سأطأ أرضهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم !!
محمد فاروق الإمام
محمد فاروق الإمام
سار قتيبة بن مسلم الباهلي من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وعبر به نهر جيحون، ثم مضى إلى فرغانة، مروراً بسمرقند. وفي فرغانة، أكمل استعدادات جيشه للقتال.
وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.
وبات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصين واخترق حدودها الغربية، وأمام هذا التقدم السريع لجيش المسلمين، عرض ملك الصين التفاوض مع المسلمين، فبعث رسالة إلى قتيبة يعرض عليه التفاوض، وقال في رسالته: ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.
واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي، وكان مفوّهاً سليط اللسان، وقال لهم: إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
وسار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده.
ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء.
وبالطبع قال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة من حول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.
وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف (ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام) وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا. وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.
وفي اليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضاً، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض (الخوذ والمغافر) - جمع مِغفر - وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.. وأخذوا السيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.
ونظر إليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين.
فهابهم القوم.. وقيل لهم قبل أن يدخلوا على الملك: ارجعوا.. لِما دخل في قلوب الملك ومن معه من رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.
وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً (عدْو ذو وثب)، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري في سباق الخيل كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!
وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك متصنعاً لغة التحذير والوعيد: (قد رأيتم عِظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم).
ولم يكن هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.
وسأل الملك هبيرة: (لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟).. وكان جواب هبيرة: (أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا).
وقال الملك: (ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه).
ولم تهتز جارحة لهبيرة من وعيد الملك الصيني وتهديده، فهو رسول قتيبة ولابد من تبليغ الرسالة بصدق وأمانة. فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: (كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟ وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه).
واستخذى الملك وخارت قواه وارتعدت فرائصه في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: (فما الذي يُرضي صاحبك؟)، فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: (إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية).
واستخذى الملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: (فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه).
ودعا الملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة أمراء من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.
رجال اعتزوا بالإسلام فأعزهم الله، وبين أظهرنا رجال اعتزوا بغير الإسلام فأذلهم الله.. حتى صرنا نُغزى في عقر دارنا ولا نجد حيلة في دفع الغزاة سوى الاستجداء والانحناء والرضوخ لقهرهم وإذلالهم والتسليم لهم..!!
عن موقع دنيا الرأي
وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.
وبات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصين واخترق حدودها الغربية، وأمام هذا التقدم السريع لجيش المسلمين، عرض ملك الصين التفاوض مع المسلمين، فبعث رسالة إلى قتيبة يعرض عليه التفاوض، وقال في رسالته: ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.
واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي، وكان مفوّهاً سليط اللسان، وقال لهم: إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
وسار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده.
ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء.
وبالطبع قال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة من حول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.
وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف (ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام) وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا. وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.
وفي اليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضاً، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض (الخوذ والمغافر) - جمع مِغفر - وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.. وأخذوا السيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.
ونظر إليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين.
فهابهم القوم.. وقيل لهم قبل أن يدخلوا على الملك: ارجعوا.. لِما دخل في قلوب الملك ومن معه من رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.
وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً (عدْو ذو وثب)، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري في سباق الخيل كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!
وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك متصنعاً لغة التحذير والوعيد: (قد رأيتم عِظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم).
ولم يكن هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.
وسأل الملك هبيرة: (لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟).. وكان جواب هبيرة: (أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا).
وقال الملك: (ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه).
ولم تهتز جارحة لهبيرة من وعيد الملك الصيني وتهديده، فهو رسول قتيبة ولابد من تبليغ الرسالة بصدق وأمانة. فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: (كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟ وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه).
واستخذى الملك وخارت قواه وارتعدت فرائصه في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: (فما الذي يُرضي صاحبك؟)، فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: (إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية).
واستخذى الملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: (فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه).
ودعا الملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة أمراء من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.
رجال اعتزوا بالإسلام فأعزهم الله، وبين أظهرنا رجال اعتزوا بغير الإسلام فأذلهم الله.. حتى صرنا نُغزى في عقر دارنا ولا نجد حيلة في دفع الغزاة سوى الاستجداء والانحناء والرضوخ لقهرهم وإذلالهم والتسليم لهم..!!
عن موقع دنيا الرأي