بقلم: د. خير الدين عبدالرحمن
طائرة تجسس نقلت الأنباء خبرين متصادمين في يوم واحد، هو يوم 2005/6/29، وعن شأن واحد، هو التجسس الأسرائيلي. فقد تداولت وسائل الإعلام في ذلك اليوم تقريرا عن اختفاء جهاز كمبيوتر فائق الأهمية للقوات المسلحة الإسرائيلية على الإنترنت عن مصدر عسكري أن هذا الجهاز اختفى بشكل غامض في شهر نيسان (أبريل) 2005 من قاعدة مركزية للجيش، وأن التحقيق الذي جري بإشراف مسؤول كبير لم يبدد غموض هذا الحادث الخطير.
قال مسؤول عسكري: " هذا تطور مثير للقلق الشديد، فليس منطقيا اختفاء كمبيوتر يحتوي معلومات بهذا القدر من الحساسية هكذا، بينما يفترض أن يكون محميا تماما". بدأت القضية باختفاء خادم شبكة الكمبيوتر الذي يستقبل معلومات استخباراتية من شبكة عسكرية، بعد أيام قليلة من تغيير محله ونقله إلى وحدة تدريب. أضاف المسؤول العسكري الإسرائيلي: "إن العديد من أجهزة الكمبيوتر التابعة للجيش أو للاستخبارات قد فقدت في الماضي، لكن هذه الحادثة بالذات مختلفة وبالغة الخطورة، فهذا الكمبيوتر المفقود يتبع قسما كاملا، وفيه مخزون من معلومات هائلة الخطورة لا يمكن إصلاح الضرر الضخم المؤكد الذي ينشأ لو وقعت في أيدي أعداء".
تم الإعلان في نفس ذلك اليوم عن تسلم سلاح الجو الإسرائيلي أحدث طائرة تجسس في العالم من الولايات المتحدة. جرى إطلاق اسم" ناحشون بن عميدور" على تلك الطائرة، وهو اسم أول من عبر البحر الأحمر لدى خروج اليهود من مصر، وفقا للتاريخ اليهودي. تباهى قائد الطائرة بأنها قادرة على تصوير أي بقعة على سطح الكرة الأرضية بدقة كبيرة، وبهذا "سوف تحسن من الأداء التجسسي لسلاح الجو الإسرائيلي، إذ توفر معلومات بالغة الأهمية والفعالية وأفضل صور دقيقة لأوضاع مختلفة الساحات". وقد أكد موقع سلاح الجو الإسرائيلي على الإنترنت قدرة هذا السلاح "على استيعاب الطائرة الجديدة وهضم تقنياتها العالية، إذ أمضى بعض طياريه عدة أسابيع في الولايات المتحدة للتدرب على الطائرة (WWW.IAF.ORG.IL).
أما عن ميزات هذه الطائرة التي تم تطويرها أصلا من طائرة رجال الأعمال "جلف ستريم Gulf stream"، والتي تعاقدت شركة ايليتا الإسرائيلية وشركة جلف ستريم الأمريكية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 على صفقة تتضمن نموذجا للتجسس وآخر للمراقبة الجوية، فقد وصف قائدها قدراتها التكنولوجية بأنها فائقة التطور، كما لفت النظر إلى قدرة التحليق على ارتفاعات عالية جدا والبقاء في الجو خمس عشرة ساعة متواصلة، فتقلع من الولايات المتحدة إلى الخليج العربي مثلا بلا توقف ولا انقطاع (يديعوت أحرونوت، 2005/6/29م).
من ناحية ثانية، قال موقع الجيش الاسرائيلي على الإنترنت (www.IDF. IL) أن الطائرة الجديدة فائقة التطور تمنح سلاح الاسرائيلي تفوقا نوعيا لا نظير له، وأن الجيش الذي كان يعتمد على وحدات برية في مهام المراقبة الجوية صار يمتلك بهذا النوع من الطائرات قدرات غير مسبوقة لإنجاز مهام التجسس والمراقبة الجوية بفعالية ودقة كبيرتين. تبلغ تكلفة كل طائرة من هذا النموذج التجسسي، الذي لم يكن لدى سلاح الجو الإسرائيلي ما يضاهيه، نحو مئة مليون دولار.
من ناحية أخرى، تم بتعاون إسرائيلي- روسي إنتاج عدد من طائرات التجسس فالكون التي تعتمد على تقنيات أمريكية متقدمة. حلقت أولى تلك الطائرات المصنوعة في روسيا بمشاركة الصناعة الجوية الإسرائيلية فوق تل أبيب يوم 2002/5/30م . كان الاعتراض الأمريكي الشديد على تزويد الصين بتكنولوجيا أمريكية حساسة قد اضطر إسرائيل سنة 2000 إلى إلغاء اتفاق إسرائيلي- صيني سابق على إنتاج مشترك لنفس هذه الطائرة (معاريف، 2002/5/31م).
لقد تزايد الاعتماد الإسرائيلي علي أحدث تقنيات التجسس والاستطلاع، مثل سلسلة أقمار (أفق) الصناعية للتجسس، وطائرات بلا طيارين واختراق شبكات الكمبيوتر والتنسيق مع الولايات المتحدة للاستفادة من قدراتها وشبكاتها، وخاصة نظام التنصت الأمريكي العملاق (ب- 415- ايشلون) الذي يتنصت على كافة الاتصالات الهاتفية واللاسلكية والإلكترونية في العالم عبر شبكة ضخمة من مراكز ومحطات التنصت الموزعة في القارات الخمس، وعشرات الأقمار الصناعية وكابلات اتصالات خاصة بالنظام عبر المحيطات، بما يشكل أضخم شبكة تجسس في التاريخ البشري، إذ تتجسس يوميا على عشرات ملايين- وأحيانا مئات ملايين- الاتصالات المختلفة، تبعثها إلى مقر وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA في فورت ميد بولاية ميريلاند.
ضبطت مصر 64 جاسوساً يعملون لاصحل الموساد
كان افتضاح أمر زرع أجهزة متناهية الصغر تتولى إرسال المعلومات والبيانات المخزونة في آلاف من أجهزة الكمبيوتر المستعملة في عدة دول عربية إلى الاستخبارات الإسرائيلية، بما فيها أجهزة تستخدمها جيوش عربية، نتيجة التواطؤ بين عملاء المخابرات الإسرائيلية ومصدّري تلك الأجهزة، مؤشرا إلى واحد من آلاف أوجه الاختراق المخابراتي الإسرائيلي. كما جرى تعديل مئات آلاف أجهزة الهاتف المحمولة المباعة إلى العديد من الأقطار العربية لمصلحة المخابرات الإسرائيلية قبل شحنها، بحيث يبدو عمل الهاتف طبيعيا وبريئا، لكن اتصالا يرد إلى ذلك الهاتف من رقم معين مبرمج مسبقا يؤدي إلى تشغيله دون أن يدري صاحبه، بحيث يتم التقاط كل كلمة ينطق بها المتكلمان ونقلها عبر الشبكة إلى محطة التنصت (تفاصيل هذه التقنية في مجلة New Scientist الأمريكية وموقعها على الإنترنت).
صنعت شركة Net Line الإسرائيلية لتكنولوجيا الاتصالات، على سبيل المثال، عدة أنواع من أجهزة تجسس دقيقة تستخدم في الهواتف المحمولة. وقد شرح بن تني، أحد صاحبي الشركة ( كلا الشريكين: (تني) و(جيل) إسرائيلي ، عمل في مخابرات الجيش الإسرائيلي ثم في شركة صناعة الطائرات الحربية) آلية عمل جهاز رصد الاتصالات من الهواتف المحمولة التي تبدو خاملة تماما، بينما مستخدموها يتصلون في تلك الأثناء بأي مكان من العالم دون إصدار رنين، ودون أن تضيء شاشة الهاتف المحمول، بحيث يتم استخدامه كجهاز إرسال ينقل معلومات ومحادثات لا حصر لها دون إثارة أي شبهات أو شكوك. كما أن شركته قد طورت محلل نشاط الهاتف المحمول الذي يرصد نشاط الهواتف المحمولة في مكان ما، مسجلا مكالماتها، ومعطيا إشارة تحذير مرئية أو مسموعة، كما أنه يستطيع اكتشاف ما إذا كان جهاز تنصت قد زرع في غرفة أو قاعة.
وقال (بن تني) إن تمردا متزامنا جرى في خمسة سجون برازيلية قد اعتمد تنسيق إعداده وتنفيذه على منتجات شركته، وكذلك حالات هروب مساجين من سجون فرنسية وغيرها.
بدأت أجهزة الاستخبارت الإسرائيلية أيضا استخدام طائرة صغيرة جدا بحجم كف اليد، طولها 15 سنتمترا ووزنها مئة جرام، بحيث تبدو أشبه بحشرة طائرة، وهي تحتوي آلة تصوير فديو وأخرى تعمل بالأشعة تحت الحمراء وجهاز لقياس مدى أشعة الليزر مرتبط بقمر صناعي وميكرفون تنصت ومجسات كيماوية وكاشف متفجرات. لا تصدر حشرات التجسس الإلكترونية هذه صوتا لدى طيرانها، وتعمل داخل قاعات مغلقة أو في العراء. (معاريف 2002/10/9م).
بدايات الموساد
إن مواقع رسم السياسات وصنع القرارات الإسرائيلية تعوّل كثيرا على دور تكنولوجيا الإلكترون والمعلوماتية في استعادة فعالية الموساد وبريقه القديم. وهنا نلقي نظرة خاطفة على بدايات هذا الجهاز. ربما كان أحد أهم النشاطات التجسسية الصهيونية المبكرة ذلك النشاط الذي قادة: هارون آرنسوهن، أحد أبرز قادة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وقائد المنظمة الصهيونية السرية المسماة (نيلي Nili)، فقد استطاع إقناع جمال باشا، والي دمشق العثماني، بتعيينه في 1915/3/27 مفتشا لعمليات مكافحة الجراد في سورية وفلسطين ولبنان، واتخذ من هذه الوظيفة وسيلة تضمن له حرية الحركة والتنقل والاتصال، وغطاء لنشاطه التجسسي الذي كانت أبرز محطاته: قيادته مجموعة صهيونية استخباراتية هيأت لنزول القوات البريطانية على شاطئ فلسطين واحتلالها. وأخطر مهماته مع رجل المخابرات البريطاني الشهير لورنس: ترتيب اللقاء الثاني بين رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمان، وفيصل بن حسين الذي عينه البريطانيون لاحقا ملكا على سورية، ثم على العراق -إذ وقع فيصل في ذلك اللقاء يوم 13-1-1919م. وثيقة موافقته على قيام دولة يهودية في فلسطين (جاك ديروجي وهنري كارمل، تاريخ إسرائيل السري: 1917-1977، الترجمة العربية، دمشق 1978، ص 42).
كان قرار تأسيس الموساد قد اتخذ في اجتماع سري عقده سنة 1937م في تل أبيب قادة الحركة العمالية الصهيونية والهاغانا والكيبوتزات. أعطي الجهاز آنذاك اسم Mossad Aliya Beth، أي (منظمة الهجرة غير المرخص بها). وبالتالي كانت المهمة الرئيسة له تهجير اليهود من أوربا خاصة إلى فلسطين بوسائل غير مشروعة، وانتهاكا لقوانين وأنظمة الدول المختلفة. كان المركز الرئيسي للموساد في باريس، ثم تم نقله إلى استنبول، وأعيد مجددا إلى باريس في آذار (مارس) 1945، وأقيمت إلى جانب المقر الرئيس في باريس قاعدة ميدانية ضخمة في ميناء مرسيليا الفرنسي، شكلت دولة داخل الدولة الفرنسية آنذاك. قال مسؤول أمريكي في ذلك الوقت إن للموساد في فرنسا جهاز اتصالات أفضل مما لدى الجيش الأمريكي في ألمانيا، ناهيك عن تجنيد مئات من الوزراء وكبار المسؤولين وأصحاب النفوذ الفرنسيين في صفوفه. وأقيمت كذلك مراكز استعلامات وقواعد ومحطات للموساد في كل أنحاء أوربا، بحيث لعب دورا رئيسا في تنفيذ عملية اغتصاب فلسطين وإقامة دولة صهيونية على معظم أرضها، إضافة لهذا الوجود القوي في أوربا، قبل إعلان إقامة إسرائيل على أرض فلسطين في 1948/5/15،
قال جاك ديروجي وهنري كارمل في كتابهما المشار إليه تاريخ إسرائيل السري 1917- 1977 (ص 17) أن الموساد استطاع دس عملاء في معظم البلدان والجيوش العربية قبل نشوب الحرب في العام 1948 بين تلك الجيوش والقوات الصهيونية يوم إعلان إقامة إسرائيل . جاء في الكتاب أنه أثناء تلك الحرب وبعد الهدنة تسلل عدد من رجال الموساد إلى بيروت ودمشق وعمان وبغداد والقاهرة منتحلين أسماء وشخصيات عربية، وتوصل بعضهم إلى احتلال مراكز هامة في تلك العواصم، مما سمح لهم بإغراق جهاز الموساد بأدق وأفضل المعلومات عن الدول العربية. واستثمر الجهاز تلك المعلومات لتكرار وتكريس انتصارات إسرائيلية عسكرية وسياسية ومخابراتية، ولإحباط خطط وبرامج وجهود العرب في سياق صراعهم ضد الغزوة الصهيونية.
توهم البعض بأن رضوخ عدة أنظمة عربية للضغوط الأمريكية الهادفة إلى إنهاء الصراع وتصفية القضية الفلسطينية عبر تسويات أحادية بين كل من هذه الأنظمة على حدة والحكومة الإسرائيلية يقلص الحاجة الإسرائيلية إلى التجسس في العالمين العربي والإسلامي. سرعان ما تبين خطأ هذا. لقد أظهرت تجارب العقود الأخيرة بوضوح أن التجسس الإسرائيلي على البلدان العربية والإسلامية ازداد، ولا يستثني أيا منها. عددت صحيفة الوفد المصرية مثلا في نهاية العام 2000 خمسا وعشرين حالة لشبكات تجسس وتخريب إسرائيلية، ضمت أربعة وستين جاسوسا، تم الإعلان رسميا في مصر عن ضبط أفرادها واعتقالهم خلال العقد الأخير من القرن العشرين، عدا ما لم يتم اكتشافها وضبطها من الحالات المماثلة، وعدا ما اقتضت أسباب مختلفة أن تتكتم السلطات المصرية بشأنها أو أن تغض الطرف عنها. بل قد تم ضبط تسع شبكات تجسس إسرائيلية في مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة من القرن العشرين (انظر: تل أبيب تتجسس على طائرة الرئيس مبارك..، المستقلة، لندن، 2000/12/12، ص6).
تضمنت نشاطات تلك الشبكات: الحصول على معلومات حيوية وأسرار عسكرية واستراتيجية وتجنيد عملاء محليين وتزوير عملات نقدية وتهريب نحو خمسمئة طن من المخدرات سنويا إلى مصر. وساعد في هذا أن اتفاقية كامب ديفيد خولت الإسرائيليين دخول سيناء بدون جوازات سفر. ضمت أبرز تلك الشبكات عدة موظفين في المركز "الأكاديمي" الإسرائيلي في القاهرة وموظفة أمريكية في هيئة "المعونة" الأمريكية، وتم ضبط أفلام وصور لوحدات من الجيش المصري ومحطة استقبال وإرسال لاسلكي ومعمل تحميض وأدوات تجسس ليزرية لديها، وكذلك شبكة ضمت صبحي مصراتي وابنه ماجد وابنته فائقة، وهم أصلا من يهود ليبيا، ومعهم ديفيد أوفيتس الذي لقنهم التجسس على الوحدات والمواقع العسكرية المصرية والشخصيات الهامة ومسؤولين كبار وأبنائهم ، خاصة بغواية الابنة (فائقة) التي أقامت علاقات جنسية مع العشرات من هؤلاء. تم إطلاق سراح أفراد تلك الشبكة، على الرغم من اعترافهم بالتجسس، وعلى الرغم من الإهانة العلنية المتلفزة التي وجهها صبحي المصراتي في آخر جلسة عقدتها المحكمة عندما شتم مصر وحكومتها وقضاءها، ثم صدم الحضور من محامين وشرطة ورجال إعلام وسواهم عندما شرع في التبول باتجاه هيئة المحكمة مطلقا سيل شتائمه، واعتدى بالضرب على ضابط الحراسة الذي حاول منعه. وتم وقف المحاكمة في أيار (مايو) 2002 وجرى إرسال هؤلاء الجواسيس إلى فلسطين المحتلة في طائرة مصرية خاصة، استجابة لضغوط أمريكية وإسرائيلية.
تكرر أيضا إطلاق سراح أشد الجواسيس الإسرائيليين خطورة وغموضا، عزام مصعب عزام، الذي أقام مصنعا لإنتاج الملابس في منطقة (شبرا الخيمة) العمالية في ضواحي القاهرة بالاشتراك مع أحد المصريين، وجعل المصنع قاعدة لأعمال تجسس وتخريب فائقة الخطورة؛ فبعد اعترافاته وإدانته قضائيا ومقاومة مصر للضغط الأمريكي والإسرائيلي لإغلاق ملفه، أطلق سراحه فجأة في ربيع العام 2005 .
لقد شهد الموساد الإسرائيلي بشكل خاص مؤخرا، إضافة إلى أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الأخرى: الشين بيت والشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان)، تركيزاً شديدا على إعادة التنظيم والتأهيل على نحو يستثمر قدرات أحدث التقنيات الإلكترونية، إضافة إلى العنصر البشري، لتكثيف نشاطات التجسس على البلدان العربية الإسلامية. وإذا كانت الآفاق التي تتيحها التقنيات الإلكترونية المتداولة بين عامة الناس هائلة الاتساع، فهي تتيح بالتأكيد فرصا متجددة غير محدودة لاستخدامها واستغلال قدراتها من قبل أجهزة وشبكات التجسس.
إن الاستغلال المخابراتي الإسرائيلي لتكنولوجيا المعلومات وتسخير الشبكة العنكبوتية والإنترنت لغرف قدر هائل من المعلومات عن الأوضاع والتحولات العربية، أمر مؤكد؛ فهذه التقنيات الإلكترونية تغني عن إرسال أو زرع أو استقطاب عشرات آلاف الجواسيس. إن الحواسيب العملاقة الإسرائيلية التي تتلقى دفق كميات هائلة من المعلومات عن العالمين العربي والإسلامي على مدار الساعة، بما فيها ما قد يبدو نفايات معلومات تافهة سطحية، تتغذى أساسا من اختراق المواقع والشبكات الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر العسكرية والمدنية.
لقد تم التشديد في قيادة الموساد على ضرورة مواجهة التحدي بعقلية جديدة وأساليب مبتكرة بعد سلسلة من الإخفاقات والنكسات التي تعرض لها عمل هذا الجهاز الذي نال شهرة أسطورية في الماضي. يلفت النظر هنا لجوء الموساد للمرة الأولى في نهاية شهر تموز (يوليو) 2000 إلى نشر إعلانات مفتوحة في وسائل الإعلام ذكرت أنها "تحتاج لمواجهة الأخطار المتزايدة في المنطقة، إلى جواسيس بمواصفات خاصة حاصلين على مؤهلات عليا ويعتقدون أنهم مؤهلون للعمل في الوكالة" ودعت "أفضل يد عاملة في السوق" ممن أعمارهم بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين "التواقين إلى مهنة مشوقة" لتقديم طلباتهم بالبريد إلى عنوان بريدي حددته من أجل الانتماء إلى "وحدة الصفوة الخاصة بالمواهب المتميزة" متعهدة بامتيازات مغرية هامة.
أهم نكسات الموساد
نذكّر هنا ببعض أهم نكسات الموساد الأخيرة، مثل الأزمة الحادة مع الحكومة النيوزيلندية التي رفضت رئيستها هيلين مثل الاتهام الخضوع لأسلحة الابتزاز الصهيوني البالية كالاتاهم باللاسامية لإغلاق ملف جاسوسَيْ الموساد: أوريل كيلمان وايلي كارا، اللذين أدانتهما محكمة نيوزيلندية في العام 2005 بالتجسس والتخريب في نيوزيلندا لصالح الموساد والانتماء إلى عصابة صهيونية تمارس الجريمة المنظمة وخرق السيادة والقوانين النيوزيلندية والقانون الدولي.
قبل أن تخف ضجة هذه الأزمة، تفجرت فضيحة تجسس لاري فرانكلين، الموظف الكبير في وزارة الدفاع الأمريكية لصالح المخابرات الإسرائيلية، مما أدى إلى اعتقاله وبدء محاكمته، تكرارا لحالة الجاسوس الآخر جوناثان بولارد الذي نقل للمخابرات الإسرائيلية كميات هائلة من المعلومات والوثائق عن دول عربية وإسلامية- وخاصة باكستان- مستغلا عمله في قيادة القوات البحرية الأمريكية.
كذلك كانت فضيحة جون دويش، رئيس المخابرات المركزية الأمريكية الذي استقال في 1996 وقدم اعتذاراً رسميا بعدما اعترف لسلطات التحقيق بأنه سلم العديد من الوثائق السرية للسفير الإسرائيلي في واشنطن بن أليعازر.
ثم فضيحة السفير الأمريكي في تل أبيب الصهيوني المتطرف مارتن انديك، الذي كان مسؤول المخابرات الخارجية الأسترالية أصلا ثم هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث رتبت القيادات الصهيونية له الحصول على الجنسية الأمريكية وتعييته مساعدا لوزير الخارجية الأمريكية خلال أسابيع قليلة من وصوله إلى الولايات المتحدة، تجاوزا للقوانين والأنظمة الأمريكية المرعية. لقد أوقف انديك عن عمله في العام 1999 وجرد من امتيازاته الدبلوماسية والسياسية وخضع للتحقيق بتهمة ارتكاب جريمة تضر بالأمن القومي الأمريكي من خلال تسريبه وثائق ومعلومات سرية أمريكية عن العلاقات والاتصالات مع المسؤولين العرب كان يحولها من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والسفارة الأمريكية إلى أجهزة كمبيوتر الموساد الإسرائيلي. وتكررت فضيحة مماثلة كشفت عمالة رونالد نيومان، السفير الأمريكي المرشح للبحرين، للموساد الإسرائيلي.
وكشف مجلة In Sight الأمريكية المتخصصة بشؤون المخابرات في نفس الفترة أن تحقيقا يجريه مكتب التحقيقات الاتحادي FBI أثبت قيام الموساد بالتنصت على الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لمسؤولين أمريكيين كبار في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، لكن وزارة العدل الأمريكية عرقلت جهود المكتب لتقديم اتهام بهذا الصدد متذرعة بضرورات دبلوماسية تتطلب تحاشي أزمة أمريكية - إسرائيلية.
أكد تقرير لوكالة (درادج ريبورت) المعلوماتية الأمريكية ما ذكرته هذه المجلة وأضافت أن عمليات التنصت الإسرائيلية في واشنطن تتم منذ أربع سنوات بواسطة شركة اتصالات يملكها الموساد في واشنطن. إن الذين يتجسسون على الولايات المتحدة- وهي ضامنة وجودهم وحامية تجاوزاتهم واعتداءاتهم وتفوقهم ومموّلة كيانهم، التي لا تبخل عليهم بدعم مالي وعسكري وسياسي واقتصادي وأمني- لن يتورعوا عن التجسس على أي دولة أخرى.
فرضت التطورات المتلاحقة تركيزاً إسرائيليا أشد بكثير على تنشيط العمليات المخابراتية. تركز توجهات السياسية الإسرائيلية الراهنة المحمية والمدعومة كليا من قبل الولايات المتحدة على استثمار الأوضاع الناجمة عن الاحتلال الأمريكي للعراق، يتضمن التوسع في تنفيذ استراتيجية التوتر، التي تنسجم مع التكتيك الأمريكي الراهن الذي أسمته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، انتهاج سياسة "الفوضى الخلاقة". كان جيفري ستاينبرغ، المحلل الاستراتيجي اليهودي في وكالة EIR المخابراتية الأمريكية، قد جزم في مرحلة انتصار مجاني مماثل سابق أهدته الحرب الأمريكية الأولى ضد العراق لإسرائيل أنه " لا شك على الإطلاق في أن هناك مصالح أمريكية اسرائيلية مشتركة في تنفيذ استراتيجية التوتر، لكن الدوافع السياسية والجيوبوليتيكية وكذلك اللاعبين الإسرائيليين في هذه العملية الرامية إلى زعزعة الاستقرار ترتبط جميعا ارتباطا أساسيا بوكالات المخابرات الأوربية والإسرائيلية" (الكفاح العربي، بيروت، العدد 765، 1993/3/29). لذا نتوقع تنشيط أعمال التخريب والاغتيالات واختراق البني المجتمعية والفكرية والعقيدية والإعلامية والمؤسساتية العربية والإسلامية وإثارة الاضطرابات والقلاقل والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية والصراعات السياسية والقبلية والمذهبية والطائفية في أكثر البلدان العربية والإسلامية... كل ذلك متوقع بوتيرة أشد كأبرز مهام المخابرات الإسرائيلية الراهنة.
لقد منحت الأوضاع التي أفرزها الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق داخل العراق وعلى امتداد إقليمي واسع مشروع الغزوة الصهيونية مستوى هائلا من الأمان على الصعيد الاستراتيجي المرحلي، لكنها ضاعفت في الوقت نفسه من المخاطر الهائلة الناجمة عن تصعيد توجه قوى شعبية نحو القتال ضد إسرائيل والولايات المتحدة معا، خارج أطر الجيوش والحكومات المقيدة بمعادلات وضغوط وتدخلات دولية. هذا دافع جوهري مؤكد لمضاعفة جهود وأدوات التجسس الإسرائيلي في المنطقة. ولا فرق هنا بين دول خدّرها وَهْمُ أنها باتت في مأمن بعد توقيعها معاهدات تسوية وصلح مع الحكومة الصهيونية، وبين دول لاتزال قواها الفاعلة تتمسك بالموقف المبدئي، معتبرة أن اغتصاب فلسطين وتحويل معظم أرضها إلى كيان أجنبي استيطاني عنصري صهيوني هو باطل لا يكتسب شرعية بمرور الزمن أو بضغوط أمريكية، وأن الصراع العربي - الإسلامي ضد الغزوة الصهيونية مستمر ومتجدد: صراع وجود، لا مجرد نزاع على حدود.
طائرة تجسس نقلت الأنباء خبرين متصادمين في يوم واحد، هو يوم 2005/6/29، وعن شأن واحد، هو التجسس الأسرائيلي. فقد تداولت وسائل الإعلام في ذلك اليوم تقريرا عن اختفاء جهاز كمبيوتر فائق الأهمية للقوات المسلحة الإسرائيلية على الإنترنت عن مصدر عسكري أن هذا الجهاز اختفى بشكل غامض في شهر نيسان (أبريل) 2005 من قاعدة مركزية للجيش، وأن التحقيق الذي جري بإشراف مسؤول كبير لم يبدد غموض هذا الحادث الخطير.
قال مسؤول عسكري: " هذا تطور مثير للقلق الشديد، فليس منطقيا اختفاء كمبيوتر يحتوي معلومات بهذا القدر من الحساسية هكذا، بينما يفترض أن يكون محميا تماما". بدأت القضية باختفاء خادم شبكة الكمبيوتر الذي يستقبل معلومات استخباراتية من شبكة عسكرية، بعد أيام قليلة من تغيير محله ونقله إلى وحدة تدريب. أضاف المسؤول العسكري الإسرائيلي: "إن العديد من أجهزة الكمبيوتر التابعة للجيش أو للاستخبارات قد فقدت في الماضي، لكن هذه الحادثة بالذات مختلفة وبالغة الخطورة، فهذا الكمبيوتر المفقود يتبع قسما كاملا، وفيه مخزون من معلومات هائلة الخطورة لا يمكن إصلاح الضرر الضخم المؤكد الذي ينشأ لو وقعت في أيدي أعداء".
تم الإعلان في نفس ذلك اليوم عن تسلم سلاح الجو الإسرائيلي أحدث طائرة تجسس في العالم من الولايات المتحدة. جرى إطلاق اسم" ناحشون بن عميدور" على تلك الطائرة، وهو اسم أول من عبر البحر الأحمر لدى خروج اليهود من مصر، وفقا للتاريخ اليهودي. تباهى قائد الطائرة بأنها قادرة على تصوير أي بقعة على سطح الكرة الأرضية بدقة كبيرة، وبهذا "سوف تحسن من الأداء التجسسي لسلاح الجو الإسرائيلي، إذ توفر معلومات بالغة الأهمية والفعالية وأفضل صور دقيقة لأوضاع مختلفة الساحات". وقد أكد موقع سلاح الجو الإسرائيلي على الإنترنت قدرة هذا السلاح "على استيعاب الطائرة الجديدة وهضم تقنياتها العالية، إذ أمضى بعض طياريه عدة أسابيع في الولايات المتحدة للتدرب على الطائرة (WWW.IAF.ORG.IL).
أما عن ميزات هذه الطائرة التي تم تطويرها أصلا من طائرة رجال الأعمال "جلف ستريم Gulf stream"، والتي تعاقدت شركة ايليتا الإسرائيلية وشركة جلف ستريم الأمريكية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2001 على صفقة تتضمن نموذجا للتجسس وآخر للمراقبة الجوية، فقد وصف قائدها قدراتها التكنولوجية بأنها فائقة التطور، كما لفت النظر إلى قدرة التحليق على ارتفاعات عالية جدا والبقاء في الجو خمس عشرة ساعة متواصلة، فتقلع من الولايات المتحدة إلى الخليج العربي مثلا بلا توقف ولا انقطاع (يديعوت أحرونوت، 2005/6/29م).
من ناحية ثانية، قال موقع الجيش الاسرائيلي على الإنترنت (www.IDF. IL) أن الطائرة الجديدة فائقة التطور تمنح سلاح الاسرائيلي تفوقا نوعيا لا نظير له، وأن الجيش الذي كان يعتمد على وحدات برية في مهام المراقبة الجوية صار يمتلك بهذا النوع من الطائرات قدرات غير مسبوقة لإنجاز مهام التجسس والمراقبة الجوية بفعالية ودقة كبيرتين. تبلغ تكلفة كل طائرة من هذا النموذج التجسسي، الذي لم يكن لدى سلاح الجو الإسرائيلي ما يضاهيه، نحو مئة مليون دولار.
من ناحية أخرى، تم بتعاون إسرائيلي- روسي إنتاج عدد من طائرات التجسس فالكون التي تعتمد على تقنيات أمريكية متقدمة. حلقت أولى تلك الطائرات المصنوعة في روسيا بمشاركة الصناعة الجوية الإسرائيلية فوق تل أبيب يوم 2002/5/30م . كان الاعتراض الأمريكي الشديد على تزويد الصين بتكنولوجيا أمريكية حساسة قد اضطر إسرائيل سنة 2000 إلى إلغاء اتفاق إسرائيلي- صيني سابق على إنتاج مشترك لنفس هذه الطائرة (معاريف، 2002/5/31م).
لقد تزايد الاعتماد الإسرائيلي علي أحدث تقنيات التجسس والاستطلاع، مثل سلسلة أقمار (أفق) الصناعية للتجسس، وطائرات بلا طيارين واختراق شبكات الكمبيوتر والتنسيق مع الولايات المتحدة للاستفادة من قدراتها وشبكاتها، وخاصة نظام التنصت الأمريكي العملاق (ب- 415- ايشلون) الذي يتنصت على كافة الاتصالات الهاتفية واللاسلكية والإلكترونية في العالم عبر شبكة ضخمة من مراكز ومحطات التنصت الموزعة في القارات الخمس، وعشرات الأقمار الصناعية وكابلات اتصالات خاصة بالنظام عبر المحيطات، بما يشكل أضخم شبكة تجسس في التاريخ البشري، إذ تتجسس يوميا على عشرات ملايين- وأحيانا مئات ملايين- الاتصالات المختلفة، تبعثها إلى مقر وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA في فورت ميد بولاية ميريلاند.
ضبطت مصر 64 جاسوساً يعملون لاصحل الموساد
كان افتضاح أمر زرع أجهزة متناهية الصغر تتولى إرسال المعلومات والبيانات المخزونة في آلاف من أجهزة الكمبيوتر المستعملة في عدة دول عربية إلى الاستخبارات الإسرائيلية، بما فيها أجهزة تستخدمها جيوش عربية، نتيجة التواطؤ بين عملاء المخابرات الإسرائيلية ومصدّري تلك الأجهزة، مؤشرا إلى واحد من آلاف أوجه الاختراق المخابراتي الإسرائيلي. كما جرى تعديل مئات آلاف أجهزة الهاتف المحمولة المباعة إلى العديد من الأقطار العربية لمصلحة المخابرات الإسرائيلية قبل شحنها، بحيث يبدو عمل الهاتف طبيعيا وبريئا، لكن اتصالا يرد إلى ذلك الهاتف من رقم معين مبرمج مسبقا يؤدي إلى تشغيله دون أن يدري صاحبه، بحيث يتم التقاط كل كلمة ينطق بها المتكلمان ونقلها عبر الشبكة إلى محطة التنصت (تفاصيل هذه التقنية في مجلة New Scientist الأمريكية وموقعها على الإنترنت).
صنعت شركة Net Line الإسرائيلية لتكنولوجيا الاتصالات، على سبيل المثال، عدة أنواع من أجهزة تجسس دقيقة تستخدم في الهواتف المحمولة. وقد شرح بن تني، أحد صاحبي الشركة ( كلا الشريكين: (تني) و(جيل) إسرائيلي ، عمل في مخابرات الجيش الإسرائيلي ثم في شركة صناعة الطائرات الحربية) آلية عمل جهاز رصد الاتصالات من الهواتف المحمولة التي تبدو خاملة تماما، بينما مستخدموها يتصلون في تلك الأثناء بأي مكان من العالم دون إصدار رنين، ودون أن تضيء شاشة الهاتف المحمول، بحيث يتم استخدامه كجهاز إرسال ينقل معلومات ومحادثات لا حصر لها دون إثارة أي شبهات أو شكوك. كما أن شركته قد طورت محلل نشاط الهاتف المحمول الذي يرصد نشاط الهواتف المحمولة في مكان ما، مسجلا مكالماتها، ومعطيا إشارة تحذير مرئية أو مسموعة، كما أنه يستطيع اكتشاف ما إذا كان جهاز تنصت قد زرع في غرفة أو قاعة.
وقال (بن تني) إن تمردا متزامنا جرى في خمسة سجون برازيلية قد اعتمد تنسيق إعداده وتنفيذه على منتجات شركته، وكذلك حالات هروب مساجين من سجون فرنسية وغيرها.
بدأت أجهزة الاستخبارت الإسرائيلية أيضا استخدام طائرة صغيرة جدا بحجم كف اليد، طولها 15 سنتمترا ووزنها مئة جرام، بحيث تبدو أشبه بحشرة طائرة، وهي تحتوي آلة تصوير فديو وأخرى تعمل بالأشعة تحت الحمراء وجهاز لقياس مدى أشعة الليزر مرتبط بقمر صناعي وميكرفون تنصت ومجسات كيماوية وكاشف متفجرات. لا تصدر حشرات التجسس الإلكترونية هذه صوتا لدى طيرانها، وتعمل داخل قاعات مغلقة أو في العراء. (معاريف 2002/10/9م).
بدايات الموساد
إن مواقع رسم السياسات وصنع القرارات الإسرائيلية تعوّل كثيرا على دور تكنولوجيا الإلكترون والمعلوماتية في استعادة فعالية الموساد وبريقه القديم. وهنا نلقي نظرة خاطفة على بدايات هذا الجهاز. ربما كان أحد أهم النشاطات التجسسية الصهيونية المبكرة ذلك النشاط الذي قادة: هارون آرنسوهن، أحد أبرز قادة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وقائد المنظمة الصهيونية السرية المسماة (نيلي Nili)، فقد استطاع إقناع جمال باشا، والي دمشق العثماني، بتعيينه في 1915/3/27 مفتشا لعمليات مكافحة الجراد في سورية وفلسطين ولبنان، واتخذ من هذه الوظيفة وسيلة تضمن له حرية الحركة والتنقل والاتصال، وغطاء لنشاطه التجسسي الذي كانت أبرز محطاته: قيادته مجموعة صهيونية استخباراتية هيأت لنزول القوات البريطانية على شاطئ فلسطين واحتلالها. وأخطر مهماته مع رجل المخابرات البريطاني الشهير لورنس: ترتيب اللقاء الثاني بين رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حاييم وايزمان، وفيصل بن حسين الذي عينه البريطانيون لاحقا ملكا على سورية، ثم على العراق -إذ وقع فيصل في ذلك اللقاء يوم 13-1-1919م. وثيقة موافقته على قيام دولة يهودية في فلسطين (جاك ديروجي وهنري كارمل، تاريخ إسرائيل السري: 1917-1977، الترجمة العربية، دمشق 1978، ص 42).
كان قرار تأسيس الموساد قد اتخذ في اجتماع سري عقده سنة 1937م في تل أبيب قادة الحركة العمالية الصهيونية والهاغانا والكيبوتزات. أعطي الجهاز آنذاك اسم Mossad Aliya Beth، أي (منظمة الهجرة غير المرخص بها). وبالتالي كانت المهمة الرئيسة له تهجير اليهود من أوربا خاصة إلى فلسطين بوسائل غير مشروعة، وانتهاكا لقوانين وأنظمة الدول المختلفة. كان المركز الرئيسي للموساد في باريس، ثم تم نقله إلى استنبول، وأعيد مجددا إلى باريس في آذار (مارس) 1945، وأقيمت إلى جانب المقر الرئيس في باريس قاعدة ميدانية ضخمة في ميناء مرسيليا الفرنسي، شكلت دولة داخل الدولة الفرنسية آنذاك. قال مسؤول أمريكي في ذلك الوقت إن للموساد في فرنسا جهاز اتصالات أفضل مما لدى الجيش الأمريكي في ألمانيا، ناهيك عن تجنيد مئات من الوزراء وكبار المسؤولين وأصحاب النفوذ الفرنسيين في صفوفه. وأقيمت كذلك مراكز استعلامات وقواعد ومحطات للموساد في كل أنحاء أوربا، بحيث لعب دورا رئيسا في تنفيذ عملية اغتصاب فلسطين وإقامة دولة صهيونية على معظم أرضها، إضافة لهذا الوجود القوي في أوربا، قبل إعلان إقامة إسرائيل على أرض فلسطين في 1948/5/15،
قال جاك ديروجي وهنري كارمل في كتابهما المشار إليه تاريخ إسرائيل السري 1917- 1977 (ص 17) أن الموساد استطاع دس عملاء في معظم البلدان والجيوش العربية قبل نشوب الحرب في العام 1948 بين تلك الجيوش والقوات الصهيونية يوم إعلان إقامة إسرائيل . جاء في الكتاب أنه أثناء تلك الحرب وبعد الهدنة تسلل عدد من رجال الموساد إلى بيروت ودمشق وعمان وبغداد والقاهرة منتحلين أسماء وشخصيات عربية، وتوصل بعضهم إلى احتلال مراكز هامة في تلك العواصم، مما سمح لهم بإغراق جهاز الموساد بأدق وأفضل المعلومات عن الدول العربية. واستثمر الجهاز تلك المعلومات لتكرار وتكريس انتصارات إسرائيلية عسكرية وسياسية ومخابراتية، ولإحباط خطط وبرامج وجهود العرب في سياق صراعهم ضد الغزوة الصهيونية.
توهم البعض بأن رضوخ عدة أنظمة عربية للضغوط الأمريكية الهادفة إلى إنهاء الصراع وتصفية القضية الفلسطينية عبر تسويات أحادية بين كل من هذه الأنظمة على حدة والحكومة الإسرائيلية يقلص الحاجة الإسرائيلية إلى التجسس في العالمين العربي والإسلامي. سرعان ما تبين خطأ هذا. لقد أظهرت تجارب العقود الأخيرة بوضوح أن التجسس الإسرائيلي على البلدان العربية والإسلامية ازداد، ولا يستثني أيا منها. عددت صحيفة الوفد المصرية مثلا في نهاية العام 2000 خمسا وعشرين حالة لشبكات تجسس وتخريب إسرائيلية، ضمت أربعة وستين جاسوسا، تم الإعلان رسميا في مصر عن ضبط أفرادها واعتقالهم خلال العقد الأخير من القرن العشرين، عدا ما لم يتم اكتشافها وضبطها من الحالات المماثلة، وعدا ما اقتضت أسباب مختلفة أن تتكتم السلطات المصرية بشأنها أو أن تغض الطرف عنها. بل قد تم ضبط تسع شبكات تجسس إسرائيلية في مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة من القرن العشرين (انظر: تل أبيب تتجسس على طائرة الرئيس مبارك..، المستقلة، لندن، 2000/12/12، ص6).
تضمنت نشاطات تلك الشبكات: الحصول على معلومات حيوية وأسرار عسكرية واستراتيجية وتجنيد عملاء محليين وتزوير عملات نقدية وتهريب نحو خمسمئة طن من المخدرات سنويا إلى مصر. وساعد في هذا أن اتفاقية كامب ديفيد خولت الإسرائيليين دخول سيناء بدون جوازات سفر. ضمت أبرز تلك الشبكات عدة موظفين في المركز "الأكاديمي" الإسرائيلي في القاهرة وموظفة أمريكية في هيئة "المعونة" الأمريكية، وتم ضبط أفلام وصور لوحدات من الجيش المصري ومحطة استقبال وإرسال لاسلكي ومعمل تحميض وأدوات تجسس ليزرية لديها، وكذلك شبكة ضمت صبحي مصراتي وابنه ماجد وابنته فائقة، وهم أصلا من يهود ليبيا، ومعهم ديفيد أوفيتس الذي لقنهم التجسس على الوحدات والمواقع العسكرية المصرية والشخصيات الهامة ومسؤولين كبار وأبنائهم ، خاصة بغواية الابنة (فائقة) التي أقامت علاقات جنسية مع العشرات من هؤلاء. تم إطلاق سراح أفراد تلك الشبكة، على الرغم من اعترافهم بالتجسس، وعلى الرغم من الإهانة العلنية المتلفزة التي وجهها صبحي المصراتي في آخر جلسة عقدتها المحكمة عندما شتم مصر وحكومتها وقضاءها، ثم صدم الحضور من محامين وشرطة ورجال إعلام وسواهم عندما شرع في التبول باتجاه هيئة المحكمة مطلقا سيل شتائمه، واعتدى بالضرب على ضابط الحراسة الذي حاول منعه. وتم وقف المحاكمة في أيار (مايو) 2002 وجرى إرسال هؤلاء الجواسيس إلى فلسطين المحتلة في طائرة مصرية خاصة، استجابة لضغوط أمريكية وإسرائيلية.
تكرر أيضا إطلاق سراح أشد الجواسيس الإسرائيليين خطورة وغموضا، عزام مصعب عزام، الذي أقام مصنعا لإنتاج الملابس في منطقة (شبرا الخيمة) العمالية في ضواحي القاهرة بالاشتراك مع أحد المصريين، وجعل المصنع قاعدة لأعمال تجسس وتخريب فائقة الخطورة؛ فبعد اعترافاته وإدانته قضائيا ومقاومة مصر للضغط الأمريكي والإسرائيلي لإغلاق ملفه، أطلق سراحه فجأة في ربيع العام 2005 .
لقد شهد الموساد الإسرائيلي بشكل خاص مؤخرا، إضافة إلى أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الأخرى: الشين بيت والشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان)، تركيزاً شديدا على إعادة التنظيم والتأهيل على نحو يستثمر قدرات أحدث التقنيات الإلكترونية، إضافة إلى العنصر البشري، لتكثيف نشاطات التجسس على البلدان العربية الإسلامية. وإذا كانت الآفاق التي تتيحها التقنيات الإلكترونية المتداولة بين عامة الناس هائلة الاتساع، فهي تتيح بالتأكيد فرصا متجددة غير محدودة لاستخدامها واستغلال قدراتها من قبل أجهزة وشبكات التجسس.
إن الاستغلال المخابراتي الإسرائيلي لتكنولوجيا المعلومات وتسخير الشبكة العنكبوتية والإنترنت لغرف قدر هائل من المعلومات عن الأوضاع والتحولات العربية، أمر مؤكد؛ فهذه التقنيات الإلكترونية تغني عن إرسال أو زرع أو استقطاب عشرات آلاف الجواسيس. إن الحواسيب العملاقة الإسرائيلية التي تتلقى دفق كميات هائلة من المعلومات عن العالمين العربي والإسلامي على مدار الساعة، بما فيها ما قد يبدو نفايات معلومات تافهة سطحية، تتغذى أساسا من اختراق المواقع والشبكات الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر العسكرية والمدنية.
لقد تم التشديد في قيادة الموساد على ضرورة مواجهة التحدي بعقلية جديدة وأساليب مبتكرة بعد سلسلة من الإخفاقات والنكسات التي تعرض لها عمل هذا الجهاز الذي نال شهرة أسطورية في الماضي. يلفت النظر هنا لجوء الموساد للمرة الأولى في نهاية شهر تموز (يوليو) 2000 إلى نشر إعلانات مفتوحة في وسائل الإعلام ذكرت أنها "تحتاج لمواجهة الأخطار المتزايدة في المنطقة، إلى جواسيس بمواصفات خاصة حاصلين على مؤهلات عليا ويعتقدون أنهم مؤهلون للعمل في الوكالة" ودعت "أفضل يد عاملة في السوق" ممن أعمارهم بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين "التواقين إلى مهنة مشوقة" لتقديم طلباتهم بالبريد إلى عنوان بريدي حددته من أجل الانتماء إلى "وحدة الصفوة الخاصة بالمواهب المتميزة" متعهدة بامتيازات مغرية هامة.
أهم نكسات الموساد
نذكّر هنا ببعض أهم نكسات الموساد الأخيرة، مثل الأزمة الحادة مع الحكومة النيوزيلندية التي رفضت رئيستها هيلين مثل الاتهام الخضوع لأسلحة الابتزاز الصهيوني البالية كالاتاهم باللاسامية لإغلاق ملف جاسوسَيْ الموساد: أوريل كيلمان وايلي كارا، اللذين أدانتهما محكمة نيوزيلندية في العام 2005 بالتجسس والتخريب في نيوزيلندا لصالح الموساد والانتماء إلى عصابة صهيونية تمارس الجريمة المنظمة وخرق السيادة والقوانين النيوزيلندية والقانون الدولي.
قبل أن تخف ضجة هذه الأزمة، تفجرت فضيحة تجسس لاري فرانكلين، الموظف الكبير في وزارة الدفاع الأمريكية لصالح المخابرات الإسرائيلية، مما أدى إلى اعتقاله وبدء محاكمته، تكرارا لحالة الجاسوس الآخر جوناثان بولارد الذي نقل للمخابرات الإسرائيلية كميات هائلة من المعلومات والوثائق عن دول عربية وإسلامية- وخاصة باكستان- مستغلا عمله في قيادة القوات البحرية الأمريكية.
كذلك كانت فضيحة جون دويش، رئيس المخابرات المركزية الأمريكية الذي استقال في 1996 وقدم اعتذاراً رسميا بعدما اعترف لسلطات التحقيق بأنه سلم العديد من الوثائق السرية للسفير الإسرائيلي في واشنطن بن أليعازر.
ثم فضيحة السفير الأمريكي في تل أبيب الصهيوني المتطرف مارتن انديك، الذي كان مسؤول المخابرات الخارجية الأسترالية أصلا ثم هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث رتبت القيادات الصهيونية له الحصول على الجنسية الأمريكية وتعييته مساعدا لوزير الخارجية الأمريكية خلال أسابيع قليلة من وصوله إلى الولايات المتحدة، تجاوزا للقوانين والأنظمة الأمريكية المرعية. لقد أوقف انديك عن عمله في العام 1999 وجرد من امتيازاته الدبلوماسية والسياسية وخضع للتحقيق بتهمة ارتكاب جريمة تضر بالأمن القومي الأمريكي من خلال تسريبه وثائق ومعلومات سرية أمريكية عن العلاقات والاتصالات مع المسؤولين العرب كان يحولها من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والسفارة الأمريكية إلى أجهزة كمبيوتر الموساد الإسرائيلي. وتكررت فضيحة مماثلة كشفت عمالة رونالد نيومان، السفير الأمريكي المرشح للبحرين، للموساد الإسرائيلي.
وكشف مجلة In Sight الأمريكية المتخصصة بشؤون المخابرات في نفس الفترة أن تحقيقا يجريه مكتب التحقيقات الاتحادي FBI أثبت قيام الموساد بالتنصت على الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لمسؤولين أمريكيين كبار في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، لكن وزارة العدل الأمريكية عرقلت جهود المكتب لتقديم اتهام بهذا الصدد متذرعة بضرورات دبلوماسية تتطلب تحاشي أزمة أمريكية - إسرائيلية.
أكد تقرير لوكالة (درادج ريبورت) المعلوماتية الأمريكية ما ذكرته هذه المجلة وأضافت أن عمليات التنصت الإسرائيلية في واشنطن تتم منذ أربع سنوات بواسطة شركة اتصالات يملكها الموساد في واشنطن. إن الذين يتجسسون على الولايات المتحدة- وهي ضامنة وجودهم وحامية تجاوزاتهم واعتداءاتهم وتفوقهم ومموّلة كيانهم، التي لا تبخل عليهم بدعم مالي وعسكري وسياسي واقتصادي وأمني- لن يتورعوا عن التجسس على أي دولة أخرى.
فرضت التطورات المتلاحقة تركيزاً إسرائيليا أشد بكثير على تنشيط العمليات المخابراتية. تركز توجهات السياسية الإسرائيلية الراهنة المحمية والمدعومة كليا من قبل الولايات المتحدة على استثمار الأوضاع الناجمة عن الاحتلال الأمريكي للعراق، يتضمن التوسع في تنفيذ استراتيجية التوتر، التي تنسجم مع التكتيك الأمريكي الراهن الذي أسمته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، انتهاج سياسة "الفوضى الخلاقة". كان جيفري ستاينبرغ، المحلل الاستراتيجي اليهودي في وكالة EIR المخابراتية الأمريكية، قد جزم في مرحلة انتصار مجاني مماثل سابق أهدته الحرب الأمريكية الأولى ضد العراق لإسرائيل أنه " لا شك على الإطلاق في أن هناك مصالح أمريكية اسرائيلية مشتركة في تنفيذ استراتيجية التوتر، لكن الدوافع السياسية والجيوبوليتيكية وكذلك اللاعبين الإسرائيليين في هذه العملية الرامية إلى زعزعة الاستقرار ترتبط جميعا ارتباطا أساسيا بوكالات المخابرات الأوربية والإسرائيلية" (الكفاح العربي، بيروت، العدد 765، 1993/3/29). لذا نتوقع تنشيط أعمال التخريب والاغتيالات واختراق البني المجتمعية والفكرية والعقيدية والإعلامية والمؤسساتية العربية والإسلامية وإثارة الاضطرابات والقلاقل والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية والصراعات السياسية والقبلية والمذهبية والطائفية في أكثر البلدان العربية والإسلامية... كل ذلك متوقع بوتيرة أشد كأبرز مهام المخابرات الإسرائيلية الراهنة.
لقد منحت الأوضاع التي أفرزها الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق داخل العراق وعلى امتداد إقليمي واسع مشروع الغزوة الصهيونية مستوى هائلا من الأمان على الصعيد الاستراتيجي المرحلي، لكنها ضاعفت في الوقت نفسه من المخاطر الهائلة الناجمة عن تصعيد توجه قوى شعبية نحو القتال ضد إسرائيل والولايات المتحدة معا، خارج أطر الجيوش والحكومات المقيدة بمعادلات وضغوط وتدخلات دولية. هذا دافع جوهري مؤكد لمضاعفة جهود وأدوات التجسس الإسرائيلي في المنطقة. ولا فرق هنا بين دول خدّرها وَهْمُ أنها باتت في مأمن بعد توقيعها معاهدات تسوية وصلح مع الحكومة الصهيونية، وبين دول لاتزال قواها الفاعلة تتمسك بالموقف المبدئي، معتبرة أن اغتصاب فلسطين وتحويل معظم أرضها إلى كيان أجنبي استيطاني عنصري صهيوني هو باطل لا يكتسب شرعية بمرور الزمن أو بضغوط أمريكية، وأن الصراع العربي - الإسلامي ضد الغزوة الصهيونية مستمر ومتجدد: صراع وجود، لا مجرد نزاع على حدود.