح مكة(ق10)/د. عثمان قدري مكانسي

فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم العاشر

تخوف الأنصار من بقاء الرسول بمكة ‏:‏
حين فتح النبي صلى الله عليه وسلم حين مكة ودخلها ، قام على الصفا يدعو الله ، وقد أحدقت به الأنصار ، فقالوا فيما بينهم ‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ‏؟‏
فلما فرغ من دعائه قال ‏:‏ ماذا قلتم ‏؟‏
قالوا ‏:‏ لا شيء يا رسول الله ؛ فلما يزل بهم حتى أخبروه ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ معاذ الله ‏!‏ المحيا محياكم ، والممات مماتكم ‏.‏

كسر الأصنام ‏:‏
حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، جعل النبي صلى الله عيه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول ‏:‏ ‏( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ‏)‏ فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه ، إلا وقع لوجهه ، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع ؛ فقال تميم بن أسد الخزاعي في ذلك ‏:‏
وفي الأصنام معتبر وعلم * لمن يرجوا الثواب أو العقابا​

إسلام فَضالة ‏:‏
وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح ؛ فلما دنا منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أفضالة ‏؟‏
قال ‏:‏ نعم فضالة يا رسول الله ؛
قال ‏:‏ ماذا كنت تحدث به نفسك ‏؟‏
قال ‏:‏ لا شيء ، كنت أذكر الله ؛
قال ‏:‏ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره ، فسكن قلبه ؛
فكان فضالة يقول ‏:‏ والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبُّ إلي منه ‏.‏
قال فضالة ‏:‏ فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت ‏:‏ هلم إلي الحديث ،
فقلت ‏:‏ لا ، وانبعث فضالة يقول ‏:‏
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام
لوما رأيت محمداً وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الإظلام​

الأمان لصفوان بن أمية ‏:‏
‏ خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن ، فقال عمير بن وهب ‏:‏ يا نبي الله إن صفوان ابن أمية سيد قومه ، وقد خرج هارباً منك ، ليقذف نفسه في البحر، فأمِّنْه ، صلى الله عليك ؛
قال ‏:‏ هو آمن ؛
قال ‏:‏ يا رسول الله ، فأعطني آية يعرف بها أمانك ‏.‏
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه ، وهو يريد أن يركب في البحر ، فقال ‏:‏ يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، الله الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به ؛
قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ أغرب عني فلا تكلمني ‏.‏
قال ‏:‏ أي صفوان ، فداك أبي وأمي ، أفضل الناس ، وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ، ابن عمك ، عزه عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك ، قال ‏:‏ إني أخافه على نفسي ، قال ‏:‏ هو أحلم من ذاك وأكرم ‏.‏ فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صفوان ‏:‏ إن هذا يزعم أنك قد أمّنتنى ، قال ‏:‏ صدق ؛
قال ‏:‏ فاجعلني فيه بالخيار شهرين ؛
قال ‏:‏ أنت بالخيار فيه أربعة أشهر ‏.‏

الأمان لعكرمة ‏:‏
كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام عند عكرمة، وكانت فاختة بنت الوليد عند صفوان بن أمية ، فأسلمتا ؛ فأما أم حكيم فاستأمنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لعكرمة ، فأمّنه ، فلحقت به باليمن ، فجاءت به .

إضاءة:

1- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غادر مكة مستخفياً : ( والله إنك لاحبّ أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إليّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجتُ ) ،ثم يعود إليها فاتحاً منتصراً ، وهو الآن سيد مكة المطاع وحاكمها المبجّل يقف في الصفا متجهاً إلى الكعبة بعد أن طاف بها ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يتمّ نعمته عليه ، حوله المسلمون من المهاجرين والأنصارالذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى وطنه ومسقط رأسه عزيزاً مكرماً قد خضعت له الأعناق وذلت له جباه المشركين . يقول الأنصار فيما بينهم ‏:‏ أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ‏؟‏ قالوا هذا وقلوبهم معلقة بنبيهم لا يتصورون أن يعودوا إلى المدينة دونه ،وقد سعدت به صلى الله عليه وسلم قلوبهم وأحبوه أكثر من أنفسهم وأهليهم ، إن المدينة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم صحراء قاحلة وفيفاة مقفرة . خطرت هذه الخاطرة بقلوبهم فغُمّت ونطقت بها ألسنتُهم فيبست حلوقُهم ، ما يتصورون أن يعودوا إلى المدينة دونه صلى الله عليه وسلم .

2- ويلحظ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ، ويستمر في دعائه وتبتّله فإذا ما انتهى التفت إليهم يسألهم: ما ذا قلتم؟ فيستحيون أن يخبروه ويستأخرون عن الجواب . فهل يتركهم لهواجسهم ومخاوفهم وهو الكريم الفضيل يعلم أحاسيسهم ومشاعرهم نحوه ويبادلهم هذا الشعور وهذه الأحاسيس ؟! لم يزل بهم يسألهم حتى ذكروا له ما ندّ عن قلوبهم وصدورهم من إشفاق أن يبقى في مكة فيفقدوا صحبته ، فيقول لهم بلسان الحب والعرفان مُرَطباً خواطرهم ومهدّئاً نفوسهم " معاذ الله ‏!‏ المحيا محياكم ، والممات مماتكم" ..
وتبقى المدينة عَلَماً عظيماً من أعلام الإسلام ونوراً ساطعاً ، ومهوى قلوب المسلمين ،إنها مدينة الحبيب المصطفى وعاصمته ومستقره حياً وميتاً صلوات الله عليه وسلامه .. وتهدأ نفوس الأنصار الكرام رضوان الله تعالى عليهم جميعاً .

3- ويكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنام مكة لتعود طاهرة من الشرك كما كانت حين بناها أبواه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام . حين يجيء الحقُّ قوياً عزيزاً بالدعوة الصحيحة المضيئة والجهاد الماضي تتكسرُ أصنام الطغاة وتشرق شمس الحرية من جديد ويحيا البشر في أمن وأمان ، لا يلتقي المتضادان أبداً حين يستعيد الناس حُريتهم وعزتهم وكرامتهم.وينتفي الظلم حين يجِدُّ الناس بطلب حقوقهم والذود عنها بكل ما ملكت أيمانهم.

4- لا شك أن الباطل مهما علا فله جولة ، سَرعان ما يسقط حين يقف له الحق وأهله بعزم وإيمان يجاهدون بما استطاعوا من قوة ومن جهد صادق ، ولا بد من قولة الحق " وقل جاء الحق" فإذا جاء الحق وأهلُه ذاب الباطل وأزلامُه ، فزهق وذهب واضمحلّ ، إذِ الباطلُ بناءٌ لا أساس له ولا ركائزَ حقيقية ، يُخيف ضعافَ النفوس بهيلمانه المصطنع ثم يتهاوى فجأة كأنْ لم يكنْ .

5- وما أعظم المربي الناجح يرى فضالة بن عمير الليثي مُقدماً على اغتياله وهو يطوف بالبيت ومعه خنجره ، يدنو منه يتحين الفرصة المناسبة ، فيقتربُ منه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : أأنت فضالة؟ وهو عليه الصلاة والسلام يعلم أنه فضالة ، لكنها المفاجأة التي تُربك الشاب ، فيتلعثم في إجابته : نعم أنا فضالة يا رسول الله ،

- ويذكر كلمة ( رسول الله) يستر بها ما يحوك في صدره من ضغينة وإصرار خبيث كشفه الله تعالى لنبيه الذي عصمه أن يناله أذى. فيقرِّرُه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا كنت تحدث به نفسك ، إنه يكشف خبيئته ويخبره أنه مطّلع على ما همّ بأن يفعله. فينكر الشاب هذه التهمة ويدّعي أنه ماجاء هذا المكان الطاهر إلا للطواف وذكر الله ، لكنّ نظرات عينيه وارتباكَه يكشف ما نواه ، والرسول صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة يريد لهذا الفتى أن يكون من شباب الإسلام الداعين إليه المنافحين عنه ، فإن استطاع ذلك فهو أفضل من العقاب . إنّ العقاب يزيد الإحن ويورث الضعائن ،والعفوَ وحسنَ التصرف يفتح باب الإيمان مشرعاً ،

- لهذا نسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : " استغفِرِ الله " والاستغفار يفتح باب التوبة ويقرب المرء إلى الله تعالى ، فإذا ما سمع من الفتى استغفاراً – ولو كان استغفارَ اللسان والخوف - مد الحبيب يده الشريفة إلى صدره ينتزع منه الكره والحقد والبغضاء ويزرع الإيمان والحب والصفاء . .. يا ألله ! ماذا فعلت يد الحبيب بقلب الفتى الشاب حتى سكن وهدأ ، ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة الحب والإكبار والشوق ؟

- ماذ فعل بقلبه حتى سرى الرَوح والرَّيحان في أعطافه فإذا هو غير الفتى الذي كان قبل قليل؟! لقد انقلب فتىً مسلماً مؤمناً يحب الله ورسوله يعيش الإيمان والطهر والعفاف . يقول فضالة ‏:‏ والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحبُّ إلي منه ‏.‏ كان يتوقع منه أشد العقوبة وقد علم مخبره فإذا به يتلطف له ويدعو له بالإيمان والخير ، فلِمَ لا يكون أحبَّ خلق الله إليه ؟!

- ليت الدعاة يعلمون هذا ويفعلونه! طلّق الفتى الخنا والفجور وكلَّ ما كان يفعله في جاهليته ، وهكذا المسلم ينتقل بإسلامه وإيمانه إلى ما يرضي الله تعالى ويخلص في ذلك .. ونقرأ ما قال للمرأة التي كان يغشاها قبل إسلامه فنرى الالتزام والشرف والتقوى تغمره.

6- بعضه يكبر في نفسه أن يستسلم للحق وقد دافعه السنين الطوال ، ويأبى أن يكون تابعاً وقد كان سيداً متبوعاً .أمثالُ هؤلاء يتصرفون في مثل هذه المواقف برعونة وطيش قد يؤذيهم ويكون عليهم وبالاً ، ولن يشعروا بعاقبة رعونتهم إلا بعد فوات الأوان . يهرب صفوان ابن امية خوفاً من العقاب الذي قد يكون القتل .. وهنا يأتي دور الصديق المحب الذي يُلطّف الموقف ويشفع لصاحبه والصديق وقت الضيق . ولئن أخطأ صديقك إنّك صمامُ الأمان له المعينُ له في كربته. وهذا ما فعله عمير بن وهب مع صفوان إذ شفع له عند النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ما فعلته أم حكيم بنتُ الحارث بزوجها عكرمة بن أبي جهل إذ شفعت له عند الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

7- صفوان بن امية وعكرمة بن ابي جهل كانا من أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعداء الإسلام والمسلمين ، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليماً بمعادن الرجال وأقدارهم – وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الداعية – يكسب بكسبهم من يأتي بعدهم ويأتمر بامرهم . ألم يقل المعلم الأول صلوات الله وسلامه عليه " خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام إذا فقهوا " وعكرمة رضي الله عنه شهيد اليرموك الذي ابلى فيها بلاء حسناً . وصفوان كان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية. أمّنه النبي أربعة أشهر، واستعار منه أدرعاً وسلاحاً ومالاً. حضر حنيناً مشركاً، ثم أسلم ودخل الإيمان قلبه.

يتبع
 
التعديل الأخير:
سلسلة فتح مكة(ق11)/د.عثمان قدري مكانسي

سلسلة فتح مكة

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الحادي عشر والأخير

خالدٌ بعد الفتح إلى بني جذيمة ،وعليّ يتلافى خطأ خالد ووصاة الرسول له وما كان منه ‏:‏
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السرايا حول مكة يدعون إلى الإسلام وكان بعث خالد بن الوليد داعياً ، ولم يبعثه مقاتلاً ، ومعه قبائل من العرب ‏:‏ سليم بن منصور ، ومدلج بن مرة ، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد ‏:‏ ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا ‏.‏ قال رجل من جذيمة يقال له جحدم ‏:‏ ويلكم يا بني جذيمة ‏!‏ إنه خالد والله ‏!‏ ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبداً ‏.‏
‏: فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك ، فكتفوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم ؛ فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رفع يديه إلى السماء ، ثم قال ‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ‏.‏
وكان قد انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هل أنكر عليه أحد ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم ، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة ، فنهمه خالد
( زجره)، فسكت عنه ، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب ، فراجعه ، فاشتدت مراجعتهما ، فقال عمر بن الخطاب ‏:‏ أما الأول يا رسول الله فابني عبدالله ، وأما الآخر فسالم ، مولى أبي حذيفة ‏.‏

إرساله صلى الله عليه وسلم علياً بدية بني جذيمة ‏:‏
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال ‏:‏ يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ‏.‏
فخرج علي حتى جاءهم ومعه مالٌ قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال ، حتى أنه ليدي لهم ميلغة الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، بقيت معه بقية من المال ، فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم ‏:‏ هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يودَ لكم ‏؟‏
قالوا ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما يعلم ولا تعلمون ، ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ‏:‏ فقال ‏:‏ أصبت وأحسنت ‏!‏ قال ‏:‏ ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه ، حتى إنه ليرى مما تحت منكبيه ، يقول ‏:‏ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ، ثلاث مرات ‏.‏

معذرة خالد في قتال القوم ‏:‏
يقول خالدٌ ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبدالله بن حذافة السهمي ، وقال ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام ‏.، وأنهم قالوا صبأنا صبأنا.

ما وقع بين عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ‏:‏
وقد كان جحدم قال لهم حين وضعوا السلاح ورأى ما يصنع خالد ببني جذيمة ‏:‏ يا بني جذيمة ، ضاع الضرب ، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه ‏.‏
قد كان بين خالد وبين عبدالرحمن بن عوف كلام في ذلك ، فقال له عبدالرحمن بن عوف ‏:‏ عملت بأمر الجاهلية في الإسلام ‏.‏ فقال ‏:‏ إنما ثأرت بأبيك ‏.‏
فقال عبدالرحمن ‏:‏ كذبت ، قد قتلت قاتل أبي ، ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ، حتى كان بينهما شر ‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فوالله لو كان لك أحد ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته ‏.‏

خالد يهدم العزى
ثم بعث رسول الله صلى اله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العُزّى ، وكانت بنخلة ، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم ، فلما سمع صاحبها السلمي بمسير خالد إليها ، علق عليها سيفه ، وأسند في الجبل الذي هي فيه وهو يقول ‏:‏
أيا عز شدي شدة لا شوى لها * على خالد ألقى القناع وشمري
يا عز إن لم تقتلي المرء خالداً * فبوئي بإثم عاجل أو تنصري​

فلما انتهى إليها خالد هدمها ، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، قال ‏:‏ أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ‏.‏ وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان ‏.‏

إضاءة:

1- تثبيت الفتح عسكرياً يتبعه دعوةٌ تنشر الإسلام وتثبّتُ الدعوة ، فما إن فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة حتى نشر السرايا فيما حولها يستبرئ القوم من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد ، ولن يستقر الأمر في البلاد المفتوحة عسكرياً مالم تكن القاعدة الإيمانية ثابتة مكينة ممتدة الجذور أفقياً وعمودياً تحفظ القلب وتحمي الأطراف .

2- في السرايا الإيمانية قوة عسكرية تبسط الأمان وتحفظ الدعاة في سعيهم وتقطع على الصادّين مكرهم ، ودعاةٌ يطوفون بين الناس يحملون شعلة الإيمان للضالين والحيارى ينشرون نور الحق بينهم ويدعونهم بالحسنى إلى الصراط المستقيم دون فرض ولاإكراه ، { لا إكراه في الدين } فلن يكون الإيمان إلا عن اعتقاد صادق ورضا.

3- ولن يكون القتال إلا بعد عرض الدعوة وتوضيحها أو الجزية لمن أباها ،ثم القتال لمن أنكر العرضين وأعرض عنهما. فمن دخل في دين الله كان من المسلمين ، ومن دفع الجزية خضع لهم وسمح للدعوة أن تشق طريقها دون عوائق ،ومن صدّ واستكبر ومنع نور الإيمان ان يبزغ وجب التصدّي له ومقارعته.

4- يُصرّح الداعية بدعوته ويزيل الغشاوة عن المتشككين بواضح العبارة كما فعل خالد حين قال لبني جذيمة " ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا" فأعلن أنه لم يأت لقتالهم . ولا بدّ من القتال إذا ما أشهر الآخرون السلاح في وجهك جهلاً أو معرفة . فإذا كان قتالٌ بعد الإعذار فلا بد من الإثخان حتى يرضخ المكابر للحق.

5- ينبغي التقيّد بالتعليمات الصادرة عن القيادة العليا ما لم يكن هناك سبب قاهر لتجاوزها. فإن حصل التباسٌ أو سوء فهم أوتقصير فإن القائد العام يصلح خطأ مرءوسه ، وعلى القائد العام أن يحاسب المخطئ ويبرأ مما فعل ويصوّب الخطأ ليعلم الجميع أنه لا ممالأة ولا محاباة . فنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل علياً رضي الله عنه يحمل الديات ويرضي المظلومين ويزيد في الكرم كي يمحو الضغائن من نفوس القوم ويسترضيهم، فالحق أحق ان يُتّبع.

6- على المرءوس حين يرى من قائده خطأ أن ينبه ويقوّم ، فالطاعة المبصرة هدف المسلم لا الطاعةُ العمياء التي تزيد الطين بلة والانحرافَ ميَلاناً ، والناسُ في النصيحة نوعان ، فمنهم من ينبّه ويسكت ، ومنهم من يجادل ويراجع لتنفيذ المَهمّة على الوجه المطلوب،ولكلٍّ حجّته.

7- ضعفُ الإنسان بادٍ مهما ارتفع وسما عمله ، وهذه سنّة الله في خلقه فإذا كان الصحابة يتخاصمون أحياناً فلأنهم بشر ، لكنّهم سرعان ما يفيئون إلى الحق ويخضعون له، وقد يكون هذا لاختلافٍ في الفهم أو الرأي أو لأمور عالقة في النفس تظهر بين الفَينَة والأخرى أوحين يضعف الإنسان. سرعان ما يصلحها أو يغطيها ذكرُ الله واستغفارُه والاعتذارُ الذي يحمل في طياته الحب في الله والرغبة في مرضاته والفيء إلى الحق.

8- حفظ الإسلامُ للسابقين مكانتهم ، فعلى الرغم من وجوب احترام القائد وطاعته فإنّ قيادته لا تعني أنه خير من مرءوسه . يتجلّى هذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد – قائد السرية فيها عبد الرحمن بن عوف- حين تطاول عليه – وعبد الرحمن من العشرة المبشّرين بالجنة – "مهلاً يا خالد ، دع عنك أصحابي ، فوالله لو كان لك أحُدٌ ذهباً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركتَ غَدوة رجل من أصحابي ولا روحته." وقوله صلى الله عليه وسلم ( دع عنك أصحابي) دليل على البون الشاسع بين السابقين واللاحقين.

9- كما ان الأسبقية في الإسلام لا تمنح صاحبها القيادة إلا إذا كان متّسماً بها وأهلاً لها ، فقد حفظ الإسلام للنابهين دورهم ومكانتهم – وإن تأخروا- وقلّدهم المسؤولية، فللمَهمّات أهلها القادرون على تنفيذها بقوة ، ولا بدّ من وضع الرجل المناسب في المكان المناسب للوصول إلى الهدف المنشود بنجاح، وخالد خيرُ مثال لهذا ، وقد أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيف الله المسلول ، واعتمده الصدّيق رضي الله عنه كثيراً في المهمّات الصعبة.

10- كان على سادن العُزّى عين علم بقدوم خالد لهدمها – لو كان يؤمن بها حقاً – أن يدافع عنها ، لكنه علّق عليها سيفه وطلب إليها أن تدافع عن نفسها ، ولعلنا في هذا الموقف نستجلي أموراً عدة منها:

أ‌- ـ أنه يقر بتقصيره عن الدفاع عما يعتقده ، وهذا ضعف في العقيدة ظاهر.بل إنه يُحمّلها إثم سقوطها.
ب‌- ـ أنه وصوليٌّ كان يتخذ من سدانتها جاهاً ومالاً ، فلما ايقن بزوالها تخلّى عنها.
ت‌- ـ ولعل علاقة الجاهليين عامّة بآلهتهم ضعيفة وبسيطة نجد هذا عند عبد المطلب حين طالب أبرهة بأنعامه ، وقال قولته المشهورة : للبيت ربٌّ يحميه".
ث‌- ـ نلمح إصرار السادن على الكفر ، فهو لن يسلم إذا هُدمت العزى بل يحمّلها المسؤولية ويطلب إليها أن تتنصّر إن ضُيّق عليها .

11- يقصر المسلم صلاته في السفر ما شاء له أن يقصر ما دام مسافراً لا يعلم متى يعود إلى مقر إقامته ، ولعل قائلاً يقول : إن مكة دار رسول الله الأولى فلماذا لم يتم صلاته فيها ، فالجواب أنه لم يكن ينوي الإقامة بها ، وضرب خيمته في ظاهرها .

12- فتح مكة كان فتحاً للجزيرة كلها ، وبعده جاءته الوفود من أقطارها تعلن الإسلام لهذا الدين الجديد ، وتدخل فيه أفواجاً ، فغفر الله لرسوله الكريم ما تقدم من عمله وما تأخر ،وأتم نعمته – سبحانه – عليه- وأتم له الصراط المستقيم ونصره نصراً عزيزاً .

13- لرمضان فضائله العديدة من غفران وعتق للرقاب من النار ، ورفع الدرجات ، وفيه ليلة هي خير من الف شهر ، كما أن المعارك فيه والفتوحات توالت : منها غزوة بدر وغزوة تبوك وفتح مكة .. فإذا اجتمع الجهادان :جهادُ النفس وجهاد العدوّ كان النصرُ حليفَ المسلمين ...

انتهى بحمد الله
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى