أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

a_aziz

عضو
إنضم
23 ديسمبر 2007
المشاركات
9,399
التفاعل
267 0 0
أسرار الأزمة فى الجزائر
ليتنى أستطيع أن أتفاءل مع المتفائلين، الذين مازالوا حتى هذه الدقيقة يأملون فى معجزة تنقذ وحدة الثورة الجزائرية.

ورأيى الشخصى -و من قلبى أتمنى لو كنت مخطئاً- هو أن الخلاف بين قادة الثورة الجزائرية قد تجاوز النقطة التى يمكن الرجوع منها، ومشى بعدها على طريق اللاعودة.
والاحتمال الوحيد الذى بقى لأحلامى فى حدوث المعجزة، هو أن لا يصل الخلاف بين قادة الثورة الجزائرية إلى حد الصدام المسلح، وأن يتمكن هؤلاء القادة فى الساعة الرابعة والعشرين من إيجاد مخرج سلمى لما وقع بينهم.
وإيجاد مثل هذا المخرج السلمى لم يعد ضرورياً فقط لتكريم النضال الجزائرى الذى طال بالتضحية والألم، وإنما هو ضرورى فى نفس الوقت لسلامة الأمة العربية كلها، وسلامة روحها المعنوية وثقتها بنفسها.
 
رد: أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

أخشى ما أخشاه إذا لم يتحقق إيجاد مثل هذا المخرج السلمى أن يضيع استقلال الجزائر بعد الثمن الغالى الذى دفع فيه.
وأخشى ما أخشاه أيضاً -إذا لم يتحقق مثل هذا المخرج السلمى أن تكون الصدمة قاسية على الأمة العربية، تتصور معها أن لعنة الخلافات تطاردها، وأن التمزق من الداخل قدر مكتوب عليها، وأنها دائماً تلحق بنفسها من الأضرار ما لا يستطيع أعداؤها إلحاقه بها.
ولقد عدت من رحلة سريعة إلى المغرب العربى، قابلت فيها جميع قادة ثورة الجزائر، وجميع المتصلين بالمشكلة فى الشمال الأفريقى، وكان رأيى بعد كل ما سمعته ورأيته:
أولاً- أن الخلاف بين قادة الثورة فى الجزائر عميق، ثم هو قديم ومستمر.
ثانياً- أن محاولة التوفيق بين قادة الثورة الجزائرية أصبحت مشكلة بعد أن خرج الخلاف العمـيق، القديم، المستمر بينهم إلى المسرح المكشوف بالقرار الذى أصدرته الحكومة بعزل هيئة أركان حرب جيش التحرير الجزائرى.
 
رد: أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

ثالثاً- أن جميع الجهود الآن يجب أن توجه إلى تجنب الصدام المسلح، أو بمعنى أوضح إلى منع حرب التحرير فى الجزائر من أن تتحول إلى حرب أهلية فى الجزائر.
ولقد أشفقت على بلدى - الجمهورية العربية المتحدة - هذا البلد المناضل الصابر، فى محاولته المخلصة، وهو يسعى بشرف وإيمان من أجل معجزة كان يبدو أمام عينى فى المغرب العربى وكأنه فات أوانها.
لكنى كنت أعتقد على أى حال أن المعجزة تساوى كل جهد يبذل من أجلها مهما كان من قوة رياح الفتنة التى رأيتها تعصف بشموع الأمل وتبتلع شعلاتها بشراهة جنى كان محبوساً فى قمقم ثم انطلق منه فجأة بعد كبت طويل!
وفى ليلة واحدة سمعت كلمتين، كل منهما تلخص وجهة نظر فى الخلاف الرهيب بين قادة الثورة الجزائرية...
فى الفجر، فى بنغازى، قال لى بن بيللا:
- إنى أعتقد أن الجمهورية العربية المتحدة لها حق كبير فى ثورة الجزائر، وأقول لك من غير تردد إننى على استعداد لأن أموت من أجل الجمهورية العربية اعترافاً منى بما قدمته لثورة الجزائر.
 
رد: أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

إنى أقبل من الجمهورية العربية المتحدة كل ما تريده، إلا أن تطلب منى دخول الجزائر مع الحكومة القائمة.
لو رضيت بمثل هذا فأنا أخون رفقاء المعركة الذين تحملوا على أكتافهم عبء سنوات طويلة من الكفاح المسلح.
كيف يمكن أن أرضى بدخول الجزائر مع الحكومة بينما قيادة جيش التحرير التى تحملت ضراوة المعركة، معزولة فى يوم نصرها الذى جاهدت له!
وبعدها بساعات كنت أسمع وجهة النظر الثانية، فى الصباح، فى تونس، وكنت أسمعها من السيد سعد دحلب. وزير الخارجية فى حكومة الجزائر، قال لى سعد دحلب:
نحن نريده -يقصد بن بيللا- أن يدخل إلى الجزائر، لكنه إذا لم يدخل فعليه وحده ستكون الخسارة!
إن الناس فى الجزائر بعد كل الذى قاسوه لن يهتموا بأى فرد مهما كان دوره، ولو دخل اليوم إلى الجزائر اثنا عشر تلميذاً من تلاميذ المدارس الابتدائية، وقالوا للشعب: نحن حكومة الجزائر، لجن الناس بهم فرحاً، ولمزقوا أكفهم بالتصفيق لهم.
 
رد: أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

بعدها بساعات كنت مرة أخرى مع بن بيللا، ومن عجب أنه بدأ فى حديثه معى، وكأنه بدون سؤال منى، يرد على ما قاله لى سعد دحلب... قال لى بن بيللا:
- أنا أعلم أن الحكومة تتصور أن هذه هى الفرصة السانحة لها لكى تتخلص من جيش التحرير ومنى، إنهم يظنون أنه فى لحظة النصر سوف ينسى الشعب كل شئ... إلا شعار الاستقلال، والعلم الجديد له، ومجرد أنه قد أصبحت له بعد أكثر من مائة وثلاثين سنة حكومة جزائرية!
إنهم يظنونها الفرصة التى لن تعود... لكنى أختلف معهم!
إن التصفيق يستمر أياماً... وليالى الفرح تنتهى، ثم يستيقظ الناس فى الصباح ويسألون أنفسهم أسئلة كثيرة.
والتفت إلى بن بيللا وموجة حزن تهز نظرات عينيه... وتهز أيضاً نبرات صوته:
 
رد: أسرار الأزمة فى الجزائر بعد الاستقلال بقلم حسنين هيكل

- هل تظن أنه كان من السهل على بعد كل ما كان أن لا أرى الجزائر يوم الاحتفال بالاستقلال؟
وسكت بن بيللا..
وسكت أنا أيضاً احتراماً لمشاعره... أو لتأثره.
وفى لحظات الصمت كانت خواطرى كلها هناك فى الجزائر فى وطن عربى قاسى كثيراً، ومازال أمامه كثير يقاسيه!
ما الذى جرى حتى تعقدت المشكلة إلى هذا الحد، ووصلت الأمور إلى بداية طريق اللاعودة - ولعلى أكون مخطئاً - بين قادة ثورة الجزائر؟
لقد شرحت فى الأسبوع الماضى أسباب الخلاف الطبيعية بين قادة الثورة فى الجزائر، وحاولت أن أكتشف جذورها ومظاهرها بقدر ما تسمح الظروف..
عددت فى الأسبوع الماضى أربعة خلافات:
- الخلاف داخل جبهة التحرير وهو أصلاً مجموعة قوى وأحزاب، أولها جيش التحرير الذى بدأ النضال المسلح ضد الاستعمار الفرنسى سنة 1954، وثانيها جماعة المكتب السياسى الذين انفصلوا عن حركة مصالى الحاج والذين عارضوا النضال المسلح فى بدايته ثم انضموا إليه بعد سنة كاملة كان قد أثبت فيها نجاحه سنة 1955، وثالثها بعض جماعة حزب البيان الذين انضموا إلى جبهة التحرير سنة 1956.
 
عودة
أعلى