خالد بن الوليد .. رائد إستراتيجية الهجوم غير المباشر
شكل علم ” الاستراتيجية ” أحد العلوم التي طالما تفاخر بها الباحثون الغربيون على نظرائهم من مختلف الجنسيات الأخرى ، ليس فقط لكونه – من وجهة النظر الغربية – نشأ في أحضان المدرسة الفكرية الغربية ، ولكن أيضا لأن الغالبية العظمى ممن يتم تدريس أفكارهم على أنها رؤى ونظريات استراتيجية هم من الأوروبيين ، سواء القدماء منهم أم المحدثون . ووصل الأمر لدرجة أن المدارس والمعاهد الاستراتيجية في مختلف أنحاء العالم تكاد تقتصر دراستها على ما تصدره إليها المدرسة الاستراتيجية الغربية بفروعها المختلفة .
وتتجاهل هذه النظرة ، التي لا تخلو من رواسب عنصرية استعمارية ، وجود قادة إسلاميين وأصحاب ورؤى وتجارب تأسست عليها كافة القواعد والمبادئ ” الاستراتيجية ” ،والتي ما يزال الغرب ينهل منها حتى الآن رغم بعد الزمان ورغم إنكارهم أو تحاشيهم ذكر هؤلاء القادة . ..حتى أن من يتابع -من خلال المصادر الغربية في الاستراتيجية – ما نجح فيه المسلمون خلال حقبة تاريخية طويلة من بناء إمبراطورية مترامية الأطراف ، سادت العالم لعدة قرون ،يكاد يصل إلى أن ذلك أما جاء بالمصادفة أو أنه جاء دون قيادات وعقول استراتيجية على أعلى مستوى من الكفاءة .بينما الحقيقة أن تاريخنا السياسي والعسكري ملئ بهؤلاء القادة الاستراتيجيين ، ساسة وعسكريون ، الذين نجحوا في تقويض أركان الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية خلال فترة زمنية قياسية ، كما أنهم وخلال فترة قياسية نجحوا في التحول من حالة البدواة والرعي إلى بناة واحدة من ارقي المدنيات التي عرفها العالم وذلك وفق مبادئ استراتيجية في التخطيط الاستراتيجي للصراع مع الحضارات الأخرى سياسيا وعسكريا وفى مجال البناء على كافة المستويات .
وعلى الرغم من أن الخبير العسكري المشهور ليدل هارت قد ألف العديد من الكتب حول الاستراتيجية ، فكرا وتاريخيا وتنظيرا، إلا انه تجاهل بشكل تام أي إشارة للحضارة الإسلامية وقادتها ، وكان هذا التجاهل مستفزا بشكل خاص في كتابه ” الاستراتيجية وتاريخها في العالم ” ، إذ انه قدم نظرة “بانورامية ” لجذور الاستراتيجية وتطورها التاريخي بدءا من الحروب اليونانية ومعارك القائد القرطاجي هانبيال ، ثم يستعرض المؤلف الحروب البيزنطية ويركز بشكل خاص على بيليزيز الذي هزم الفرس في معركة داراس . وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى حروب القرون الوسطى مشيدا بالفكر الاستراتيجي للقائد المغولي جنكيز خان ، ثم يحلل معارك القرن الثامن عشر وبشكل خاص معارك مارلبورو وفريدريك الثاني . ثم ينتقل ليدل هارت إلى الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت ، ويتناول بعد ذلك حرب القرم ، والحرب الأهلية الأمريكية ، ويختتم المؤلف رحلته بتحليل الاستراتيجيات التي تم استخدامها في الحرب العالمية الأولى والثانية ، وهكذا ينهي المؤلف استعراضه دون إشارة واحدة إلى الفتوحات العربية الإسلامية ولا إلى القادة العسكريين والاستراتيجيين العرب .
وهذه النظرة العنصرية لهارت ، تبرز بشكل خاص في تجاهله لعبقرية عسكرية إسلامية في وزن القائد العسكري المسلم خالد بن الوليد ، والذي يعد واحدا من ابرز القادة العسكريين الذين أسسوا القواعد الاستراتيجية في العلوم والخطط العسكرية وطريقة إدارة الحروب وكان هو الأسبق في تأسيس استراتيجية الهجوم غير المباشر على مر التاريخي العسكري الإنساني ، وهي الاستراتيجية التي ركز عليها ليدل هارت في كتابه وشرحها دون الإشارة إلى القائد الاستراتيجي الأول الذي وضع قواعدها وطبقها لأول مرة في التاريخ الإنساني كله فعبقرية بن الوليد لم تكن في تقسيم الجيوش لأول مرة إلى ميمنة وميسرة وقلب فقط أو بالأساس بل كانت عبقريته في بدء استراتيجية الهجوم غير المباشر كنمط لترتيب وتحضير الجيوش والخطط وفى إدارة القتال بل وفى تحديد أهداف القتال . ففي معركة احد التي انتصر المسلمون في مرحلتها الأولى ، خالف الرماة الذي وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم خلف جيش المسلمين التعليمات المعطاة لهم بعدم الحركة والاشتراك في القتال إلا بأمره ، واندفعوا إلى المعركة ، ولاحظ خالد بن الوليد الذي كان يحارب في صفوف قريش هذا الخطأ ، كما لاحظ الضعف الذي انتاب ترتيب المسلمين الهجومي فأستغل الفرصة والتف على جيش المسلمين وهاجمهم من الخلف ، فكانت هذه الحركة التكتيكية -التي ترقى إلى الخطة الاستراتيجية في إدارة المعركة – سببا في اختلاط المسلمين وهزيمتهم .
وفي معركة مؤته كانت قوات المسلمين مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة زيد بن حارثة . وعندما نزل هذا الجيش في معان ، كان هرقل قد أقام معسكره في مآب ، ومعه جيش من الروم تعداده مائة ألف مقاتل مع مائة ألف من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء ، وتقدم جيش المسلمين من معان إلى مؤته والتقى الفريقان على مرزعة قرب مؤته وقاتل المسلمون حتى قتل زين بن حارثة ثم قتل جعفر بن أبي طالب وقتل عبد اله بن أبي رواحة وتسلم خالد بن الوليد القيادة .
درس خالد الموقف فوجد أن أحسن السبل هو الانسحاب ، وتحت ستار الليل تمكن من تغيير ترتيب الجيش فنقل الميسرة إلى الميمنة والميمنة إلى الميسرة ، ووضع المقدمة مكان المؤخرة والمؤخرة محل المقدمة ، ووضع خلف الجيش مجموعة من الجنود يثيرون الغبار ويحدثون جلبة عند طلوع الصباح . وتمكن بذلك من خداع الروم والغساسنة وامَن الانسحاب . وخشي الروم من اللحاق به خوفا من الوقوع في كمين . وتبين هذه العملية كيف استطاع قائد محنك كخالد بن الوليد أن يخدع جيشا اكبر منه بثمانين مرة وان يثبته وينسحب انسحابا استراتيجيا رائعا .
ويعد ما فعله خالد بن الوليد في معركة “أحد ” تطبيقا رائعا لاستراتيجية الهجوم غير المباشر التي أشاد بها ليدل هارت في كتابه ، والتي تهدف إلى مفاجأة الخصم من ناحية غير متوقعة ، حيث يعتبر هارت أن الإخلال بتوازن العدو قبل محاربته ، نفسيا وماديا ، هو المقدمة التي لا غني عنها لتدميره والقضاء عليه .
ورغم هذه العقلية العسكرية الفذة ، فان بعض المؤرخين الغربيين يرجعون نجاح المسلمين في إسقاط الإمبراطوريتين الفارسية والرومية أمام جيوش المسلمين إلى تسلح هؤلاء بعقيدة جديدة ، وهو أمر أساسي ولاشك لكنه يهدف إلى إغفال -مع سبق الإصرار والترصد – أن هذه العقيدة صنعت قادة خاضوا الحروب وفق رؤى حرفية أعلى من خصومهم وكان في قيادتهم وفكرهم الاستراتيجي تطويرا جديدا في علوم الاستراتيجية ..كما انه يغفل أن قادة مسلمين انهزموا في بعض المعارك -رغم انتمائهم عقيدة وإيمانا إلى الإسلام -حين لم يحسنوا قراءة الأبعاد العسكرية للمعارك التي خاضوها ، وقد رد الأستاذ محمود عباس العقاد على هذا الزعم الغربي مشيرا إلى أن ” الذين انتصروا بالعقيدة كانوا أيضا رجالا أولى خبرة وقدرة ، فانهزم عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة حيث انتصر خالد بن الوليد ، وسبق خالد بن الوليد في فتح الشام قائد آخر هو خالد بن سعيد ، لكن غرر به الروم ، حتى استدرجوه إلى مرج الصفر ، ولولا يقظة الخليفة وتلاحق إمداده بالجنود والعتاد لقضوا عليه ” .
وكانت سيرة خالد بن الوليد تسبقه إلى صفوف أعدائه وتنشر أخباره رغم ضعف المواصلات في ذلك الوقت ، وبنفس الأسلوب الذي كانت تنتشر فيه أخبار وسمعة القائد الألماني روميل في صحراء ليبيا وشمال أفريقيا إبان الحرب الثانية .
وإذا رجعنا إلى كتاب ليدل هارت مرة أخرى ، وقارنا بين ما فعله خالد بن الوليد في معركة ” أحد ” وبين ما قام به بيليزير في معاركه التي شرحها هارت ، مشيدا بقدرته على الهجوم غير المباشر من خلال خلق ثغرة في نقطة ارتكاز حساسة في تشكيلة العدو مما يؤدي إلى تفتيتها وتفكيكها .. لوجدنا أن ذلك هو ما فعله خالد بالتحديد ، حيث عندما لحقت مؤخرة الجيش الإسلامي بالجنود الذين يجمعون الغنائم ، انقض عليهم من الخلف ، وحقق انتصارا لم يكن متوقعا لجيش قريش . ..وتلك من حكم المولى سبحانه وتعالى الذي أعطى درسا مبكرا للمسلمين في إتباع الخطط الاستراتيجية التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم ..كما كانت تأكيدا على دراسة وفهم الحروب والصراعات السياسية كعلوم لها قوانينها إلى جانب أنها محكومة ومضبوطة بأوامر الشرع ومقاصده .
وإذا قارنا بين حركات خالد بن الوليد والقائد مارلبورو ، لوجدنا أن الأخير قام بحركة واسعة بعيدة عن قاعدته بعدة أميال كي يمنع العدو من اكتشاف هدفه الحقيقي . وهذا ما سبقه إليه خالد بعدة قرون ، سواء من خلال استراتيجية الهجوم من عدة جهات في وقت واحد أما بالكمين أو المفاجأة ، فعندما أرسله الخليفة أبو بكر الصديق لنجدة الشام من العراق ، اتخذ طريق الحيرة إلى دومة ، ثم عرج من طرق غير مطروقة إلى قراقر ، حيث أراد أن يسلك إلى المفازة ومنها إلى سوى ، لأنه لو اتخذ الطرق المألوفة إلى المفازة لوجد جيش الروم أمامه ، ومنعه ذلك عن الوصول إلى جيش المسلمين ونجدته . ولذا فانه قام بحركة التفاف واسعة حول جناح العدو فابتدأ من قراقر بعد اجتياز وادي السرحان عبر الصحراء مسافة مائتي ميل في أرض لا ماء فيها إلى أن وصل إلى سوى ، ثم تحرك منها إلى تدمر والغوطة فبصري ، ثم اتصل بجيش المسلمين في درعا ، وكان وصوله مفاجأة استراتيجية رائعة
لجيش الروم .
وإذا سايرنا الجنرال جلوب في كتابه ” الفتوحات العربية الكبرى ” ، فيما ذهب إليه من أن خالد بن الوليد أراد من وراء تلك الحركة الالتفافية الواسعة تهديد دمشق وإرغام جيش الروم على ترك مواقعه الدفاعية في درعا ، فإننا يمكننا اعتبار هذه الحركة التي تحمل كل صفات الهجوم الاستراتيجي غير المباشر ، واحدة من ابرع الحركات الاستراتيجية في التاريخ .
وفي معركة اليرموك وقبل المعركة الرئيسية ، كان عمرو بن العاص وحيدا في بئر السبع ، وعزم الروم على القضاء على جيشه منفردا إلا أن قوات المسلمين اختفت فجأة من منطقة اليرموك ، وراحت تسرع المسير ليلا ونهارا من اجل نجدة بن العاص ، وقامت هذه القوات خلال مسيرها بحركات استراتيجية بارعة ، حيث تدفق المسلمون عبر المضيق ، وعبر وادي عربة ثم إلى سهل بئر سبع ، ووقعت معركة أجنادين ومني فيها الروم بهزيمة ساحقة . وكانت هذه المعركة مقدمة نفسية ومادية لمعركة اليرموك ، وحطمت مخططات العدو الهجومية المعاكسة ، ولم يبق أمام العرب سوى التصدي لحصون اليرموك .
وأمام حصون اليرموك تمكن خالد بن الوليد من القيام بحركة بارعة نجح خلالها في فصل مشاة الروم عن خيالتهم ، وذلك من خلال إفساح الطريق للخيل كي تفر أمام ضغط المسلمين فعاد مشاة الروم إلى خنادقهم وهم محرومون من دعم الخيالة . فالتف عليهم العرب فولوا هاربين إلى وادي الرقاد أو هوة الواقوصة . وهكذا تم الهجوم غير المباشر الاستراتيجي والتكتيكي وكانت هذه المعركة حاسمة في التاريخ إذ فتحت أبواب سوريا أمام الزحف الإسلامي .
ومن المواقف التي توضح بجلاء رؤية خالد بن الوليد العسكرية الاستراتيجية ، ما قام بفعله بعدما غنم السفن الفارسية بعد واقعة أليس . لقد اركب خالد جيشه هذه السفن إلا أن الفرس عندما علموا بذلك منعوا النهر بان أغلقوا سدود الحيرة فجف الماء . فما كان من خالد إلا أن أرسل بعض قواته لاحتلال القناطر وإطلاق المياه وحراستها ، وتبدو هذه العملية إذا ما قورنت باحتلال جسور الرين لتأمين عبور الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية الأحكم تخطيطا والأدق تنفيذا . كما يمكن مقارنة تلك العملية بعملية احتلال جزيرة كريت من قبل القوات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية . والفرق هنا أن قوات خالد ركبت الجمال أو الخيول بينما ركبت القوات الألمانية الجو ليتحقق لكليهما مفاجأة استراتيجية .
منقول الكاتب ..مصطفى عبد الجواد
وتتجاهل هذه النظرة ، التي لا تخلو من رواسب عنصرية استعمارية ، وجود قادة إسلاميين وأصحاب ورؤى وتجارب تأسست عليها كافة القواعد والمبادئ ” الاستراتيجية ” ،والتي ما يزال الغرب ينهل منها حتى الآن رغم بعد الزمان ورغم إنكارهم أو تحاشيهم ذكر هؤلاء القادة . ..حتى أن من يتابع -من خلال المصادر الغربية في الاستراتيجية – ما نجح فيه المسلمون خلال حقبة تاريخية طويلة من بناء إمبراطورية مترامية الأطراف ، سادت العالم لعدة قرون ،يكاد يصل إلى أن ذلك أما جاء بالمصادفة أو أنه جاء دون قيادات وعقول استراتيجية على أعلى مستوى من الكفاءة .بينما الحقيقة أن تاريخنا السياسي والعسكري ملئ بهؤلاء القادة الاستراتيجيين ، ساسة وعسكريون ، الذين نجحوا في تقويض أركان الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية خلال فترة زمنية قياسية ، كما أنهم وخلال فترة قياسية نجحوا في التحول من حالة البدواة والرعي إلى بناة واحدة من ارقي المدنيات التي عرفها العالم وذلك وفق مبادئ استراتيجية في التخطيط الاستراتيجي للصراع مع الحضارات الأخرى سياسيا وعسكريا وفى مجال البناء على كافة المستويات .
وعلى الرغم من أن الخبير العسكري المشهور ليدل هارت قد ألف العديد من الكتب حول الاستراتيجية ، فكرا وتاريخيا وتنظيرا، إلا انه تجاهل بشكل تام أي إشارة للحضارة الإسلامية وقادتها ، وكان هذا التجاهل مستفزا بشكل خاص في كتابه ” الاستراتيجية وتاريخها في العالم ” ، إذ انه قدم نظرة “بانورامية ” لجذور الاستراتيجية وتطورها التاريخي بدءا من الحروب اليونانية ومعارك القائد القرطاجي هانبيال ، ثم يستعرض المؤلف الحروب البيزنطية ويركز بشكل خاص على بيليزيز الذي هزم الفرس في معركة داراس . وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى حروب القرون الوسطى مشيدا بالفكر الاستراتيجي للقائد المغولي جنكيز خان ، ثم يحلل معارك القرن الثامن عشر وبشكل خاص معارك مارلبورو وفريدريك الثاني . ثم ينتقل ليدل هارت إلى الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت ، ويتناول بعد ذلك حرب القرم ، والحرب الأهلية الأمريكية ، ويختتم المؤلف رحلته بتحليل الاستراتيجيات التي تم استخدامها في الحرب العالمية الأولى والثانية ، وهكذا ينهي المؤلف استعراضه دون إشارة واحدة إلى الفتوحات العربية الإسلامية ولا إلى القادة العسكريين والاستراتيجيين العرب .
وهذه النظرة العنصرية لهارت ، تبرز بشكل خاص في تجاهله لعبقرية عسكرية إسلامية في وزن القائد العسكري المسلم خالد بن الوليد ، والذي يعد واحدا من ابرز القادة العسكريين الذين أسسوا القواعد الاستراتيجية في العلوم والخطط العسكرية وطريقة إدارة الحروب وكان هو الأسبق في تأسيس استراتيجية الهجوم غير المباشر على مر التاريخي العسكري الإنساني ، وهي الاستراتيجية التي ركز عليها ليدل هارت في كتابه وشرحها دون الإشارة إلى القائد الاستراتيجي الأول الذي وضع قواعدها وطبقها لأول مرة في التاريخ الإنساني كله فعبقرية بن الوليد لم تكن في تقسيم الجيوش لأول مرة إلى ميمنة وميسرة وقلب فقط أو بالأساس بل كانت عبقريته في بدء استراتيجية الهجوم غير المباشر كنمط لترتيب وتحضير الجيوش والخطط وفى إدارة القتال بل وفى تحديد أهداف القتال . ففي معركة احد التي انتصر المسلمون في مرحلتها الأولى ، خالف الرماة الذي وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم خلف جيش المسلمين التعليمات المعطاة لهم بعدم الحركة والاشتراك في القتال إلا بأمره ، واندفعوا إلى المعركة ، ولاحظ خالد بن الوليد الذي كان يحارب في صفوف قريش هذا الخطأ ، كما لاحظ الضعف الذي انتاب ترتيب المسلمين الهجومي فأستغل الفرصة والتف على جيش المسلمين وهاجمهم من الخلف ، فكانت هذه الحركة التكتيكية -التي ترقى إلى الخطة الاستراتيجية في إدارة المعركة – سببا في اختلاط المسلمين وهزيمتهم .
وفي معركة مؤته كانت قوات المسلمين مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة زيد بن حارثة . وعندما نزل هذا الجيش في معان ، كان هرقل قد أقام معسكره في مآب ، ومعه جيش من الروم تعداده مائة ألف مقاتل مع مائة ألف من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء ، وتقدم جيش المسلمين من معان إلى مؤته والتقى الفريقان على مرزعة قرب مؤته وقاتل المسلمون حتى قتل زين بن حارثة ثم قتل جعفر بن أبي طالب وقتل عبد اله بن أبي رواحة وتسلم خالد بن الوليد القيادة .
درس خالد الموقف فوجد أن أحسن السبل هو الانسحاب ، وتحت ستار الليل تمكن من تغيير ترتيب الجيش فنقل الميسرة إلى الميمنة والميمنة إلى الميسرة ، ووضع المقدمة مكان المؤخرة والمؤخرة محل المقدمة ، ووضع خلف الجيش مجموعة من الجنود يثيرون الغبار ويحدثون جلبة عند طلوع الصباح . وتمكن بذلك من خداع الروم والغساسنة وامَن الانسحاب . وخشي الروم من اللحاق به خوفا من الوقوع في كمين . وتبين هذه العملية كيف استطاع قائد محنك كخالد بن الوليد أن يخدع جيشا اكبر منه بثمانين مرة وان يثبته وينسحب انسحابا استراتيجيا رائعا .
ويعد ما فعله خالد بن الوليد في معركة “أحد ” تطبيقا رائعا لاستراتيجية الهجوم غير المباشر التي أشاد بها ليدل هارت في كتابه ، والتي تهدف إلى مفاجأة الخصم من ناحية غير متوقعة ، حيث يعتبر هارت أن الإخلال بتوازن العدو قبل محاربته ، نفسيا وماديا ، هو المقدمة التي لا غني عنها لتدميره والقضاء عليه .
ورغم هذه العقلية العسكرية الفذة ، فان بعض المؤرخين الغربيين يرجعون نجاح المسلمين في إسقاط الإمبراطوريتين الفارسية والرومية أمام جيوش المسلمين إلى تسلح هؤلاء بعقيدة جديدة ، وهو أمر أساسي ولاشك لكنه يهدف إلى إغفال -مع سبق الإصرار والترصد – أن هذه العقيدة صنعت قادة خاضوا الحروب وفق رؤى حرفية أعلى من خصومهم وكان في قيادتهم وفكرهم الاستراتيجي تطويرا جديدا في علوم الاستراتيجية ..كما انه يغفل أن قادة مسلمين انهزموا في بعض المعارك -رغم انتمائهم عقيدة وإيمانا إلى الإسلام -حين لم يحسنوا قراءة الأبعاد العسكرية للمعارك التي خاضوها ، وقد رد الأستاذ محمود عباس العقاد على هذا الزعم الغربي مشيرا إلى أن ” الذين انتصروا بالعقيدة كانوا أيضا رجالا أولى خبرة وقدرة ، فانهزم عكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة حيث انتصر خالد بن الوليد ، وسبق خالد بن الوليد في فتح الشام قائد آخر هو خالد بن سعيد ، لكن غرر به الروم ، حتى استدرجوه إلى مرج الصفر ، ولولا يقظة الخليفة وتلاحق إمداده بالجنود والعتاد لقضوا عليه ” .
وكانت سيرة خالد بن الوليد تسبقه إلى صفوف أعدائه وتنشر أخباره رغم ضعف المواصلات في ذلك الوقت ، وبنفس الأسلوب الذي كانت تنتشر فيه أخبار وسمعة القائد الألماني روميل في صحراء ليبيا وشمال أفريقيا إبان الحرب الثانية .
وإذا رجعنا إلى كتاب ليدل هارت مرة أخرى ، وقارنا بين ما فعله خالد بن الوليد في معركة ” أحد ” وبين ما قام به بيليزير في معاركه التي شرحها هارت ، مشيدا بقدرته على الهجوم غير المباشر من خلال خلق ثغرة في نقطة ارتكاز حساسة في تشكيلة العدو مما يؤدي إلى تفتيتها وتفكيكها .. لوجدنا أن ذلك هو ما فعله خالد بالتحديد ، حيث عندما لحقت مؤخرة الجيش الإسلامي بالجنود الذين يجمعون الغنائم ، انقض عليهم من الخلف ، وحقق انتصارا لم يكن متوقعا لجيش قريش . ..وتلك من حكم المولى سبحانه وتعالى الذي أعطى درسا مبكرا للمسلمين في إتباع الخطط الاستراتيجية التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم ..كما كانت تأكيدا على دراسة وفهم الحروب والصراعات السياسية كعلوم لها قوانينها إلى جانب أنها محكومة ومضبوطة بأوامر الشرع ومقاصده .
وإذا قارنا بين حركات خالد بن الوليد والقائد مارلبورو ، لوجدنا أن الأخير قام بحركة واسعة بعيدة عن قاعدته بعدة أميال كي يمنع العدو من اكتشاف هدفه الحقيقي . وهذا ما سبقه إليه خالد بعدة قرون ، سواء من خلال استراتيجية الهجوم من عدة جهات في وقت واحد أما بالكمين أو المفاجأة ، فعندما أرسله الخليفة أبو بكر الصديق لنجدة الشام من العراق ، اتخذ طريق الحيرة إلى دومة ، ثم عرج من طرق غير مطروقة إلى قراقر ، حيث أراد أن يسلك إلى المفازة ومنها إلى سوى ، لأنه لو اتخذ الطرق المألوفة إلى المفازة لوجد جيش الروم أمامه ، ومنعه ذلك عن الوصول إلى جيش المسلمين ونجدته . ولذا فانه قام بحركة التفاف واسعة حول جناح العدو فابتدأ من قراقر بعد اجتياز وادي السرحان عبر الصحراء مسافة مائتي ميل في أرض لا ماء فيها إلى أن وصل إلى سوى ، ثم تحرك منها إلى تدمر والغوطة فبصري ، ثم اتصل بجيش المسلمين في درعا ، وكان وصوله مفاجأة استراتيجية رائعة
لجيش الروم .
وإذا سايرنا الجنرال جلوب في كتابه ” الفتوحات العربية الكبرى ” ، فيما ذهب إليه من أن خالد بن الوليد أراد من وراء تلك الحركة الالتفافية الواسعة تهديد دمشق وإرغام جيش الروم على ترك مواقعه الدفاعية في درعا ، فإننا يمكننا اعتبار هذه الحركة التي تحمل كل صفات الهجوم الاستراتيجي غير المباشر ، واحدة من ابرع الحركات الاستراتيجية في التاريخ .
وفي معركة اليرموك وقبل المعركة الرئيسية ، كان عمرو بن العاص وحيدا في بئر السبع ، وعزم الروم على القضاء على جيشه منفردا إلا أن قوات المسلمين اختفت فجأة من منطقة اليرموك ، وراحت تسرع المسير ليلا ونهارا من اجل نجدة بن العاص ، وقامت هذه القوات خلال مسيرها بحركات استراتيجية بارعة ، حيث تدفق المسلمون عبر المضيق ، وعبر وادي عربة ثم إلى سهل بئر سبع ، ووقعت معركة أجنادين ومني فيها الروم بهزيمة ساحقة . وكانت هذه المعركة مقدمة نفسية ومادية لمعركة اليرموك ، وحطمت مخططات العدو الهجومية المعاكسة ، ولم يبق أمام العرب سوى التصدي لحصون اليرموك .
وأمام حصون اليرموك تمكن خالد بن الوليد من القيام بحركة بارعة نجح خلالها في فصل مشاة الروم عن خيالتهم ، وذلك من خلال إفساح الطريق للخيل كي تفر أمام ضغط المسلمين فعاد مشاة الروم إلى خنادقهم وهم محرومون من دعم الخيالة . فالتف عليهم العرب فولوا هاربين إلى وادي الرقاد أو هوة الواقوصة . وهكذا تم الهجوم غير المباشر الاستراتيجي والتكتيكي وكانت هذه المعركة حاسمة في التاريخ إذ فتحت أبواب سوريا أمام الزحف الإسلامي .
ومن المواقف التي توضح بجلاء رؤية خالد بن الوليد العسكرية الاستراتيجية ، ما قام بفعله بعدما غنم السفن الفارسية بعد واقعة أليس . لقد اركب خالد جيشه هذه السفن إلا أن الفرس عندما علموا بذلك منعوا النهر بان أغلقوا سدود الحيرة فجف الماء . فما كان من خالد إلا أن أرسل بعض قواته لاحتلال القناطر وإطلاق المياه وحراستها ، وتبدو هذه العملية إذا ما قورنت باحتلال جسور الرين لتأمين عبور الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية الأحكم تخطيطا والأدق تنفيذا . كما يمكن مقارنة تلك العملية بعملية احتلال جزيرة كريت من قبل القوات الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية . والفرق هنا أن قوات خالد ركبت الجمال أو الخيول بينما ركبت القوات الألمانية الجو ليتحقق لكليهما مفاجأة استراتيجية .
منقول الكاتب ..مصطفى عبد الجواد