التأصيل الإسلامي لمفهوم الحضارة والتقدم
الدكتور محمد بن صامل السلمي
الدكتور محمد بن صامل السلمي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :
فإن المفاهيم والمصطلحات ذات أهميه بالغه ولها تأثير كبير , إذ هي تختصر كثيراً من المسافات والمعارف للوصول إلى الآخرين والتأثير فيهم , وتعطي مفهوماً مجملاً وكلياً للعلم أوالفكرة التي تعبر عنها , المفهوم الاصطلاحي يرسم ظلالا فكرية, ويرسل إشارات وإيحاءات مقصودة , والمفاهيم تعتبر من وسائل الغزو الفكري والتأثير في الشعوب , وقد يكون المصطلح موطن صراع بين اتجاهات كثيرة , وبعض المفاهيم يتعمد واضعوها أن تكون غامضة غائمة حتى تفهم على أوجه مختلفة, مثل العلمانية , الديمقراطية , العولمة , الحرية , الإنسانية وهكذا . ومن المفاهيم التي كثر حولها الجدال, وأخذت أوجها ً مختلفة في التفسير والنظر, مفهوم الحضارة والتقدم .
وهذه الورقة تحاول ضبط هذا المفهوم وإلقاء الضوء على معانيه ودلالته وارتباطاته المختلفة والمنهج الذي ينبغي سلوكه للوصول إلى ضبط مفهوم الحضارة والتقدم وتأصيلهما .
وقد تعرضت بعد تعريف المصطلح إلى بيان طابع الحضارة , والصلة بين الحضارات صراع أم وئام ، والعلاقة بين الحضارة والمدنية , كما عرفت مفهوم التقدم والعلاقة بينه وبين الحضارة.
وأسأل الله أن يسهم هذا المقال في الكشف عن حقيقة مصطلح الحضارة والتقدم ، ونفي ما علق به من شوائب الغزو الفكري .
التــعـريــف
الحضارة لغة :
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : حضر : الحاء والضاد والراء : إيراد الشيء ووروده ومشاهدته , والحضر : خلاف البدو(1) فالحضور ضد الغيبة وهو الشهود . وهو مصطلح قديم كما نرى ، قال القطامي وهو من شعراء الجاهلية :
الحضارة في الاصطلاح :
الحضارة تعني الاستقرار والتمدن الذي ينتج عنه ممارسه الأنشطة المختلفة ذات الإنتاج والأثر المادي والمعنوي ، فالحضارة نتاج للنشاط الإنساني بمختلف صوره المادية والمعنوية (3) . وتعني بمعنى آخر
( حضور إنساني في عالم يتقدم ) (4) .
يتضح من هذا أن الحضارة ليست شيئا واحدا ، وإنما هي انتماءات متعددة حسب الهوية الفكرية ، والتصور العقدي عن الإنسان ذاته , ما هو ؟ ما وظيفته في الحياة ؟ ما هي مسؤولياته ؟ ما مصيره بعد الموت ؟ وعن الإله الخالق لهذا الإنسان والكون , ما هي صفاته ؟ وما حقوقه على العباد ؟ وما العلاقة بين الإله والإنسان ؟ وعن الكون , ما هو ؟ و ما العلاقة بينه وبين الإنسان ؟ فالتصور العقدي عن هذه المسائل المهمة هو الذي يصبغ الحضارة ويعطيها وسمها ووجهتها وهويتها ؛ ولهذا قلنا : إن الحضارة ليست نمطاً واحداً , وإنما كل حضارة لها طابع وانتماء , وعند التصنيف تنسب إلى أهلها كقوميه فنقول : حضارة العرب , حضارة الرومان , حضارة الفرس ، أو تنسب إلى الديانة : حضارة إسلامية , حضارة مسيحية , حضارة وثنية ، أو تنسب الحضارة إلى الأرض التي أقيمت عليها مثل حضارة اليونان , والهند , ومصر ...
طابع الحضارة :
المؤثر الذي يعطي للحضارة طابعها ومضمونها هو الدين .
والدين هو الدينونة والخضوع لله, وهو فطرة الإنسان , ونحن نعلم من كتاب الله تعالى أن أول البشر هو آدم عليه السلام وهو نبي مكلم (5) عابد لله وحده ، خاضع لشرعه , واستمر أبناؤه وذريته على التوحيد وشريعة الله عشرة قرون ، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما (6).
فالخضوع لدين الحق والهداية إلى توحيد الله هي الأصل في البشرية, ثم طرأ عليها الانحراف والوقوع في الشرك والدينونة والخضوع الاختياري لغير الله سبحانه وتعالى , وتبعاً لذلك انحرفت الحضارة والسلوك البشري مما استوجب بعثة الرسل ليردوهم إلى الحق قال تعالى : { كان الناس امة واحدة فبعث الله النيين مبشرين ومنذرين...(213) }(البقرة) أي كانوا أمة واحدة على التوحيد وعبادة الله ,ووجهتهم الحضارية واحدة , فانحرفوا عن ذلك , فبعث الله النبيين مبشرين بالجنة ، وداعين إلى الصراط المستقيم وتنقيه الحضارة من الانحرافات والشوائب؛ ومنذرين بالنار وسوء المصير لمن استمر على الانحراف ولم يتب ويرجع إلى الله والى الاستقامة على الصراط والهدى .
والحضارة هي انعكاس لقيم المجتمع وسلوكه وإنتاجه المادي والمعنوي , وبهذا تعددت الحضارات تبعاً لتعدد القيم والمفاهيم والعقائد المسيطرة على المجتمعات , والفوارق بين الحضارات هي في الأصول والتصورات الاعتقادية الدينية.
أما التنوع الحضاري في الصور والأشكال والوسائل فإنه يخضع لمؤثرات الزمان والمكان والعادات الاجتماعية ، وقد تتنوع الحضارة داخل الملة الواحدة لكن لابد أن يكون التصور العقدي حاضراً في منطلقاتها وأسسها .
الحضارات صراع أم وئام:
عرفنا أن كل حضارة مطبوعة بالملة والدين الذي يدين به أهلها وبناتها, وهي من هذا الجانب لا تقبل حضارة أخرى, فيكون بينهما صراع فكري عقدي ؛ حتى تتغلب واحدة على الأخرى, بحسب قوة أهلها وسلطانهم وثقتهم في حضارتهم واعتزازهم بها , فتكون هي الظاهرة والمهيمنة , لكنها لا تلغي الأخرى نهائياً , وإنما تبقى عند أتباعها محصورة عليهم وان كانوا قله .
والحضارات فيها جوانب مشتركه مثل الصناعات والخبرات العلمية في الإنتاج والتيسيرات التقنية والطبية والعسكرية, وكذا التجارب البشرية في الإدارة والتمدن والمخترعات المادية, فإن المتأخر يستفيد من المتقدم ، ويبني عليه ويزيد أو يعدل, وبهذا يحصل الوئام والتعاون الحضاري وتبادل المنافع, والاستفادة من الخبرات, وكل أهل ملة يأخذون من المنتجات الحضارية ما يناسب ملتهم وأحكامهم ,ويعدلون في الوسائل والاستخدامات ما يناسب أحوالهم الفكرية, وعاداتهم الاجتماعية المبنية أصلا على التصور الفكري والبناء العقدي الديني .
أما إذا اخذوا المنتجات الحضارية بمحتواها الفكري من غير فرز وتمييز, فإنهم حينئذ ينصبغون بالحضارة الوافدة عليهم, ويضعف ولاؤهم لحضارتهم , وهذا يعرف في العصر الحاضر بالغزو الفكري الذي يتسلل إلى الأفهام والعقول ؛ حتى يحرفها عن إيمانها واعتقادها وهي تشعر أو لا تشعر ، وقد قرر علماء الاجتماع قاعدة أشار لها ابن خلدون في المقدمة وهي : أن المغلوب مغرم بتقليد الغالب (7) فالحضارة الغالبة سياسياً وعسكرياً وتقنياً سيكون لها أتباع من المغلوبين والمنهزمين فكرياً وسياسياً, يرحبون بها, ويدعون لها, ويتمنون من بني جلدتهم أن يكونوا مثل غالبيهم في كل شيء , وهذه أخطر مرحلة تمر بها أمة من الأمم؛ تتنازل عن قيمها وتغرم بحضارة الغازي الغالب , ومع إن الصراع بين الأمم وغلبة بعضهم بعضا سنة كونية كما قال تعالى : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس..(140)}(آل عمران).
غير أن مجرد الغلبة والظهور من أمة على أخرى لا يعني الذوبان إذا كانت الأمة المغلوبة معتزة بحضارتها, وواثقة من حقها , قال تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (35)}(محمد) .
فالمؤمن بعقيدته لا تنهزم نفسه وروحه وإن هزمه عدوه عسكرياً, فإن هذه الهزيمة لا تؤدي به إلى الوهن والانهزام الداخلي , وإنما هي جولة يستعيد بعدها قوته, فيتغلب على عدوه , أما إذا انهزم من داخل نفسه فأنه سُيقنِع نفسه بأن لا فائدة من المقاومة فيرضى بالهزيمة وتوابعها, ويبرر لنفسه بالواقعية وتبدل الأحوال ويسم من لا يوافقه على الانهزام بالتهور وعدم الواقعية في التعامل .
الحضارة والمدنية:
يخلط بعض الناس بين الحضارة والمدنية أو التمدن, فيجعل التمدن هو الحضارة, مع إن التمدن صوره من صور الحضارة وثمرة من ثمارها , فقد تكون الحضارة في أوج قوتها وصفائها ، ولكن التمدن أقل ظهورا كما هو الحال في العهد النبوي, وعهد الخلفاء الراشدين , كانت أمة الإسلام في أرقى سلم الحضارة, حيث حررت الإنسان من عبادة غير الله, وقررت العدالة في أرقى صورها, وساد الأمن والإخاء بكل معانيه ومقاصده , من الأمن الروحي, والأمن النفسي, والأمن المجتمعي, والأمن الفكري, والأمن المستقبلي, فلا خوف في الحال ولا خوف في المستقبل لان الإيمان الصحيح هو الذي يعطي الأمن والطمأنينة قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)}(الرعد) فهذا أمن في الحال.
وقال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)}(الأنعام) وهذا أمن في المستقبل ، فالسمو الحضاري والطمأنينة النفسية حاصلة وإن لم يكن تقدم مدني , بل قد يكون التقدم في التمدن ومظاهره سبباً في الشقاء إذا لابسه انحراف وتنافس , وقد أشار الحديث النبوي إلى شيء من هذا, قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافسوها – أي من كان قبلكم من الأمم- فتهلككم كما أهلكتهم )(الحديث) .
ولاشك أن المدنية وتيسيراتها وخدماتها المتنوعة شيء محبب للنفوس, وتميل إليه وترغب فيه, لكن يجب أن تبنى هذه المدنية على أسس لا تعود على أصل الدين بالنقض والنقصان .
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي : إن الدين وثيق الصلة بالحضارة , فلا بد أن يكون هناك انسجام وتجاوب بين ما يعتقده الإنسان ويؤمن به وبين الحياة التي يعيشها , فإذا كانت هناك فجوة بين العقيدة وبين الحياة ؛ الدين والعقيدة في واد , والحياة في وادٍ, فإنه دين لا سيطرة له على الحياة ، أما الدين الحي , الدين السماوي فهو الذي يسيطر ولا يُسيطر عليه , ويحكم ولا يُحكم عليه , الدين الذي يسود ويقود , لا الدين الذي يقاد ويفسر كما يشتهي الإنسان ، الدين الصحيح هو الذي يسبك الحياة سبكاً جديداً ويتحكم في الحياة , بقول : هذا خالص وهذا زائف , وهذا حلال وهذا حرام , وهذا صواب وهذا خطأ ,فالدين صبغة يصطبغ بها الإنسان من الرأس إلى القدم, تصطبغ به حياته, تصطبغ به أساليب فكره, تصطبغ به موازين القيم, تصطبغ به المقاييس التي يطبقها للحياة, تصطبغ به حياته المنزلية وحياته العائلية وحياته المدنية .
إن الدين الذي جرد عن المدنية فكان ديناً ولا حضارة , كان دينا ولا اجتماع , كان دينً ولا حياة فهو كطائر مقصوص الجناح منتوف الريش لا يستطيع أن يطير ويحلق في الأجواء.
أما الدين الحقيقي فهو الدين الذي يطير بجناحيه في أجواء من الأخلاق والمعاملات والسياسة والمدنية , وهو يسبك الحياة سبكا مطابقا لعقيدته ولما يدين به .
ظهر الإسلام فأنتج حضارة كاملة بحذافيرها, حضارة زاهية زاهرة, حضارة حكيمة عادلة, حضارة مؤسسةً على توحيد الله تبارك وتعالى والإيمان به , وعلى ذكر الله تعالى, واستحضار قدرته, واستحضار الآخرة, والإيمان بأن الآخرة خير من الأولى, مؤسسة على العدل الاجتماعي, وعلى الاحترام للإنسانية, والرحمة بها, وعلى الجمع بين الواجبات والحقوق في وقت واحد والأخذ والعطاء, والإفادة والاستفادة في حين واحد, وعلى الاعتراف بقيمة الإنسان أيً كان وأينما كان, هذه الحضارة قامت على أساس العقيدة, وعلى أساس التربية الإلهية, والنصوص القرآنية السماوية, وعلى أساس السيرة النبوية, فكانت أزهى حضارة وأعدل حضارة, وأعقل حضارة وأعلم حضارة, وأفضل حضارة جربهاالإنسان (8) .
فكل دين يجرد من الحضارة دين صائر إلى الانقراض ومصيره الزوال السريع, وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل بحيث يرضون من الدين بالعقيدة , ولا يلحون على مدنية خاصة , هي نتاج هذا الدين , ويقتبسون أو يستوردون من مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى وسليلة ديانة أخرى ونتيجة أحداثٍ وعوامل مرت بها أمة خاصة أو بلد خاص, فإنهم يفقدون مع الأيام شخصيتهم, ويفقد الدين الذي دانوا به السيطرة على نفوسهم وعقولهم ، ويكونون صورة صادقة أو نسخة مضبوطاً للأمة التي تطفلوا على مائدتها, واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة , وهذا ما نتخوفه اليوم على العالم الإسلامي الذي يقتبس من الغرب مدنيته وأساليب حياته (9) .
لقد تم الربط في الحياة المعاصرة بين مفهوم الحضارة والمدنية , وتصور كثير من الناس أن الحضارة هي المدنية , وجاءنا الغرب بمدنيته البراقة والمنظمة حقا والمتفوقة تقنياً ليمحو حضارتنا ، وقد قبلنا هذا المدنية بعجرها وبجرها, وهي نتاج ملة غير ملتنا , وصبغتها تخالف حضارتنا في أهدافها وخططها وإعلامها, وتنظيماتها الاجتماعية في اللباس والعادات والأعياد , بل حتى في تنظيم الأسواق والعمران , فإن العولمة تحاول جعل العالم كله صورة واحدة بصرف النظر عن خصوصيات الشعوب وعاداتها المرتبطة بقيمها ومفاهيمها وتصوراتها العقدية بل حتى التنوع الجغرافي والبيئي لم يعد له أثر.
لقد كان التنوع الجغرافي يرسم أنماطاً من المدنية في العمران واللباس والعادات داخل الحضارة الواحدة والملة المشتركة مما يعطي لوحة جمالية وأفكاراً إبداعية لها ارتباط بالمكان والإنسان , أما الآن فقد بدأت تختفي هذه الأنماط والتنوع , فالعالم كله يسير إلى نمط واحد وقالب متماثل بفعل العولمة وسيطرة القوة الناعمة والغاشمة .
مفهوم التقدم :
قال في اللسان (10) : قَدَم – بالفتح – يقدم قدوماً أي تقدم ؛ ومنه قوله تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ...(98)}(هود) , أي يتقدمهم إلى النار, ومصدره القدم . يقال: قَدَم يقدم, و تقدم يتقدم, وأقدم يُقدم, بمعنى واحد ، والقدم :السابقة وما تقدموا فيه غيرهم , والقدم : كل ما قدمت من خير ، والتقدم يقابله أو يضاده التأخر . قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (38)}(المدثر) . فالتقدم : هو فعل الأمر الحسن , والتأخر : هو فعل الأمر السيئ والذي لا ينفع صاحبه ، ولا ينفع المجتمع لا في حاله ولا في مآله ، وبهذا يتضح أن الفعل والعمل إذا لم يكن حسنا في ذاته نافعا لغيره لا يسمى تقدما .
والمستقر في أذهان كثير من الناس هو الربط بين الجديد ومفهوم التقدم, فكل جديد هو تقدم عندهم والإيحاء لهذا أن كل قديم هو تخلف , ولهذا يسارع الناس إلى المحدثات والصرعات والموضات على اعتبار أنها تقدم, وفاعلها يوصف بأنه متقدم ومتحضر, لأن بين مفهوم التقدم والحضارة ارتباط حيث إن الحضارة الحقة تنتج عالماً متقدماً يعمل الحسن ويترك السيئ .
وعلى هذا الفهم الملتبس بين مفهوم التقدم والحضارة جرى تقسيم العالم إلى دول متقدمة, وهي الدول ذات التنظيم والتمدن والتقنية العالية والقوة الاقتصادية والعمران الشاهق والدخول المرتفعة بصرف النظر عن السلوك الأخلاقي والسعادة النفسية والأمن المجتمعي .
ودول متخلفة, وقد تسمى - مجاملة - نامية وهي الدول الفقيرة ذات الدخول القليلة, والتخلف العمراني والتقني. ويدخل تحت هذا الاسم أغلب دول العالم الإسلامي .
ولاشك أن الفقر والتخلف التقني وضعف التنظيم الإداري والعمراني كلها مظاهر غير مرغوبة ، ويجب على الأمة السعي لامتلاك عناصر القوة وإسعاد المجتمع الإنساني .
والعالم المعاصر اليوم يعيش بين تخلفين ؛ فما يوصف بالعالم المتقدم ماديا ومدنيا يعيش تخلفاً روحياً وضعفاً أخلاقياً وضغوطاً نفسية أودت بمكونات الإنسان الأساسية إلى الهلاك والدمار .
ولهذا تنبأ كثير من فلاسفة الغرب سقوط حضارتهم ؛ لأنها اهتمت بالجانب المادي وجانب اللذة والشهوة الجسدية على حساب الروح والأخلاق والقيم .
فقد ألف العالم الأمريكي الكسيس كارليل كتابه الشهير : ( الإنسان ذلك المجهول ) (11) , لينادي على العالم المعاصر بأنه يجهل ذات الإنسان الذي تصنع الحضارة من أجله , ولهذا فكثير من عمله وإنتاجه غير مناسب له، بل هو مدمر لخصائصه .
كما أطلق العالم الألماني ( ألبرت اشفيتسر ) نداءً آخر من خلال كتابه (انحلال الحضارة وإعادة بنائها)
وقد عرّف الحضارة بقوله : الحضارة - بكل بساطه -عناها بذل المجهود بوصفنا كائنات إنسانية , من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي , وهذا الموقف يتضمن استعداداً مزدوجاً , فيجب :
أولاً : أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة .
ثانياً : أن نكون أخلاقيين (12) .
فهو يركز على أن الإيجابية والأخلاق هي التي تبني الحضارة الصالحة المناسبة لكيان الإنسان وخصائصه ، ويزيد هذا المعنى إيضاحاً بقوله: هناك حقيقتان هما:
1- أن طابع الحضارة أخلاقياً في أساسه, وهذا ما تفقده المدنية الغربية المعاصرة.
2- وأن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الحضارة وبين نظريتنا في الكون (13) .
ويقول كولن ويلسون : لا تستطيع الحضارة أن تستمر في وضعيتها العمياء الحاضرة , منتجة ثلاجات أفضل . وشاشات أوسع للسينما , مجردة البشر باستمرار من كل معنى للحياة الروحية (14)
قلت: وفقدان المدنية الغربية المعاصرة للتوازن بين الحياة الروحية والأخلاقية وبين الحياة المادية صبغ مدنيتهم بالتخلف الخطير الذي يقضي على الحياة البشرية ، وإن كانت صورتها متقدمة مادياً.
والتخلف الثاني: هو تخلف ما يوصف بالدول النامية فإنها تركت مقومات حضارتها, واتجهت إلى المدنية الغربية, تـقلدها وتجعلها مَثلَها الأعلى, و تتمنى أن تلحق بركبها وهي لا تملك المقومات التقنية والقدرات التنظيمية التي عند الغرب, فتركت قيمها ومقومات حضارتها أو خلطتها بالقيم الغربية, ثم لم تستطع المنافسة ولا القرب من المستوى المادي والتقني للنظم الغربية, فهي كالغراب الأعرج الذي حاول تقليد مشية الطاووس فلم يستطع وحاول العودة إلى قطيع الغربان فنسي طيرانهم .
ومصطلح التقدم لفظ مغري غير أنه يستخدم كثيراً في غير موضعه الصحيح ؛ حتى صار قريناً للتغيير والتبديل والتخلي عن الموروث العلمي والثقافي والاجتماعي، بل حتى النص الشرعي طاله شيء من الترك أو التحريف باسم التقدم والتطور والحضارة.
وهذه المصطلحات يجب ضبط دلالاتها، وتوضيح مقاصدها لعامة الناس، حتى لا تروج عندهم الدلالات البديلة والملتبسة ،التي يقصد بها تسويق الباطل تحت مسميات واصطلاحات غير مثيرة ، ولا ينتبه العامة لمقاصد مستخدميها، حتى إذا نُسِي الأصل ، ودُرِس العلم ، ثبتت الدلالات البديلة ، وسوقت علناً.
الهوامش
(1) معجم مقاييس اللغة 2/75
(2) الزبيدي : تاج العروس 11/40
(3) عثمان صافي , ماهية الحضارة 1/624 بحوث ندوة الإسلام والحضارة ( الندوة العالمية للشباب الإسلامي )
(4) المصدر نفسه 1/625
(5) رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه ( المشكاة ح 5737 )
(6) رواه ابن جرير في تفسيره 4/275 وانظر : تفسير ابن كثير 1/364 وصرح بتصحيحه سنداً ومعنى
(7) المقدمة ـ إبن خلدون
(8) أهمية الحضارة في تاريخ الديانات , ص 12 - 14
(9) المصدر السابق ، ص 15
(10) ابن منظور , لسان العرب , مادة : قدم
(11) تعريب شفيق أسعد فريد , منشورات مكتبه المعارف , بيروت
(12) انظر : ص/5
(13) المصدر السابق ، ص 7
(14) سقوط الحضارة ، ص 397
المصدر : موقع التاريخ/موقع جامعة أم القرى
فإن المفاهيم والمصطلحات ذات أهميه بالغه ولها تأثير كبير , إذ هي تختصر كثيراً من المسافات والمعارف للوصول إلى الآخرين والتأثير فيهم , وتعطي مفهوماً مجملاً وكلياً للعلم أوالفكرة التي تعبر عنها , المفهوم الاصطلاحي يرسم ظلالا فكرية, ويرسل إشارات وإيحاءات مقصودة , والمفاهيم تعتبر من وسائل الغزو الفكري والتأثير في الشعوب , وقد يكون المصطلح موطن صراع بين اتجاهات كثيرة , وبعض المفاهيم يتعمد واضعوها أن تكون غامضة غائمة حتى تفهم على أوجه مختلفة, مثل العلمانية , الديمقراطية , العولمة , الحرية , الإنسانية وهكذا . ومن المفاهيم التي كثر حولها الجدال, وأخذت أوجها ً مختلفة في التفسير والنظر, مفهوم الحضارة والتقدم .
وهذه الورقة تحاول ضبط هذا المفهوم وإلقاء الضوء على معانيه ودلالته وارتباطاته المختلفة والمنهج الذي ينبغي سلوكه للوصول إلى ضبط مفهوم الحضارة والتقدم وتأصيلهما .
وقد تعرضت بعد تعريف المصطلح إلى بيان طابع الحضارة , والصلة بين الحضارات صراع أم وئام ، والعلاقة بين الحضارة والمدنية , كما عرفت مفهوم التقدم والعلاقة بينه وبين الحضارة.
وأسأل الله أن يسهم هذا المقال في الكشف عن حقيقة مصطلح الحضارة والتقدم ، ونفي ما علق به من شوائب الغزو الفكري .
التــعـريــف
الحضارة لغة :
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : حضر : الحاء والضاد والراء : إيراد الشيء ووروده ومشاهدته , والحضر : خلاف البدو(1) فالحضور ضد الغيبة وهو الشهود . وهو مصطلح قديم كما نرى ، قال القطامي وهو من شعراء الجاهلية :
ومــــن تـــكـن الحضــارة أعـجبــته * فــــأيُ رجـــال بــاديــة تـــرانــــا
ويعنون بالحضارة : الإقامة في الحضر ,والحاضرة هي المدن والقرى والأمصار التي تبنى بها المساكن الثابتة ويستقرون فيها فلا يرحلون (2) والعرب في مساكنهم كانوا طائفتين : بادية رحل وحاضرة مستقرون .الحضارة في الاصطلاح :
الحضارة تعني الاستقرار والتمدن الذي ينتج عنه ممارسه الأنشطة المختلفة ذات الإنتاج والأثر المادي والمعنوي ، فالحضارة نتاج للنشاط الإنساني بمختلف صوره المادية والمعنوية (3) . وتعني بمعنى آخر
( حضور إنساني في عالم يتقدم ) (4) .
يتضح من هذا أن الحضارة ليست شيئا واحدا ، وإنما هي انتماءات متعددة حسب الهوية الفكرية ، والتصور العقدي عن الإنسان ذاته , ما هو ؟ ما وظيفته في الحياة ؟ ما هي مسؤولياته ؟ ما مصيره بعد الموت ؟ وعن الإله الخالق لهذا الإنسان والكون , ما هي صفاته ؟ وما حقوقه على العباد ؟ وما العلاقة بين الإله والإنسان ؟ وعن الكون , ما هو ؟ و ما العلاقة بينه وبين الإنسان ؟ فالتصور العقدي عن هذه المسائل المهمة هو الذي يصبغ الحضارة ويعطيها وسمها ووجهتها وهويتها ؛ ولهذا قلنا : إن الحضارة ليست نمطاً واحداً , وإنما كل حضارة لها طابع وانتماء , وعند التصنيف تنسب إلى أهلها كقوميه فنقول : حضارة العرب , حضارة الرومان , حضارة الفرس ، أو تنسب إلى الديانة : حضارة إسلامية , حضارة مسيحية , حضارة وثنية ، أو تنسب الحضارة إلى الأرض التي أقيمت عليها مثل حضارة اليونان , والهند , ومصر ...
طابع الحضارة :
المؤثر الذي يعطي للحضارة طابعها ومضمونها هو الدين .
والدين هو الدينونة والخضوع لله, وهو فطرة الإنسان , ونحن نعلم من كتاب الله تعالى أن أول البشر هو آدم عليه السلام وهو نبي مكلم (5) عابد لله وحده ، خاضع لشرعه , واستمر أبناؤه وذريته على التوحيد وشريعة الله عشرة قرون ، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما (6).
فالخضوع لدين الحق والهداية إلى توحيد الله هي الأصل في البشرية, ثم طرأ عليها الانحراف والوقوع في الشرك والدينونة والخضوع الاختياري لغير الله سبحانه وتعالى , وتبعاً لذلك انحرفت الحضارة والسلوك البشري مما استوجب بعثة الرسل ليردوهم إلى الحق قال تعالى : { كان الناس امة واحدة فبعث الله النيين مبشرين ومنذرين...(213) }(البقرة) أي كانوا أمة واحدة على التوحيد وعبادة الله ,ووجهتهم الحضارية واحدة , فانحرفوا عن ذلك , فبعث الله النبيين مبشرين بالجنة ، وداعين إلى الصراط المستقيم وتنقيه الحضارة من الانحرافات والشوائب؛ ومنذرين بالنار وسوء المصير لمن استمر على الانحراف ولم يتب ويرجع إلى الله والى الاستقامة على الصراط والهدى .
والحضارة هي انعكاس لقيم المجتمع وسلوكه وإنتاجه المادي والمعنوي , وبهذا تعددت الحضارات تبعاً لتعدد القيم والمفاهيم والعقائد المسيطرة على المجتمعات , والفوارق بين الحضارات هي في الأصول والتصورات الاعتقادية الدينية.
أما التنوع الحضاري في الصور والأشكال والوسائل فإنه يخضع لمؤثرات الزمان والمكان والعادات الاجتماعية ، وقد تتنوع الحضارة داخل الملة الواحدة لكن لابد أن يكون التصور العقدي حاضراً في منطلقاتها وأسسها .
الحضارات صراع أم وئام:
عرفنا أن كل حضارة مطبوعة بالملة والدين الذي يدين به أهلها وبناتها, وهي من هذا الجانب لا تقبل حضارة أخرى, فيكون بينهما صراع فكري عقدي ؛ حتى تتغلب واحدة على الأخرى, بحسب قوة أهلها وسلطانهم وثقتهم في حضارتهم واعتزازهم بها , فتكون هي الظاهرة والمهيمنة , لكنها لا تلغي الأخرى نهائياً , وإنما تبقى عند أتباعها محصورة عليهم وان كانوا قله .
والحضارات فيها جوانب مشتركه مثل الصناعات والخبرات العلمية في الإنتاج والتيسيرات التقنية والطبية والعسكرية, وكذا التجارب البشرية في الإدارة والتمدن والمخترعات المادية, فإن المتأخر يستفيد من المتقدم ، ويبني عليه ويزيد أو يعدل, وبهذا يحصل الوئام والتعاون الحضاري وتبادل المنافع, والاستفادة من الخبرات, وكل أهل ملة يأخذون من المنتجات الحضارية ما يناسب ملتهم وأحكامهم ,ويعدلون في الوسائل والاستخدامات ما يناسب أحوالهم الفكرية, وعاداتهم الاجتماعية المبنية أصلا على التصور الفكري والبناء العقدي الديني .
أما إذا اخذوا المنتجات الحضارية بمحتواها الفكري من غير فرز وتمييز, فإنهم حينئذ ينصبغون بالحضارة الوافدة عليهم, ويضعف ولاؤهم لحضارتهم , وهذا يعرف في العصر الحاضر بالغزو الفكري الذي يتسلل إلى الأفهام والعقول ؛ حتى يحرفها عن إيمانها واعتقادها وهي تشعر أو لا تشعر ، وقد قرر علماء الاجتماع قاعدة أشار لها ابن خلدون في المقدمة وهي : أن المغلوب مغرم بتقليد الغالب (7) فالحضارة الغالبة سياسياً وعسكرياً وتقنياً سيكون لها أتباع من المغلوبين والمنهزمين فكرياً وسياسياً, يرحبون بها, ويدعون لها, ويتمنون من بني جلدتهم أن يكونوا مثل غالبيهم في كل شيء , وهذه أخطر مرحلة تمر بها أمة من الأمم؛ تتنازل عن قيمها وتغرم بحضارة الغازي الغالب , ومع إن الصراع بين الأمم وغلبة بعضهم بعضا سنة كونية كما قال تعالى : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس..(140)}(آل عمران).
غير أن مجرد الغلبة والظهور من أمة على أخرى لا يعني الذوبان إذا كانت الأمة المغلوبة معتزة بحضارتها, وواثقة من حقها , قال تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (35)}(محمد) .
فالمؤمن بعقيدته لا تنهزم نفسه وروحه وإن هزمه عدوه عسكرياً, فإن هذه الهزيمة لا تؤدي به إلى الوهن والانهزام الداخلي , وإنما هي جولة يستعيد بعدها قوته, فيتغلب على عدوه , أما إذا انهزم من داخل نفسه فأنه سُيقنِع نفسه بأن لا فائدة من المقاومة فيرضى بالهزيمة وتوابعها, ويبرر لنفسه بالواقعية وتبدل الأحوال ويسم من لا يوافقه على الانهزام بالتهور وعدم الواقعية في التعامل .
الحضارة والمدنية:
يخلط بعض الناس بين الحضارة والمدنية أو التمدن, فيجعل التمدن هو الحضارة, مع إن التمدن صوره من صور الحضارة وثمرة من ثمارها , فقد تكون الحضارة في أوج قوتها وصفائها ، ولكن التمدن أقل ظهورا كما هو الحال في العهد النبوي, وعهد الخلفاء الراشدين , كانت أمة الإسلام في أرقى سلم الحضارة, حيث حررت الإنسان من عبادة غير الله, وقررت العدالة في أرقى صورها, وساد الأمن والإخاء بكل معانيه ومقاصده , من الأمن الروحي, والأمن النفسي, والأمن المجتمعي, والأمن الفكري, والأمن المستقبلي, فلا خوف في الحال ولا خوف في المستقبل لان الإيمان الصحيح هو الذي يعطي الأمن والطمأنينة قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)}(الرعد) فهذا أمن في الحال.
وقال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)}(الأنعام) وهذا أمن في المستقبل ، فالسمو الحضاري والطمأنينة النفسية حاصلة وإن لم يكن تقدم مدني , بل قد يكون التقدم في التمدن ومظاهره سبباً في الشقاء إذا لابسه انحراف وتنافس , وقد أشار الحديث النبوي إلى شيء من هذا, قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافسوها – أي من كان قبلكم من الأمم- فتهلككم كما أهلكتهم )(الحديث) .
ولاشك أن المدنية وتيسيراتها وخدماتها المتنوعة شيء محبب للنفوس, وتميل إليه وترغب فيه, لكن يجب أن تبنى هذه المدنية على أسس لا تعود على أصل الدين بالنقض والنقصان .
يقول الشيخ أبو الحسن الندوي : إن الدين وثيق الصلة بالحضارة , فلا بد أن يكون هناك انسجام وتجاوب بين ما يعتقده الإنسان ويؤمن به وبين الحياة التي يعيشها , فإذا كانت هناك فجوة بين العقيدة وبين الحياة ؛ الدين والعقيدة في واد , والحياة في وادٍ, فإنه دين لا سيطرة له على الحياة ، أما الدين الحي , الدين السماوي فهو الذي يسيطر ولا يُسيطر عليه , ويحكم ولا يُحكم عليه , الدين الذي يسود ويقود , لا الدين الذي يقاد ويفسر كما يشتهي الإنسان ، الدين الصحيح هو الذي يسبك الحياة سبكاً جديداً ويتحكم في الحياة , بقول : هذا خالص وهذا زائف , وهذا حلال وهذا حرام , وهذا صواب وهذا خطأ ,فالدين صبغة يصطبغ بها الإنسان من الرأس إلى القدم, تصطبغ به حياته, تصطبغ به أساليب فكره, تصطبغ به موازين القيم, تصطبغ به المقاييس التي يطبقها للحياة, تصطبغ به حياته المنزلية وحياته العائلية وحياته المدنية .
إن الدين الذي جرد عن المدنية فكان ديناً ولا حضارة , كان دينا ولا اجتماع , كان دينً ولا حياة فهو كطائر مقصوص الجناح منتوف الريش لا يستطيع أن يطير ويحلق في الأجواء.
أما الدين الحقيقي فهو الدين الذي يطير بجناحيه في أجواء من الأخلاق والمعاملات والسياسة والمدنية , وهو يسبك الحياة سبكا مطابقا لعقيدته ولما يدين به .
ظهر الإسلام فأنتج حضارة كاملة بحذافيرها, حضارة زاهية زاهرة, حضارة حكيمة عادلة, حضارة مؤسسةً على توحيد الله تبارك وتعالى والإيمان به , وعلى ذكر الله تعالى, واستحضار قدرته, واستحضار الآخرة, والإيمان بأن الآخرة خير من الأولى, مؤسسة على العدل الاجتماعي, وعلى الاحترام للإنسانية, والرحمة بها, وعلى الجمع بين الواجبات والحقوق في وقت واحد والأخذ والعطاء, والإفادة والاستفادة في حين واحد, وعلى الاعتراف بقيمة الإنسان أيً كان وأينما كان, هذه الحضارة قامت على أساس العقيدة, وعلى أساس التربية الإلهية, والنصوص القرآنية السماوية, وعلى أساس السيرة النبوية, فكانت أزهى حضارة وأعدل حضارة, وأعقل حضارة وأعلم حضارة, وأفضل حضارة جربهاالإنسان (8) .
فكل دين يجرد من الحضارة دين صائر إلى الانقراض ومصيره الزوال السريع, وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل بحيث يرضون من الدين بالعقيدة , ولا يلحون على مدنية خاصة , هي نتاج هذا الدين , ويقتبسون أو يستوردون من مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى وسليلة ديانة أخرى ونتيجة أحداثٍ وعوامل مرت بها أمة خاصة أو بلد خاص, فإنهم يفقدون مع الأيام شخصيتهم, ويفقد الدين الذي دانوا به السيطرة على نفوسهم وعقولهم ، ويكونون صورة صادقة أو نسخة مضبوطاً للأمة التي تطفلوا على مائدتها, واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة , وهذا ما نتخوفه اليوم على العالم الإسلامي الذي يقتبس من الغرب مدنيته وأساليب حياته (9) .
لقد تم الربط في الحياة المعاصرة بين مفهوم الحضارة والمدنية , وتصور كثير من الناس أن الحضارة هي المدنية , وجاءنا الغرب بمدنيته البراقة والمنظمة حقا والمتفوقة تقنياً ليمحو حضارتنا ، وقد قبلنا هذا المدنية بعجرها وبجرها, وهي نتاج ملة غير ملتنا , وصبغتها تخالف حضارتنا في أهدافها وخططها وإعلامها, وتنظيماتها الاجتماعية في اللباس والعادات والأعياد , بل حتى في تنظيم الأسواق والعمران , فإن العولمة تحاول جعل العالم كله صورة واحدة بصرف النظر عن خصوصيات الشعوب وعاداتها المرتبطة بقيمها ومفاهيمها وتصوراتها العقدية بل حتى التنوع الجغرافي والبيئي لم يعد له أثر.
لقد كان التنوع الجغرافي يرسم أنماطاً من المدنية في العمران واللباس والعادات داخل الحضارة الواحدة والملة المشتركة مما يعطي لوحة جمالية وأفكاراً إبداعية لها ارتباط بالمكان والإنسان , أما الآن فقد بدأت تختفي هذه الأنماط والتنوع , فالعالم كله يسير إلى نمط واحد وقالب متماثل بفعل العولمة وسيطرة القوة الناعمة والغاشمة .
مفهوم التقدم :
قال في اللسان (10) : قَدَم – بالفتح – يقدم قدوماً أي تقدم ؛ ومنه قوله تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ...(98)}(هود) , أي يتقدمهم إلى النار, ومصدره القدم . يقال: قَدَم يقدم, و تقدم يتقدم, وأقدم يُقدم, بمعنى واحد ، والقدم :السابقة وما تقدموا فيه غيرهم , والقدم : كل ما قدمت من خير ، والتقدم يقابله أو يضاده التأخر . قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (38)}(المدثر) . فالتقدم : هو فعل الأمر الحسن , والتأخر : هو فعل الأمر السيئ والذي لا ينفع صاحبه ، ولا ينفع المجتمع لا في حاله ولا في مآله ، وبهذا يتضح أن الفعل والعمل إذا لم يكن حسنا في ذاته نافعا لغيره لا يسمى تقدما .
والمستقر في أذهان كثير من الناس هو الربط بين الجديد ومفهوم التقدم, فكل جديد هو تقدم عندهم والإيحاء لهذا أن كل قديم هو تخلف , ولهذا يسارع الناس إلى المحدثات والصرعات والموضات على اعتبار أنها تقدم, وفاعلها يوصف بأنه متقدم ومتحضر, لأن بين مفهوم التقدم والحضارة ارتباط حيث إن الحضارة الحقة تنتج عالماً متقدماً يعمل الحسن ويترك السيئ .
وعلى هذا الفهم الملتبس بين مفهوم التقدم والحضارة جرى تقسيم العالم إلى دول متقدمة, وهي الدول ذات التنظيم والتمدن والتقنية العالية والقوة الاقتصادية والعمران الشاهق والدخول المرتفعة بصرف النظر عن السلوك الأخلاقي والسعادة النفسية والأمن المجتمعي .
ودول متخلفة, وقد تسمى - مجاملة - نامية وهي الدول الفقيرة ذات الدخول القليلة, والتخلف العمراني والتقني. ويدخل تحت هذا الاسم أغلب دول العالم الإسلامي .
ولاشك أن الفقر والتخلف التقني وضعف التنظيم الإداري والعمراني كلها مظاهر غير مرغوبة ، ويجب على الأمة السعي لامتلاك عناصر القوة وإسعاد المجتمع الإنساني .
والعالم المعاصر اليوم يعيش بين تخلفين ؛ فما يوصف بالعالم المتقدم ماديا ومدنيا يعيش تخلفاً روحياً وضعفاً أخلاقياً وضغوطاً نفسية أودت بمكونات الإنسان الأساسية إلى الهلاك والدمار .
ولهذا تنبأ كثير من فلاسفة الغرب سقوط حضارتهم ؛ لأنها اهتمت بالجانب المادي وجانب اللذة والشهوة الجسدية على حساب الروح والأخلاق والقيم .
فقد ألف العالم الأمريكي الكسيس كارليل كتابه الشهير : ( الإنسان ذلك المجهول ) (11) , لينادي على العالم المعاصر بأنه يجهل ذات الإنسان الذي تصنع الحضارة من أجله , ولهذا فكثير من عمله وإنتاجه غير مناسب له، بل هو مدمر لخصائصه .
كما أطلق العالم الألماني ( ألبرت اشفيتسر ) نداءً آخر من خلال كتابه (انحلال الحضارة وإعادة بنائها)
وقد عرّف الحضارة بقوله : الحضارة - بكل بساطه -عناها بذل المجهود بوصفنا كائنات إنسانية , من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي , وهذا الموقف يتضمن استعداداً مزدوجاً , فيجب :
أولاً : أن نكون متأهبين للعمل إيجابياً في العالم والحياة .
ثانياً : أن نكون أخلاقيين (12) .
فهو يركز على أن الإيجابية والأخلاق هي التي تبني الحضارة الصالحة المناسبة لكيان الإنسان وخصائصه ، ويزيد هذا المعنى إيضاحاً بقوله: هناك حقيقتان هما:
1- أن طابع الحضارة أخلاقياً في أساسه, وهذا ما تفقده المدنية الغربية المعاصرة.
2- وأن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين الحضارة وبين نظريتنا في الكون (13) .
ويقول كولن ويلسون : لا تستطيع الحضارة أن تستمر في وضعيتها العمياء الحاضرة , منتجة ثلاجات أفضل . وشاشات أوسع للسينما , مجردة البشر باستمرار من كل معنى للحياة الروحية (14)
قلت: وفقدان المدنية الغربية المعاصرة للتوازن بين الحياة الروحية والأخلاقية وبين الحياة المادية صبغ مدنيتهم بالتخلف الخطير الذي يقضي على الحياة البشرية ، وإن كانت صورتها متقدمة مادياً.
والتخلف الثاني: هو تخلف ما يوصف بالدول النامية فإنها تركت مقومات حضارتها, واتجهت إلى المدنية الغربية, تـقلدها وتجعلها مَثلَها الأعلى, و تتمنى أن تلحق بركبها وهي لا تملك المقومات التقنية والقدرات التنظيمية التي عند الغرب, فتركت قيمها ومقومات حضارتها أو خلطتها بالقيم الغربية, ثم لم تستطع المنافسة ولا القرب من المستوى المادي والتقني للنظم الغربية, فهي كالغراب الأعرج الذي حاول تقليد مشية الطاووس فلم يستطع وحاول العودة إلى قطيع الغربان فنسي طيرانهم .
ومصطلح التقدم لفظ مغري غير أنه يستخدم كثيراً في غير موضعه الصحيح ؛ حتى صار قريناً للتغيير والتبديل والتخلي عن الموروث العلمي والثقافي والاجتماعي، بل حتى النص الشرعي طاله شيء من الترك أو التحريف باسم التقدم والتطور والحضارة.
وهذه المصطلحات يجب ضبط دلالاتها، وتوضيح مقاصدها لعامة الناس، حتى لا تروج عندهم الدلالات البديلة والملتبسة ،التي يقصد بها تسويق الباطل تحت مسميات واصطلاحات غير مثيرة ، ولا ينتبه العامة لمقاصد مستخدميها، حتى إذا نُسِي الأصل ، ودُرِس العلم ، ثبتت الدلالات البديلة ، وسوقت علناً.
الهوامش
(1) معجم مقاييس اللغة 2/75
(2) الزبيدي : تاج العروس 11/40
(3) عثمان صافي , ماهية الحضارة 1/624 بحوث ندوة الإسلام والحضارة ( الندوة العالمية للشباب الإسلامي )
(4) المصدر نفسه 1/625
(5) رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه ( المشكاة ح 5737 )
(6) رواه ابن جرير في تفسيره 4/275 وانظر : تفسير ابن كثير 1/364 وصرح بتصحيحه سنداً ومعنى
(7) المقدمة ـ إبن خلدون
(8) أهمية الحضارة في تاريخ الديانات , ص 12 - 14
(9) المصدر السابق ، ص 15
(10) ابن منظور , لسان العرب , مادة : قدم
(11) تعريب شفيق أسعد فريد , منشورات مكتبه المعارف , بيروت
(12) انظر : ص/5
(13) المصدر السابق ، ص 7
(14) سقوط الحضارة ، ص 397
المصدر : موقع التاريخ/موقع جامعة أم القرى