حينما تغدو صلاتك ثورة/حسان العماري

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,782
التفاعل
17,900 114 0
حينما تغدو صلاتك ثورة

حسان العماري

الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود صاحب العطاء والفضل والجود..

ربي لك الحمد العظيم لذاتك ** حمداً وليس لواحد إلاَّك
يا مدرك الأبصار والأبصار ** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكاً
ولعل ما في النفس من آياته ** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا ** حاولْتَ تفسيراً لها أعياك
إن لم تكن عيني تراك فإنني ** في كل شيء أستبين عُلاك
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً أما بعــــد:-
إن من أعظم علامات الإيمان والصدق على عبودية الرحمن طاعته بما شرع وإن أعظم شرائعه سبحانه وتعالى الصلاة، فما من نبي إلا وأمر أمته بالصلاة حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بها وأكد عليها وتعبد الله بها وربّى عليها أصحابه وأتباعه وأوصاهم بها حتى يلقوا ربهم وهم على ذلك.. ومن نظر في القرآن وجد أن الصلاة فريضة الحياة ووظيفة العمر، فقد دعا الخليل عليه السلام فقال { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }، وأنطق الله عيسى عليه السلام وهو طفل صغير فقال { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }، وافتتح الله بها صفاتِ المؤمنين { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ }.. وأمر سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها فقال { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ }.

والصلاة هي مفتاحُ السعادة.. وطريقُ دارِ السلام.. وبها يكون العبد في جوار الملك العلام.. روى البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: يا بلال.. حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام.. فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة!!
قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً.. في ساعة ليل أو نهار.. إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي..

وروى الطبراني وأصل الحديث في مسلم عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبت عنده،
فقال يوما: يا ربيعة سلني فأعطيَك،
فقلت: أَنظِرْني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة.. فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: من أمرك بهذا ؟
قلت: ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه فأحببت أن تدعو الله،
قال: إني فاعل، فأعنّي على نفسك بكثرة السجود.

وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة،
فقال: عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة،

وفي صحيح مسلم من حديث أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
( مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِىَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً ).

إن للصلاة أهمية في حياة المسلم فهي دليلٌ على إسلامه وإيمانه وبها يكون تميزه عن سائر الأديان والملل فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر
وبها تكون الراحة وعن طريقها تقبل الأعمال وترفع الدرجات وتغفر الزلات وتزيد الحسنات وبها يكون العبد إماماً في الدين ، قال تعالى { وَجَعَلناهم أئمةً يَهدونَ بأمرِنا وَأوحَينا إليهِم فِعْلَ الخيراتِ وإقامَ الصَّلاةِ..}.
وبالصلاة تستجلب الأرزاق وتدفع البلايا والمصائب وتحل البركة وهي من شروط التمكين والاستخلاف في الأرض ، قال تعالى: { الّذينَ إنْ مكَنّاهُم في الأرضِ أقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأمرُوا بالمعروفِ ونَهَوا عنِ المنكرِ وللهِ عاقِبةُ الأمور (41)}(الحج).

وهي علامة يعرف بها محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم القيامة وليس هناك علامة غيرها فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: وددت أنّا قد رأينا إخواننا..
قالوا: أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟
قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد..
فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟
فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة (أي فيها بياض ونور في الوجه والأطراف) بين ظهري خيل دُهْم بُهْم (أي سودٌ وحمرٌ) ألا يعرف خيله؟
قالوا: بلى يا رسول الله..
قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم.

ولذلك حافظ عليها المسلمون وتواصوا بها ولم يجعلوا شيئاً من حطام الدنيا يشغلهم عنها، هذا عامر بن عبدالله بن الزبير.. كان على فراش الموت.. يعد أنفاس الحياة.. وأهله حوله يبكون.. فبينما هو يصارع الموت، سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب، ونفسه تحشرج في حلقه، وقد أشتدّ نزعه، وعظم كربه فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي!! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى المسجد، قالوا: وأنت على هذه الحال!! قال: سبحان الله!! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه خذوا بيدي، فحملوه بين رجلين، فصلى ركعة مع الإمام، ثمّ مات في سجوده، نعم مات وهو ساجد ليلقى ربه على هذه الحال.

وقال عطاء بن السائب: أتينا إلى أبي عبدالرحمن السلمي.. وهو مريض في مصلاه في المسجد.. فإذا هو قد اشتد عليه الأمر.. وقد بدأت روحه تنزع.. فأشفقنا عليه.. وقلنا له: لو تحولت إلى الفراش.. فإنه أوثر وأوطأ.. فتحامل على نفسه وقال: حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة ).. فأنا أريد أن أقبض على ذلك..

فمن أقام الصلاة.. وصبر على طاعة مولاه.. ختم له برضاه.. بل هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج إلى حديقة له كانت خارج المدينة فعاد والناس قد صلوا صلاة العصر جماعة فقال أواه يا بن الخطاب شغلتك حديقتك عن الصلاة أشهدكم أيها الناس أني قد جعلتها لفقراء المسلمين.

ومن عظمة الصلاة وأهميتها وثمارها في حياة الأفراد والمجتمعات أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتنقل المسلم من السلبية إلى الإيجابية أمرا بمعروف ونهيا عن منكر بل وتبعده عن مساوئ الأخلاق ورذائل الأمور قال تعالى : { وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }
ولذلك من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ومن لم تدعه صلاته للتجمل بأحسن الأخلاق فليراجع صلاته وخشوعه وإخلاصه ....
فالصلاة تحدث في نفس المؤمن ثورة ضد مظاهر الفساد والانحلال ،
ثورة ضد الكسل والخمول ،
ثورة ضد الأخلاق السيئة والقيم الهابطة ،
ثورة ضد الأنانية وحب الذات ،
ثورة ضد التقصير في بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران..

ولذلك استغرب قوم شعيب عليه السلام منه وهو يدعوهم ويأمرهم وينهاهم ويحذرهم من طرق الضلال و يقول لهم { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}(هود) واستمر عليه السلام في دعوتهم ونصحهم وإرشادهم فماذا قالوا ؟ :
{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}(هود).
قالوا ما علاقة صلاتك وعبادتك في معتقداتنا وأموالنا وسلوكنا وحياتنا . صلاتك لنفسك لا تتدخل في حياتنا وما أكثر ما يقال اليوم هذا الكلام لمن يريد أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يدعو إلى خير .
إن الصلاة تحدث في نفوس المسلمين ثورة ضد التحاسد والتقاطع والتدابر فيما بينهم فالصلاة تعلمنا الحب والتعاون والتآلف، تعلمنا وحدة الصف والتراص وجمع الكلمة، تعلمنا ألا نجعل مجالاً للشيطان أن يدخل بيننا. قال عليه الصلاة والسلام: ( أقيموا الصفوف، فإنما تصفون كصفوف الملائكة، حاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله )(السلسلة الصحيحة:743)،
فكما لا ينبغي أن ندع فرجة للشيطان في صلاتنا فإنه ينبغي كذلك أن لا نجعل فرجة للشيطان يوغر من خلالها القلوب ويفسد العلاقات ويؤجج الخصومات بين الأخ وأخيه والجار وجاره والمجتمعات والأحزاب والقبائل مع بعضها البعض ..
إنه ينبغي أن لا ندع فرجة للشيطان في حياتنا ومجتمعنا وبلادنا حتى لا تسفك الدماء وتزهق الأرواح ويذهب الأمن ويحل الخوف ونجنب بلادنا ويلات الحروب والصرعات والإختلافات ..
إنه ينبغي أن لا ندع فرجة للشيطان حتى لا يغلب أحدنا مصلحتة الشخصية وحب الذات على مصلحة الجميع ومنفعة الآخرين ..
إنها الصلاة التي تعلمنا التراحم والعفو والتسامح وما أحوجنا إلى هذه القيم والمعاني اليوم في حياتنا ليكون التوافق والترابط والتآلف سمة بارزة لمجتمعنا وأمتنا .. قال عليه الصلاة والسلام : ( أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم )(السلسلة الصحيحة:32) إنه يجب على كل مسلم أن يسعى جاهداً للوصول إلى ثمار هذه الصلاة واثارها في الحياة وقيمتها الروحية والإيمانية بالمحافظة عليها وحسن أدائها ...
فاللهم زينا بالتقى واحفظنا من الردى واغفر لنا في الآخرة والأولى .

إن من فضائل الصلاة وتعمير بيوت الله بها في حياة المسلم أن الله ضمن لمن أداها أن يحفظه في الدنيا وأن يدخله الجنة يوم القيامة فقد روى الإمام أبو داوود عن أبي امامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل ) وذكر منهم ( ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة ) حديث صحيح ...
ما أوثق هذا الضمان وأعظمه ! وأي ضمان يمكن أن يكون أوثق من ضمان الخالق سبحانه وتعالى ... ثم ما أكثر ذنوبنا وخطايانا ولن يغفرها إلا الله وإن أول مدارج الغفران الصلاة ففي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤتى كبيرة ، وذلك الدهر كله ).

لما كان أمر الصلاة بهذه الأهمية فقد كانت آخر وصية محمد صلى الله عليه وسلم لأمته الصلاة فقد قال وهو على فراش الموت ومودعا هذه الدنيا : ( الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم ) (صححه الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة (ص 501)،

فلنحافظ على هذه الصلاة جماعة في بيوت الله ولنؤديها بأركانها وسننها وخشوعها حتى ندرك ثمارها وأجرها في الدنيا والاخرة ولنتواصى بها ولنعلم ونأمر بها أولادنا وأهلينا ولنحذر أن نكون ممن قال الحق تبارك وتعالى فيهم : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً (59)}(مريم) ، هــذا وقد أمركم ربكم فقال قولاً كريماً : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)}(الأحزاب).

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين ..

عن خطبة منشورة في موقع ينابيع تربوية
 
عودة
أعلى