بسام العسلي
وقف الوطن العربي، بمجموع شعوبه، على حافة هاوية الحرب: خلال ايام الشهر الاخير من العام الماضي - بصورة خاصة - فالتحديات الثقيلة على جبهة الخليج العربي وفي فلسطين كما في اقطار الربيع العربي كانت تثير الرعب اشفاقا على مستقبل النظام العربي. وفي وسط تلك الظلمة، عقد مجلس التعاون الخليجي مؤتمر القمة في مدينة الرياض يوم ٢٠ كانون الاول - ديسمبر ٢٠١١. وتحدث خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز الى اخوانه قادة دول المجلس وطرح عليهم مشروعه انتقال مجلس التعاون الخليجي الى مرحلة مجلس الاتحاد الخليجي واتخاذ الخطوات لتطوير الاجراءات الدفاعية والتدابير الامنية لمواجهة التحديات وتحصين الجبهة الداخلية العربية والتصدي للتحديات الخارجية. وفي تلك الفترة ذاتها اعلنت المملكة العربية السعودية عن صفقة تسلح جديدة لشراء ٨٤ مقاتلة اميركية بمبلغ ٢٩ مليار دولار من الولايات المتحدة. فشكل ذلك ملامح خارطة الطريقة لبناء القدرة الدفاعية لما بعد الربيع العربي.
قراءة في التجربة التاريخية
لقد كان من فضائل ثورة الربيع العربي انها اسقطت الاقنعة التي كانت تخفي وجوه اعداء الشعب العربي على جبهاته الداخلية والخارجية. اذ كانت الجامعة العربية هي اول ضحايا هذا الربيع. وكانت الجامعة كما هو معروف تعاني من مجموعة من الاعراض المرضية المزمنة، فجاءت طلقة الخلاص على يد الشعب العربي الثائر. غير ان ذلك شكل حالة من الفراغ المرعب. مما دفع دول مجلس التعاون الخليجي لحمل راية المبادرات الخلاقة للتعامل مع المستجدات السياسية والعسكرية. وكانت المبادأة الاكثر وضوحا هي دعم شعب ليبيا الذي وصل الى حافة حرب ابادة مرعبة، ثم تتابعت المبادءات. وكان ذلك حدثا مثيرا ايقظ روح المارد العربي الذي يستطيع شق طريقه الوعر وسط المتاهات الشاقة. وظهر واضحا مدى الحاجة لاعادة التنظيم الشامل سياسيا وعسكريا وفكريا واجتماعيا. وهنا لا بد من التوقف عند الدروس المستخلصة من التجارب العربية في الازمنة الحديثة للافادة منها في مرحلة اعادة التنظيم الشامل ومنها:
اولا - تخلف التسلح العربي في حجمه ونوعه عند مجابهة التحديات الخارجية حيث ظهر واضحا انه قد يكون من المحال على اي قطر عربي مجابهة التحديات الخارجية لخوض حرب متوازنة. ولا بد بالتالي من تنظيم الدفاع والتسلح في اطار عربي متكامل. وكانت تجربة مجلس التعاون الخليجي رائدة في هذا المضمار.
ثانيا - ضرورة تحقيق وحدة القيادة العسكرية العربية وتكوين هيئة اركان مشتركة لتنسيق الجهد القتالي العربي، وادارة الصراعات المسلحة. وكانت تجربة الحرب العربية - الاسرائيلية الاولى ١٩٤٨، واسناد يعطي القيادات للاجانب قيادة الانكليز لجيوش العراق والاردن اذ لم تقم هذه القيادة بأي دور ايجابي.
وربما كان اخطر ما قامت به هو سحب القوات العراقية من الجبهة وحرمان المدفعية العراقية المتفوقة من ممارسة واجباتها بضرب الاهداف اليهودية بحجة ماكو اوامر وكشف الجناح الايسر للقوات السورية مما سمح للعصابات اليهودية بضرب تلك القوات وقتل عدد كبير من افرادها وضباطها على ضفاف طبريا. وفي العام ١٩٥٦ اضطلعت القيادة المصرية بأعباء ادارة الحرب فعملت القيادات العسكرية العربية العراق وسوريا والسودان وغيرها على اعلان استعدادها لدخول الحرب، ووقوفها الى جانب مصر. وفي الحرب ١٩٧٣، تم تنسيق التعاون بين القيادتين السورية والمصرية على نطاق محدود لم تتجاوز تحديد يوم الهجوم وساعة الانقضاض س وقد ظهرت خطورة غياب تنسيق التعاون عندما قامت القوات الاسرائيلية بهجومها المضاد على الجبهة السورية، ثم على الجبهة المصرية ثغرة الدفرسوار.
استلاب قدسية وطهارة السلاح العربي
وكانت نقطة البداية يوم ٢٨ ايلول - سبتمبر ١٩٦٢ عندما انفجرت ثورة اليمن، وقرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دعم الثورة، وارسل افضل واقوى تشكيلات جيشه القتالية، وخيرة كفاءات القيادة في مصر لتجابه حرب استنزاف قاسية على ارض اليمن. وكان انحراف السلاح عن هدفه، وانتهاك حرمة السلاح العربي وتدنيسه بدم عربي هي نقطة البداية لهزيمة العام ١٩٦٧ التي تقررت على ارض اليمن ثم كانت نقطة البداية ايضا لانتهاكات كثيرة ظهرت في الاردن ١٩٧١ و١٩٧٢ في عبور قوات مدرعة سورية الى الاردن، واحداث ايلول الاسود. ثم وصل الامر الى غزو العراق لدولة الكويت ١٩٩٠ - ١٩٩١ والحرب الاهلية في لبنان ١٩٧٥ - ١٩٨٩، ثم في العراق ٢٠٠٤ - ٢٠١٠، وليس ذبح العرب في الشوارع العربية في احداث الثورة العربية الكبرى، الا فصلا من المأساة العربية التي صنعتها قوات واستخدمت فيها اسلحة دفع الشعب العربي اثمانها بجهده وتضحياته، وخصصها لحماية ابنائه ومستقبله.
قصور اي جيش عربي عن مواجهة التحديات العسكرية - المتعاظمة
لقد جاءت كل التطورات الحديثة بعد حرب ١٩٧٣ لتبرهن حقيقة انه من الصعب وربما من المحال ان يتمكن اي قطر عربي من اقصى المغرب حتى اقصى المشرق من احراز نصر حاسم على اي عدوان خارجي لا سيما مع ما تمارسه ايران من تحديات لا تقف عند حدود تهديد شبه الجزيرة العربية فقط مجلس التعاون الخليجي، وانما تتهدد ايضا المجموع العربي. وبالتالي فانه لم يعد امرا مباغتا ان تضج الجماهير العربية بالتذمر من الاستنزاف الكبير لمواردها من اجل بناء قوة دفاعية كافية، اصبحت مع تطور التحديات مجرد تنظيمات معدومة القيمة. ومن الصعب تطوير قدراتها في حدود الموارد المحلية لكثير من الدول العربية.
تعاظم نفقات الحروب، مع تطور تقانة التسلح ومع اتساع مسرح العمليات
اصبح من المحال بناء قوة دفاعية وحديثة، وذات كفاءة قتالية عالية، في حدود قدرات وامكانات محدودة ماديا وبشريا واصبح هناك تمييز واضح بين قوات ضاربة استراتيجية تمثلها القوات الجوية والقدرات البحرية وقوات التدخل السريع والمنظومات الصاروخية عابرة القارات او البعيدة المدى وبين قوات ميدانية ذات قدرات وكفاءات قتالية عالية. ولكنها ذات اهداف محددة للعمل في الحدود الدفاعية الاقليمية ونموذجها النوعي هو قوات التدخل السريع وقوات الحرس الوطني او الدفاع المحلي. ولقد اظهر ذلك ضرورة تنسيق التعاون العسكري في المحيط العربي بحيث يتحقق التكامل والتعاون على صعيدي الاستراتيجية والعمليات. وعلى قاعدة تنسيق التعاون المسبق في تنظيم جيوش الاقاليم وتسلحها وتحديد واجباتها القتالية وحدود انتشارها ومناطق تمركزها الخ.
اخطار التحالفات الاستراتيجية الخارجية والقرار العربي
لقد ظهرت خلال تجارب اعادة التنظيم للجيوش العربية محاولات كان هدفها المعلن هو اقامة علاقات وثيقة بين اقطار تريد تطوير قدراتها القتالية الذاتية وبين الدول المصدرة للسلاح. وكانت المرحلة الاولى والواضحة هي اقامة تحالفات استراتيجية، تضمن الدعم العسكري والسياسي والاعلامي والثقافي - وحتى السياحي - المتبادل، ومن المعروف في التجارب التاريخية. ما اكدته التجارب الحديثة من ان التحالفات بين قوى غير متكافئة لن يكون ابدا لمصلحة الاطراف الاضعف او الاصغر. وقد اكدت خلاصة التحالفات الاستراتيجية بان اكبر اخطارها هو انحراف الاسلحة عن اهدافها الدفاعية الاساسية وتقييد حرية العمل السياسي والعسكري الذي تطمح اليه الشعوب العربية.
جيش الامة - وقضية الولاء
لقد ظهرت خلال مراحل اعادة تنظيم الجيوش العربية، نزعات منحرفة لتحديد واجبات الجيوش، وهي التي عرفت باسم تسييس الجيوش او تحديد عقيدة معينة للجيش، وكان الولاء المتعارف عليه لمعظم جيوش العالم وليس للجيوش العربية وحدها هو الولاء لله رب العالمين - وللوطن - وللنظام القائم ملكيا او جمهوريا او سلطنة او امارة الخ. وقد نتج عن ذلك ظهور انحرافات لم تدمر الجيش وحده بل دمرت المجتمع ذاته اذ اصبح الولاء لفئة فقط من مجموع الشعب. وحل قانون العداء للشعب مكان قانون الولاء والحماية لمجموع الشعب. وكان من نتيجة ذلك ايضا ظهور تنظيمات قتالية ذات اهداف لا علاقة لها باهداف الجيوش المكلفة بالدفاع عن الوطن بمجموعه وحماية اهله وترابه ومقدساته.
سياسات الدفاع وقرار الحرب
لم تعد هذه الدروس المستخلصة من التجربة الذاتية للجيوش العربية مجهولة او من الدروس التي تجاوزها الزمن، فالشعب العربي يعيش فصول مأساتها كل يوم، وهو يعرف قسوة معاناتها في كل عمل من اعماله. ولا ريب ان صانعي القرارات السياسية والعسكرية، يعرفون من الدروس اكثر مما هو معروف مما تناقلته وسائل الاعلام ومراكز الابحاث. وبالتالي، فقد اصبحت هناك ضرورة ملحة، وحاجة قصوى لاعادة تنظيم الجيوش العربية على اسس واضحة، ومبادىء ثابتة، ومعطيات متطورة تتناسب مع تطورات التقانة ومتطلبات الحداثة، ومكونات المجتمع العربي وطموحاته. ولقد جاءت احداث الثورة العربية الكبرى للعام ٢٠١١ لتسقط الاقنعة عما كان خافيا من العورات والمثالب والانحرافات، ولتصنع الحقائق امام الشعب، مما اضاف اعباء ثقيلة على اعباء القادة صانعي القرارات السياسية، اذ لم يعد بالمستطاع تجاهل طموحات الشعب الثائر، او عدم الافادة من الفرصة التاريخية التي صنعتها الثورة، ووضعتها في ايدي القادة صانعي المستقبل العربي، ورواده الصادقين. ولعل من اول الاعباء التي القت بثقلها على كاهل القادة السياسيين والعسكريين: تتمثل في قضية السياسات الدفاعية وقرار السلم والحرب. ما من حاجة للقول ان التعرض لقضية السياسات الدفاعية، ومسؤولية اتخاذ قرار السلم والحرب على الصعيد العربي، تبقى مرتبطة بروابط وثيقة بالمرجعية العربية. ولقد ظهر من خلال التحركات السياسية العربية خلال تطورات الثورة العربية ان الانقسامات العربية قد وضعت المرجعية العربية امام حقيقة ضياع هذه المرجعية، والبرهان الواضح على ذلك هو اقدام مجلس التعاون الخليجي على تقديم المبادءات للتعامل مع الازمات الليبية واليمنية وسواها. وبالتالي، فان اول ما يجب عمله هو اعادة تنظيم المرجعية العربية - ممثلة بالجامعة العربية - فاذا لم يتم ذلك وبصورة صحيحة وعاجلة، فانه لم يعد هناك مجال للحديث عن جامعة عربية او مرجعية عربية. ويبقى امام الانظمة العربية او الدول العربية خيار واحد - هو تقديم بديل عن المرجعية العربية. وانهاء الحديث عن نظام عربي، ولا ريب ان شعب الثورة العربية لن يسمح بمثل هذا الانهيار الذي يضع نهاية لكل طموحات الشعب العربي في بناء المستقبل الواعد، فبالامكان - يقينا - اسقاط اقليم او اكثر من الاقطار العربية التي تتصدى للمجموع العربي والسير ببقية الاقطار بقوة اكبر وارادة اكثر صلابة وتماسكا. وفي كل الحالات - والاحتمالات. فالبحث عن المرجعية العربية واعادة تنظيم البيت العربي سيتحقق يقينا. وعندها، ومع استعادة القدرة لاتخاذ القرار السياسي المسؤول يصبح بالمستطاع الوصول الى اعادة التنظيم العسكري.
ربما كانت قضية اعادة التنظيم العسكري بعد ذلك، هي قضية ليس من الصعب التعامل معها، وتجاوز كل ما قد يعترضها من عقبات. وهناك تجارب معاصرة ستكون مفيدة بالتأكيد اذا ما صدقت النوايا، واخلصت الجهود. فتنظيم حلف شمال الاطلسي ناتو وتنظيم درع الجزيرة لمجلس التعاون الخليجي وتجربة الجيش الافريقي علاوة على المعاهدات الثنائية الدفاعية او الاحلاف الاستراتيجية قد حددت هياكل تنظيمية واهداف واضحة لتنظيم القدرات العسكرية: تنظيما وتسليحا واعدادا وقيادة في حالة الحرب. ويعني ذلك ببساطة تطوير قرار يتم فيه تحديد حجم ونوع القوات الاستراتيجية - التابعة للقيادة المشتركة والاحتياط الاستراتيجي الذي تتولى قيادته ايضا القيادة العربية المشتركة، وتنظيم هيئة اركان مشتركة لمساعدة القيادة في ادارة مجموعة الجيوش العربية الاقليمية. ويحدد مقر القيادة العربية العليا في دولة عربية، مع تنظيم قيادات ميدانية تبادلية وتكميلية في كل الدول العربية لادارة الاعمال القتالية. ولقد ضمنت ثورة الاتصالات وثقافة القيادة والسيطرة كل متطلبات ادارة القوات والسيطرة عليها في السلم والحرب. ويمكن هنا تذكر احداث حرب تحرير الكويت ١٩٩١ حيث كانت القيادة الميدانية في السعودية وفي ميدان الحرب على الحدود العراقية على اتصال مباشر ومستمر بمقر القيادة في واشنطن - البنتاغون. وسيتبع ذلك، على ما هو متوقع، اعادة تنظيم الجيوش الاقليمية العربية، وتنظيم جيوش النوعية - او جيوش السلم لتكون بديلا عن تنظيمات الفرق والجيوش الجرارة. ويمكن اعتبار تنظيم قوات التدخل السريع نموذجا متطورا لجيوش المستقبل حيث تتوافر لهذا التنظيم القدرة النارية والقدرة الحركية وقوة الصدمة. وامكانات العمل المستقل. ان الجيوش العربية لا تفتقر بالتأكيد للكفاءات المطلوبة لاعادة تنظيم الجيوش العربية، فلقد برهنت المراحل التي تجاوزتها الجيوش العربية في مسيراتها الشاقة انها تمتلك القدرة على العمل والابداع اذا ما توافرت لها الظروف المناسبة. وقد جاءت الثورة العربية الكبرى لتمهد الطريق امام مسيرة التطور والبناء، وستبقى هناك قضية الثقة المفقودة والموروثة من النظام السياسي والعسكري السابق. فهل يمكن اعادة بناء الثقة مع اعادة بناء الهيكل السياسي والتنظيم العسكري في النظام العربي الجديد؟
التقانة والجيش النوعي
عندما فجرت الولايات المتحدة الاميركية قنبلتيها الذريتيين في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، كان ذلك اعلانا بانتهاء عصر الجيوش الجرارة والفيالق الضخمة وارتال القوات البرية الطويلة. اذ باستطاعة قنبلة واحدة او قنبلتين تحملهما طائرة قاذفة لتدمير جيش منتشر على مسرح للعمليات القتالية. غير ان توجه الدول الكبرى للسير على طريق الحرب الباردة والتفوق الكبير للقوات السوفياتية على دول اوروبا الغربية اعطى الاتحاد السوفياتي الفرصة للاحتفاظ بجيوش تضم حوالي عشرة ملايين جندي، مما دفع معسكر الغرب اميركا واوروبا لتحقيق التوازن بتطوير التسلح التقليدي بكل انواعه البرية والبحرية والجوية والفضائية ايضا فكانت تطورات القنابل الذكية، والذخائر دقيقة التوجيه والذخائر ذات القدرة التدميرية العالية سمارت بومب ونظائرها. وكانت ثورة التقانة ثم ثورة المعلوماتية من بعض مستجدات الحداثة العسكرية. وهو ما ظهر واضحا في تجربة حرب تحرير الكويت ١٩٩١. ولم يكن تنظيم قوات التدخل السريع الا برهانا واضحا على بداية عصر جديد في قتال القوات المتحاربة على مسارح العمليات. ولقد جرت تجارب هذا التنظيم على ارض مصر ثم تطورت مناوراتها السنوية لتضم اليها قوات من درع الجزيرة في مبادرات النجم الساطع ١٩٧٨ و ١٩٧٩ و١٩٨٠. وكانت مدارس الحرب وقيادات الجيوش في العالم تتابع باهتمام هذا التطور اذ لم تمضِ فترة طويلة حتى اصبح تنظيم قوات التدخل السريع تنظيما عالميا واقترن ذلك بتخفيض كبير في حجم الجيوش البرية بخاصة منذ العام ١٩٩١، وانتهاء عصر الحرب الباردة. واصبحت الكتيبة المحملة بالطائرات المروحية الطوافات المدعمة بنيران الطائرات الحوامة للدعم الناري، هي التنظيم القتالي الاساسي ولكن ذلك لا يعني عدم امكانية تجزئة الكتيبة، كما لا يعني عدم توافر القدرة لزج اكثر من كتيبة على مسرح للاعمال القتالية اذا ما تطلب الموقف القتالي ذلك. غير ان ذلك يعني وبوضوح ودقة ان الكتيبة تمتلك قدرة حركية عالية وقدرة نارية كثيفة. وقوة صدمة كافية، وقدرة دعم اداري منظم ومضمون بحيث يمكن لها خوض معركة على مسرح للعمليات بصورة مستقلة، مع توافر القدرة للتعاون مع قوات اخرى برية او بحرية او جوية بقوات محمولة لخوض معارك كبرى. ولا ريب ان المرونة الكبيرة لما تتميز به هذه القوات، والافادة من قدرة الافادة من مبادىء الحرب المباغتة والمبادأة الخ.. قد ضمن لقوات الهجوم افضل متطلبات النجاح في المعركة الحديثة والمتطورة للاسلحة المشتركة اذ تضم الكتيبة في تنظيمها المشاة والمدفعية والاسلحة الصاروخية والمدرعات الخفيفة وبقية الوسائط القتالية المساعدة والتكميلية.
لعل من أهم ميزات التنظيمات القتالية الحديثة ممثلة بقوات التدخل السريع هي قدرتها على الاضطلاع بالواجبات القتالية المتنوعة، الهجومية منها والدفاعية، والأعمال الخاصة والعمليات المشتركة، لكن مقابل ذلك، نفقات تنظيم هذه القوات وتسليحها بأفضل الأسلحة، واختيار جنودها من بين نخب المتطوعين، وتجهيزها بأحسن وسائط التقانة، قد يتجاوز كثيراً حدود نفقات تنظيم وحدات تقليدية مسلحة بالأسلحة العادية. وتظهر هنا اهمية المعادلة بين نفقات الجيوش النوعية الصغيرة الحجم، والجيوش الكمية ذات الكتل البشرية الضخمة. وتجدر الاشارة هنا الى ان النظام الاشتراكي كان يعتمد في تنظيمه على الكتل البشرية الكبرى باعتبارها الوسيلة لحل مشكلة البطالة، ولوضع كتل الجماهير تحت السيطرة. ولكن نتائج الأبحاث والدراسات قد اكدت ان استنزاف القدرة البشرية المنتجة في عمر الانتاج هو أكثر ضرراً بالاقتصاد الوطني والقومي من متطلبات الانفاق على الجيوش النوعية. يمكن بعد ذلك التعرض لقضية مهمة وهي ان الانتشار الواسع لكتائب الجيوش النوعية على صفحة الوطن العربي الكبير ذو الابعاد الجيو - استراتيجية الكبرى. قد يشكل عقبة امام دمج قوات الاقطار العربية - للعمل بصورة مشتركة ومتكاملة. وهنا ايضاً يمكن الاشارة الى التجربة الأوروبية تنظيم حلف شمال الاطلسي - ناتو، والتجربة العربية مجلس التعاون الخليجي اذ بالمستطاع تقسيم الوطن العربي الى عدد من مناطق العمليات مثل منطقة حوض النيل ومنطقة المغرب العربي ومنطقة الجزيرة العربية ومنطقة بلاد الشام التي تضم سوريا والعراق والاردن وفلسطين ولبنان. ويبقى لكل منطقة عمليات قيادتها وهيئة اركانها وقواتها الضاربة واحتياطها الاستراتيجي الخ. وتتم ادارة هذه المناطق في مقر القيادة المركزية التي يمكن لها اقامة عدد من المراكز في كل المناطق. ولا ريب ان التبديل في مناطق انتشار القوات بصورة دورية، والمناورات والتمارين المشتركة كافية لتطوير روح العمل المشترك ولدعم قدرة التعاون القتالي. ولا ريب ان تطور تقانة الاتصالات، سيكون له الدور الحاسم لتأمين متطلبات النظيم الجديد للجيش العربي المشترك.
يظهر ذلك ان ما هو مطلوب من جهد لاعادة التنظيم على صعيد الوطن العربي الكبير، هو جهد يصعب تقويمه، اذ انه يتجاوز كل التوقعات واذا كان الجهد السياسي المبذول او المتوقع بذله سيكون جهداً كبيراً. فلا ريب ان الجهد المطلوب لانجاز الواجب العسكري سيكون في حجم ونوع اعادة التنظيم السياسي للوطن العربي. غير ان طموح الشعب العربي - ونخبه البناءة - كفيل بتذليل كل الصعاب.
٤ - الفرصة التاريخية الحاسمة
مما لا ريب فيه ان الثورة العربية الكبرى قد وضعت الشعب العربي وقياداته السياسية والعسكرية بصورة خاصة في مواجهة فرصة تاريخية حاسمة. واقام مرحلة تاريخية رائعة لاعادة بناء المجتمع العربي بكل مكوناته، فلا غرابة بالتالي اذا ما تضافرت جهود اعداء الشعب العربي لصناعة كل انواع العوائق والصعوبات المادية والمعنوية لابعاد الشعب العربي عن اهدافه. ولقد اظهر البحث مدى الحاجة لاستنفار القيادات العسكرية في كل اقاليم الوطن العربي واختيار الكفاءات المتوافرة أفضلها وأكملها علماً وخبرة وقدرة لاعادة التنظيم الشامل بداية من اعادة تنظيم الهياكل القيادية ومروراً بتنظيم القوى في كل اقليم بما يحقق مبدأ الاقتصاد في القوى ويضمن التوازن. وتبقى القاعدة الاقتصادية هي الحكم الفيصل بحيث تتم الافادة من تجارب الماضي لتحقيق التوازن بين بناء القدرة العسكرية وتطوير القدرات الاقتصادية العربية ولقد اظهر مضمون البحث الحجم الكبير لمتطلبات اعادة التنظيم العسكري العربي. وقد يكون من المحال توقع تحقيق انجازات سريعة في هذا المجال وبذلك يمكن القول ان اعادة التنظيم العسكري هي نموذج حقيقي للثورة العربية المستمرة التي لا يمكن لها ان تتوقف وقد يكون ذلك امراً بديهياً. فالتقانة في تطور متسارع، والتحديات الثقيلة مستمرة. بل ربما قد تأخذ شكل خط بياني صاعد، ويبرز هنا وبوضوح دور جيل الرواد من قادة المرحلة الراهنة الذين سيمارسون دورهم لبناء مستقبل تمتد آفاقه بعيداً على طريق صعود الأجيال القادمة والذين سيحفظون لجيل الرواد فضلهم في مجابهة التحديات والتي لا بد من الاعتراف بخطورتها وصعوباتها. وهل من حاجة بعد ذلك للقول انه من المحال تحقيق التوازن الاستراتيجي العربي الا اذا جاءت عمليات اعادة التنظيم ضمن حدود مجابهة التحديات؟ وهل من قطر عربي مهما توافر له من قدرات نوعية، يستطيع وحده مجابهة كل التحديات الغربية؟ ومقابل ذلك هل من قطر عربي يستطيع بعد قراءة مجموعة الاحداث والتطورات التي عرفها العالم في العام ٢٠١١، ان يعزل نفسه عن مواكبة تطور الاقطار العربية مجتمعة؟ قد تكون الاجابة على مثل هذه التساؤلات - الكثيرة والمتنوعة - متوافرة فيما أعلنه شباب الثورة العربية في كل اقطارهم وفيما اعتمدته القيادات السياسية والعسكرية، في مواكبتها للتحركات الثورية، وهي القيادات التي برهنت في كثير من ممارساتها التزامها بارساء دعائم الحريات والديمقراطية وحقوق المواطنين، وكان البرهان على ذلك تعهد قيادات كثيرة بانهاء دورها القيادي حالما يتم وضع اسس الهيكلية الشرعية للنظام العربي الجديد.
لقد كان تطور الأحداث الثورية طوال ايام العام ٢٠١١، برهاناً على انه كان من المحال استمرار النظام العربي السابق لتفجر الثورة، بسبب تضافر عوامل كثيرة مارست دورها في احتضان التخمرات الثورية بعيداً عن انظار اصحاب النظام القديم، واعوانه ومستثمريه وكل مكوناته وكان للجيش في تونس ومصر بخاصة دور رائع في احتضان الثورة ومواكبة تحركاتها والاستجابة لتطلعاتها في ظروف استثنائية لها خصوصيتها ولكن ما تحقق لم يشكل الا المرحلة التمهيدية للثورة، ولا بد بالتالي من العودة لقاعدة الثورة حتى لا تقتصر القوى المضادة للثورة داخلياً وخارجياً. وليس المطلوب بالتأكيد العودة الى نظام الدولة الأمنية وانما المطلوب هو اقامة الدولة الآمنة التي تعيد للمواطن العربي ثقته المفقودة بقيادته ومجتمعه وحتى وطنه. ويقع الواجب الأول في اعادة بناء الثقة على القوات المسلحة من جيش وأجهزة امن وأجهزة استخبارات كمثل ما هو عليه وضع معظم دول العالم وشعوبه التي تنعم بانتمائها لأوطانها. ومقابل ذلك، لا بد ايضاً من معالجة ما ظهر من انحرافات مدمرة في علاقات مكونات المجتمع المدنية والعسكرية اجهزة الحكم والشعوب المحكومة مما تتسبب في احداث تشققات وتقرحات قد تدمر ما هو مطلوب من تماسك وتعاون ومشاركة حقيقية لاعادة بناء مجتمع ما بعد الثورة ومرة اخرى فعندما يضيق الوعاء بما يحتويه، لا بد من وعاء اكثر اتساعاً وأكبر حجماً لاستيعاب ما يحتويه الوعاء الصغير. ويعني ذلك ببساطة الحاجة الملحة لبناء هيكل المجتمع العربي الجديد بأبعاده الجغرافية الكبيرة وقدراته البشرية الحيوية والمبدعة، وامكاناته الاقتصادية المتوافرة، وبكل موروثه الديني والقومي والوطني وفضائله الاخلاقية وقيمه الانسانية بعيداً عن الشوائب الفكرية الفاسدة، والتي برهنت الاحداث على امتداد خمسة او ستة عقود من عمر الزمن على انها اصبحت غير صالحة للاستعمال وفاقدة الصلاحية للعمل.
ويبقى الجيش العربي بعد اعادة التنظيم هو جيش الأمة العربية بكل مكونات هذه الأمة وقد يكون من المفيد في نهاية البحث التعرض لحادثة صغيرة في حجمها وكبيرة جداً في مضمونها ففي منتصف عقد الخمسينات كان ضابط في جيش عربي يتحدث بصورة عادية على مائدة للطعام عندما قال ارى أن جيشي يستحق كذا. وقامت الدنيا ولم تقعد من حول هذا الضابط ذو الرتبة الرفيعة آنذاك، اذ كيف سمح هذا القائد لنفسه ان ينسب الجيش لشخصه عندما قال جيشي؟ وكيف يمكن لجيش الشعب والامة ان يصبح ملكاً لشخص مهما علا شأنه. ولم تصل القصة نهايتها الا بعد صرف الضابط من الخدمة. والأمل معقود على بناة الجيش العربي الجديد ان يكون جيش الامة العربية وحامي وجودها والمدافع عن سيادتها وحقها في حياة جديرة بشعب عظيم.
قراءة في التجربة التاريخية
لقد كان من فضائل ثورة الربيع العربي انها اسقطت الاقنعة التي كانت تخفي وجوه اعداء الشعب العربي على جبهاته الداخلية والخارجية. اذ كانت الجامعة العربية هي اول ضحايا هذا الربيع. وكانت الجامعة كما هو معروف تعاني من مجموعة من الاعراض المرضية المزمنة، فجاءت طلقة الخلاص على يد الشعب العربي الثائر. غير ان ذلك شكل حالة من الفراغ المرعب. مما دفع دول مجلس التعاون الخليجي لحمل راية المبادرات الخلاقة للتعامل مع المستجدات السياسية والعسكرية. وكانت المبادأة الاكثر وضوحا هي دعم شعب ليبيا الذي وصل الى حافة حرب ابادة مرعبة، ثم تتابعت المبادءات. وكان ذلك حدثا مثيرا ايقظ روح المارد العربي الذي يستطيع شق طريقه الوعر وسط المتاهات الشاقة. وظهر واضحا مدى الحاجة لاعادة التنظيم الشامل سياسيا وعسكريا وفكريا واجتماعيا. وهنا لا بد من التوقف عند الدروس المستخلصة من التجارب العربية في الازمنة الحديثة للافادة منها في مرحلة اعادة التنظيم الشامل ومنها:
اولا - تخلف التسلح العربي في حجمه ونوعه عند مجابهة التحديات الخارجية حيث ظهر واضحا انه قد يكون من المحال على اي قطر عربي مجابهة التحديات الخارجية لخوض حرب متوازنة. ولا بد بالتالي من تنظيم الدفاع والتسلح في اطار عربي متكامل. وكانت تجربة مجلس التعاون الخليجي رائدة في هذا المضمار.
ثانيا - ضرورة تحقيق وحدة القيادة العسكرية العربية وتكوين هيئة اركان مشتركة لتنسيق الجهد القتالي العربي، وادارة الصراعات المسلحة. وكانت تجربة الحرب العربية - الاسرائيلية الاولى ١٩٤٨، واسناد يعطي القيادات للاجانب قيادة الانكليز لجيوش العراق والاردن اذ لم تقم هذه القيادة بأي دور ايجابي.
وربما كان اخطر ما قامت به هو سحب القوات العراقية من الجبهة وحرمان المدفعية العراقية المتفوقة من ممارسة واجباتها بضرب الاهداف اليهودية بحجة ماكو اوامر وكشف الجناح الايسر للقوات السورية مما سمح للعصابات اليهودية بضرب تلك القوات وقتل عدد كبير من افرادها وضباطها على ضفاف طبريا. وفي العام ١٩٥٦ اضطلعت القيادة المصرية بأعباء ادارة الحرب فعملت القيادات العسكرية العربية العراق وسوريا والسودان وغيرها على اعلان استعدادها لدخول الحرب، ووقوفها الى جانب مصر. وفي الحرب ١٩٧٣، تم تنسيق التعاون بين القيادتين السورية والمصرية على نطاق محدود لم تتجاوز تحديد يوم الهجوم وساعة الانقضاض س وقد ظهرت خطورة غياب تنسيق التعاون عندما قامت القوات الاسرائيلية بهجومها المضاد على الجبهة السورية، ثم على الجبهة المصرية ثغرة الدفرسوار.
استلاب قدسية وطهارة السلاح العربي
وكانت نقطة البداية يوم ٢٨ ايلول - سبتمبر ١٩٦٢ عندما انفجرت ثورة اليمن، وقرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دعم الثورة، وارسل افضل واقوى تشكيلات جيشه القتالية، وخيرة كفاءات القيادة في مصر لتجابه حرب استنزاف قاسية على ارض اليمن. وكان انحراف السلاح عن هدفه، وانتهاك حرمة السلاح العربي وتدنيسه بدم عربي هي نقطة البداية لهزيمة العام ١٩٦٧ التي تقررت على ارض اليمن ثم كانت نقطة البداية ايضا لانتهاكات كثيرة ظهرت في الاردن ١٩٧١ و١٩٧٢ في عبور قوات مدرعة سورية الى الاردن، واحداث ايلول الاسود. ثم وصل الامر الى غزو العراق لدولة الكويت ١٩٩٠ - ١٩٩١ والحرب الاهلية في لبنان ١٩٧٥ - ١٩٨٩، ثم في العراق ٢٠٠٤ - ٢٠١٠، وليس ذبح العرب في الشوارع العربية في احداث الثورة العربية الكبرى، الا فصلا من المأساة العربية التي صنعتها قوات واستخدمت فيها اسلحة دفع الشعب العربي اثمانها بجهده وتضحياته، وخصصها لحماية ابنائه ومستقبله.
قصور اي جيش عربي عن مواجهة التحديات العسكرية - المتعاظمة
لقد جاءت كل التطورات الحديثة بعد حرب ١٩٧٣ لتبرهن حقيقة انه من الصعب وربما من المحال ان يتمكن اي قطر عربي من اقصى المغرب حتى اقصى المشرق من احراز نصر حاسم على اي عدوان خارجي لا سيما مع ما تمارسه ايران من تحديات لا تقف عند حدود تهديد شبه الجزيرة العربية فقط مجلس التعاون الخليجي، وانما تتهدد ايضا المجموع العربي. وبالتالي فانه لم يعد امرا مباغتا ان تضج الجماهير العربية بالتذمر من الاستنزاف الكبير لمواردها من اجل بناء قوة دفاعية كافية، اصبحت مع تطور التحديات مجرد تنظيمات معدومة القيمة. ومن الصعب تطوير قدراتها في حدود الموارد المحلية لكثير من الدول العربية.
تعاظم نفقات الحروب، مع تطور تقانة التسلح ومع اتساع مسرح العمليات
اصبح من المحال بناء قوة دفاعية وحديثة، وذات كفاءة قتالية عالية، في حدود قدرات وامكانات محدودة ماديا وبشريا واصبح هناك تمييز واضح بين قوات ضاربة استراتيجية تمثلها القوات الجوية والقدرات البحرية وقوات التدخل السريع والمنظومات الصاروخية عابرة القارات او البعيدة المدى وبين قوات ميدانية ذات قدرات وكفاءات قتالية عالية. ولكنها ذات اهداف محددة للعمل في الحدود الدفاعية الاقليمية ونموذجها النوعي هو قوات التدخل السريع وقوات الحرس الوطني او الدفاع المحلي. ولقد اظهر ذلك ضرورة تنسيق التعاون العسكري في المحيط العربي بحيث يتحقق التكامل والتعاون على صعيدي الاستراتيجية والعمليات. وعلى قاعدة تنسيق التعاون المسبق في تنظيم جيوش الاقاليم وتسلحها وتحديد واجباتها القتالية وحدود انتشارها ومناطق تمركزها الخ.
اخطار التحالفات الاستراتيجية الخارجية والقرار العربي
لقد ظهرت خلال تجارب اعادة التنظيم للجيوش العربية محاولات كان هدفها المعلن هو اقامة علاقات وثيقة بين اقطار تريد تطوير قدراتها القتالية الذاتية وبين الدول المصدرة للسلاح. وكانت المرحلة الاولى والواضحة هي اقامة تحالفات استراتيجية، تضمن الدعم العسكري والسياسي والاعلامي والثقافي - وحتى السياحي - المتبادل، ومن المعروف في التجارب التاريخية. ما اكدته التجارب الحديثة من ان التحالفات بين قوى غير متكافئة لن يكون ابدا لمصلحة الاطراف الاضعف او الاصغر. وقد اكدت خلاصة التحالفات الاستراتيجية بان اكبر اخطارها هو انحراف الاسلحة عن اهدافها الدفاعية الاساسية وتقييد حرية العمل السياسي والعسكري الذي تطمح اليه الشعوب العربية.
جيش الامة - وقضية الولاء
لقد ظهرت خلال مراحل اعادة تنظيم الجيوش العربية، نزعات منحرفة لتحديد واجبات الجيوش، وهي التي عرفت باسم تسييس الجيوش او تحديد عقيدة معينة للجيش، وكان الولاء المتعارف عليه لمعظم جيوش العالم وليس للجيوش العربية وحدها هو الولاء لله رب العالمين - وللوطن - وللنظام القائم ملكيا او جمهوريا او سلطنة او امارة الخ. وقد نتج عن ذلك ظهور انحرافات لم تدمر الجيش وحده بل دمرت المجتمع ذاته اذ اصبح الولاء لفئة فقط من مجموع الشعب. وحل قانون العداء للشعب مكان قانون الولاء والحماية لمجموع الشعب. وكان من نتيجة ذلك ايضا ظهور تنظيمات قتالية ذات اهداف لا علاقة لها باهداف الجيوش المكلفة بالدفاع عن الوطن بمجموعه وحماية اهله وترابه ومقدساته.
سياسات الدفاع وقرار الحرب
لم تعد هذه الدروس المستخلصة من التجربة الذاتية للجيوش العربية مجهولة او من الدروس التي تجاوزها الزمن، فالشعب العربي يعيش فصول مأساتها كل يوم، وهو يعرف قسوة معاناتها في كل عمل من اعماله. ولا ريب ان صانعي القرارات السياسية والعسكرية، يعرفون من الدروس اكثر مما هو معروف مما تناقلته وسائل الاعلام ومراكز الابحاث. وبالتالي، فقد اصبحت هناك ضرورة ملحة، وحاجة قصوى لاعادة تنظيم الجيوش العربية على اسس واضحة، ومبادىء ثابتة، ومعطيات متطورة تتناسب مع تطورات التقانة ومتطلبات الحداثة، ومكونات المجتمع العربي وطموحاته. ولقد جاءت احداث الثورة العربية الكبرى للعام ٢٠١١ لتسقط الاقنعة عما كان خافيا من العورات والمثالب والانحرافات، ولتصنع الحقائق امام الشعب، مما اضاف اعباء ثقيلة على اعباء القادة صانعي القرارات السياسية، اذ لم يعد بالمستطاع تجاهل طموحات الشعب الثائر، او عدم الافادة من الفرصة التاريخية التي صنعتها الثورة، ووضعتها في ايدي القادة صانعي المستقبل العربي، ورواده الصادقين. ولعل من اول الاعباء التي القت بثقلها على كاهل القادة السياسيين والعسكريين: تتمثل في قضية السياسات الدفاعية وقرار السلم والحرب. ما من حاجة للقول ان التعرض لقضية السياسات الدفاعية، ومسؤولية اتخاذ قرار السلم والحرب على الصعيد العربي، تبقى مرتبطة بروابط وثيقة بالمرجعية العربية. ولقد ظهر من خلال التحركات السياسية العربية خلال تطورات الثورة العربية ان الانقسامات العربية قد وضعت المرجعية العربية امام حقيقة ضياع هذه المرجعية، والبرهان الواضح على ذلك هو اقدام مجلس التعاون الخليجي على تقديم المبادءات للتعامل مع الازمات الليبية واليمنية وسواها. وبالتالي، فان اول ما يجب عمله هو اعادة تنظيم المرجعية العربية - ممثلة بالجامعة العربية - فاذا لم يتم ذلك وبصورة صحيحة وعاجلة، فانه لم يعد هناك مجال للحديث عن جامعة عربية او مرجعية عربية. ويبقى امام الانظمة العربية او الدول العربية خيار واحد - هو تقديم بديل عن المرجعية العربية. وانهاء الحديث عن نظام عربي، ولا ريب ان شعب الثورة العربية لن يسمح بمثل هذا الانهيار الذي يضع نهاية لكل طموحات الشعب العربي في بناء المستقبل الواعد، فبالامكان - يقينا - اسقاط اقليم او اكثر من الاقطار العربية التي تتصدى للمجموع العربي والسير ببقية الاقطار بقوة اكبر وارادة اكثر صلابة وتماسكا. وفي كل الحالات - والاحتمالات. فالبحث عن المرجعية العربية واعادة تنظيم البيت العربي سيتحقق يقينا. وعندها، ومع استعادة القدرة لاتخاذ القرار السياسي المسؤول يصبح بالمستطاع الوصول الى اعادة التنظيم العسكري.
ربما كانت قضية اعادة التنظيم العسكري بعد ذلك، هي قضية ليس من الصعب التعامل معها، وتجاوز كل ما قد يعترضها من عقبات. وهناك تجارب معاصرة ستكون مفيدة بالتأكيد اذا ما صدقت النوايا، واخلصت الجهود. فتنظيم حلف شمال الاطلسي ناتو وتنظيم درع الجزيرة لمجلس التعاون الخليجي وتجربة الجيش الافريقي علاوة على المعاهدات الثنائية الدفاعية او الاحلاف الاستراتيجية قد حددت هياكل تنظيمية واهداف واضحة لتنظيم القدرات العسكرية: تنظيما وتسليحا واعدادا وقيادة في حالة الحرب. ويعني ذلك ببساطة تطوير قرار يتم فيه تحديد حجم ونوع القوات الاستراتيجية - التابعة للقيادة المشتركة والاحتياط الاستراتيجي الذي تتولى قيادته ايضا القيادة العربية المشتركة، وتنظيم هيئة اركان مشتركة لمساعدة القيادة في ادارة مجموعة الجيوش العربية الاقليمية. ويحدد مقر القيادة العربية العليا في دولة عربية، مع تنظيم قيادات ميدانية تبادلية وتكميلية في كل الدول العربية لادارة الاعمال القتالية. ولقد ضمنت ثورة الاتصالات وثقافة القيادة والسيطرة كل متطلبات ادارة القوات والسيطرة عليها في السلم والحرب. ويمكن هنا تذكر احداث حرب تحرير الكويت ١٩٩١ حيث كانت القيادة الميدانية في السعودية وفي ميدان الحرب على الحدود العراقية على اتصال مباشر ومستمر بمقر القيادة في واشنطن - البنتاغون. وسيتبع ذلك، على ما هو متوقع، اعادة تنظيم الجيوش الاقليمية العربية، وتنظيم جيوش النوعية - او جيوش السلم لتكون بديلا عن تنظيمات الفرق والجيوش الجرارة. ويمكن اعتبار تنظيم قوات التدخل السريع نموذجا متطورا لجيوش المستقبل حيث تتوافر لهذا التنظيم القدرة النارية والقدرة الحركية وقوة الصدمة. وامكانات العمل المستقل. ان الجيوش العربية لا تفتقر بالتأكيد للكفاءات المطلوبة لاعادة تنظيم الجيوش العربية، فلقد برهنت المراحل التي تجاوزتها الجيوش العربية في مسيراتها الشاقة انها تمتلك القدرة على العمل والابداع اذا ما توافرت لها الظروف المناسبة. وقد جاءت الثورة العربية الكبرى لتمهد الطريق امام مسيرة التطور والبناء، وستبقى هناك قضية الثقة المفقودة والموروثة من النظام السياسي والعسكري السابق. فهل يمكن اعادة بناء الثقة مع اعادة بناء الهيكل السياسي والتنظيم العسكري في النظام العربي الجديد؟
التقانة والجيش النوعي
عندما فجرت الولايات المتحدة الاميركية قنبلتيها الذريتيين في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، كان ذلك اعلانا بانتهاء عصر الجيوش الجرارة والفيالق الضخمة وارتال القوات البرية الطويلة. اذ باستطاعة قنبلة واحدة او قنبلتين تحملهما طائرة قاذفة لتدمير جيش منتشر على مسرح للعمليات القتالية. غير ان توجه الدول الكبرى للسير على طريق الحرب الباردة والتفوق الكبير للقوات السوفياتية على دول اوروبا الغربية اعطى الاتحاد السوفياتي الفرصة للاحتفاظ بجيوش تضم حوالي عشرة ملايين جندي، مما دفع معسكر الغرب اميركا واوروبا لتحقيق التوازن بتطوير التسلح التقليدي بكل انواعه البرية والبحرية والجوية والفضائية ايضا فكانت تطورات القنابل الذكية، والذخائر دقيقة التوجيه والذخائر ذات القدرة التدميرية العالية سمارت بومب ونظائرها. وكانت ثورة التقانة ثم ثورة المعلوماتية من بعض مستجدات الحداثة العسكرية. وهو ما ظهر واضحا في تجربة حرب تحرير الكويت ١٩٩١. ولم يكن تنظيم قوات التدخل السريع الا برهانا واضحا على بداية عصر جديد في قتال القوات المتحاربة على مسارح العمليات. ولقد جرت تجارب هذا التنظيم على ارض مصر ثم تطورت مناوراتها السنوية لتضم اليها قوات من درع الجزيرة في مبادرات النجم الساطع ١٩٧٨ و ١٩٧٩ و١٩٨٠. وكانت مدارس الحرب وقيادات الجيوش في العالم تتابع باهتمام هذا التطور اذ لم تمضِ فترة طويلة حتى اصبح تنظيم قوات التدخل السريع تنظيما عالميا واقترن ذلك بتخفيض كبير في حجم الجيوش البرية بخاصة منذ العام ١٩٩١، وانتهاء عصر الحرب الباردة. واصبحت الكتيبة المحملة بالطائرات المروحية الطوافات المدعمة بنيران الطائرات الحوامة للدعم الناري، هي التنظيم القتالي الاساسي ولكن ذلك لا يعني عدم امكانية تجزئة الكتيبة، كما لا يعني عدم توافر القدرة لزج اكثر من كتيبة على مسرح للاعمال القتالية اذا ما تطلب الموقف القتالي ذلك. غير ان ذلك يعني وبوضوح ودقة ان الكتيبة تمتلك قدرة حركية عالية وقدرة نارية كثيفة. وقوة صدمة كافية، وقدرة دعم اداري منظم ومضمون بحيث يمكن لها خوض معركة على مسرح للعمليات بصورة مستقلة، مع توافر القدرة للتعاون مع قوات اخرى برية او بحرية او جوية بقوات محمولة لخوض معارك كبرى. ولا ريب ان المرونة الكبيرة لما تتميز به هذه القوات، والافادة من قدرة الافادة من مبادىء الحرب المباغتة والمبادأة الخ.. قد ضمن لقوات الهجوم افضل متطلبات النجاح في المعركة الحديثة والمتطورة للاسلحة المشتركة اذ تضم الكتيبة في تنظيمها المشاة والمدفعية والاسلحة الصاروخية والمدرعات الخفيفة وبقية الوسائط القتالية المساعدة والتكميلية.
لعل من أهم ميزات التنظيمات القتالية الحديثة ممثلة بقوات التدخل السريع هي قدرتها على الاضطلاع بالواجبات القتالية المتنوعة، الهجومية منها والدفاعية، والأعمال الخاصة والعمليات المشتركة، لكن مقابل ذلك، نفقات تنظيم هذه القوات وتسليحها بأفضل الأسلحة، واختيار جنودها من بين نخب المتطوعين، وتجهيزها بأحسن وسائط التقانة، قد يتجاوز كثيراً حدود نفقات تنظيم وحدات تقليدية مسلحة بالأسلحة العادية. وتظهر هنا اهمية المعادلة بين نفقات الجيوش النوعية الصغيرة الحجم، والجيوش الكمية ذات الكتل البشرية الضخمة. وتجدر الاشارة هنا الى ان النظام الاشتراكي كان يعتمد في تنظيمه على الكتل البشرية الكبرى باعتبارها الوسيلة لحل مشكلة البطالة، ولوضع كتل الجماهير تحت السيطرة. ولكن نتائج الأبحاث والدراسات قد اكدت ان استنزاف القدرة البشرية المنتجة في عمر الانتاج هو أكثر ضرراً بالاقتصاد الوطني والقومي من متطلبات الانفاق على الجيوش النوعية. يمكن بعد ذلك التعرض لقضية مهمة وهي ان الانتشار الواسع لكتائب الجيوش النوعية على صفحة الوطن العربي الكبير ذو الابعاد الجيو - استراتيجية الكبرى. قد يشكل عقبة امام دمج قوات الاقطار العربية - للعمل بصورة مشتركة ومتكاملة. وهنا ايضاً يمكن الاشارة الى التجربة الأوروبية تنظيم حلف شمال الاطلسي - ناتو، والتجربة العربية مجلس التعاون الخليجي اذ بالمستطاع تقسيم الوطن العربي الى عدد من مناطق العمليات مثل منطقة حوض النيل ومنطقة المغرب العربي ومنطقة الجزيرة العربية ومنطقة بلاد الشام التي تضم سوريا والعراق والاردن وفلسطين ولبنان. ويبقى لكل منطقة عمليات قيادتها وهيئة اركانها وقواتها الضاربة واحتياطها الاستراتيجي الخ. وتتم ادارة هذه المناطق في مقر القيادة المركزية التي يمكن لها اقامة عدد من المراكز في كل المناطق. ولا ريب ان التبديل في مناطق انتشار القوات بصورة دورية، والمناورات والتمارين المشتركة كافية لتطوير روح العمل المشترك ولدعم قدرة التعاون القتالي. ولا ريب ان تطور تقانة الاتصالات، سيكون له الدور الحاسم لتأمين متطلبات النظيم الجديد للجيش العربي المشترك.
يظهر ذلك ان ما هو مطلوب من جهد لاعادة التنظيم على صعيد الوطن العربي الكبير، هو جهد يصعب تقويمه، اذ انه يتجاوز كل التوقعات واذا كان الجهد السياسي المبذول او المتوقع بذله سيكون جهداً كبيراً. فلا ريب ان الجهد المطلوب لانجاز الواجب العسكري سيكون في حجم ونوع اعادة التنظيم السياسي للوطن العربي. غير ان طموح الشعب العربي - ونخبه البناءة - كفيل بتذليل كل الصعاب.
٤ - الفرصة التاريخية الحاسمة
مما لا ريب فيه ان الثورة العربية الكبرى قد وضعت الشعب العربي وقياداته السياسية والعسكرية بصورة خاصة في مواجهة فرصة تاريخية حاسمة. واقام مرحلة تاريخية رائعة لاعادة بناء المجتمع العربي بكل مكوناته، فلا غرابة بالتالي اذا ما تضافرت جهود اعداء الشعب العربي لصناعة كل انواع العوائق والصعوبات المادية والمعنوية لابعاد الشعب العربي عن اهدافه. ولقد اظهر البحث مدى الحاجة لاستنفار القيادات العسكرية في كل اقاليم الوطن العربي واختيار الكفاءات المتوافرة أفضلها وأكملها علماً وخبرة وقدرة لاعادة التنظيم الشامل بداية من اعادة تنظيم الهياكل القيادية ومروراً بتنظيم القوى في كل اقليم بما يحقق مبدأ الاقتصاد في القوى ويضمن التوازن. وتبقى القاعدة الاقتصادية هي الحكم الفيصل بحيث تتم الافادة من تجارب الماضي لتحقيق التوازن بين بناء القدرة العسكرية وتطوير القدرات الاقتصادية العربية ولقد اظهر مضمون البحث الحجم الكبير لمتطلبات اعادة التنظيم العسكري العربي. وقد يكون من المحال توقع تحقيق انجازات سريعة في هذا المجال وبذلك يمكن القول ان اعادة التنظيم العسكري هي نموذج حقيقي للثورة العربية المستمرة التي لا يمكن لها ان تتوقف وقد يكون ذلك امراً بديهياً. فالتقانة في تطور متسارع، والتحديات الثقيلة مستمرة. بل ربما قد تأخذ شكل خط بياني صاعد، ويبرز هنا وبوضوح دور جيل الرواد من قادة المرحلة الراهنة الذين سيمارسون دورهم لبناء مستقبل تمتد آفاقه بعيداً على طريق صعود الأجيال القادمة والذين سيحفظون لجيل الرواد فضلهم في مجابهة التحديات والتي لا بد من الاعتراف بخطورتها وصعوباتها. وهل من حاجة بعد ذلك للقول انه من المحال تحقيق التوازن الاستراتيجي العربي الا اذا جاءت عمليات اعادة التنظيم ضمن حدود مجابهة التحديات؟ وهل من قطر عربي مهما توافر له من قدرات نوعية، يستطيع وحده مجابهة كل التحديات الغربية؟ ومقابل ذلك هل من قطر عربي يستطيع بعد قراءة مجموعة الاحداث والتطورات التي عرفها العالم في العام ٢٠١١، ان يعزل نفسه عن مواكبة تطور الاقطار العربية مجتمعة؟ قد تكون الاجابة على مثل هذه التساؤلات - الكثيرة والمتنوعة - متوافرة فيما أعلنه شباب الثورة العربية في كل اقطارهم وفيما اعتمدته القيادات السياسية والعسكرية، في مواكبتها للتحركات الثورية، وهي القيادات التي برهنت في كثير من ممارساتها التزامها بارساء دعائم الحريات والديمقراطية وحقوق المواطنين، وكان البرهان على ذلك تعهد قيادات كثيرة بانهاء دورها القيادي حالما يتم وضع اسس الهيكلية الشرعية للنظام العربي الجديد.
لقد كان تطور الأحداث الثورية طوال ايام العام ٢٠١١، برهاناً على انه كان من المحال استمرار النظام العربي السابق لتفجر الثورة، بسبب تضافر عوامل كثيرة مارست دورها في احتضان التخمرات الثورية بعيداً عن انظار اصحاب النظام القديم، واعوانه ومستثمريه وكل مكوناته وكان للجيش في تونس ومصر بخاصة دور رائع في احتضان الثورة ومواكبة تحركاتها والاستجابة لتطلعاتها في ظروف استثنائية لها خصوصيتها ولكن ما تحقق لم يشكل الا المرحلة التمهيدية للثورة، ولا بد بالتالي من العودة لقاعدة الثورة حتى لا تقتصر القوى المضادة للثورة داخلياً وخارجياً. وليس المطلوب بالتأكيد العودة الى نظام الدولة الأمنية وانما المطلوب هو اقامة الدولة الآمنة التي تعيد للمواطن العربي ثقته المفقودة بقيادته ومجتمعه وحتى وطنه. ويقع الواجب الأول في اعادة بناء الثقة على القوات المسلحة من جيش وأجهزة امن وأجهزة استخبارات كمثل ما هو عليه وضع معظم دول العالم وشعوبه التي تنعم بانتمائها لأوطانها. ومقابل ذلك، لا بد ايضاً من معالجة ما ظهر من انحرافات مدمرة في علاقات مكونات المجتمع المدنية والعسكرية اجهزة الحكم والشعوب المحكومة مما تتسبب في احداث تشققات وتقرحات قد تدمر ما هو مطلوب من تماسك وتعاون ومشاركة حقيقية لاعادة بناء مجتمع ما بعد الثورة ومرة اخرى فعندما يضيق الوعاء بما يحتويه، لا بد من وعاء اكثر اتساعاً وأكبر حجماً لاستيعاب ما يحتويه الوعاء الصغير. ويعني ذلك ببساطة الحاجة الملحة لبناء هيكل المجتمع العربي الجديد بأبعاده الجغرافية الكبيرة وقدراته البشرية الحيوية والمبدعة، وامكاناته الاقتصادية المتوافرة، وبكل موروثه الديني والقومي والوطني وفضائله الاخلاقية وقيمه الانسانية بعيداً عن الشوائب الفكرية الفاسدة، والتي برهنت الاحداث على امتداد خمسة او ستة عقود من عمر الزمن على انها اصبحت غير صالحة للاستعمال وفاقدة الصلاحية للعمل.
ويبقى الجيش العربي بعد اعادة التنظيم هو جيش الأمة العربية بكل مكونات هذه الأمة وقد يكون من المفيد في نهاية البحث التعرض لحادثة صغيرة في حجمها وكبيرة جداً في مضمونها ففي منتصف عقد الخمسينات كان ضابط في جيش عربي يتحدث بصورة عادية على مائدة للطعام عندما قال ارى أن جيشي يستحق كذا. وقامت الدنيا ولم تقعد من حول هذا الضابط ذو الرتبة الرفيعة آنذاك، اذ كيف سمح هذا القائد لنفسه ان ينسب الجيش لشخصه عندما قال جيشي؟ وكيف يمكن لجيش الشعب والامة ان يصبح ملكاً لشخص مهما علا شأنه. ولم تصل القصة نهايتها الا بعد صرف الضابط من الخدمة. والأمل معقود على بناة الجيش العربي الجديد ان يكون جيش الامة العربية وحامي وجودها والمدافع عن سيادتها وحقها في حياة جديرة بشعب عظيم.