إن ما تعرضت له بلادنا في الآونة الأخيرة من اعتداء على حدودها الجنوبية، متمثلاً في تسلل عناصر معادية إلى داخل الأراضي السعودية تستهدف زعزعة استقرار المملكة واستفزازها وإقحامها في قضايا لا علاقة للمملكة بها، جاء خدمة لقوى خارجية في محاولة لزعزعة الأمن، وقد قوبل هذا الفعل الآثم بقرار شجاع حكيم وفوري من سيدي خادم الحرمين الشريفين، القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية، مصدراً أوامره للقوات المسلحة بسرعة طرد المتمردين المتسللين، وتطهير الأراضي من جميع العناصر المتمردة، مع المحافظة على كل قطرة دم لأبناء الوطن أو لمواطني اليمن الشقيق، وحصر العمليات العسكرية داخل الأراضي السعودية.
قرار خادم الحرمين الشريفين
إن تاريخ الدول والشعوب يؤرخ بالقرارات الخالدة، وكما سجل تاريخنا المعاصر بأحرف مضيئة قرار خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز- رحمه الله- عندما أصدر أمره، وبكل شجاعة وثقة، وبعد نظر بعد غزو العراق للكويت في عام (1990)، وما نتج عن هذا القرار من تحرير الكويت، وإعادة الحق لأصحابه، وحماية المملكة، ودول المنطقة من أي أخطار تحيط بها, فسوف يسجل التاريخ أيضاً قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بعد الاعتداء على الحدود الجنوبية لوطننا بطرد المتسللين وتطهير الأراضي، وحماية الأرواح، وعدم توسيع الصراع، وذلك لما تضمنه هذا القرار من حكمة، وبعد نظر، وقراءة عميقة وصحيحة للأحداث، لذا يجدر بنا التوقف والتأمل في هذا القرار بنظرة عميقة سوف تصل بنا إلى الحصول على النتائج التالية:
1. معرفة القيادة السياسية بأهداف ونوايا هذا الاعتداء تجاه المملكة، ومن يقف خلف هذه الجماعات التي تنفذ برنامج (أجندة) تسعى إلى خلق حالة من عدم الاستقرار في المملكة، ورأت القيادة الحكيمة أن التباطؤ في التعامل مع هذه الجماعات، سوف يوسع الاعتداء، ويشجع المعتدين على التمادي في انتهاك السيادة الوطنية، لذا قرار المواجهة الفورية مع هؤلاء، وعدم تمكينهم من تحقيق أهدافهم في خلق حالة من عدم الاستقرار وزعزعة الأمن للمملكة بغرض إشغالها واستنزاف القدرات الوطنية، أوصل رسالة واضحة بحزم المملكة في التعامل السريع مع أي تعد يمس السيادة الوطنية.
2. إن قرار حصر العمليات العسكرية في الأراضي السعودية كان عاملاً مهماً في عدم توسيع العمليات، وما يترتب من تأثير على أطراف أخرى كان المتسللون يسعون إلى إقحامهم وإقناعهم بأن المملكة دولة معتدية عليهم، مع أهمية الانتباه إلى أن قواعد انطلاق العمليات المعادية، كانت تتم من عمق الأراضي اليمنية، وأن التعامل مع هذه القواعد حق مشروع لأي دولة، إلا أن قرار خادم الحرمين بحصر العمليات داخل الأراضي السعودية قطع الطريق على هؤلاء بما كانوا يخططون ويسعون له.
3. تقدير القيادة السياسية وحرصها على مقدرات الوطن، وفي مقدمة هذه المقدرات المواطن، لذا ركز على أهمية المحافظة على كل قطرة دم لأبناء هذا الوطن عسكريين أو مدنيين، ولأشقائنا أبناء الجمهورية اليمنية.
4. أيضاً كان القرار يجسد الثقة الكبيرة من القيادة السياسية بكفاءة القوات المسلحة وقدرتها على التعامل مع التهديدات، ومقدرة القوات المسلحة للوصول للهدف المحدد من القيادة السياسية للعملية، وعدم تجاوز القيود المفروضة على العملية, إن هذه الثقة منحت منسوبي القوات المسلحة حافزاً لإنجاز المهمة بكل إخلاص واقتدار بأقل وقت وبالحد الأدنى من الخسائر، لتثبت لقيادتها الحكيمة أنها أهل للثقة، وتثبت قدراتها العالية وجاهزيتها بتنفيذ ما هو مطلوب تماماً، وهو ما تحقق بفضل الله. ويجب علينا أن نذكر هنا أن عملية درع الجنوب، وما تطلبته من )تخطيط – إعداد – تنفيذ (تم- ولله الحمد- بسواعد أبناء القوات المسلحة السعودية، معتمدين على الله- سبحانه- ثم بثقتهم بقيادتهم وبأنفسهم وبعدالة ومشروعية الهدف المحدد لهم ثم بقدراتهم القتالية واحترافيتهم إلى أن استطاعوا تنفيذ ما حدد لهم من مهام وبكل نجاح. إن ما تم ذكره هو محاولة لبيان حكمة قرار خادم الحرمين الشريفين، وما سأتطرق له في الأسطر القادمة هو قراءة لبعض المبادئ، أو العوامل التي كان لها تأثير ملموس في سير وطبيعة العمليات، وسأتطرق إلى أوجه المتغيرات لأنواع الحروب التقليدية، وسأحاول الخروج ببعض الدروس المستفادة من عملية درع الجنوب.
مبادئ الحرب
عند القيام بالتحليل لأي عملية عسكرية، يجب علينا أولاً استعراض مبادئ الحرب التي أثرت بتفعيلها أو إغفالها في مجريات الأحداث،
ومن أهم مبادئ الحرب التي أدى تطبيقها بالشكل الأمثل إلى النصر ما يلي:
أ. وحدة القيادة: كان قرار تعيين صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، مساعد وزير الدفاع والطيران والمفتش العام للشؤون العسكرية، مشرفاً عاماً على مسرح العمليات له تأثير كبير في تحقيق النصر بسبب ما يتمتع به سموه من احترافية عالية، وخصال قيادية فذة، وخبرة عريضة متراكمة هي محصلة عن عمله في القوات المسلحة وقيادته للقوات المشتركة، ومسرح العمليات في حرب تحرير الكويت عام (1990)، واستطاع سموه من خلال تحليله ودراسته للموقف وللعوامل المؤثرة والمهمة في مسرح العمليات أن يصدر القرارات التي أدت إلى النصر، وأن يعد الخطط التي حققت التزامن، والتكامل، والتنسيق بين القوات، كما أن إشرافه ومتابعته لسير العمليات ساهم بالتأكد من سير العملية حسب ما خطط له.
ب. سرعة الاستجابة: إن التأمل في سير الأحداث يبين مدى قدرة القوات المسلحة في التعامل مع الأخطار بدءاً من سرعة تحركها لمناطق العمليات، وسرعة تسلم المهام، وبدء التنفيذ، وهذا ناتج عن تكامل منظومة القوات المسلحة من وسائل نقل حديثة، وشبكات طرق مدنية والجاهزية الدائمة للمقاتل، ووجود التوقع المسبق بالأحداث المستقبلية لدى القيادات، وإعداد الخطط المستقبلية للتعامل معها.
ج. الاقتصاد في القوة: إن منطقة العمليات في عملية درع الجنوب وأسلوب العدو القتالي يتطلب قوات ذات نوعية محددة، ومدربة على العمل في مثل هذه المناطق، وتم تطبيق هذا المبدأ من خلال الاحتفاظ بوحدات مناورة (مشاه آلية – مدرعات) في مناطق محدده تناسب قدراتهم كمجهود ثانوي، وتكليف وحدات من القوات الخاصة، والمظليين، ووحدات المشاة الخفيفة بمهام في المناطق الوعرة كمجهود رئيسي.
د. التعاون: أكدت عملية درع الجنوب أن العمليات المشتركة هي الأسلوب الأمثل لتحقيق النجاح، وللوصول إلى الاحترافية في العمل المشترك لا بد من استخدام عقيدة مشتركة موحدة توضح الأساليب والإجراءات المطلوب اتخاذها أثناء تنفيذ العمل المشترك، ولتحقيق هذا لا بد من التعاون الوثيق بين أفرع القوات المسلحة لتوحيد المفاهيم والإجراءات والأساليب المستخدمة. كما أنه من الأهمية بمكان الانتباه لاستخدام مفهوم الأسلحة المشتركة بشكله الفعال للمساعدة في نجاح العملية.
العوامل المؤثرة
بعد صدور الأوامر كان لا بد من مراعاة العوامل المؤثرة في العملية وهي: المهمة، العدو، طبيعة الأرض والتضاريس، القوات المؤثرة، الوقت المتوفر، والاعتبارات المدنية، التي كانت تختلف بدرجة تأثيرها من عامل لآخر. وفي اعتقادي أن
أهم العوامل المؤثرة في عملية درع الجنوب كانت طبيعة الأرض والعدو، والاعتبارات المدنية.
أ. طبيعة الأرض
العامل المؤثر الأول في العملية، فقد فرضت طبيعة الأرض في منطقة العمليات استخدام قوات محددة، واستخدام أساليب وتكتيكات قتالية غير تقليدية. ولتوضيح طبيعة الأرض في منطقة العمليات سنتطرق إلى عناصر التحليل للأرض.
(1) المراقبة وميادين النيران
أ. المراقبة: يتوافر في المنطقة عديد من المواقع التي تسمح بالمراقبة لمواقع وطرق تقدم المتسللين، وتتمثل في التباب في جبل الرميح، وفي جبل الدخان، وفي جبل الدود، وفي جبل تويلق، إضافة إلى قمة جبل الدفنة.
ب .ميادين النيران: كانت جميع المناطق التي يتقدم من خلالها المتسللون والمواقع التي يختبئون فيها تعد ميادين نيران ممتازة لنيراننا المباشرة وغير المباشرة.
(2)طرق الاقتراب
أ. البرية: جميع الطرق الممهدة وغير الممهدة من منطقة جازان والقرى المحيطة بها حتى مناطق العمليات.
ب. الجوية: جميع الأجواء مفتوحة لقواتنا الجوية، سواء كانت طائرات ذات أجنحة ثابتة أو طائرات عمودية.
(3) الهيئات الحيوية
يوجد في المنطقة عديد من الهيئات الحيوية، ومنها (جبل جحفان– جبل الرميح– جبل الدخان– جبل الدود– جبل توليق– جبل الفدنة ،( وذلك لسيطرتها على مناطق تسلل المتمردين, وتعد محافظة الخوبة ،والقرى المحيطة بها من الهيئات الحيوية لتوافر المياه، والكهرباء، والمواد التموينية بها.
(4) العوائق
أ. الطبيعة: يوجد في المنطقة عديد من العوائق الطبيعية، وتتمثل في قمم الجبال المرتفعة والأودية مثل )وادي خلب– وادي ليه– وادي دهوان ( في حالة هطول الأمطار.
ب. الصناعية: تتمثل في بعض الألغام المضادة للمعدات والأفراد، التي تمت زراعتها من قبل المتسللين على الشريط الحدودي، وفي المباني، في بعض مناطق العمليات.
(5)الإخفاء والساتر
أ. الإخفاء: توفر الأودية والشعاب ذات الأحراش الكثيفة، والخنادق المنتشرة في المنطقة إخفاء جيداً لعناصر المتسللين من مراقبة قواتنا.
ب. الساتر: توفر الجبال والكهوف، وبعض الأودية، والقرى المنتشرة في المنطقة ساتراً جيداً للمتسللين ضد نيراننا المباشرة وغير المباشرة.
ج. العدو: العامل المؤثر الثاني، حيث إن عقيدة العدو القتالية والمعتمدة على تحقيق عنصر المفاجأة، والاحتفاظ بالمبادرة، واستخدام أساليب الخداع حددت أساليب خاصة وقوات للتعامل معه.
د. الاعتبارات المدنية: العامل الثالث المؤثر، وكان تأثيره في بدء الأحداث عالياً جداً، وذلك بسبب الكثافة السكانية العالية في منطقة العمليات والتعاون الاجتماعي والاقتصادي في المناطق الحدودية بين الدولتين، وقد حد ذلك من تأثير وقدرات العمليات العسكرية وتقييدها نوعاً ما للمحافظة على الأرواح والممتلكات، وقيد أيضاً حرية المناورة للوحدات، وأضاف اعتبارات السلامة أثناء العمليات. كما أن التداخل الاجتماعي بين أبناء المملكة، وأبناء اليمن كان يسهل استغلال ذلك في تسلل عناصر معادية للقيام بعمليات في المناطق الخلفية لقواتنا، أو مراقبة تحركات قواتنا، ومعرفة معلومات قد تلغي عنصر المفاجأة، وكان القرار بإخلاء سكان القرى والمناطق الحدودية عاملاً مؤثراً في إعطاء حرية عمل ومناورة للوحدات، وإبقاء عنصر المفاجأة لقواتنا مؤثراً في تنفيذ عمليات ضد العدو في أماكن، وأوقات غير متوقعة، كما أن الاستفادة من البنية الأساسية للخدمات ساعدت القوات، وسهلت مهمتها.
المتغيرات في المفاهيم التقليدية
إن من واقع التجربة الحالية نستطيع أن نؤكد أن هناك متغيرات في أنواع العمليات التقليدية، وظهور نوع جديد من العمليات العسكرية يعتمد كلياً على عمليات محددة بقدرات صغيرة لإحداث أثر في القوات الأخرى، ويسبب إنهاكاً واستنزافاً للقدرات العسكرية، ما يتوجب الإعداد لمجابهة هذه العمليات في تجهيز وتكثيف تدريب تشكيلات وحدات المشاة الخفيفة والقوات الخاصة، وتركيز تدريبهم للتعامل مع هذه التهديدات في مختلف بيئات العمليات، ويتطلب إعطاء جرعات تدريبية للوحدات القتالية مناورة )مشاه آلية– دروع– وحدات استطلاع– طيران بري ،(ووحدات الإسناد القتالي (نيران الإسناد مدفعية– قوات جوية- مهندسون– إشارة ،( ووحدات الإسناد الإداري) صيانة– نقل– تموين( للتدريب على المشاركة في تنفيذ مهامها في هذه البيئة العملياتية.
الدروس المستفادة
من الأهمية بمكان تحديد الدروس المستفادة عـلى عجل، وبشكل مختصر من عملية درع الجنوب، وأخذها في الاعتبار مستقبلاً لتطوير قدرات، وكفاءة، وجاهزية قواتنا، ومن ضمن هذه الدروس:
أ.ثقة القيادة السياسية بكفاءة الجندي السعودي، وإيمان المقاتل بحكمة قيادته وعدالة الهدف.
ب. تجهيز مسارح العمليات بإيجاد بنية تحتية متكاملة بين مراكز عمليات وأنظمة اتصالات، ومناطق إسناد إداري.
ج. أهمية تفعيل نظام القيادة والسيطرة.
د. إخلاء مناطق العمليات من المدنيين.
هـ. أهمية دور القناصة في مثل هذه العمليات.
و. الأخذ في الاعتبار الاستفادة من خطوط السكك الحديدية التي يخطط لإنشائها مستقبلاً للأغراض العسكرية.
ز. العمليات الحالية والمستقبلية لن تحقق النجاح إلا بتطبيق مفهوم العمليات المشتركة.
أخيراً
أدعو العلي القدير أن يكون ما حدث مؤخراً عبرةً، وأن يعود بالفائدة لقواتنا المسلحة من خلال ما تم اكتشافه من نقاط قوة يتم دعمها، أو أوجه قصور يتم تلافيها مستقبلاً، واستمرار هذه القوات الباسلة في التقدم والازدهار في ظل قيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين، وسمو سيدي ولي عهده وزير الدفاع والطيران، وسمو نائبه، وسمو النائب الثاني، وأن تكون القوات المسلحة درعاً حصينة لحماية هذا البلد المقدس ومنجزاته، وحافظة لأمن واستقرار المملكة العربية السعودية. كما لا يفوتني أن أسجل بكل إعتزاز بطولات زملائي في كافة القوات المسلحة بالمنطقة الجنوبية بشكل عام وقطاع جازان بشكل خاص جنوداً وضباط صف وضباط وقيادات على الإنجازات البطولية التي حققت وذلك ليس بمستغرب عليهم.
وختاماً
أقول لكل منسوبي قواتنا المسلحة المشاركة في مهمة (درع الجنوب
فلنفخر، ونعتز بشهدائنا الأبرار، وهم الوسام الحقيقي على رؤوسنا، أنزلهم الله- تعالى- منازل الشهداء، وأدعو لمصابينا البواسل بالشفاء العاجل...
الله أكبر .. عاش الملك ..يحيا الوطن
بقلم: صاحب السمو الملكي، اللواء الركن/ خالد بن بندر بن عبدالعزيز