غزوة بدر الكبرى.. عبر وعظات
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الدكتور عثمان قدري مكانسي
بدر الأولى نقطة الضياء الأولى في حياة المسلمين الجهادية التي انبثق منها نور الإسلام إلى أقطار الدنيا ، فكانت فاتحة عز في تاريخنا العسكري إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
بدر الكبرى التي أرادها الله أن تكون فرقاناً بين الحق والباطل وإيذاناً إلى حياة كريمة تجعل المجتمع المسلم حركياً ينبض بالنشاط ممزوجاً بالقوة والحيوية .
في هذه الغزوة الأولى عظات وعبر تأخذ بيد المسلم إلى حيث القدوة والمثل الأعلى في السلم والحرب ، وتوضح أن القتال لا بد منه - حين يستعلي الظلم ويتجبر الكبْر ليعود الحق إلى نصابه وتعلو كلمته في سماء الكون ونهج الحياة :
1- هرب المسلمون بحياتهم وعقيدتهم من مكة - التي لم يرعَ الكفار فيها حرية الاعتقاد فصبوا جام غضبهم على المؤمنين عذاباً وإيذاءً وفتنة – إلى المدينة المنورة ينعمون بحرية الاعتقاد والعبادة ، فلا رقيب ينغص عليهم ، ولا سفيه يمنعهم من أداء شعائرهم . خرجوا من مكة وقد استولى المشركون على دورهم ورياضهم وأموالهم ، فكان لا بد من اهتبال فرصة يستعيد فيها المسلمون جزءاً من حقوقهم المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وحق طبيعي أن يسعى المظلوم إلى استنقاذ بعض ما سُلب منه واغتصب . وكان أبو سفيان على رأس قافلة لقريش عائدة من الشام قد دنا في طريق عودته من المدينة على حذر ، فشعر به المسلمون وقد كانوا يتنسمون أخبارها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنـْفـِلُكموها )
فخف أقوام وتثاقل أقوام لظنهم أن رسول الله لن يلقى حرباً .
2- يريد المسلمون حيازة الأمور دون عناء – وهذه طبيعة إنسانية عامة – يبغون القافلة كي يستغني المهاجرون عن الأنصار الذين أحلوهم بيوتهم وأموالهم واستقبلوهم بحب ومودة وأخوّة كيلا يثقلوا عليهم ، فقد طالت الأيام حتى تجاوزت منذ أن وطئ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يثرب الثمانية عشر شهراً . وهذا غاية ما يفكر فيه المسلمون في حياتهم التي بدأت تستقر في ملاذهم الجديد. لكن الله تعالى يريد لهم شرفاً لا يفارقهم إلى أن تقوم الساعة ، وأن يكونوا الروّاد الأوائل في الذود عن دعوة الله تعالى والقدوة الأمثل لخَلَفهم في الجهاد في سبيل الله .
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله :
أ- ـ { أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين }
ب- ـ { ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون }.
وقد يقول التاريخ في يوم من الأيام – لو أخذ المسلمون القافلة – هؤلاء هم المسلمون – من أولهم إلى آخرهم – يقطعون الطريق ، ويسلبون الناس ، ويبثون الذعر بين الأمم . وقد قالوا مع ذلك أشد ما قيل ، حين وصفوا المسلمين كذباً وزوراً بالإرهاب والاعتداء وترويع الآمنين ، فأسبغوا علينا من صفاتهم اللصيقة بهم ما لا ينطبق علينا بحال . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث الرحمة والرأفة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
3- والجدير بالذكر أن المعركة الوحيدة في التاريخ من لدن آدم حتى يومنا هذا عرفت نتيجتها قبل بدايتها هي معركة بدر الأولى ، فقد وعد الله المسلمين حيازة أحد الأمرين : إما القافلة وإما النصر على المشركين ، وقد نجت القافلة فسارت غرباً ، ووجد المسلمون أنفسهم وجهاً لوجه أمام جيش المشركين ، يسعى إلى حتفه دون أن يدري أن قدر الله تعالى حكم بانكساره وتدميره . فقد كان المسلمون معسكرين شمال مرتفع بدر وجيش المشركين يتجهون نحوهم جنوبه ، والقافلة تجد مسرعة غربه وكانوا متقاربين دون أن يشعر أحد الثلاثة بقربه من الاثنين الآخرين ، صحيح أن المسلمين يبحثون عن القافلة وهي على مرمى حجر منهم دون أن يروها ، كذلك كان المشركون يجدون السير نحو المسلمين دون أن يعلموا أنهم دنوا منهم على مرمى حجر كذلك. إنه تخطيط الله وقدره :
{ إذ أنتم بالعُدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم :
- ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد
- ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً
- ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة
- وإن الله لسميع عليم }.
4- وحتى يغري الله تعالى الطرفين بالقتال – وكان عدد المسلمين يعادل ثُـلُثِ عدد المشركين والمشركون في حدود ألف مقاتل – جعل كلاً من الطرفين يبدو للآخرفي المعركة قليل العدد مما يسهل عليه قتاله دون أن يخاف منه أو يحسب له حساباً يجعله يتردد في البدء بالقتال { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .. } فهذا عمير بن وهب الجمحي يقول له أصحابه : احزر لنا أصحاب محمد . فيجول بفرسه حول المسلمين ثم يعود ليقول : ثلاث مئة رجل يزيدون أو ينقصون . وقد كان المسلمون يعلمون أن المشركين أكثر منهم ثلاثة الأضعاف لكنهم حين بدأت المعركة تراءوا لهم قليلين فمالوا عليهم لا يهابونهم بفضل من الله وتيسير .
5- والرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى يستشير المسلمين ويأخذ بآرائهم لأنه قدوة للمسلمين يعلمهم أن على القائد أو الوجيه مهما نضج فكره واشتد
ذكاؤه أن يضيف إليه عقول أصحابه وجنوده فيزداد توثيقاً لموقفه أو تصويباً له وإحكاماً وهكذا فعل الحبيب المصطفى حين علم أن المشركين خرجوا يريدون قتاله فقال : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) فتكلم الصديق والفاروق والمقداد بن عمرو فأحسنوا ثم قال مرة أخرى : ( أشيروا عليّ أيها الناس ). يريد الأنصار الذين عاهدوه أن يحموه في المدينة مما يحمون منه نساءهم وأولادهم وأموالهم ، وها قد خرج الرسول من المدينة ، فهل يقاتلون معه أو ليسوا ملزمين بذلك ! فأكد سعد بن معاذ زعيم الأوس أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العهود والمواثيق على السمع والطاعة في كل شيء ، وأنهم جند الله في كل ما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويدعو إليه .
وحين نزل المسلمون أدنى ماء من بدر وأمامهم – بينهم وبين المشركين آبار كثيرة – يسأله المنذر بن الحباب بأدب جم : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
قال : ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ).
فأشار الحباب أن ينزل المسلمون بأدنى ماء من العدو ، ويغوّروا بقية الآبار ، ويبنوا حوضاً على البئر فيشرب المسلمون ولا يشرب المشركون . ووافقه الرسول الكريم ، وفعل المسلمون ما أشار به الحباب .
وأشار سعد على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبنوا له عريشاً يكون فيه، ويعدوا له ركائب ويحرسه بعض المسلمين بقيادة سعد ، فإن أظهرهم الله وأعزهم كان ذلك ما أحبه المسلمون ، وإلا انطلق الرسول وحراسه إلى المدينة ولحق بمن بقي فيها ليبدأوا الدعوة من جديد . فكان ما أشار به سعد ، وبُنيَ العريش .
6 - الدعاء هو العبادة ، يلجأ به العبد إلى ربه يسأله العون والنصر . يذل له ويناجيه ويتقرب إليه ، وهكذا فعل الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم حين رأى قريشاً تتقدم إلى ساح المعركة تكبراً وخيلاء ، فقال متضرعاً إلى الله تعالى : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلها وخُيلائها وفخرها ، نُحادّك وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرَك الذي وعدتني ، اللهم أحِنْهم الغداة ) . ثم يناشد ربه قائلاً :
( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ) ،
وأبو بكر يدعوه أن يكثر من الدعاء : يا نبي الله بعضَ مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك .
7- والقائد الناجح يكون كل حين بين جنوده يحضهم ويشجعهم ، فإذا رأوه بينهم يقاتل ويتقدم الصفوف قالوا : ليست أرواحنا أفضل من روحه ولا حياتنا أغلى من حياته ،فتقدموا مطمئنين ثابتين . وإذا رأوه ينأى بنفسه عن المعركة ، ويحضهم على القتال وهو بعيد عنهم استنكروا تصرفه وقالوا : ليست روحه بأغلى من أرواحنا ، ولا حياته بأفضل من حياتنا وبدأت الهزيمة في النفوس قبل بدء المعركة . وهذا البطل المقدام عليّ رضي الله عنه يقول مادحاً إقدام المصطفى عليه الصلاة والسلام : كنا إذا حمي الوطيس واحمرّت الحِدَق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه .
وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الصفوف ، ويمشي بينها يحرض على القتال ، فقد قال :
( والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً ، مقبلاُ غيرَ مدبر إلا أدخله الله الجنة ) .
فقال عمير بن الحمام – أخو بني سلمة – وفي يده تمرات يأكلهنّ : بخٍ بخٍ . أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء . ثم قذف التمرات وقال : إنها لحياة طويلة . وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل . ومما شجع المسلمين وثبتهم في القتال بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر لهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم أراهم مصارع القوم .
8- ومن كان يقاتل في سبيل الله نصره الله تعالى وأيده بمدد من عنده ، ومن قاتل لغرض في نفسه رفع الله يده عنه . فالمسلمون كلهم لله وقصدهم أن يرضوه تعالى ، وحياتهم وهبوه إياها . فكان الله تعالى معهم يؤيدهم بنصره حين استغاثوه وسألوه المدد : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وليست الملائكة الذين ينصرون إنما النصر من الله تعالى ، وما الملائكة إلا بشرى للنصر ،
{ وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم }.
ثبتت الملائكة المسلمين بأمر من الله وقاتلت معهم في هذا اليوم فضربت أعناق المشركين وأصابعهم : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم
فثبتوا الذين آمنوا
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }
والنصر أولاً وآخراً من الله ، وما كان قتال المسلمين إلا ستاراً بشرياً لإرادة الله تعالى في خذلان المشركين ورفع كلمة الله وراية الإسلام .
{ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميتَ ولكنّ الله رمى .. " والله وحده هو الذي يذهب فساد المشركين ومكرهم { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } .
ونرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقي الكفار في القليب ينطلق إلى القليب ويخاطب القتلى : ( يا أهل القليب ، يا عتبة ، يا شيبة .... - ويذكر أسماء من كان في القليب – هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ) ؟
قال المسلمون : يا رسول الله أتنادي قوماً قد جيّفوا ؟
قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ).
9- والمسلمون مهما ارتفعوا وسمَوا بشر يخطئون ويصيبون . لكنهم سرعان ما يفيئون إلى الحق ويذلون له ، ويستغفرون الله . فمن أخطائهم التي ذكرها القرآن أن المسلمين بعد انتهاء المعركة كانوا ثلاثة أقسام :
القسم الأول هم الذين ظلوا في أرض المعركة يطهرونها مما بقي من المشركين ، ثم أخذ الغنائم . وكانت الغنائم في شرع العرب لمن يأخذها من أرض المعركة قبل غيره . فهؤلاء لم يتركوا شيئاً لغيرهم .
القسم الثاني حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما ينبغي لهم أن يغفلوا عن الرسول أو يتركوه لحظة ، فلم يكن لهم من الغنائم نصيب .
القسم الثالث الفرسان الذين تابعوا المشركين الهاربين إلى مسافات بعيدة وطاردوهم وشتتوهم حتى لا يجتمعوا ويفكروا بالعودة إلى ساح المعركة . هؤلاء حين عادوا لم يجدوا فيها ما يأخذون .
وهنا تتحرك الطبيعة البشرية الأرضية تسأل عن حقوقها وتطالب بالغنائم ، وعلت الأصوات ، واشتد اللغط واشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد الله تعالى أن يلقنهم درساً في الحب الجماعي وتفضيل المصلحة الجماعية على المصلحة الشخصية ،ودرساً في الطاعة فأمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الجميع ما أخذوه ، فكان ما أراد . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
أ: فاتقوا الله
ب: وأصلحوا ذات بينكم
ت: وأطيعوا الله ورسوله
إن كنتم مؤمنين }
فلما صفت نفوسهم وعاد الحب الأخوي رائدهم وزع النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم قبل الوصول إلى المدينة .
كما أن فريقاً من المؤمنين لم يكونوا يرغبون في القتال وجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم فيه ،ورأوا أنهم غير مستعدين له ، فما خرجوا إلا للقافلة، وفوجئوا بما لم يكن في الحسبان وخافوا أن ينهزموا فآثروا أن ينسحب المسلمون إلى المدينة أو ينتظروا مدداً منها واعتبروا القتال في حالتهم هذه دفعاً للنفس إلى الموت :
{ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } .
لكنهم التزموا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وضّحوا موقفهم ، وهكذا المسلم ، جندي مطيع لقائده لا يخالفه حين يكون الأمر اجتهاداً له وجوه عدّةٌ ، فكيف والقائد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم !.
10- الاحتفاء بالنصر وشكر الله سبحانه على فضله يكون بالزيادة في طاعته وتحرّي إرضائه . أما ما نراه من احتفالات تظهر فيها المنكرات والمفاسد فجهل وعصيان وتنكر لهذا الفضل العظيم يؤدي إلى إغضاب الله تعالى ، ثم إلى نقمته – والعياذ بالله . فهذا أبو جهل حين أرسل إليه عتبة بن ربيعة أنّ القافلة قد نجت ، ولا حاجة للبقاء وقتال محمد – صلى الله على محمد – انتفخ سَحَرُه وغضب وقال قولته المشهورة " لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاثاً ننحر الجُزُر ونطعم الطعام ،ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً " فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، فقتل وجمعٌ غفير من قريش ، وأسر أمثالهم ، وسقطت هيبتهم بين العرب .
وهذا ما حصل في حرب 1967حزيران – يونيه – حين قال المذيع المصري المشهور أحمد سعيد أيام الحرب بأمر من أسياده وقتذاك : سندخل تل أبيب ، ونحتفل بنصرنا ونشرب نخب النصر، وتغنينا أم كلثوم وكبار الفنانين . فخسر العرب سيناء والجولان والضفة الغربية ، وقام مذيع الإسرائيليين يسخر من العرب قائلاً : ندعو زعماء العرب إلى تل أبيب ليشربوا نخب انتصارنا وليحضروا معهم أم كلثوم وغيرها يغنون لنا !!
وما أشبه الليلة بالبارحة .
بدر الكبرى التي أرادها الله أن تكون فرقاناً بين الحق والباطل وإيذاناً إلى حياة كريمة تجعل المجتمع المسلم حركياً ينبض بالنشاط ممزوجاً بالقوة والحيوية .
في هذه الغزوة الأولى عظات وعبر تأخذ بيد المسلم إلى حيث القدوة والمثل الأعلى في السلم والحرب ، وتوضح أن القتال لا بد منه - حين يستعلي الظلم ويتجبر الكبْر ليعود الحق إلى نصابه وتعلو كلمته في سماء الكون ونهج الحياة :
1- هرب المسلمون بحياتهم وعقيدتهم من مكة - التي لم يرعَ الكفار فيها حرية الاعتقاد فصبوا جام غضبهم على المؤمنين عذاباً وإيذاءً وفتنة – إلى المدينة المنورة ينعمون بحرية الاعتقاد والعبادة ، فلا رقيب ينغص عليهم ، ولا سفيه يمنعهم من أداء شعائرهم . خرجوا من مكة وقد استولى المشركون على دورهم ورياضهم وأموالهم ، فكان لا بد من اهتبال فرصة يستعيد فيها المسلمون جزءاً من حقوقهم المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وحق طبيعي أن يسعى المظلوم إلى استنقاذ بعض ما سُلب منه واغتصب . وكان أبو سفيان على رأس قافلة لقريش عائدة من الشام قد دنا في طريق عودته من المدينة على حذر ، فشعر به المسلمون وقد كانوا يتنسمون أخبارها ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنـْفـِلُكموها )
فخف أقوام وتثاقل أقوام لظنهم أن رسول الله لن يلقى حرباً .
2- يريد المسلمون حيازة الأمور دون عناء – وهذه طبيعة إنسانية عامة – يبغون القافلة كي يستغني المهاجرون عن الأنصار الذين أحلوهم بيوتهم وأموالهم واستقبلوهم بحب ومودة وأخوّة كيلا يثقلوا عليهم ، فقد طالت الأيام حتى تجاوزت منذ أن وطئ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يثرب الثمانية عشر شهراً . وهذا غاية ما يفكر فيه المسلمون في حياتهم التي بدأت تستقر في ملاذهم الجديد. لكن الله تعالى يريد لهم شرفاً لا يفارقهم إلى أن تقوم الساعة ، وأن يكونوا الروّاد الأوائل في الذود عن دعوة الله تعالى والقدوة الأمثل لخَلَفهم في الجهاد في سبيل الله .
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله :
أ- ـ { أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين }
ب- ـ { ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون }.
وقد يقول التاريخ في يوم من الأيام – لو أخذ المسلمون القافلة – هؤلاء هم المسلمون – من أولهم إلى آخرهم – يقطعون الطريق ، ويسلبون الناس ، ويبثون الذعر بين الأمم . وقد قالوا مع ذلك أشد ما قيل ، حين وصفوا المسلمين كذباً وزوراً بالإرهاب والاعتداء وترويع الآمنين ، فأسبغوا علينا من صفاتهم اللصيقة بهم ما لا ينطبق علينا بحال . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث الرحمة والرأفة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين }
3- والجدير بالذكر أن المعركة الوحيدة في التاريخ من لدن آدم حتى يومنا هذا عرفت نتيجتها قبل بدايتها هي معركة بدر الأولى ، فقد وعد الله المسلمين حيازة أحد الأمرين : إما القافلة وإما النصر على المشركين ، وقد نجت القافلة فسارت غرباً ، ووجد المسلمون أنفسهم وجهاً لوجه أمام جيش المشركين ، يسعى إلى حتفه دون أن يدري أن قدر الله تعالى حكم بانكساره وتدميره . فقد كان المسلمون معسكرين شمال مرتفع بدر وجيش المشركين يتجهون نحوهم جنوبه ، والقافلة تجد مسرعة غربه وكانوا متقاربين دون أن يشعر أحد الثلاثة بقربه من الاثنين الآخرين ، صحيح أن المسلمين يبحثون عن القافلة وهي على مرمى حجر منهم دون أن يروها ، كذلك كان المشركون يجدون السير نحو المسلمين دون أن يعلموا أنهم دنوا منهم على مرمى حجر كذلك. إنه تخطيط الله وقدره :
{ إذ أنتم بالعُدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم :
- ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد
- ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً
- ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة
- وإن الله لسميع عليم }.
4- وحتى يغري الله تعالى الطرفين بالقتال – وكان عدد المسلمين يعادل ثُـلُثِ عدد المشركين والمشركون في حدود ألف مقاتل – جعل كلاً من الطرفين يبدو للآخرفي المعركة قليل العدد مما يسهل عليه قتاله دون أن يخاف منه أو يحسب له حساباً يجعله يتردد في البدء بالقتال { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .. } فهذا عمير بن وهب الجمحي يقول له أصحابه : احزر لنا أصحاب محمد . فيجول بفرسه حول المسلمين ثم يعود ليقول : ثلاث مئة رجل يزيدون أو ينقصون . وقد كان المسلمون يعلمون أن المشركين أكثر منهم ثلاثة الأضعاف لكنهم حين بدأت المعركة تراءوا لهم قليلين فمالوا عليهم لا يهابونهم بفضل من الله وتيسير .
5- والرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى يستشير المسلمين ويأخذ بآرائهم لأنه قدوة للمسلمين يعلمهم أن على القائد أو الوجيه مهما نضج فكره واشتد
ذكاؤه أن يضيف إليه عقول أصحابه وجنوده فيزداد توثيقاً لموقفه أو تصويباً له وإحكاماً وهكذا فعل الحبيب المصطفى حين علم أن المشركين خرجوا يريدون قتاله فقال : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) فتكلم الصديق والفاروق والمقداد بن عمرو فأحسنوا ثم قال مرة أخرى : ( أشيروا عليّ أيها الناس ). يريد الأنصار الذين عاهدوه أن يحموه في المدينة مما يحمون منه نساءهم وأولادهم وأموالهم ، وها قد خرج الرسول من المدينة ، فهل يقاتلون معه أو ليسوا ملزمين بذلك ! فأكد سعد بن معاذ زعيم الأوس أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العهود والمواثيق على السمع والطاعة في كل شيء ، وأنهم جند الله في كل ما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويدعو إليه .
وحين نزل المسلمون أدنى ماء من بدر وأمامهم – بينهم وبين المشركين آبار كثيرة – يسأله المنذر بن الحباب بأدب جم : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟
قال : ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ).
فأشار الحباب أن ينزل المسلمون بأدنى ماء من العدو ، ويغوّروا بقية الآبار ، ويبنوا حوضاً على البئر فيشرب المسلمون ولا يشرب المشركون . ووافقه الرسول الكريم ، وفعل المسلمون ما أشار به الحباب .
وأشار سعد على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبنوا له عريشاً يكون فيه، ويعدوا له ركائب ويحرسه بعض المسلمين بقيادة سعد ، فإن أظهرهم الله وأعزهم كان ذلك ما أحبه المسلمون ، وإلا انطلق الرسول وحراسه إلى المدينة ولحق بمن بقي فيها ليبدأوا الدعوة من جديد . فكان ما أشار به سعد ، وبُنيَ العريش .
6 - الدعاء هو العبادة ، يلجأ به العبد إلى ربه يسأله العون والنصر . يذل له ويناجيه ويتقرب إليه ، وهكذا فعل الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم حين رأى قريشاً تتقدم إلى ساح المعركة تكبراً وخيلاء ، فقال متضرعاً إلى الله تعالى : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلها وخُيلائها وفخرها ، نُحادّك وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرَك الذي وعدتني ، اللهم أحِنْهم الغداة ) . ثم يناشد ربه قائلاً :
( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ) ،
وأبو بكر يدعوه أن يكثر من الدعاء : يا نبي الله بعضَ مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك .
7- والقائد الناجح يكون كل حين بين جنوده يحضهم ويشجعهم ، فإذا رأوه بينهم يقاتل ويتقدم الصفوف قالوا : ليست أرواحنا أفضل من روحه ولا حياتنا أغلى من حياته ،فتقدموا مطمئنين ثابتين . وإذا رأوه ينأى بنفسه عن المعركة ، ويحضهم على القتال وهو بعيد عنهم استنكروا تصرفه وقالوا : ليست روحه بأغلى من أرواحنا ، ولا حياته بأفضل من حياتنا وبدأت الهزيمة في النفوس قبل بدء المعركة . وهذا البطل المقدام عليّ رضي الله عنه يقول مادحاً إقدام المصطفى عليه الصلاة والسلام : كنا إذا حمي الوطيس واحمرّت الحِدَق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون أحدٌ أقربَ إلى العدوّ منه .
وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الصفوف ، ويمشي بينها يحرض على القتال ، فقد قال :
( والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً ، مقبلاُ غيرَ مدبر إلا أدخله الله الجنة ) .
فقال عمير بن الحمام – أخو بني سلمة – وفي يده تمرات يأكلهنّ : بخٍ بخٍ . أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء . ثم قذف التمرات وقال : إنها لحياة طويلة . وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل . ومما شجع المسلمين وثبتهم في القتال بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر لهم ، كما أنه صلى الله عليه وسلم أراهم مصارع القوم .
8- ومن كان يقاتل في سبيل الله نصره الله تعالى وأيده بمدد من عنده ، ومن قاتل لغرض في نفسه رفع الله يده عنه . فالمسلمون كلهم لله وقصدهم أن يرضوه تعالى ، وحياتهم وهبوه إياها . فكان الله تعالى معهم يؤيدهم بنصره حين استغاثوه وسألوه المدد : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وليست الملائكة الذين ينصرون إنما النصر من الله تعالى ، وما الملائكة إلا بشرى للنصر ،
{ وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم }.
ثبتت الملائكة المسلمين بأمر من الله وقاتلت معهم في هذا اليوم فضربت أعناق المشركين وأصابعهم : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم
فثبتوا الذين آمنوا
سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }
والنصر أولاً وآخراً من الله ، وما كان قتال المسلمين إلا ستاراً بشرياً لإرادة الله تعالى في خذلان المشركين ورفع كلمة الله وراية الإسلام .
{ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميتَ ولكنّ الله رمى .. " والله وحده هو الذي يذهب فساد المشركين ومكرهم { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } .
ونرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقي الكفار في القليب ينطلق إلى القليب ويخاطب القتلى : ( يا أهل القليب ، يا عتبة ، يا شيبة .... - ويذكر أسماء من كان في القليب – هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ) ؟
قال المسلمون : يا رسول الله أتنادي قوماً قد جيّفوا ؟
قال : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ).
9- والمسلمون مهما ارتفعوا وسمَوا بشر يخطئون ويصيبون . لكنهم سرعان ما يفيئون إلى الحق ويذلون له ، ويستغفرون الله . فمن أخطائهم التي ذكرها القرآن أن المسلمين بعد انتهاء المعركة كانوا ثلاثة أقسام :
القسم الأول هم الذين ظلوا في أرض المعركة يطهرونها مما بقي من المشركين ، ثم أخذ الغنائم . وكانت الغنائم في شرع العرب لمن يأخذها من أرض المعركة قبل غيره . فهؤلاء لم يتركوا شيئاً لغيرهم .
القسم الثاني حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما ينبغي لهم أن يغفلوا عن الرسول أو يتركوه لحظة ، فلم يكن لهم من الغنائم نصيب .
القسم الثالث الفرسان الذين تابعوا المشركين الهاربين إلى مسافات بعيدة وطاردوهم وشتتوهم حتى لا يجتمعوا ويفكروا بالعودة إلى ساح المعركة . هؤلاء حين عادوا لم يجدوا فيها ما يأخذون .
وهنا تتحرك الطبيعة البشرية الأرضية تسأل عن حقوقها وتطالب بالغنائم ، وعلت الأصوات ، واشتد اللغط واشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد الله تعالى أن يلقنهم درساً في الحب الجماعي وتفضيل المصلحة الجماعية على المصلحة الشخصية ،ودرساً في الطاعة فأمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الجميع ما أخذوه ، فكان ما أراد . ونزل قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
أ: فاتقوا الله
ب: وأصلحوا ذات بينكم
ت: وأطيعوا الله ورسوله
إن كنتم مؤمنين }
فلما صفت نفوسهم وعاد الحب الأخوي رائدهم وزع النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم قبل الوصول إلى المدينة .
كما أن فريقاً من المؤمنين لم يكونوا يرغبون في القتال وجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم فيه ،ورأوا أنهم غير مستعدين له ، فما خرجوا إلا للقافلة، وفوجئوا بما لم يكن في الحسبان وخافوا أن ينهزموا فآثروا أن ينسحب المسلمون إلى المدينة أو ينتظروا مدداً منها واعتبروا القتال في حالتهم هذه دفعاً للنفس إلى الموت :
{ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } .
لكنهم التزموا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وضّحوا موقفهم ، وهكذا المسلم ، جندي مطيع لقائده لا يخالفه حين يكون الأمر اجتهاداً له وجوه عدّةٌ ، فكيف والقائد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم !.
10- الاحتفاء بالنصر وشكر الله سبحانه على فضله يكون بالزيادة في طاعته وتحرّي إرضائه . أما ما نراه من احتفالات تظهر فيها المنكرات والمفاسد فجهل وعصيان وتنكر لهذا الفضل العظيم يؤدي إلى إغضاب الله تعالى ، ثم إلى نقمته – والعياذ بالله . فهذا أبو جهل حين أرسل إليه عتبة بن ربيعة أنّ القافلة قد نجت ، ولا حاجة للبقاء وقتال محمد – صلى الله على محمد – انتفخ سَحَرُه وغضب وقال قولته المشهورة " لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاثاً ننحر الجُزُر ونطعم الطعام ،ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبداً " فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، فقتل وجمعٌ غفير من قريش ، وأسر أمثالهم ، وسقطت هيبتهم بين العرب .
وهذا ما حصل في حرب 1967حزيران – يونيه – حين قال المذيع المصري المشهور أحمد سعيد أيام الحرب بأمر من أسياده وقتذاك : سندخل تل أبيب ، ونحتفل بنصرنا ونشرب نخب النصر، وتغنينا أم كلثوم وكبار الفنانين . فخسر العرب سيناء والجولان والضفة الغربية ، وقام مذيع الإسرائيليين يسخر من العرب قائلاً : ندعو زعماء العرب إلى تل أبيب ليشربوا نخب انتصارنا وليحضروا معهم أم كلثوم وغيرها يغنون لنا !!
وما أشبه الليلة بالبارحة .