الحراك السياسي الجزائري في ظل الاحتلال الفرنسي

شعلة الشهداء

صقور الدفاع
إنضم
15 يونيو 2011
المشاركات
2,710
التفاعل
415 0 0
كتبهاحرفوش مدني ، في 28 يناير 2009


قامت الدولة الجزائرية تاريخياً قبل الاحتلال الأجنبي الفرنسي 1830م، حيث كانت تتمتع بشخصية دولية وهيبة عالمية وعلاقات دبلوماسية وقوة بحرية وعسكرية في حوض المتوسط ورخاء اقتصادي وتماسك اجتماعي، لها تنظيم سياسي وإداري ومجموعة قواعد عرفية خاصة بانتقال وممارسة السلطة إلى جانب قواعد الشريعة الإسلامية.
وكرد فعل على الغزو الاستعماري ظهرت المقاومة الوطنية التي اتخذت عدة أشكال من بينها الشكل السياسي والتنظيمي الذي عبرت عنه الحركة الوطنية الجزائرية فكان كفاحها منظماً تجلى في تشكيل تكتلات وجمعيات، ونوادٍ فكرية وأحزاب سياسية تنتمي إلى مختلف التيارات (الوطني الثوري، الإصلاحي الإسلامي، الاندماجي الليبرالي، الشيوعي) طالبت بالحقوق المدنية والسياسية في ظل الإدارة الاستعمارية.
سنحاول في هذا البحث التطرق إلى أهم الحركات الإصلاحية (الجمعيات والنوادي الثقافية) والحركات السياسية والأحزاب السياسية، والوظائف الاجتماعية والسياسية (التنشئة الوطنية السياسية) والأفكار والبرامج السياسية، التصورات الدستورية المؤسساتية التي ساهمت فيما بعد في حكم الحياة السياسية بعد الاستقلال.



(*) جامعة باجي مختار ـ الجزائر.
التنظيمات السياسية والثقافية:
هناك مراحل من التطور مر بها المجتمع الجزائري كانت سبباً في ظهور الحركات الإصلاحية والأحزاب السياسية كظاهرة اجتماعية وسياسية مصاحبة لهذا التطور، فتَعرُّضُ الشعب الجزائري لاضطهاد الاستعمار الفرنسي دفعه إلى التكتل، كما وفرت التقاليد العربية الإسلامية قاعدة أساسية للمعارضة، وتعتبر الحركة الوطنية مهد الحياة التنظيمية والحزبية في الجزائر، فهي التعبير السياسي لمجموعة تعي وحدتها الاجتماعية وهي في حالة سيطرة فتطالب باستقلالها لتأكيد وجودها كمجموعة سياسية وهي تظهر على إثر ظهور الوعي الوطني وعلى إثر ظهور إرادة بناء مجتمع سياسي مستقل، إنَّ الحركة الوطنية تعني المجتمع السياسي الذي يتعلق بالأمة([1]).
أولاً: الحركات الإصلاحية:
واجهت الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي أوسع وأعمق شكل من أشكال الاستعمار الأوروبي بنوعيه القديم والحديث، وكان مخططه يقوم على أربعة أسس هي: التفقير والتجهيل والتنصير والفرنسة. وكانت سياسة فرنسا تستهدف محو الكيان الجزائري بكل مقوماته الحضارية وإبعاد الشعب الجزائري عن المشاركة في حكم بلاده وإخضاعه إلى تحكم المستوطنين الأجانب الذين انفردوا بإدارة البلاد واستثمار خيراتها، كما ألحقت الجزائر بفرنسا إثر مرسوم فرنسي اعتبر (الجزائر فرنسية).
ونتيجة لذلك تمثلت المقاومة المسلحة في عدة ثورات منظمة وحركات شعبية وحرب فدائيين وطنية.
وبعد فشل المقاومة الوطنية التقليدية واستشهاد النخبة الوطنية، ونفي بعضها، انتقل مركز نمو الوعي الوطني إلى الأوساط الحضرية، وبدأت بوادر الممارسة السياسية تظهر في المقاومة السياسية للاستعمار بوسائل عصرية وتنظيمية سليمة، تمثلت في الجمعيات والنوادي الاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى الطرق الصوفية. ويمكن الإشارة إلى أهم هذه التنظيمات، كما يلي:
1. الجمعية الراشدية: تأسست سنة 1894 من شباب جزائري خريجي المدارس الفرنسية الجزائرية وبتأييد من بعض الفرنسيين المتعاطفين مع الجزائريين، استطاعت أن تنشئ فروعاً لها عبر أنحاء الجزائر وتحقق بذلك الانتشار بسرعة.
كان هدف الجمعية هو مساعدة الشباب الجزائري على العمل والتفكير، والعيش عيشة حديثة ومن بين الوسائل التي ارتكزت عليها لتبليغ رسالتها، إلقاء المحاضرات لتوعية الشعب ونشر الثقافة الإسلامية للحفاظ على الشخصية العربية الإسلامية، ومن أهم عناوين المحاضرات التي نظمتها الجمعية لعام 1907 «التضامن والأُخوة بين المسلمين»، «التشريع الإسلامي في الجزائر منذ 1832»، الحضارة العربية قبل وبعد الإسلام، التنظيم السياسي لفرنسا([2]).
من خلال عناوين هذه المحاضرات التي نظمتها الجمعية، نلاحظ إقحام وإدراج المواضيع ذات البعد السياسي والوطني والتركيز على بث وغرس القيم الوطنية والسياسية.
2. الجمعية التوفيقية: أُنشئت عام 1908م، ثم أعادت النخبة تنظيمها سنة 1911، استطاعت هذه الجمعية أن تستقطب عدداً كبيراً من الأعضاء وصل إلى مئتي عضو خلال سنة واحدة، يرأسها الدكتور «ابن التهامي»، هدف هذه الجمعية الثقافية هو جمع الجزائريين الذين يرغبون في تثقيف أنفسهم وتطوير الفكر العلمي والاجتماعي.
3. النوادي الثقافية: بدأ ظهورها منذ منتصف القرن التاسع عشر، واتسع نشاطها العملي إلى مطلع القرن العشرين ومن أشهر هذه النوادي:
ـ نادي صالح باي: تأسس بقسنطينة في عام 1907، كان هدفه تربية الشعب تربية فكرية وتشجيع الهوايات الأدبية والعلمية ونشر التعليم، والمساعدة على تحرير الجماهير.
ثم توالى تأسيس النوادي في مختلف أنحاء الوطن، مثل نادي الترقي 1927، نادي الشباب الجزائري في تلمسان، نادي «الإقبال» بجيجل… الخ. وكانت هذه النوادي تهدف إلى حث المواطنين على التأمل والتفكير في أسباب التخلف، ثم البحث عن سبيل الرقي باقتباس العلوم العصرية التي كانت السبب في نهضة أوروبا نفسها.
4. الطرق الصوفية: لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع الجزائري وتحصينه ضد الغزو الثقافي والتسميم السياسي (الفرنسيّين) أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر، ولا تزال تلعب دوراً مهماً في تشكيل تصورات المواطنين ومدركاتها الإسلامية، بل تلعب دوراً مهماً في التجنيد السياسي.
ومن أهم الطرق الصوفية المنتشرة في الجزائر ما يلي:
ـ الطريقة القادرية: وتعد من أقدم الطرق المعروفة والمنتشرة في الجزائر، وتنتمي إليها عائلة «الأمير عبد القادر» وقد أسست في القرن الحادي عشر الميلادي في شرقي الجزائر على يد «عبد القادر الجيلاني»، وتتضمن مبادئها نوعاً من القدرية (الإيمان بالقدر ولكن دون تعطيل دور الإنسان في الأفعال).
ـ الطريقة الشاذلية: يرجع تاريخ تأسيسها إلى القرن الثالث عشر على يد «أبو الحسن الشاذلي» نسبة إلى قرية شاذلة القريبة من تونس، وتحث مبادئها على طلب العلم وكثرة الذكر.
ـ الطريقة السنوسية: أسسها الجزائري «محمد بن علي السنوسي» في مستغانم غربي الجزائر وتنتشر في هذه المنطقة. ويذكر أن أتباعها هم الذين قادوا الحرب ضد الإيطاليين في ليبيا.
ـ الطريقة الدرقاوية: تنتشر هذه الطريقة في غربي الجزائر، وقد أسسها «سيدي العربي الدرقاوي» وللطريقة زوايا عديدة في مدينة تلمسان، فاق عددها الثلاثين. ويأتي على رأس كل زاوية شيخ، يساعده مجلس من عشرة أشخاص، وهو لا يتسلم مهامه إلا بعد أن يتعرف أصول الطريقة. وتدعو مبادئها إلى التقشف، والمدينة الفاضلة، وعدم التمسك بخيرات هذا العالم، والابتعاد عن السلطة وأصحابها. ويذكر أنها قاومت الاحتلال الفرنسي خلال عام 1834 و 1835.
ـ الطريقة العليوية: أسسها «الحاج بن عليوة» في مدينة مستغانم على إثر انشقاق داخل الطريقة السابقة، وقد اتصفت «العليوية» بالشعائر الصوفية وبنظامها الهيكلي. وكانت تدافع عن الهوية الوطنية والإسلامية في الجزائر في الوقت نفسه، واعتمدت الطريقة على تأسيس الأخويات التي اعتبرت شكلاً من أشكال مقاومة الاستعمار الفرنسي.
ـ الطريقة التيجانية: أسسها في الجزائر عام 1782 الشيخ «أحمد التيجاني»، وتعد المنافس الرئيسي للقادرية. وقد دخلت هذه الطريقة في صراع مع «الأمير عبد القادر» انتهى بإخضاعها([3]).
يظهر من خلال رصد أهم الجمعيات في مختلفة المجالات الرياضية والثقافية والتعليمية والدينية، والتي نشأت في فترة تاريخية حاسمة تفصل بين الكفاح المسلح والنضال السياسي، أنها كانت ذات طابع اجتماعي سياسي تتركز أهدافها في المطالبة بالمساواة والدفاع عن مصالح المسلمين، وكان انضمام جمهور المسلمين إليها يجعل الطابع السياسي ظاهراً فيها، لذلك يمكن القول: إنها معدة للعمل الحزبي الذي يسبقه التحضير والتنظيم والتربية السياسية، والتعبئة الوطنية.
ثانياً: الحركات السياسية
إن التطورات السياسية والفكرية التي عرفها العالم العربي، ودرجة الوعي الوطني الذي بدأ ينمو في شكل تنظيمات سياسية متعددة ذات طابع إصلاحي، نادت بتغيير أساليب القهر التي تعاملت بها الإدارة الاستعمارية مع أهل البلاد، فطالبت بإدخال مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وقد أُنشئت هذه التنظيمات بعد فشل المقاومة المسلحة، إلا أن هناك تنظيماً ظهر بعد الغزو مباشرة، ويعتبر أول حزب سياسي نظمه الجزائريون كان بزعامة «حمدان خوجة».
1ـ لجنة المغاربة: تكوَّن هذا التنظيم مباشرة بعد اتفاق 5 جويلية 1830 الذي وقعه «الداي حسين» باسم حكومته مع قائد الحملة الفرنسية الكونت «دوبرمونت» Du Bermont وقد تزعم هذا التنظيم السياسي المفكر السياسي «حمدان جوجة» صاحب كتاب «المرآة»، وهو عبارة عن تجمع يضم أعيان وتجار وعلماء مدينة الجزائر العاصمة، كانوا على وعي بدورهم السياسي والوطني وعلى دراية بالخبايا السياسية الخارجية الفرنسية، والعلاقات الدولية، وأعلنوا المعارضة المفتوحة برفع الشكاوي والعرائض إلى السلطات الفرنسية في الجزائر وفرنسا، وإلى الرأي العام العالمي المناهض للحركة الاستعمارية، وطالبوا بأن «يحكم الشعب الجزائري نفسه بنفسه» و«إعادة القومية الجزائرية من جديد وإقامة حكومة حرة وتحرير دستور يتفق وتقاليدهم وعاداتهم»([4]).
2ـ كتلة المحافظين: تكوَّنت عام 1900، وهي تشمل المثقفين التقليديين والمحاربين القدامى والزعماء الدينيين وبعض الإقطاعيين المرابطين، وكان من بينهم بعض المعلمين والصحفيين، كانوا يؤمنون بالقومية الإسلامية، ومعادين لفكرة التجنيس والخدمة العسكرية تحت العلم الفرنسي. ظهرت هذه الكتلة بعد استيلاء المستوطنين الأوربيين على السلطة في الجزائر. وتضمن برنامج الكتلة النقاط التالية:
ـ المساواة في التمثيل النيابي بين الجزائريين والأوربيين.
ـ معارضة التجنيس وإلغاء قانون الأهالي وحرية التعليم بالعربية.
ـ حرية التنقل والهجرة إلى المشرق العربي.([5])
انقسمت الكتلة إلى قسمين: قسم يضم النخبة التقليدية المحافظة، التي تكونت في المدارس القرآنية وجامعات الشرق، دافع أصحابها عن الهوية العربية الإسلامية وطالبوا بالتغيير في الإطار العربي الإسلامي وقسم يضم النخبة الجديدة مِمّن تخرجوا من المدارس الفرنسية الجزائرية وطالبوا بالإصلاح.
3ـ جماعة النخبة: تعتبر جماعة النخبة أول تعبير عن المطالب السياسية، تكوّنت سنة 1907 من المثقفين باللغتين العربية والفرنسية، كالمترجمين والمحامين والأطباء والمعلمين والصيادلة والقضاة والصحفيين وبعض التجار والطلبة. وكانت هذه الجماعة على نقيض سياسي واجتماعي في أغلب المواقف مع المحافظين، وتركزت مطالبها على المساواة في الحقوق السياسية مع إلغاء قانون الأهالي والتمثيل النيابي الكامل للجزائريين، وكانت هذه الجماعة تهدف إلى توحيد الجزائر مع فرنسا، وتبنت أفكار الغرب وثقافته حتى قال فيهم الكاتب الفرنسي «جون جوريس» Jean Jaures:«إنهم جماعة ضاعوا بين حضارتين، الحضارة العربية والحضارة الغربية»، ويعتبر المؤلفان «كلود كولو» Claude Collot و«جون روبير هنري» Jean Robert Henry أن جماعة النخبة هي بداية لظهور الأحزاب السياسية في الجزائر منذ 1912 بالمعنى الصحيح([6]).
4ـ حركة الشباب الجزائريين (حزب الفتاة): ظهرت هذه الحركة عام 1912 كجماعة ضغط سياسي على يد مجموعة من الشباب الجزائري، ذوي التكوين الثقافي الفرنسي، شغلوا مناصب في ميدان الترجمة والتعليم والسياسة، كان لديهم اطلاع سياسي كافٍ لمناقشة مسائل تنير الرأي العام، تبنت الحركة وسائل وطرقاً شرعية سياسية سلمية، كما أنشأت النوادي والجمعيات والصحافة لنشر الأفكار الإصلاحية وبث القيم الوطنية والسياسية، تمثلت مطالبهم الإصلاحية، في حق المشاركة في الانتخابات، والمساواة في تقلد المناصب المدنية. استمرت هذه الحركة حركة إصلاحية كبقية الحركات الأخرى ولم تأت بالجديد إلا أن «محمد تقيا» يرى فيها حركة تحديثية ([7]) لأنها جددت المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للنخبة على طريقة الشباب الأتراك والشباب التونسيين الذين تأثروا بالحضارة والتقدم الحاصلين في الغرب، ونادوا بإدخال تحسينات على مجتمعاتهم.
5ـ الحركة الإصلاحية السياسية: تأسست هذه الحركة سنة 1919 بقيادة «الأمير خالد» وضمت في تركيبتها إقطاعيين جزائريين وأعضاء الفئة الوسطى المثقفة والمحامين والأطباء، وبعض الموظفين في الإدارة الفرنسية([8]) المتمسكين بالهوية الإسلامية، وحظيت هذه الحركة بتأييد جماهيري لخطابها الموجه لتلك الفئات الجزائرية والذي يعبر عن مطامحها الدينية، والوطنية والاقتصادية والسياسية.
ظهرت هذه الحركة نتيجة إصلاحات 1919 التي تقدمت بها الإدارة الاستعمارية، والتي قسمت حركة «الشباب الجزائري» إلى فئتين مختلفتين بشأن قضية (الاندماج) وظهر هذا الانقسام بحدة في قيادة الحركة أثناء الانتخابات البلدية، وكان الزعيمان المتنافسان، هما: «الدكتور ابن التهامي» الذي كان على رأس الاندماجيين و«الأمير خالد» الذي كان على رأس المنادين بالمساواة، كانت انتصارات الأمير خالد ساحقة في هذه الانتخابات، مما أثار حفيظة الإدارة الاستعمارية التي رأت في الأمير بوادر الوطنية الجزائرية، واعتبرت نجاحه «يقظة مفاجئة للتعصب الإسلامي». ولذاك نجد من المؤرخين الجزائريين من يعتبر نشاط «الأمير خالد» السياسي سنة 1919 بداية وتعبيراً أوّليين عن الوطنية في إطار الشرعية الفرنسية([9]). ولقد جاء برنامج الحركة على مرحلتين: الأولى في إطار «جمعية الأُخوة الجزائرية» كما يلي:
ـ تحقيق التمثيل النيابي للجزائريين غير المتجنسين.
ـ إلغاء السلطات التأديبية لحكام البلديات المختلطة.
ـ المساواة أمام القانون. إدماج الجزائريين بدون شرط.
ولقد اكتمل البرنامج في المرحلة الثانية في الرسالة التي بعث بها «الأمير خالد» إلى رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية آنذاك «هيريو» Herriat، أكد فيها المطالب التالية:
ـ مساواة التمثيل النيابي في البرلمان الفرنسي بين الجزائريين والأوروبيين.
ـ إلغاء القوانين والإجراءات الاستثنائية الخاصة بالجزائريين في المحاكم الرادعة والمحاكم الجنائية إلغاءً كاملاً نهائياً وإبطال الرقابة الإدارية مع الرجوع إلى القانون العام.
ـ التمتع بنفس الحقوق والواجبات مع الأوروبيين في الخدمة العسكرية.
ـ ارتقاء الجزائري إلى جميع الرتب المدنية والعسكرية دون قيد.
ـ تطبيق قانون التعليم الإجباري تطبيقاً شاملاً على الجزائريين.
ـ حرية الصحافة والاجتماع والعفو العام عن المعتقلين والمهتمين.
ـ تطبيق قانون فصل الدين عن الدولة على الشريعة الإسلامية.
نلاحظ أن الأمير«خالد» قد أضاف إلى نقاط برنامجه السابق بعض المطالب الجديدة كحرية الصحافة والتجمع وفصل الدين عن الدولة، وبعض المطالب الاجتماعية أملتها الظروف السياسية الدولية واحتكاكه بالحركات الإسلامية في المشرق العربي والحركات النقابية والعمالية في العالم.
6ـ الحزب الليبرالي: تعتبر هذه التشكيلة السياسية امتداداً لحركة الشباب الجزائري التي انشقت إلى جماعتين بعد انتخابات 1919. ويعتبر هذا التنظيم ليبرالياً في موقفه من الحالة الراهنة التي كان ينادي بها المستوطنون([10]) ترأسه «الدكتور ابن التهامي» وأصدر جريدة «التقدم» الناطق الرسمي للحركة.
لم يختلف برنامج هذا التنظيم عن برنامج «الأمير خالد» إلاّ في نقطة واحدة وهي دمج الجزائر دمجاً كاملاً، ومنح الجنسية للجزائريين.
وفي سنة 1923 وبعد أن نفت فرنسا «الأمير خالد» خلت الساحة أمام الليبراليين الذين فازوا في الانتخابات التي نظمت في عام 1924، ومن أهم زعماء هذه الحركة نجد «بلحاج»، «الزناتي»، و«فرحات عباس» و«بن جلول» الذي سيكون له دور بارز في الثلاثينيات، وأهم النقاط كان يحتويها برنامج الليبراليين ما يلي:
ـ احترام الحضارة الإسلامية.
ـ التخلي عن نظرية الامتياز العنصري.
ـ المساواة في الحقوق السياسية.
ـ تحويل المجتمع الجزائري إلى مجتمع حديث عن طريق جماعة النخبة لا عن طريق الفرنسيين.
7ـ الفيدرالية الشيوعية الجزائرية: أنشئت عام 1924 في الوقت الذي كان الصراع فيه دائراً بين الشيوعيين، وأغلبهم فرنسيون، وبين السلطة بسبب تأييد الحزب الشيوعي لثورة «عبد الكريم الخطابي» في الريف المغربي، ولقد ادعى الشيوعيون أن الوسيلة الفضلى لمساندة الحركات الاستقلالية لن تكون بالتخلي عن المستعمرين، بل بالعمل من أجل الحزب الشيوعي، وبمضاعفة الدعوة للاشتراك في العمل النقابي والتعاون([11]).
ثالثاً: نشأة الأحزاب السياسية
يرتبط ظهور الأحزاب السياسية في الأنظمة السياسية المختلفة بأمرين، الأول: وجود أزمة مر بها المجتمع، وتتطلب تنظيم الأفراد سياسياً لمواجهة تلك الأزمة مع طرح الحلول، والثاني يرتبط بالإحساس بأنه يمكن التصدي للأزمة وحلها عن طريق العمل الجماعي وقد توفر الشرطان في المجتمع الجزائري في مطلع القرن العشرين، فتعرض الشعب الجزائري لأبشع أنواع الاستغلال والتنكيل والاضطهاد، دفعت به إلى التكتل والوقوف في وجه الاستعمار، وأدى توسع الاستعمار وانتشار مؤسساته إلى خلق وسائل تحطيمه. فعلى المستوى الاقتصادي، أصبحت الرأسمالية الوطنية في تناقض مع الرأسمالية الاستعمارية، أما على المستوى السياسي، فإن سياسة التمييز العنصري قد تم رفضها من طرف النخبة الوطنية، فالسياسية الاستعمارية قد خلقت شروط نشأة الحركة الوطنية وتطورها وحوَّلت مطالبها من إصلاحات اقتصادية واجتماعية إلى المطالبة بالاستقلال الكامل.
ويعتبر التغيير في المناخ الفكري والثقافي وحركة النهضة الإصلاحية في العالم العربي وحركة الترجمة، وهجرة بعض الجزائريين إلى المشرق العربي، والاتصال الثقافي عن طريق الصحف والكتب والمجلات هو الأثر الكبير في تطور المجتمع في تلك الفترة.
كذلك كان لازدهار الصحافة السياسية أثر كبير في تغيير الكثير من المفاهيم التقليدية عن نظام الحكم. فضلاً عن دور الحرب العالمية الأولى في نضج وتطور الفكر السياسي الجزائري نظراً لاحتكاك الجزائريين الذين شاركوا في هذه الحرب بالمجتمع الأوروبي الذي كان آنذاك يتمتع بمبادئ الحرية والديمقراطية، إلى جانب ذلك هناك إعلان الرئيس الأمريكي «ويلسون» Woodrow عن مبادئه الأربعة عشر والتي من بينها حق تقرير مصير الشعوب المستعمرة.
وكان نتيجة ذلك ظهور نخبة وصفوة ثقافية أصبحت تكوِّن تياراً سياسياً قوياً يطالب بالاندماج والمساواة والتخلص من التفرقة العنصرية.
إن تزوير الانتخابات البلدية والمجالس العامة وطرد «الأمير خالد» قد قضت على أي تعاون بين المسلمين والأوروبيين في الجزائر، ودفعت بالجزائريين لتكوين أحزاب للدفاع عن أنفسهم.
ومن خلال ما سبق يمكن القول: إن الفكر السياسي والتنظيمي الجزائري، كان موجوداً قبل الاحتلال، وما تم التأثر به هو شكل التعبير عن تلك المفاهيم من خلال الأحزاب وطرق تنظيمها وأساليب نشاطها ووضع برامج سياسية. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت تظهر الأحزاب السياسية بنحو بارز ومتطور ببرامجها السياسية ومطالبها الوطنية.
يمكن تصنيف أحزاب الحركة الوطنية، على أساس مواقف وتصريحات وخطب النخب السياسية الجزائرية من الوجود الاستعماري، فالتصورات والمفاهيم الثقافية السياسية تكوَّنت نتيجة وجود خطابين: الأولّ يستمد مرجعيته الفكرية من الحركة الإصلاحية الدينية الداعية إلى العودة بالمجتمع إلى قيمه وأصالته، وإصلاحه من الداخل. والثاني يستمد أسسه من المنظومة الفكرية المرتبطة بالظاهرة الاستعمارية، الأمر الذي سمح ببروز شرائح وقوى اجتماعية وسياسية تنتقل من مرحلة الدفاع والمقاومة إلى مرحلة المطالبة بالاستقلال والتحرر وبناء الدولة الوطنية.
1ـ التيار الاستقلالي:
يضم هذا التيار، حزب نجم شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب، وبعد الحرب العالمية الثانية تحول إلى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، هذا التيار يفضل المواجهة والعنف الثوري مع الاستعمار الفرنسي.
بحلول سنة 1926، أسس العمال الجزائريون في المهجر حركة سياسية أطلقت على نفسها اسم «نجم شمال إفريقيا» للدفاع عن مصالحهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وضم النجم تيارين سياسيين: الأول أكد على المسألة الوطنية وتحقيق استقلال الجزائر عن طريق كفاح الطبقة العاملة، وكان يطمح إلى إقامة نظام اشتراكي في جزائر ما بعد الاستقلال.
أما التيار الثاني فكان يمثله «مصالي الحاج» المؤمن بالأمة الجزائرية وبقيمها التي تميزها عن الأمة الفرنسية، وانطلاقاً من هذا التصور، فإن وجهة نظره حول الاستعمار لم تكن مبنية على أساس الصراع الطبقي وإنما كانت مبنية على أساس المسألة الوطنية، ولقد تبنى نجم شمال إفريقيا من أوّل الأمر الخطوط العريضة من برنامج الشباب الجزائريين «جناح الأمير خالد» حيث طالب بإلغاء الاندماج وبالمساواة في جميع الميادين بين المسلمين والفرنسيين وبالحريات الأساسية والحقوق السياسية والنقابية والمساواة أمام التوظيف العمومي والتعليم والجيش([12]).
ثم شهد برنامج النجم تطوراً مستمراً، وبدأ مطلب الاستقلال يبرز في نظامه الأساسي ففي مؤتمر بروكسل المنعقد بدعوة من الجمعية المناهضة للاضطهاد الاستعماري 1927 اغتنم «مصالي الحاج» فرصة وقوفه في مؤتمر عالمي ليقدم مطالب النجم الممثلة في البنود التالية:
ـ استقلال الجزائر.
ـ حرية الصحافة وحرية تكون الجمعيات والاجتماع.
ـ المساواة في الحقوق السياسية والثقافية مع الفرنسيين الموجودين في الجزائر.
ـ المطالبة ببرلمان جزائري منتخب في اقتراع عام.
هذا البرنامج اكتمل بصفة نهائية في ماي 1933 على إثر جمعية عامة تقرر فيها عدم إمكانية ازدواجية الانتماء إلى النجم وإلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وبهذا أصبح النجم حزباً سياسياً بصفة فعلية، حيث كان من الناحية القانونية مجرد جمعية، كما أنه أصبح تنظيماً سياسياً جزائرياً بعد التحاق المهاجرين المغاربة والتونسيين بأحزابهم الوطنية منذ 1930. وتضمن البرنامج الجديد، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، الأفكار الرئيسية التالية:
ـ انتخاب مجلس تأسيسي عن طريق الاقتراع العام.
ـ تطبيق مبدأ الاقتراع العام على كل المستويات وقابلية كل سكان الجزائر للترشح لكل المجالس وممارسة حق الانتخاب.
ـ تكوين جيش وطني وحكومة وطنية ثورية.
ـ اللغة العربية هي اللغة الرسمية… الخ
ويلاحظ على هذا البرنامج أنه طرح تصورات للدولة الجزائرية كيف يجب أن تكون بعد الاستقلال، هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى الدستوري فقد ركز على فكرة المجلس التأسيسي وفكرة البرلمان والمجالس المنتخبة على كل المستويات من القاعدة إلى القمة، وتكون هي أسلوب ممارسة السلطة في الدولة.
ـ حزب الشعب: بعد حل نجم شمال إفريقيا تأسس حزب الشعب الجزائري في مارس 1937 بقيادة «مصالي الحاج»، فمن الناحية الشكلية حافظ الحزب على نفس التنظيم الهيكلي الذي كان متبعاً في عهد النجم، أما من الناحية القانونية فقد مر الحزب بمرحلتين أساسيتين.
ـ المرحلة الشرعية: الحزب الشرعي المصرح به قانونياً انتهج سياسة انتخابية معتدلة ذات طابع إصلاحي.
ـ المرحلة السرية: واصل نشاطه وتنظيمه بعد حله، وتعاظم في أوساط الشعب، وأنشأ إدارة جديدة سرية وقام بدعاية واسعة وسط المواطنين والمجندين من الجزائريين في الجيش الفرنسي.
ومن الناحية الأيديولوجية أصبح حزب الشعب يركز في مطالبه على الإصلاحات الفورية، ويراعى عاملين اثنين هما: الجو السياسي في الجزائر المغاير لجو فرنسا، ونشاط التشكيلات الوطنية الأخرى([13]).
كما حاول حزب الشعب الظهور بمظهر المعبر والمترجم الحقيقي لإرادة كل الشعب الجزائري بمختلف فئاته وشرائحه. وبهذا بدأ يظهر الميل إلى الوحدوية السياسية واستصغار القوى السياسية الأخرى، وهو اتجاه استمر في التطور تدريجياً إلى أن أصبح أحد الخصائص بل الخاصية الرئيسية المتمثلة في الشعبوية التي ميزت الفكر السياسي والدستوري الجزائري خلال كامل مراحله تطوره([14]).
ومنذ تأسيس الحزب لخص مكتبه السياسي برنامجه كما يلي: «لا اندماج، ولا تقسيم ولكن تحرير». ويمكن تلخيص التصورات الدستورية والسياسية لحزب الشعب فيما يلي:
يمارس الشعب السيادة من خلال سلطة ديمقراطية تتمثل في حكومة مسؤولة أمام برلمان منتخب عن طريق الاقتراع العام، ولذا طالب بإنشاء مجلس جزائري منتخب من طرف الجميع.
وفي سنة 1938 نشر الحزب في جريدة «الأمة» برنامجاً كاملاً في جميع الميادين، ومما جاء فيه على الصعيد السياسي:
ـ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ـ الإقرار بكل الحريات الديمقراطية، مثل حرية الصحافة وإنشاء الجمعيات المختلفة والتفكير والنقابة والاجتماع… الخ.
2ـ التيار الديني الإصلاحي (جمعية العلماء المسلمين):
ظهر هذا التيار في البداية في شكل «نادي الترقي» في أواخر العشرينيات، ثم تطور إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي تأٍسست سنة 1931. والتي أعلنت عن طابعها غير السياسي حيث نصت المادة الثالثة (3) من قانونها الأساسي عن امتناعها عن أي ممارسة سياسية.
تبنت الجمعية إستراتيجية لمواجهة الاستعمار الفرنسي، قائمة على تغيير عقليات الناس، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تغيير محيطهم الاجتماعي، فقد أدرك الشيخ «عبد الحميد بن باديس» (1889-1940) بعد استقرائه لتاريخ الجزائر الحديث أن الشعب الجزائري يواجه قوة كبيرة لا يستطيع أن يقاومها بالمعارك الحربية والقتال فحسب، بل يجب أن تتهيأ الأمة من جديد عبر إعادة تكوينها الثقافي والقومي والنهوض نهضة علمية تصحح انحرافات المجتمع وتزيل تناقضاته([15]) وانطلاقاً من ذلك كان اهتمامها منصباً على الإصلاح الديني والثقافي معتبرة إياه الطريقة المثلى لتجنيد الرأي العام الجزائري ضد الأيديولوجيا الاستعمارية، وفي هذا المجال رسمت الجمعية لنفسها برنامجاً قائماً على ما يلي:
ـ الاعتماد على جانب التربية والتعليم وتشييد المدارس الحرة.
ـ تأسيس الحركة الصحفية النشيطة كجريدة «السنة، الصراط، الشريعة والبصائر» وتوجيهها لخدمة الإصلاح والتثقيف.
ـ تأسيس الجمعيات الخيرية وتقديم الخدمات الاجتماعية.
ـ تأسيس النوادي الثقافية والتكفل بالحركة الشبابية مثل «الحركة الطلابية» و«الحركة الكشفية الإسلامية» و«شباب المؤتمر الإسلامي»، ووصف جمعيتهم بأنها ثقافية تهذيبية لا علاقة لها بالسياسة مع أنهم يدركون تماماً أن الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي يتناقض مع وجهة النظر الإسلامية للعلاقة بين الدين والدولة. وكان الهدف من ذلك تجنب الاصطدام بالإدارة الاستعمارية التي قد تضيق عليهم هامش الحركة لمواصلة نشاطها.
إن أهم عمل سياسي قامت به جمعية العلماء هو ترويجها لفكرة الأمة الجزائرية والدفاع عن أصالتها، والوقوف ضد التجنيس والاندماج في الوسط الفرنسي، كما تصرفت الجمعية كحزب سياسي عندما دعت إلى عقد المؤتمر الإسلامي، ثم شاركت فيه كما شارك «ابن باديس» إلى جانب قادة التشكيلات الأخرى في الوفد الذي أرسل إلى باريس لعرض الميثاق. ويمكن تلخيص مبادئه السياسية فيما يلي:
ـ الأمة هي مصدر كل سلطة وهي التي تعين وتعزل الحكام وتحاسبهم.
ـ تحكم الأمة نفسها بنفسها مما يستتبع الطابع الجمهوري للحكم، لأن الحاكم هو مجرد منفذ لإرادة الأمة.
ـ تراقب الأمة الحاكم وتسائله عند الحاجة وتستطيع عزله.
ـ الأمة هي التي تضع القانون عن طريق أهل الحل والعقد، والحاكم يعمل على تنفيذه فقط. فهناك فصل بين الهيئات الممارسة للسلطة أو الوظائف الأساسية في الدولة، مما يستتبع وجود فصل بين السلطات بالمعنى التقليدي أو توزيع للوظائف، وهذا أقرب إلى الفكرة الأساسية المتمثلة في رقابة الأمة الدائمة والمستمرة وحقها في المحاسبة والعزل. وبناء على ذلك فإن تصور «ابن باديس» لمسألة تنظيم السلطة قريب جداً مما هو معمول به في النظم المعاصرة([16]).
3ـ التيار الليبرالي (الاندماجي)
بدأت بوادر هذا التيار تظهر في بداية القرن العشرين على يد مجموعة من الجزائريين المفرنسين، هم نتاج الجهاز التعليمي الفرنسي والفكر اللائكي والجمهوري (بمعناه السياسي والدستوري)، كانوا معلمين وأطباء وصيادلة ومحامين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة التي ارتبطت بالمهن الحرة أو بالعمل في الوظائف البيروقراطية المدنية أو العسكرية الفرنسية، بدأ تأثير هذه الطبقة التي تحمل أفكاراً عربية وتؤمن بقيم فرنسية على الخريطة السياسية أثناء إثارة قضية التجنيد الإجباري (1912) حيث طالبوا بإحداث إصلاحات اجتماعية في إطار النظام الاستعماري وتحت سيادة الحكومة الفرنسية، بحيث تسمح تلك الإصلاحات بالحصول على كامل حقوق العضوية في المجتمع الفرنسي، كما هو الحال بالنسبة للمواطنين الفرنسيين المقيمين في الجزائر، ومما جاء في مطالبهم، إلغاء المحاكم والضرائب الخاصة بالجزائريين والمشاركة في تسيير المؤسسات والمجالس المحلية، وكذا حق التمثيل في البرلمان الفرنسي.
وبامتداد الحركة الاندماجية تم تأسيس فيدرالية نواب مسلمي الجزائر في 18 جوان 1927. من أشهر قادة هذه الحركة «بن جلول»، «فرحات عباس»، «ابن التهامي»، لهم توجه اندماجهم، لا يطالبون إلا بالمساواة مع الأوروبيين ولا يطالبون باستقلال الجزائر، ولا يدافعون عن الهوية الإسلامية العربية([17]). لم يقدم التيار الليبرالي شيئاً ملحوظاً ومميزاً للجزائر في المجال الدستوري عموماً ومجال تنظيم السلطة خصوصاً. لكن معتقداتهما لفكرية الليبرالية وتعلقهم بالدستور والمبادئ الجمهورية الفرنسية، سيكون لها تأثير مهم في التطور الدستوري بالجزائر سواء قبل الثورة أو أثنائها أو بعدها.
4ـ الحزب الشيوعي:
نتيجة للانتقادات التي تعرض لها الحزب الشيوعي الفرنسي بخصوص موقفه من الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، ورفضه تأييد حزب نجم شمال إفريقيا في دعوته إلى الاستقلال اضطر هذا الأخير إلى قطع كل الروابط مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ولجأ إلى تأسيس فرع له في الجزائر، وقد شرع في «دعوة الجزائريين للانضمام إلى صفوفه»([18]).
ويعتبر الحزب الشيوعي الجزائري سليل الحزب الشيوعي الفرنسي، ولذا كان استقلاله ظاهرياً وشكلياً، وبقي بنحو دائم خاضعاً إلى استراتيجية الشيوعية العالمية عامة والحزب الشيوعي الفرنسي خاصة، ففي أول مؤتمر له أكد الحزب على نقطتين:
ـ الحث على تغيير الوضع الراهن قبل كل شيء من أجل حياة أفضل للمجتمع الجزائري تسود فيه العدالة الاجتماعية.
ـ المطالبة بربط مصير الشعب الجزائري بمصير الشعب الفرنسي([19]).
تركزت نشاطات الحزب الشيوعي الجزائري في المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي من شأنها أن تخفف من أتعاب الجزائريين، أما المسألة الوطنية فقد اعتبرت من خصوصيات أوروبا الصناعية والتي ليس لها علاقة ببلد غير صناعي كالجزائر([20])، كما كان يعتبر الأمة الجزائرية أمة في طريق التكوين تاريخياً وأن المسألة الجزائرية يستحيل حلها قبل وصول البروليتاريا إلى السلطة في فرنسا.
يمكن تحليل أيديولوجية الحزب وتصوراته السياسية من خلال مشروع القانون الأساسي للجزائر الذي قدمه عام 1947، حيث اقترح اتحاد الجزائر مع فرنسا وتطبيق المساواة بين المسلمين الجزائريين والأوروبيين وحرية العبادة، وفصل الدين الإسلامي عن الدولة وانتخاب مجلس جزائري من 120 عضواً نصفهم أوروبيون، إضافة إلى إنشاء حكومة جزائرية ذات استقلال داخلي ذاتي وفتح المجالس البلدية أمام الجزائريين([21]).
وعليه فإن أيديولوجية الحزب الشيوعي الجزائري تدافع عن مصالح فرنسا وتحميها بالجزائر، وأن الإصلاحات التي تطالب بها ما هي إلا إصلاحات شكلية لا تمس جوهر المطلب الأساسي وهو الاستقلال وتحرير الجزائريين من الاستغلال الرأسمالي، أما فيما يخص مسألة تنظيم السلطة فلم يقدم حتى بداية الحرب العالمية الثانية أي تصور خاص ومتميز يجلب الانتباه في المجال الدستوري.
ثالثاً: تطور الأحزاب السياسية (من الحرب العالمية الثانية إلى اندلاع الثورة 1939- 1954):
تعتبر الفترة الممتدة من اندلاع الحرب العالمية الثانية حتى اندلاع الثورة التحريرية من أغنى المراحل من حيث الإنتاج الفكري السياسي، حيث تقدمت الأحزاب بمجموعة من المطالب السياسية والمبادئ الدستورية والصيغ المؤسساتية والنصوص تندرج في إطار تحقيق الوحدة الوطنية.
أ. التصورات السياسية والدستورية عند التيار الاندماجي:
يعتبر «فرحات عباس» زعيم هذا التيار السياسي، أنشط جزائري خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وجه إلى «الماريشال بيتان» Pétain رسالة في أفريل 1941 تدور حول الأوضاع التي عاشتها وتعيشها الجزائر المسلمة طالباً القيام ببعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية([22]) وبتاريخ 22 ديسمبر 1942، وفي خضم ما أحدثه نزول قوات الحلفاء بالجزائر من تحرك سياسي، تقدم «فرحات عباس» بعد مشاورات مسبقة مع قادة التشكيلات ببيان في 10 فيفري 1943 إلى الحكومة الفرنسية، تضمن القيام بإصلاحات سياسية، من بينها منح الجزائر دستوراً خاصاً يضمن الحرية والمساواة التامة بين جميع سكانها بدون تمييز في العرق أو الدين، وحرية الصحافة وحق إنشاء الجمعيات وحرية العبادة وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة ومشاركة الجزائريين المسلمين الحالية والفعلية في حكومة بلدهم.
نلاحظ من خلال هذه المطالب أن النواب ركزوا على المطالبة بالمشاركة في الحياة السياسية التي تسمح لهم بالمرور إلى المراكز العليا في أجهزة الدولة، كما تعبر هذه المطالب كذلك عن تطور في التفكير السياسي للنخبة الجزائرية.
ـ حركة أصدقاء البيان والحرية: تأسس هذا التجمع السياسي في 14 مارس 1944، بائتلاف بعض النواب والمثقفين والعلماء وحزب الشعب، لمواجهة مناورات الإدارة الاستعمارية التي رفضت المطالب السياسية والإصلاحات المقترحة التي جاءت في بيان 1943. ثم تحول التجمع إلى قوة سياسية لها نفوذ سياسي بانضمام الطلبة والكشافة. وقد هيمن التيار الثوري (أعضاء حزب الشعب) على قيادة الائتلاف، لهذا تمثلت مطالبه في سن وإقرار دستور جزائري ديمقراطي جمهوري، وإنشاء برلمان جزائري وتشكيل حكومة جزائرية ذات سيادة تختار طواعية لا قسراً([23]).
ـ الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري: أسسه «فرحات عباس» في أفريل 1946، ولقد سعى إلى تحقيق مصير الجزائر عن طريق إصلاحات تدريجية دون قطع الصلة بفرنسا، شارك الحزب في انتخابات الجمعية التأسيسية الفرنسية التي جرت في جوان 1946([24]). وقدم نوابه في أوت 1946 مشروع دستور جزائري تمحور حول تأسيس جمهورية ذات حكم لها مؤسسات سياسية (السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطات القضائية). من خلال المواقف السياسية والطروحات. ونلاحظ أن حزب الاتحاد الديمقراطي قد تبنى قيم الثورة الفرنسية والحريات الفردية في الفكر الجمهوري الفرنسي.
ب. جمعية العلماء المسلمين:
عادت بعد الحرب العالمية الثانية وبعد حوادث 08 مي 1945 إلى نشاطها الديني والثقافي والتعليمي بعد مشاركتها في صياغة (بيان 3 فيفري 1943) ومساهمتها في تأسيس جبهة «أصدقاء البيان والحرية» سنة 1944، ظهرت الجمعية برئاسة جديدة ترأسها «الشيخ البشير الإبراهيمي» الذي بعث بمذكرة إلى لجنة الإصلاحات الإسلامية التي أنشأتها السلطات الفرنسية، للنظر في مطالب البيان، تدعو فيها الجمعية في مجال الإصلاحات السياسية إلى إنشاء حكومة جزائرية تكون مسؤولة أمام برلمان جزائري([25]).
ج. الحزب الشيوعي:
تعرض إلى الحل في بداية الحرب العالمية الثانية، أسس «مصالي الحاج» في نوفمبر 1946 «الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية» كغطاء سياسي لنشاط حزب الشعب المحظور، وكانت الغاية من ذلك المشاركة في الانتخابات التشريعية لسنة 1947. وقد حقق الحزب فيها نجاحاً نسبياً مما شجع «مصالي الحاج» على العودة إلى الحياة الشرعية الفرنسية([26]).
ومن المطالب السياسية والدستورية التي ركز عليها الحزب إنشاء مجلس تأسيسي جزائري كامل السيادة ينتخب عن طريق الاقتراع العام، ويكون هذا المجلس معبراً عن إرادة الشعب الجزائري ويمارس السيادة باسمه ويترجمها إلى دستور يحدد أسس الدولة الجزائرية في مختلف المجالات([27]).
يلاحظ أن مطالب التيار الاستقلالي ابتداءً من حزب نجم شمال أفريقيا ومروراً بحزب الشعب، ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، كانت من أجل مؤسسات سياسية جزائرية منتخبة.
هـ. الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها:
كان الدافع الأساسي للتفكير في إنشاء هذه الجبهة هو ما تعرضت له الأحزاب السياسية من تضييق وحصار إعلامي وتزوير الانتخابات. وبعد الاتصالات ومشاورات عديدة بين التشكيلات السياسية، أعلن في شهر جوان 1951 عن تأسيس الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها والتي ضمت كل التنظيمات الموجودة (حركة انتصار الحريات الديمقراطية، الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، جمعية العلماء المسلمين، الحزب الشيوعي)، وعلى الرغم من التباين السياسي والإيديولوجي، وتعدد الرؤى السياسية للصراع الجزائري الاستعماري الفرنسي فقد تبنت الجبهة جملة من المطالب:
ـ احترام حرية الانتخابات في (القسم الثاني).
ـ احترام حرية الرأي والصحافة والاجتماعات.
ـ رفع الظلم بجميع أشكاله وتحرير المعتقلين السياسيين، وإبطال الإجراءات الاستثنائية.
ـ وضع حد لتدخل الإدارة الاستعمارية في شؤون الدين الإسلامي([28]).

خاتمة
ارتبطت نشأة الأحزاب السياسية في الجزائر، بفترة الخضوع للاستعمار، حيث ظهرت كتنظيمات نضالية، قاومت الاستعمار الأجنبي ووقفت في وجه الحكم الدخيل من أجل استرجاع السيادة الوطنية وتحقيق الاستقلال، وتبنت كذلك أسلوب النضال السياسي من أجل الحقوق الفردية والحريات الأساسية للشعب الجزائري.
ظهرت أحزاب الحركة الوطنية في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات واتسمت أيديولوجيتها بأنها ليبرالية، واشتراكية يسارية وإسلامية، أي اعتمدت في تراثها الفكري والسياسي على عدة مصادر تمثلت في مصادر غربية ليبرالية عبر التراث الفلسفي والسياسي الذي كانت تنشره المدرسة الفرنسية في أوساط البورجوازية الوطنية. ومصادر اشتراكية تمثلت في الفلسفات والتطبيقات الاشتراكية التي انتشرت في الأوساط العمالية والنقابية بعد نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا. وكذا مصادر إسلامية تمثلت في التراث العربي الإسلامي والتي كانت تنشره جمعية العلماء المسلمين.
تمخض التعدد والتنوع في التنظيمات عن تعدد وتنوع في القيم السياسية، فمنذ نشأتها حتى اندلاع الثورة التحريرية في نوفمبر 1954، قدمت مشروعاً سياسياً، يتمثل في المطالبة بالاستقلال وإعادة إقامة الدولة الجزائرية، هذا على الرغم من الاختلاف في الوسيلة والمنهج لتحقيق الأهداف، كما قدمت وطرحت أفكاراً سياسية وتصورات دستورية لشكل السلطة والدولة، وطالبت بالحقوق والحريات الأساسية للجزائريين في ظل الإدارة الاستعمارية، كما مارست الأحزاب السياسية وظيفة التربية السياسية والوطنية وقامت بتنشئة وتكوين رجال ونخبة قاموا بتأطير الثورة الجزائرية.
فمن خلال استقرائنا لمجمل النصوص الإيديولوجية والسياسية لأحزاب الحركة الوطنية نلمس مستوى الوعي السياسي للنخبة السياسية من خلال تحليلها للواقع السياسي وأساليبها في العمل السياسي، والمفاهيم والمبادئ التي تبنتها والمتمثلة في:
ـ مبدأ سيادة الأمة باعتبارها مصدر كل سلطة في الدولة.
ـ الديمقراطية بمضمونها التقليدي أي حكم الشعب بالشعب وللشعب واعتماد المجالس الشعبية المنتخبة على كافة المستويات لتسيير الشؤون العامة والمحلية.
ـ مبدأ الفصل بين السلطات مع ميل إلى إعطاء أولوية أو أهمية للبرلمان باعتباره معبِّراً عن إرادة الأمة وممارساً للسيادة الوطنية.
ـ الأخذ بمفهوم الطابع الاجتماعي للجمهورية.
كثيراً ما تضمنت البرامج السياسية الإقرار بالحقوق الفردية التقليدية وخاصة المعترف بها في النظام القانوني الفرنسي ومنها الواردة في إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 وكذلك الحريات العامة كحرية الصحافة والرأي والإضراب وإنشاء الجمعيات الإضرابات… الخ، وبالإضافة لتركيزها على هدف الاستقلال، كانت تقبل بالمنافسة الحزبية والتعايش والتحالف والتكتل.
هذا التقارب تجلى في عدة ائتلافات رغم الاختلاف الأيديولوجي (المؤتمر الإسلامي 1936، بيان فيفري 1943، حركة أصدقاء البيان وا
 
عودة
أعلى