حضارة العرب في صقلية وأثرها في النهضة الأوربية
الدكتور عبد الجليل شلبي
ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميَّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان -كما قال البلاذري- يغزو برًّا وبحرًا، وهو أول من أسس أسطولاً إسلاميًّا. ووجه إلى صقلية أيضًا عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضًا جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلمون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبَنَى فيها مساجد، وترك مقرئين يُعلِّمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئيَّة.
وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطًا، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوربا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية، ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب.
فتح صقلية
كان قد مضى على صقلية ثلاثة قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافًا سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يُدعى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظًا من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات، وأبو محرز..
وكان ابن الفرات متحمسًا لهذا الغزو مستدلاًّ بالآية القرآنية: { فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }(محمد 35). وكان ابن الفرات فقيهًا مالكيًّا طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقى الفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهيَّة باسمه، وكان أيضًا محاربًا شجاعًا. ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء "مزارا" التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم، كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.
استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشًا، ثم قال: "فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..". والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.
لم يكن فتح هذه الجزيرة هينًا ولا سريعًا، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجيًّا في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائيًّا إلا في العهد الفاطمي.
صقلية بعد الفتح
صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية * التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك نزاع أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.
ونوجز القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أيامًا قاسية سودًا، حتى عين الخليفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن واليًا عليها، فبدأ عهدًا جديدًا عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرنًا من الزمان، كانت الدولة فيه كلبيَّة فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً..
ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعًا بعد الإسلام كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رءوسهم رجل يُدعى ابن الثمنة، ففعل فعلة إيو فيموس، وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا. وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد على ذلك ببضعة عشر عامًا.
وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.
أثر الفتح الإسلامي لصقلية
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهدًا في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيدًا جدًّا، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعًا من النباتات ومن الحيوانات، لم يكن للأوربيين بها عهد ولا علم. إلى جانب ذلك كله، وجدوا فنونًا راقية وأدبًا عاليًا، وعديدًا من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية.. وهكذا تقدُّم ورقي في كل شيء.
إن الفرق واسع جدًّا بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديون بعد خروج المسلمين.
كان النورمانديون على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل؛ لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الأسبان. فهناك -وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها. وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقًّا، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه دينًا، لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمنًا وأبقى.
العهد العربي النورماندي
أطلق على هذا العهد اسم "العهد العربي النورماندي"؛ ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.
وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدو أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابته أولاً.. كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئًا بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكومة تخالف الأخرى، وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟
هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:
أوَّلهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.
والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئًا كثيرًا، فكانت البلاد الأوربية التي دخلها المسلمون تتلقى ثمارًا ناضجة وعلومًا قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمرًّا متجددًا.
وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: "إنها كانت نيفًا وثلائمائة مسجدًا، وإنه عدَّ في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفًّا، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقيًّا وحسن مظهر". كما ذكر: "أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي -الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به".
وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم؛ مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظًّا من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية.
النورمانديون .. أنصار الثقافة العربية
ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).
لم يكن روجر الأول مثقفًا ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني على نهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.
كان الإدريسي، صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم "الروجري". والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.
وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاّحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيبًا بعد هذا أن يفد روّاد الدراسة الاستشراقية من أوربا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.
أما فريدريك الثاني -حفيد روجر الثاني- فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس -تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضًا ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعًا إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديرًا واحترامًا أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.
كان بعد حملته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلان الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفًا بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوربا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا.
ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سوريا مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالبًا للحل أو معجزًا لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاًّ شافيًا، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام؛ كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتابًا عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها.
وهكذا كان هذا الملك جادًّا في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل، ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.
كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوربية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.
الخلاصة
ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضًا على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الإسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى.
وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشد، وهذا عمل له قيمته؛ لأن أوربا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوربا.
ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إبطاليا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوربا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخًا في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.
هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضًا، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها "تاريخ مسلمي صقلية"، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية، حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضًا في مؤاخذتهما به؛ أَخَذَا عليهم تفرُّقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم -كما أخذ مستشرقون منصفون- أنهم بعدوا بسرعة عن القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.
المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية، نقلاً عن مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ.
* الدولة الفاطمية تُنسب زورًا إلى السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن مؤسسها عبيد الله بن ميمون القداح كان يهودي الأصل، وانتشرت دعوته بشكل سريع مستغلاًّ جهل الناس وعاطفتهم. ولذا فالأدق والصواب أن يُقال: الدولة العبيدية وليست الفاطمية.
عن موقع قصة الإسلام
وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطًا، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوربا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية، ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب.
فتح صقلية
كان قد مضى على صقلية ثلاثة قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافًا سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يُدعى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظًا من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات، وأبو محرز..
وكان ابن الفرات متحمسًا لهذا الغزو مستدلاًّ بالآية القرآنية: { فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }(محمد 35). وكان ابن الفرات فقيهًا مالكيًّا طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقى الفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهيَّة باسمه، وكان أيضًا محاربًا شجاعًا. ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء "مزارا" التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم، كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.
استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشًا، ثم قال: "فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..". والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.
لم يكن فتح هذه الجزيرة هينًا ولا سريعًا، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجيًّا في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائيًّا إلا في العهد الفاطمي.
صقلية بعد الفتح
صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية * التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك نزاع أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.
ونوجز القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أيامًا قاسية سودًا، حتى عين الخليفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن واليًا عليها، فبدأ عهدًا جديدًا عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرنًا من الزمان، كانت الدولة فيه كلبيَّة فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً..
ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعًا بعد الإسلام كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رءوسهم رجل يُدعى ابن الثمنة، ففعل فعلة إيو فيموس، وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا. وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد على ذلك ببضعة عشر عامًا.
وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.
أثر الفتح الإسلامي لصقلية
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهدًا في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيدًا جدًّا، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعًا من النباتات ومن الحيوانات، لم يكن للأوربيين بها عهد ولا علم. إلى جانب ذلك كله، وجدوا فنونًا راقية وأدبًا عاليًا، وعديدًا من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية.. وهكذا تقدُّم ورقي في كل شيء.
إن الفرق واسع جدًّا بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديون بعد خروج المسلمين.
كان النورمانديون على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل؛ لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الأسبان. فهناك -وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها. وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقًّا، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه دينًا، لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمنًا وأبقى.
العهد العربي النورماندي
أطلق على هذا العهد اسم "العهد العربي النورماندي"؛ ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.
وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدو أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابته أولاً.. كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئًا بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكومة تخالف الأخرى، وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟
هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:
أوَّلهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.
والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئًا كثيرًا، فكانت البلاد الأوربية التي دخلها المسلمون تتلقى ثمارًا ناضجة وعلومًا قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمرًّا متجددًا.
وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: "إنها كانت نيفًا وثلائمائة مسجدًا، وإنه عدَّ في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفًّا، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقيًّا وحسن مظهر". كما ذكر: "أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي -الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به".
وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم؛ مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظًّا من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية.
النورمانديون .. أنصار الثقافة العربية
ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).
لم يكن روجر الأول مثقفًا ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني على نهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.
كان الإدريسي، صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم "الروجري". والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.
وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاّحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيبًا بعد هذا أن يفد روّاد الدراسة الاستشراقية من أوربا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.
أما فريدريك الثاني -حفيد روجر الثاني- فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس -تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضًا ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعًا إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديرًا واحترامًا أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.
كان بعد حملته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلان الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفًا بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوربا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا.
ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سوريا مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالبًا للحل أو معجزًا لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاًّ شافيًا، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام؛ كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتابًا عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها.
وهكذا كان هذا الملك جادًّا في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل، ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.
كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوربية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.
الخلاصة
ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضًا على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الإسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى.
وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشد، وهذا عمل له قيمته؛ لأن أوربا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوربا.
ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إبطاليا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوربا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخًا في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.
هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضًا، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها "تاريخ مسلمي صقلية"، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية، حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضًا في مؤاخذتهما به؛ أَخَذَا عليهم تفرُّقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم -كما أخذ مستشرقون منصفون- أنهم بعدوا بسرعة عن القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.
المصدر: مجلة الفسطاط التاريخية، نقلاً عن مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ.
* الدولة الفاطمية تُنسب زورًا إلى السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن مؤسسها عبيد الله بن ميمون القداح كان يهودي الأصل، وانتشرت دعوته بشكل سريع مستغلاًّ جهل الناس وعاطفتهم. ولذا فالأدق والصواب أن يُقال: الدولة العبيدية وليست الفاطمية.
عن موقع قصة الإسلام