مكتبات قرطبة العامرة
محمد شعبان أيوب*
محمد شعبان أيوب*
كلما مررت بتاريخ الأندلس, شعرت بأن ثمة حضارة لا يجب أن تخبو جذوتها في عقل وضمير القارئ العربي والمسلم؛ ذلك لأن هذا التاريخ الساحر والدافئ, الذي تنسال كلمات أبنائه عنه انسيالاً, يشل حركة المتلقي فلا يستطيع أن يتحرك يمنة أو يسرة من حلاوته وطلاوته, فالإبداع لا يكاد يخلو أسطر المؤلفات الأندلسية في التاريخ والتراجم والأدب والعلوم والمؤلفات الفقهية والتشريعية.
وهذا الإبداع ما كان ليظهر وينتشر, ويترك الأثر في أبناء الحضارة الأندلسية إلا بوجود عوامل مساعدة, ألهبت الحماسة, ونشرت المعارف والعلوم, وقدمت الميراث الثقافي في صورة ميسرة لمن أراد أن يستكمل المسيرة التربوية والثقافية والحضارية للإسلام عامة.
لقد كانت المكتبات هي المحاضن المناسبة لهذا التراث الماضي الذي استفاد به الأندلسيون وشغفوا به, حتى كان المنطلق لإظهار علوم جديدة, أكملت المنظر العام للثقافة الأندلسية. وبحسبنا في هذه الصفحات القليلة أن نقف مع الكتب والمكتبات في قرطبة وحدها لنعلم مقدار عظمة ومجد هذه المدينة العريقة.
المكتبة الأموية
ما أن استقرت أحوال الأندلس تحت حكم عبد الرحمن الداخل (توفي 172هـ), حتى بدأ الاهتمام بالعلوم والثقافة والتربية, ففي عهد محمد بن عبد الرحمن الأوسط (توفي 273هـ) بدأ المؤرخون يُشيرون إلى المكتبة الأموية كواحدة من أشهر مكتبات قرطبة, واشتهر عبد الرحمن الناصر (توفي 350هـ) بحب الكتب, وبلغت شهرته الآفاق حتى وصلت إلى بيزنطة, فحين أراد إمبراطورها قسطنطين السابع أن يستميل الخليفة الأندلسي, فكر أن يهدي عبد الرحمن الناصر أحب شيء إلى قلبه: كتابًا جديدًا لم يعرفه من قبل, فأرسل إليه كتاب ديسقوريدس في الطب "مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب, وكان الكتاب مكتوبًا بالإغريقي الذي هو اليوناني, وبعث معه كتاب هروسيس صاحب القصص, وهو تاريخ للروم عجيب"[1].
وفي ذلك الحين كان اثنان من أبناء عبد الرحمن الناصر, وهما: الحكم ومحمد, قد بدآ دراستهما تحت إشراف مؤدبين وعلماء كان لهم شهرة واسعة, ومن ثَمَّ استيقظت هوايتهما, حتى إن خوليان ريبيرا ذلك المؤرخ الإسباني الكبير كان يقول عنهما: "إن مكتبة أبيهما لم تعد تشبع نهمهما. وتنافس كلاهما أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارًا وأكثر عددًا, وبعد فترة توفي الأمير محمد, وورث أخوه الحكم مكتبته, وبوفاة عبد الرحمن الناصر والدهما أخذ الحكم مكتبته, وجمع المكتبات الثلاث في واحدة, وأصبحت هذه مكتبة القصر, وكان أسلافه من قبله قد أحاطوها بكل رعايتهم"[2].
ولقد كان يعمل في مكتبة القصر دون توقف, أمهر المجلدين في الأندلس, إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد, ومعهم جمهرة من الرسامين والمزوقين والمنمقين, فكانوا يزخرفون الكتب بالزخارف الجميلة, بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء تقوم بمعارضتها وتصحيحها, وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء.
وقد ذكر ابن الفرضي طائفة من هؤلاء العلماء الذين كانت مهمتهم تنحصر في مراجعة الكتب ومعارضتها وتصحيحها في المكتبة الأموية في قرطبة والزهراء, منهم الرباجي محمد بن يحيى الأزدي, قال عنه ابن الفرضي: "كان فَقِيهًا, إمامًا, موثوقًا أخذ كتاب سيبويه رواية عن ابن النّحاس, وكان جَيّد النظر, دقيق الاسْتِنْبَاط, حاذقًا بالقياس. نظر النّاس عنده في الإعراب, وأدَّب عند الملوك, وَاسْتَأدَبه أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه- لابنه المِغيرة, ثم صار إلى خدمة المُستَنْصِر بالله في مقابلة الكتب وتوسع له في الجراية. وكان رجُلاً صَالِحًا متدينًا. وتُوفِّي -رحمه الله- في شهر رمضَان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"[3].
وكان من بين هؤلاء المعارضين والمصححين الأديب اللغوي محمد بن الحسين الفهري القرطبي, وهو ناسخ ووراق, وقد تقدم أقرانه في حفظ الأدب والعلم باللغات, وقد استعمله الحكم المستنصر في مهمة علمية لمكتبته؛ فقد "تولى مع رفيقه محمد بن معمر الجياني نسخ ما لم يهذبه أبو علي القالي من تأليفه الذي سماه: البارع وتهذيبه مع أصوله التي بخطه وخطهما عما كتب بين يديه, وكان هو قد عمل فيه من سنة خمسين إلى أن توفي لسبع خلون من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة, وصحح منه كتاب الهمزة وكتاب العين, فلما كمل الكتاب, وارتفع إلى الحكم المستنصر بالله وأراد أن يقف على ما فيه من الزيادة على النسخة المجتمع عليها من كتاب العين, فبلغ ذلك إلى خمسة آلاف وست مائة وثلاث وثمانين كلمة"[4].
ومن الغريب والطريف أن الدولة كانت تستخدم الخطاطين من النساء في المكتبات والخزائن العامة, فقد كُنّ مشتهرات بحذق هذه الصنعة, فعلى سبيل المثال اشتهرت الخطاطة الأندلسية لُبنى, وكانت كاتبة للخليفة الحكم المستنصر (توفي 366هـ), قال عنها ابن بشكوال: "كانت حاذقة بالكتابة, نحوية شاعرة, بصيرة بالحساب, مشاركة في العلم, لم يكن في قصرهم أنبل منها, وكانت عروضية, خطاطة جدًّا. وتوفيت سنة أربع وسبعين وثلاث مائة"[5]. وهناك "مزنة كاتبة الخليفة الناصر لدين الله, كانت حاذقة في أخط النساء, توفيت سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"[6]. وهناك فاطمة بنت زكرياء بن عبد الله الكاتبة المعروفة بالشبلاري, فهي كاتبة ابنة كاتب, قال عنها ابن بشكوال: "كانت كاتبة جذلة متخلصة عمرت عمرًا كثيرًا واستكملت أربعًا وتسعين سنة تكتب على ذلك الكتب الطوال, وتجيد الخط, وتحسن القول. ذكرها ابن حيان وقال: توفيت سلخ جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربع مائة. ودفنت بمقبرة أم سلمة وشهدها جمع الناس ماتت بكرًا رحمها الله"[7].
ويصف لنا العلامة ابن حزم (توفي 456هـ) ضخامة المكتبة الأموية, بحديثه الذي أجراه مع القائم بأعمالها في عهد الحكم المستنصر ويُدعى تليد الفتى, قال ابن حزم: "وأخبرني تليد الفتى -وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس- أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة, في كل فهرسة خمسون ورقة, ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط"[8]. أي أن عدد فهارس المكتبة الأموية كان 2200 ورقة فيها أسماء المؤلفات فقط, وهذا دليل عظيم على مقدار ضخامة تلك المكتبة الملكية.
والحق أن تشجيع الناصر (توفي 350هـ) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر (توفي 366هـ) للعلماء والأدباء والفقهاء من كل صنف ونوع, قد ضخّم المكتبة الأموية ضخامة جعلتها أعظم المكتبات في أوربا في ذلك الوقت, فقد كان للحكم المستنصر "وراقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف, ورجال يوجههم إلى الآفاق عنها. ومن ورّاقيه ببغداد محمد بن طرخان, ومن أهل المشرق والأندلس جماعة. وكان مع هذا كثير التهمّم بكتبه والتصحيح لها والمطالعة لفوائدها, وقلما تجد له كتابًا كان في خزانته إلا وله فيه قراءة ونظر من أي فن كان من فنون العلم: يقرؤه ويكتب فيه بخطه -إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه- نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به, ويذكر أنساب الرواة له, ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده؛ لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الفن..
وكان موثوقًا به مأمونًا عليه. صار كل ما كتبه حجة عند شيوخ الأندلسيين وأئمتهم, ينقلونه من خطه ويحاضرون به. قلتُ (أي ابن الأبّار): وقد اجتمع لي من ذلك جزء مقيد مما وجد بخطه, ووجدتُ أنه يشتمل على فوائد جمة في أنواع شتى. وكان قد قيد كثيرًا من أنساب أهل بلده, وكلف أهل كور الأندلس أن يلحقوا كل عربي أُخمل ذكره قبل ولايته, وأن يصحح نسبهم أهل المعرفة بذلك, ويؤلف من الكتب, ويرد كل ذي نسب إلى نسبه, وفرج ذلك بالعلم، فتم له من ذلك ما أراد, ونفع الله بكرم قصده البلاد والعباد"[9].
مكتبات القرطبيين
إن مما يلفت الانتباه أن المكتبات كان لها دور عظيم في مسيرة التربية والتثقيف في الأندلس قاطبة وفي قرطبة خاصة، ولم تكن المكتبات والخزائن حكرًا على الأسرة الحاكمة الأموية في قرطبة أو من بعد ذلك في عصر ملوك الطوائف أو المرابطين أو الموحدين أو عهد ملوك الطوائف الثاني أو في عهد الدولة النصرية في غرناطة, لقد انتشرت المكتبات في كل أرجاء الأندلس, وفي كافة الأوقات, قال ول ديورانت عن عدد المكتبات في الأندلس وحال علمائها: "كان في الأندلس الإسلامية وحدها سبعون مكتبة عامة, وظل النحاة وعلماء اللغة وأصحاب الموسوعات والمؤرخون موفوري العدد والثراء"[10].
فمن جملة المكتبات التي اشتهرت في قرطبة, وكانت ملكًا لأحد أعرق وأرهب القضاة في تاريخ الأندلس, نجد مكتبة أبي المطرف بن فطيس, عبد الرحمن بن محمد بن عيسى (ت 402هـ), وكانت أعجوبة من عجائب قرطبة بلونها الأخضر في كل شيء, وهذا من الطرافة والجمال والديكور الراقي الذي تمتع الأندلسيون به, وقد وصفها النباهي بقوله: "كان له بداره مجلس عجيب الصنعة, حسن الآلة, ملبس كله بالخضرة: جدراته وأبوابه. وسقفه وفرشه وستوره ونمارقه, وكل ذلك متشاكل الصفات, قد ملأه بدفاتر العلم ودواوين الكتب التي ينظر فيها ويخرج منها؛ وبهذا المجلس كان أنسه وخلوته رحمه الله"[11].
وكان ابن فطيس -رحمه الله- له "ستة وراقين ينسخون له دائمًا, وكان قد رتب لهم على ذلك راتبًا معلومًا (أُجرة), وكان متى عَلِمَ بكتابٍ حسنٍ عند أحد من الناس طلبه للابتياع منه, وبالغ في ثمنه. فإن قدر على ابتياعه وإلا انتسخه منه وردَّه عليه"[12]. وكان له تقليد صارم, وحب زائد لكتبه ومكتبته, حتى إن حفيده يحكي عنه أنه: "كان لا يعير كتابًا من أصوله البتة, وكان إذا سأله أحد ذلك وألحف عليه أعطاه للناسخ فنسخه وقابله ودفعه إلى المستعير فإن صرفه وإلا تركه عنده"[13].
ومما يُدلل على كبر حجم هذه المكتبة, وغلاء الكتب التي كانت تحويها, ما أجبر أولاده وأحفاده على بيعها في زمن الفتنة في قرطبة, فقد ظلت كُتبها تُباع مدة عام كامل, قال ابن بشكوال: "أخبرني حفيده أبو سليمان -أي حفيد ابن فطيس- أنه سمع عمه وغير واحد من سلفه يحكون: أن أهل قرطبة اجتمعوا لبيع كتب جده هذا مدة عام كامل في مسجده في الفتنة في الغلاء, وأنه اجتمع فيها من الثمن أربعون ألف دينار قاسمية"[14].
مكتبات الفقراء
والعجيب أنه لم تكن الأسرة الحاكمة أو الأسر الغنية الميسورة وحدها تستمتع بترف تكوين مكتبات غنية, وإنما نجد أن هذه الهواية حتى بين طبقات المجتمع الأشد تواضعًا, فمن هؤلاء معلم مغمور يمضي حياته كلها بين الصبيان يعلمهم آيات القرآن الحكيم وبعض الأحاديث النبوية, قال القضاعي عن حزم وولده وابنته ومكتبهم الصغير الذي يعلمون فيه الأطفال: "كان هو وابنه محمد وابنته تجمعهم في تعليمهم دار واحدة"[15], وهذا الرجل لا ينتسب لأسرة ابن حزم الشهيرة المعروفة التي منها الإمام ابن حزم رحمه الله.
لقد كان هذا المعلم المغمور يشتغل ساعات فراغه في نسخ الكتب التي يعيرها له أصدقاؤه, ورغم أن ظروفه لا تتيح له ترف أن يستخدم لها خازنًا، لكن ذلك لا يعني أنها كانت مهملة, أو غير مرتبة, أو يجهل قيمتها, وكان أدباء قرطبة يغبطونه على دقة مخطوطاته, وروعة بعضها, وندرة البعض الآخر, وقد أحضرها في رحلة له من المشرق استهدف بها هذه الغاية, ويمكن أن تراه في ملابس متواضعة, ويتناول طعامًا أشد تواضعًا, ولكن مكتبته تعكس بوضوح إلى أي حد يمكن أن يبلغ حب الكتب الجيد بصاحبه حتى عند أصحاب الدخول المحدودة, والأرزاق المتواضعة[16].
منافسة مستعرة !
لقد اهتم القرطبيون بالمكتبات والكتب اهتمامًا زائدًا, حتى كان إنشاء مكتبة في البيوت أحد المظاهر الدالة على وجوب الاحترام والتوقير لذلك الشخص بين الأندلسيين, ويحدثنا الحضرمي أحد جماعي الكتب, وطلاب العلم عن منافسة بينه وبين رجل آخر في كتاب بحث عنه كثيرًا بقوله: "أقمتُ مرة بقرطبة, ولازمتُ سوق كتبها مدة, أترقبُ فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد, وتسفير مليح, ففرحت به أشد الفرح, فجعلت أزيدُ في ثمنه فيرجع إليَّ المنادي بالزيادة عليّ, إلى أن بلغ فوق حدّه, فقلتُ له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي؟ قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة..
فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه, إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك, فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده. قال: فقال لي: لستُ بفقيه ولا أدري ما فيه, ولكني أقمتُ خزانة كُتُب, واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد, وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب, فلما رأيتُه حسن الخط, جيد التجليد استحسنته, ولم أُبال بما أزيد فيه, والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير. قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلتُ له: نعم لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك, يُعطي الجوز من لا عنده أسنان, وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب, وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً, وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!"[17].
لقد كانت قرطبة بحق عاصمة الأندلس في الكتب والمكتبات, وقد أثرت هذه الطفرة المعلوماتية في أهلها, حتى وسم الأندلسيون بأنهم أهل الكتب, قال ابن سعيد المؤرخ كلمات مهمة عن شغف القرطبيين بالكتب: "قال والدي: وهي أكثر بلاد الأندلس كتبًا, وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب, صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرياسة حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب, وينتخب فيها, ليس إلا لأن يقال: فلان ليس عنده خزانة كتب, والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره, والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به"[18].
هذه هي حال الثقافة في العاصمة الأموية في الأندلس قرطبة, تؤكد لنا بوضوح وجلاء أن من أراد تسنم الذروة العليا في الخافقين, وإعلاء شأن أمته في العالمين, عليه أن يبذل قصارى جهده في نشر العلم, وتحبيبه للناس عامة, أمثال أولئك القرطبيين الذين شغفهم العلم حتى كانت المكتبات العامة والخاصة أحد أهم الملامح العامة لمجتمعهم, بل لتفاخرهم فيما بينهم, ونعمت المفاخرة إن كان هدفها إعلاء قيمة العلم, وإثراء روح التربية العلمية والعملية والثقافية.
* باحث مصري في التاريخ والتراث، وصاحب مدونة ابن أيوب
عن موقع قصة الإسلام
الهوامش:
[1] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا ص493. منشورات دار الحياة - بيروت.
[2] خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ترجمة الطاهر مكي ص156. الطبعة الثانية، دار المعارف - القاهرة، 1994م.
[3] ابن الفرضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، تحقيق عزت العطار 2/71. مطبعة المدني - القاهرة، 1988م.
[4] أبو عبد الله القضاعي: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عبد السلام الهراس 1/298.دار الفكر للطباعة - لبنان، 1995م.
[5] ابن بشكوال: الصلة، تحقيق إبراهيم الإبياري 3/992. ترجمة رقم 1541. الطبعة الأولى، دار الكتاب المصري - القاهرة، 1989م.
[6] ابن بشكوال: الصلة 3/992. ترجمة رقم 1542.
[7] ابن بشكوال: السابق 3/994. ترجمة رقم 1548.
[8] ابن الأبار: الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس 2/203. الطبعة الثانية، دار المعارف - القاهرة، 1985م.
[9] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/203.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 5/4738. الهيئة العامة المصرية للكتاب - القاهرة، 2001م.
[11] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة ص88. الطبعة الخامسة، دار الآفاق الجديدة - بيروت، 1983م.
[12] ابن بشكوال: الصلة 2/467. ترجمة رقم 689.
[13] ابن بشكوال: الصلة 2/468.
[14] ابن بشكوال: الصلة 2/468.
[15] القضاعي: التكملة لكتاب الصلة 1/231.
[16] خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس ص165.
[17] المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس 1/463. دار صادر - بيروت، 1968م.
[18] المقري: نفح الطيب 1/462، 463.
وهذا الإبداع ما كان ليظهر وينتشر, ويترك الأثر في أبناء الحضارة الأندلسية إلا بوجود عوامل مساعدة, ألهبت الحماسة, ونشرت المعارف والعلوم, وقدمت الميراث الثقافي في صورة ميسرة لمن أراد أن يستكمل المسيرة التربوية والثقافية والحضارية للإسلام عامة.
لقد كانت المكتبات هي المحاضن المناسبة لهذا التراث الماضي الذي استفاد به الأندلسيون وشغفوا به, حتى كان المنطلق لإظهار علوم جديدة, أكملت المنظر العام للثقافة الأندلسية. وبحسبنا في هذه الصفحات القليلة أن نقف مع الكتب والمكتبات في قرطبة وحدها لنعلم مقدار عظمة ومجد هذه المدينة العريقة.
المكتبة الأموية
ما أن استقرت أحوال الأندلس تحت حكم عبد الرحمن الداخل (توفي 172هـ), حتى بدأ الاهتمام بالعلوم والثقافة والتربية, ففي عهد محمد بن عبد الرحمن الأوسط (توفي 273هـ) بدأ المؤرخون يُشيرون إلى المكتبة الأموية كواحدة من أشهر مكتبات قرطبة, واشتهر عبد الرحمن الناصر (توفي 350هـ) بحب الكتب, وبلغت شهرته الآفاق حتى وصلت إلى بيزنطة, فحين أراد إمبراطورها قسطنطين السابع أن يستميل الخليفة الأندلسي, فكر أن يهدي عبد الرحمن الناصر أحب شيء إلى قلبه: كتابًا جديدًا لم يعرفه من قبل, فأرسل إليه كتاب ديسقوريدس في الطب "مصور الحشائش بالتصوير الرومي العجيب, وكان الكتاب مكتوبًا بالإغريقي الذي هو اليوناني, وبعث معه كتاب هروسيس صاحب القصص, وهو تاريخ للروم عجيب"[1].
وفي ذلك الحين كان اثنان من أبناء عبد الرحمن الناصر, وهما: الحكم ومحمد, قد بدآ دراستهما تحت إشراف مؤدبين وعلماء كان لهم شهرة واسعة, ومن ثَمَّ استيقظت هوايتهما, حتى إن خوليان ريبيرا ذلك المؤرخ الإسباني الكبير كان يقول عنهما: "إن مكتبة أبيهما لم تعد تشبع نهمهما. وتنافس كلاهما أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارًا وأكثر عددًا, وبعد فترة توفي الأمير محمد, وورث أخوه الحكم مكتبته, وبوفاة عبد الرحمن الناصر والدهما أخذ الحكم مكتبته, وجمع المكتبات الثلاث في واحدة, وأصبحت هذه مكتبة القصر, وكان أسلافه من قبله قد أحاطوها بكل رعايتهم"[2].
ولقد كان يعمل في مكتبة القصر دون توقف, أمهر المجلدين في الأندلس, إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد, ومعهم جمهرة من الرسامين والمزوقين والمنمقين, فكانوا يزخرفون الكتب بالزخارف الجميلة, بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء تقوم بمعارضتها وتصحيحها, وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء.
وقد ذكر ابن الفرضي طائفة من هؤلاء العلماء الذين كانت مهمتهم تنحصر في مراجعة الكتب ومعارضتها وتصحيحها في المكتبة الأموية في قرطبة والزهراء, منهم الرباجي محمد بن يحيى الأزدي, قال عنه ابن الفرضي: "كان فَقِيهًا, إمامًا, موثوقًا أخذ كتاب سيبويه رواية عن ابن النّحاس, وكان جَيّد النظر, دقيق الاسْتِنْبَاط, حاذقًا بالقياس. نظر النّاس عنده في الإعراب, وأدَّب عند الملوك, وَاسْتَأدَبه أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه- لابنه المِغيرة, ثم صار إلى خدمة المُستَنْصِر بالله في مقابلة الكتب وتوسع له في الجراية. وكان رجُلاً صَالِحًا متدينًا. وتُوفِّي -رحمه الله- في شهر رمضَان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"[3].
وكان من بين هؤلاء المعارضين والمصححين الأديب اللغوي محمد بن الحسين الفهري القرطبي, وهو ناسخ ووراق, وقد تقدم أقرانه في حفظ الأدب والعلم باللغات, وقد استعمله الحكم المستنصر في مهمة علمية لمكتبته؛ فقد "تولى مع رفيقه محمد بن معمر الجياني نسخ ما لم يهذبه أبو علي القالي من تأليفه الذي سماه: البارع وتهذيبه مع أصوله التي بخطه وخطهما عما كتب بين يديه, وكان هو قد عمل فيه من سنة خمسين إلى أن توفي لسبع خلون من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وثلاثمائة, وصحح منه كتاب الهمزة وكتاب العين, فلما كمل الكتاب, وارتفع إلى الحكم المستنصر بالله وأراد أن يقف على ما فيه من الزيادة على النسخة المجتمع عليها من كتاب العين, فبلغ ذلك إلى خمسة آلاف وست مائة وثلاث وثمانين كلمة"[4].
ومن الغريب والطريف أن الدولة كانت تستخدم الخطاطين من النساء في المكتبات والخزائن العامة, فقد كُنّ مشتهرات بحذق هذه الصنعة, فعلى سبيل المثال اشتهرت الخطاطة الأندلسية لُبنى, وكانت كاتبة للخليفة الحكم المستنصر (توفي 366هـ), قال عنها ابن بشكوال: "كانت حاذقة بالكتابة, نحوية شاعرة, بصيرة بالحساب, مشاركة في العلم, لم يكن في قصرهم أنبل منها, وكانت عروضية, خطاطة جدًّا. وتوفيت سنة أربع وسبعين وثلاث مائة"[5]. وهناك "مزنة كاتبة الخليفة الناصر لدين الله, كانت حاذقة في أخط النساء, توفيت سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة"[6]. وهناك فاطمة بنت زكرياء بن عبد الله الكاتبة المعروفة بالشبلاري, فهي كاتبة ابنة كاتب, قال عنها ابن بشكوال: "كانت كاتبة جذلة متخلصة عمرت عمرًا كثيرًا واستكملت أربعًا وتسعين سنة تكتب على ذلك الكتب الطوال, وتجيد الخط, وتحسن القول. ذكرها ابن حيان وقال: توفيت سلخ جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربع مائة. ودفنت بمقبرة أم سلمة وشهدها جمع الناس ماتت بكرًا رحمها الله"[7].
ويصف لنا العلامة ابن حزم (توفي 456هـ) ضخامة المكتبة الأموية, بحديثه الذي أجراه مع القائم بأعمالها في عهد الحكم المستنصر ويُدعى تليد الفتى, قال ابن حزم: "وأخبرني تليد الفتى -وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس- أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة, في كل فهرسة خمسون ورقة, ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط"[8]. أي أن عدد فهارس المكتبة الأموية كان 2200 ورقة فيها أسماء المؤلفات فقط, وهذا دليل عظيم على مقدار ضخامة تلك المكتبة الملكية.
والحق أن تشجيع الناصر (توفي 350هـ) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر (توفي 366هـ) للعلماء والأدباء والفقهاء من كل صنف ونوع, قد ضخّم المكتبة الأموية ضخامة جعلتها أعظم المكتبات في أوربا في ذلك الوقت, فقد كان للحكم المستنصر "وراقون بأقطار البلاد ينتخبون له غرائب التواليف, ورجال يوجههم إلى الآفاق عنها. ومن ورّاقيه ببغداد محمد بن طرخان, ومن أهل المشرق والأندلس جماعة. وكان مع هذا كثير التهمّم بكتبه والتصحيح لها والمطالعة لفوائدها, وقلما تجد له كتابًا كان في خزانته إلا وله فيه قراءة ونظر من أي فن كان من فنون العلم: يقرؤه ويكتب فيه بخطه -إما في أوله أو آخره أو في تضاعيفه- نسب المؤلف ومولده ووفاته والتعريف به, ويذكر أنساب الرواة له, ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده؛ لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الفن..
وكان موثوقًا به مأمونًا عليه. صار كل ما كتبه حجة عند شيوخ الأندلسيين وأئمتهم, ينقلونه من خطه ويحاضرون به. قلتُ (أي ابن الأبّار): وقد اجتمع لي من ذلك جزء مقيد مما وجد بخطه, ووجدتُ أنه يشتمل على فوائد جمة في أنواع شتى. وكان قد قيد كثيرًا من أنساب أهل بلده, وكلف أهل كور الأندلس أن يلحقوا كل عربي أُخمل ذكره قبل ولايته, وأن يصحح نسبهم أهل المعرفة بذلك, ويؤلف من الكتب, ويرد كل ذي نسب إلى نسبه, وفرج ذلك بالعلم، فتم له من ذلك ما أراد, ونفع الله بكرم قصده البلاد والعباد"[9].
مكتبات القرطبيين
إن مما يلفت الانتباه أن المكتبات كان لها دور عظيم في مسيرة التربية والتثقيف في الأندلس قاطبة وفي قرطبة خاصة، ولم تكن المكتبات والخزائن حكرًا على الأسرة الحاكمة الأموية في قرطبة أو من بعد ذلك في عصر ملوك الطوائف أو المرابطين أو الموحدين أو عهد ملوك الطوائف الثاني أو في عهد الدولة النصرية في غرناطة, لقد انتشرت المكتبات في كل أرجاء الأندلس, وفي كافة الأوقات, قال ول ديورانت عن عدد المكتبات في الأندلس وحال علمائها: "كان في الأندلس الإسلامية وحدها سبعون مكتبة عامة, وظل النحاة وعلماء اللغة وأصحاب الموسوعات والمؤرخون موفوري العدد والثراء"[10].
فمن جملة المكتبات التي اشتهرت في قرطبة, وكانت ملكًا لأحد أعرق وأرهب القضاة في تاريخ الأندلس, نجد مكتبة أبي المطرف بن فطيس, عبد الرحمن بن محمد بن عيسى (ت 402هـ), وكانت أعجوبة من عجائب قرطبة بلونها الأخضر في كل شيء, وهذا من الطرافة والجمال والديكور الراقي الذي تمتع الأندلسيون به, وقد وصفها النباهي بقوله: "كان له بداره مجلس عجيب الصنعة, حسن الآلة, ملبس كله بالخضرة: جدراته وأبوابه. وسقفه وفرشه وستوره ونمارقه, وكل ذلك متشاكل الصفات, قد ملأه بدفاتر العلم ودواوين الكتب التي ينظر فيها ويخرج منها؛ وبهذا المجلس كان أنسه وخلوته رحمه الله"[11].
وكان ابن فطيس -رحمه الله- له "ستة وراقين ينسخون له دائمًا, وكان قد رتب لهم على ذلك راتبًا معلومًا (أُجرة), وكان متى عَلِمَ بكتابٍ حسنٍ عند أحد من الناس طلبه للابتياع منه, وبالغ في ثمنه. فإن قدر على ابتياعه وإلا انتسخه منه وردَّه عليه"[12]. وكان له تقليد صارم, وحب زائد لكتبه ومكتبته, حتى إن حفيده يحكي عنه أنه: "كان لا يعير كتابًا من أصوله البتة, وكان إذا سأله أحد ذلك وألحف عليه أعطاه للناسخ فنسخه وقابله ودفعه إلى المستعير فإن صرفه وإلا تركه عنده"[13].
ومما يُدلل على كبر حجم هذه المكتبة, وغلاء الكتب التي كانت تحويها, ما أجبر أولاده وأحفاده على بيعها في زمن الفتنة في قرطبة, فقد ظلت كُتبها تُباع مدة عام كامل, قال ابن بشكوال: "أخبرني حفيده أبو سليمان -أي حفيد ابن فطيس- أنه سمع عمه وغير واحد من سلفه يحكون: أن أهل قرطبة اجتمعوا لبيع كتب جده هذا مدة عام كامل في مسجده في الفتنة في الغلاء, وأنه اجتمع فيها من الثمن أربعون ألف دينار قاسمية"[14].
مكتبات الفقراء
والعجيب أنه لم تكن الأسرة الحاكمة أو الأسر الغنية الميسورة وحدها تستمتع بترف تكوين مكتبات غنية, وإنما نجد أن هذه الهواية حتى بين طبقات المجتمع الأشد تواضعًا, فمن هؤلاء معلم مغمور يمضي حياته كلها بين الصبيان يعلمهم آيات القرآن الحكيم وبعض الأحاديث النبوية, قال القضاعي عن حزم وولده وابنته ومكتبهم الصغير الذي يعلمون فيه الأطفال: "كان هو وابنه محمد وابنته تجمعهم في تعليمهم دار واحدة"[15], وهذا الرجل لا ينتسب لأسرة ابن حزم الشهيرة المعروفة التي منها الإمام ابن حزم رحمه الله.
لقد كان هذا المعلم المغمور يشتغل ساعات فراغه في نسخ الكتب التي يعيرها له أصدقاؤه, ورغم أن ظروفه لا تتيح له ترف أن يستخدم لها خازنًا، لكن ذلك لا يعني أنها كانت مهملة, أو غير مرتبة, أو يجهل قيمتها, وكان أدباء قرطبة يغبطونه على دقة مخطوطاته, وروعة بعضها, وندرة البعض الآخر, وقد أحضرها في رحلة له من المشرق استهدف بها هذه الغاية, ويمكن أن تراه في ملابس متواضعة, ويتناول طعامًا أشد تواضعًا, ولكن مكتبته تعكس بوضوح إلى أي حد يمكن أن يبلغ حب الكتب الجيد بصاحبه حتى عند أصحاب الدخول المحدودة, والأرزاق المتواضعة[16].
منافسة مستعرة !
لقد اهتم القرطبيون بالمكتبات والكتب اهتمامًا زائدًا, حتى كان إنشاء مكتبة في البيوت أحد المظاهر الدالة على وجوب الاحترام والتوقير لذلك الشخص بين الأندلسيين, ويحدثنا الحضرمي أحد جماعي الكتب, وطلاب العلم عن منافسة بينه وبين رجل آخر في كتاب بحث عنه كثيرًا بقوله: "أقمتُ مرة بقرطبة, ولازمتُ سوق كتبها مدة, أترقبُ فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد, وتسفير مليح, ففرحت به أشد الفرح, فجعلت أزيدُ في ثمنه فيرجع إليَّ المنادي بالزيادة عليّ, إلى أن بلغ فوق حدّه, فقلتُ له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي؟ قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة..
فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه, إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك, فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده. قال: فقال لي: لستُ بفقيه ولا أدري ما فيه, ولكني أقمتُ خزانة كُتُب, واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد, وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب, فلما رأيتُه حسن الخط, جيد التجليد استحسنته, ولم أُبال بما أزيد فيه, والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير. قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلتُ له: نعم لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك, يُعطي الجوز من لا عنده أسنان, وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب, وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً, وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!"[17].
لقد كانت قرطبة بحق عاصمة الأندلس في الكتب والمكتبات, وقد أثرت هذه الطفرة المعلوماتية في أهلها, حتى وسم الأندلسيون بأنهم أهل الكتب, قال ابن سعيد المؤرخ كلمات مهمة عن شغف القرطبيين بالكتب: "قال والدي: وهي أكثر بلاد الأندلس كتبًا, وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب, صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرياسة حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب, وينتخب فيها, ليس إلا لأن يقال: فلان ليس عنده خزانة كتب, والكتاب الفلاني ليس هو عند أحد غيره, والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به"[18].
هذه هي حال الثقافة في العاصمة الأموية في الأندلس قرطبة, تؤكد لنا بوضوح وجلاء أن من أراد تسنم الذروة العليا في الخافقين, وإعلاء شأن أمته في العالمين, عليه أن يبذل قصارى جهده في نشر العلم, وتحبيبه للناس عامة, أمثال أولئك القرطبيين الذين شغفهم العلم حتى كانت المكتبات العامة والخاصة أحد أهم الملامح العامة لمجتمعهم, بل لتفاخرهم فيما بينهم, ونعمت المفاخرة إن كان هدفها إعلاء قيمة العلم, وإثراء روح التربية العلمية والعملية والثقافية.
* باحث مصري في التاريخ والتراث، وصاحب مدونة ابن أيوب
عن موقع قصة الإسلام
الهوامش:
[1] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا ص493. منشورات دار الحياة - بيروت.
[2] خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ترجمة الطاهر مكي ص156. الطبعة الثانية، دار المعارف - القاهرة، 1994م.
[3] ابن الفرضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، تحقيق عزت العطار 2/71. مطبعة المدني - القاهرة، 1988م.
[4] أبو عبد الله القضاعي: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عبد السلام الهراس 1/298.دار الفكر للطباعة - لبنان، 1995م.
[5] ابن بشكوال: الصلة، تحقيق إبراهيم الإبياري 3/992. ترجمة رقم 1541. الطبعة الأولى، دار الكتاب المصري - القاهرة، 1989م.
[6] ابن بشكوال: الصلة 3/992. ترجمة رقم 1542.
[7] ابن بشكوال: السابق 3/994. ترجمة رقم 1548.
[8] ابن الأبار: الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس 2/203. الطبعة الثانية، دار المعارف - القاهرة، 1985م.
[9] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/203.
[10] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود 5/4738. الهيئة العامة المصرية للكتاب - القاهرة، 2001م.
[11] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة ص88. الطبعة الخامسة، دار الآفاق الجديدة - بيروت، 1983م.
[12] ابن بشكوال: الصلة 2/467. ترجمة رقم 689.
[13] ابن بشكوال: الصلة 2/468.
[14] ابن بشكوال: الصلة 2/468.
[15] القضاعي: التكملة لكتاب الصلة 1/231.
[16] خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس ص165.
[17] المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس 1/463. دار صادر - بيروت، 1968م.
[18] المقري: نفح الطيب 1/462، 463.