تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء تأليف: مرضي بن علي الطرطوسي ـــ تحقيق: كلود كاهن عرض: واصف باقي
قليلة هي الكتب العسكرية التي تناولت موضوع الأسلحة ومعداتها في تراثنا العربي، وأغلبها، إن وجدت، لم يعتن الباحثون بنشرها وتحقيقها، ومن الكتب النادرة في هذا المجال كتاب "تبصرة أرباب الألباب"(1) لمرضي بن علي الطرطوسي المتوفى سنة 589هـ والذي ألف للقائد العسكري الإسلامي صلاح الدين الأيوبي. والسلاح، كأداة للدفاع والهجوم، اخترعه الإنسان بشكله البدائي وعمل على تطويره على مر التاريخ الحربي.
فمنذ أن غزا الفرس اليونان سنة (480ق.م) شرعوا باستخدام السهام والرماح والمقاليع والحراب البرونزية والسيوف والدروع، كما استخدم قدماء الإغريق سلاح المنجنيق في عمليات حصار المدن، وذلك باستعمال النار (الحرب الكيميائية الآن)، كما اعتمد الرومان في معاركهم على القسي والفؤوس واخترعوا الدروع التي يلبسونها كاملة في المعركة للحماية من الأسنة والحراب حين احتدام الفرسان في الساح.
وفي القرن الرابع عشر حين تم اكتشاف البارود، الذي اُعتبر ثورة في التسليح آنذاك، استعمل الهولنديون مدفعية الميدان والتي انتقلت بدورها إلى العثمانيين في القرن الخامس عشر وبرز أثرها ضد المماليك حيث كانت المدافع تحشى من فوهة الأنبوبة بالحجارة، وفي القرن السادس عشر عرفت القنابل المحشوة بالمتفجرات. وفي القرن السابع عشر تطور سلاح المدفعية كأول سلاح ناري، وزيدت سرعته وضبطت أعيرته، حيث بلغ مرمى قذيفته (300 ياردة) ليخترق أثقل دروع الفرسان، وفي ذلك الحين كان استخدام هذه القذائف النارية يعتبر جريمة، ويتنافى مع قوانين الحرب المتعارف عليها آنذاك.
وبعد ذلك توالت الاختراعات العسكرية لتظهر البندقية القصيرة التي بلغ مرماها (400 ياردة)، وظلت سيدة السلاح طوال القرن الثامن عشر حتى تطورت إلى البندقية التلقائية والرشاش والمسدس، وتطورت أنواع المدفعية إلى هاون وهاوتزر ثقيل في القرن التاسع عشر، حتى تقدم التسليح البحري وظهرت في أواخره الغواصة والطوربيد البري وظهرت الدبابة التي استعملت في الحرب العالمية الأولى. واخترعت القذائف الصاروخية وطائرات الاستكشاف في الحرب العالمية الثانية وجاء عصر القنبلة الذرية، تلاه عصر جديد لتطوير السلاح.
* تراثنا والمعدات الحربية *
بعد هذه المقدمة نعود إلى كتابنا الذي نحن بصدده والذي يؤكد مؤلفه إرهاصات نشوء المعدات الحربية في تراثنا حيث ثبت بالشواهد التاريخية أن المسلمين المجاهدين استخدموا في حروبهم البحرية والبرية القنابل والغازات الخانقة والأسلاك الشائكة والبارود والألغام التي اخترعوها وصنعوها. وحفروا الخنادق وغاصوا في البحار وركبوا متنها بسفنهم. ومعروف أن المسلمين اخترعوا البارود في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي واستخدموه في حروبهم كما أشار ابن خلدون. وهذا يؤكد أن المسلمين سبقوا (شوارتز) وغيره ممن يعزى إليهم الاختراعات في أوروبا، وهذه الأسبقية أكدها المستشرق الإسباني (كوندي) بعد جمعه واستقرائه لبعض الأدلة والنصوص من المصادر العربية..
ومن هنا ندرك إلى أي حد يقف فكر الإنسان إذا علم أن العرب قبل الإسلام لم يعرفوا من الآلات الحربية ومعدات القتال الأولى في تاريخهم العسكري غير الرمح والنبال واستعمال الكَرّ والفر والمفاجآت في حرب عدوهم بغير إنذار أو إعلان أو إخبار... فأصبحوا بفضل هدي الإسلام والتعاليم التي استقوها من سيرة نبيهم صلوات الله عليه أقوى أمة سادت الدنيا، حيث كان صلى الله عليه وسلم يبعث منهم البعوث المؤلفة إلى بلاد اليمن ونجد، لاستصدار ما خلت منه الجزيرة العربية من الخيل والآلات والذخائر الحربية، فتولدت من تلك الظاهرة نواة لنشوء تلك المعدات في أبسط حالاتها، كما سنستعرض أوصافها، فقد كانت مؤدية للغرض المنشود مع بروز الروح المعنوية المتألقة والنزعة الإيمانية المطلقة، وصحبة الجند مع قائدهم بالمشورة والطاعة، حين يستمعون لنداء الله تعالى "وأعدو لهم ما استطعتم من قوة" وينفرون إلى الجهاد وإعلاء كلمة الدين والحق، بصفوف متراصة، وباستعداد تام للهجوم حين تسنح الفرصة للاقتحام معاً، بضغط تلك الجموع على غرار نظام (الفلانكس) الإغريقي، معتمدين على السيوف والحراب ورمي النبل والسهام ولبس الدروع والخوذات لحماية الرأس، وفي بداية عهد المسلمين للقتال كانوا يحاربون راجلين، وحين غنموا اعتمدوا على الخيل، فحاربوا بها في غزواتهم بني قريظة وخيبر، وبعد الانتصارات الإسلامية ازداد عدد الجند وتعددت أساليب قتالهم، وتنوعت أسلحتهم، وتطورت استراتيجيتهم، بفضل توجيهات بطل الأبطال قائدهم الرسول العربي الكريم الذي حمل من بعده اللواء صحابته الكرام رضوان الله عليهم.
وإذا استطلعنا تلك الصفحات من تراثنا عرفنا ماهي أهم المعدات الحربية وأدوات القتال في تاريخنا العربي والإسلامي...؟ وها نحن نتوقف عند ذكرها كما جاءت عند الطرطوسي (- 589هـ)، معتمدين في شرح بعضها على المعجم العربي الذي يستوعب مادة السلاح وما تصرف إليه من ثروة لغوية تطورت أصولها واستوت في النصوص على نحو من الألفاظ الفنية القديمة
(term techinical) حيث أدرك الأوائل أن العربية اشتملت على مواد متخصصة، ومادة السلاح هي واحدة منها بحيث يمكن للباحث أن يجمعها ويصنفها ويعرف بها.
* السيف *
وأولها السيف، الذي يسمى -وحده- بالسلاح آنذاك فالسلاح اسم جامع لآلة الحرب، ومنهم من خص به ما كان من الحديد، ومنهم من خص به السيف وحده دون سواه. وكان للسلاح أهمية كبرى من زمن الجاهلية وكذلك في باقي العصور، بيد أن البيئة الجاهلية ساعدت على كثرة الحروب وخلق المنازعات والمشاحنات وانتشار الخوف والفزع. وقد كانت القبائل حين ذاك تشن الغارات على بعضها، فنشأت من جراء ذلك "أيام العرب العديدة"، فأصبحت الأسلحة وعدة الحرب ضرورية للحياة، لذا عُني العرب بها كثيراً، فكان العربي يفخر بسلاحه، فإذا استجاره أحد، أجابه لابساً درعه، متقلداً سيفه، أو حاملاً رمحه. وهكذا كان الإنسان العربي ينام هادئ البال قرير العين، لا يبالي أحداً ما دام سيفه يرقد إلى جانبه. وقد اقترنت بعض صفات السلاح بضروب من الشجاعة، والكناية عن الإقدام والبأس.
ولقد كان للسيوف في ذلك الزمن أهمية كبيرة، وتحتل المرتبة الأولى بين صنوف الأسلحة وعن خطورة تسمية السيف، جاء في المخصص لابن سيده تعريف ابن دريد له بقوله: إن السيف مشتق من قولهم ساف ماله إذا هلك، فلما كان السيف سبباً للهلاك سمي سيفاً، وله العديد من الأسماء عند العرب.
* الرمح *
والرمح من السلاح معروف وجمعه أرماح، والكثير رماح، والعرب تجعل الرمح كناية عن الدفع والمنع، وكانوا يستوردونها من الهند إلى الخط على ساحل البحرين، وهي جزيرة تنسب إليها الرماح، فيقال خطي وخطّية، حيث ترفأ سفن الرماح إلى هذا الموضع كما يذهب الأصمعي، ويقال للطاعن بالرمح وحامله رامح. وتصنع عصا الرمح من نبات الوشيح أو من المران.
أنواعه:
الخطية -كما أسلفنا ذكرها- واليزنية نسبة إلى الملك ذي يزن، والرُّدَينية وهي نسبة إلى امرأة يقال لها رُدَينة تباع عندها الرماح، والسمهرية نسبة إلى سمهر زوج ردينة، وكانا يقوِّمان القنا بخط هجر، كما اشتهرا بسن الرماح، وآخر أنواعه القعضبية المنسوب إلى قعضب وهو رجل قشيري كان يقوم بتصنيعها.
صفاته:
يقال رمح عاثر: إذا كان مضطرباً، قال راشد بن شهاب اليشكري: يصف رمحه بأنه لَدْن (أي ليِّن): يضطرب كله من أعلاه إلى أسفله على أنه صلب، أو أنه من صنف العواسل، وتسمى الرماح بالذوابل ليبوسها واستوائها ودقتها. القناة الصماء إذا كانت صلبة مستوية الكعوب، كما يقال للرمح (مُثقَّف) ويعني المقوَّم، إذ كانوا يقومون الرماح بآلة تسمى الثقاف، يقول عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت تشيح قفا المثقف والجبينا
ويوصف أيضاً بأنه مارن، للينه واهتزازه، والمارن: طرف الأنف المرن، ليس بعظم ولا بلحم، ويقال رمح أصم إذا كان صلباً، والمداعس إذا كان مستوى الكعوب، أي ليس الكعب الواحد أغلظ من الآخر وقالوا رمح (حادر): إذا كان غليظاً، ومن الأوصاف التي تطلق عليه الزاعبي: الذي إذا هز اضطرب من أوله إلى آخره، ورمح (رعاش): شديد الاضطراب.
أجزاؤه:
للرمح ثلاثة أجزاء رئيسية هي: الزجّ والقناة والسنان. فالزجّ هي الحديدة التي تكون في أسفل الرمح، والقناة: خشب من نبات الوشيح، وتنقسم إلى السافلة والقسم العلوي (صدْر القناة) أو الثعلب، والكعب من الرمح: طرف الأنبوب.
ويقول الطرطوسي: "من أحسن الطعن ما كان بالرمح الأصم القصير، إذا كان سنانه صغيراً. وبنو الأصفر ومن جانسهم من الروم، يصنعون رماحاً من خشب الزان والشوح وما شاكله ويسمونها، "القنطاريات" ليست بالطويلة. ومن جنسها المزاريق والفريجيات والضواري، وأسنتها تكوِّن الثلث من طولها، وطولها خمسة أذرع، وإذا سقيت هذه، قتلت أو جرحت حين يصل بها الفارس إلى خصمه".
* الدروع *
الدرع: لبوس من الحديد، ويؤكد الطرطوسي أنها من صنع العجم وقد يصنعونها من الجلود أحياناً وقد تكسى بالديباج، وفي أكثر من موضع في كتابه يسمي الدروع بالجواشن ويرى أن عجينتها (مادتها الأساسية) من الخوذ، لذلك لا تنفذ إليها السهام ولا السنان ولا الحسام.
والدرع تذكّر وتؤنث، وتسمى درعاً سابغاً وسابغة، وتصغيرها دريع، وتدرّعَ بها أو تدرعها وأدرعها: لبسها. وأما المِغْفر (أو الغفارة) فهو نوع من النسيج (يسمى بالزَّرَد) يلبسه الدَّارع على رأسه يتقي به وقت القتال، ويكون بحجم الرأس تماماً يلبس من ثوب أو غيره وربما كانت درعاً صغيرة.
والمغفر لبسه المسلمون اتباعاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عنه في حديث لأنس مخرج في الصحيحين أنه دخل مكة وعلى رأسه المِغْفر. وأشهر أنواع الدروع، السلوقي نسبة إلى سلوق وهي أرض باليمن، وتنسب الدروع إلى (تُبّع): واحد من ملوك اليمن أمر بصنعها، ونسبوها أيضاً إلى النبي داود عليه السلام الذي عملها بنفسه.
أسماؤها:
ومن أسماء الدروع: السابغة (أي الواسعة) والدّلاص (اللينة البراقة)، والشكاء (الضيقة)، والجنة (الإخفاء والاستتار) والماذيّة (السهلة اللينة) والموضونة (المنسوجة)، والجارنة (اللينة) والمشك (لها مسامير)، والذائل (طويلة الذيل) وربوض (واسعة).
* الدبابة *
ويقول الطرطوسي في هذا الفصل عند ذكر الدبابات "آلة لنقب الأسوار ومشهور وصفها ووضع هيولاها، فلا حاجة إلى تصويرها إذا كانت معلومة، وقد أحاطت المعرفة بتكوينها.. وكذلك الأبراج التي يزحف بها إلى الحصون. ونتلو ذلك بذكر الستائر (جمع سترة) يضعها الرجال الذين يستعان بهم في جر المنجنيق - ما سنأتي على وصفه- وما شاكله، لئلا يُرْمَوا بحجارة منجنيق يقابله، فيحمل عنهم مضرتها، ويكفيهم سوء إصابتها، وإذا وقع الحجر على السترة يفوتها، ونفضته عنها نفضاً قوياً تلقيه به إلى خلفه...".
ولدى توسعنا في مصادر أخرى وجدنا أن الدبابة هي آلة من الآلات الحربية يستعان بها على هدم الأسوار وتنقيبها، وهي عبارة عن محيط من الفولاذ يسع عدداً من المحاربين داخله، وله محرك للطول والقصر، ويحمل على عربة يجرها عدد من الجياد أو أكثر، وأول من استخدم منها في الإسلام، رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصدرها من الجَرَش (بشرق الأردن)، ويقول ابن سعد في الطبقات: إنه كان بذلك البلد مصنع لصناعة الدبابات والمجانق، وتعلم فيه صناعتها ابن مسعود وغيلان بن سلمة.
* المنجنيق *
وفي باب ذكر المنجنيقات قال المؤلف: هي مختلفة الأصناف، متباينة التراكيب، فمنها العربي وهو أوثق مصنوعاتها، ومنها التركي وهو أقلها كلفة وأحصرها مؤونة، ومنها الفرنجي، وهو أكثرها معونة على بلوغ الغرض وأبعد للرماية وأشد للنكاية.
وغني عن التعريف أن المنجنيق عموماً -هو ما كان يستعمل لقذف الصخور الهائلة على الأعداء، (ويقال: عنه نشأت فكرة اختراع المدافع بكل أنواعها). وله من نوعه آلة أخرى شبيهة به كانت تستعملها فرقة المجانق، لرمي الحصون (مدافع الهتزر الآن) ذات الحجم الضخم التي استعملتها الجيوش المحاربة إلى وقت قريب حتى عمت الأسلحة النارية.
* القوس*
له من الأهمية ما للبنادق اليوم من الحروب، وقد عرفه المسلمون واستخدموه في حروبهم إبّان نهضتهم العسكرية، والتي نلمس بوادرها وأخبارها مفصلة في كتب السيرة والسنة والتاريخ، ويحدثنا الطرطوسي عن أخبارها إذ يقول: فمنها قسي الزيار وهي أشدها رمياً وأعظمها جرماً، وأنكاها سهماً، تصنع من الخشب، ويحتاج ممارسُها إلى جودة الذكاء ومداومة التجربة والخبرة.
* القنابل*
وتسمى عند المسلمين بالزرافات، تنبعث فيها نار النفط بدخان شديد فتحترق السفن. تدعى بالكرات النارية، وهناك قنابل الحجر وقنابل الزجاج، التي تتخذ من القوارير مما يماثل قنابل اليد، وتكون من زجاج مدور تحشى بالنفط، فيشعلها الضارب، ثم يرمي بها ويكسرها.
وقد استعملت تلك القنابل اليدوية في القتال البري أواسط أيام الدولة العباسية كما جاء في الكامل لابن الأثير، وكان منها القنابل المضيئة، كما استخدم المسلمون (قنابل الانزلاق) وهي تقذف على السفن البحرية، فتنكسر فيها وتنفجر بفعل الاصطدام والقنابل على العموم، وهي آلات مفرقعة، لها أشكال كثيرة، بعضها كروي والآخر مستدير والثالث مستطيل، وهي أكثرها شيوعاً واستعمالاً في المعارك القديمة، تحشى بالمواد الشديدة الانفجار، وترمى باليد على الخنادق فتقتل كل من تصيبه شظاياها أو تجرحه جروحاً يصعب شفاؤها. ولم تكن تعرف بهذا الاسم عند المسلمين إذ إن الأصل (خميرة أو خنبرة) وهي كلمة فارسية الأصل استعملها الأتراك للكرات النارية، وحرفوها إلى (الق ومبرة) واستعملها كتَّاب العربية في العصور المتأخرة بلفظ (بنيرة) ثم زادها كتاب العصر تحريفاً فقالوا: قنبلة.
* الغواصات*
غني عن التنبيه أن تاريخ الغواصات في أوروبا يبتدئ من سنة 1630م على يد الهولندي كورنيلوس فان دريل... ولكن يغيب عن البال أن معاوية بن أبي سفيان يعتبر أول مخترع للغواصة في التاريخ الإسلامي. وذلك إبان فتح القسطنطينية في عهده، حيث استعمل المسلمون في ذلك الحين كل وسائل الدفاع من الآلات والفنون الحربية، وكان مما استعملوها منها واخترعوها قبل كل شيء (الغواصة). وحين رأى معاوية مناعة القسطنطينية وحصانتها براً وبحراً، استعمل كل الآلات البرية الساحقة، بيد أنه استعمل للبحر الأساطيل الكاملة بمعدِّاتها وتجهيزاتها، ورأى أن شيئاً واحداً ينقصها، وهو سفينة تمخر عباب البحر وتَلِج قاعه، غائصة لقَلْب سفن الأعداء، رأساً على عقب، وإبادتها وإغراقها، فاخترع الغواصة لتقوم بدورها في العمليات العسكرية البحرية مع السفن والبوارج الحربية، وبذلك تم له النصر بسبب سمكة البحر كما سموها وهي الغواصة.
* الغازات السامة*
اشتهرت عند المسلمين باسم النار اليونانية، وهي اختراع إسلامي لرجل مسلم بعلبكي اهتدى إلها وأَُسرَّ بخبرها إلى البيرنظيين... وقد استعملها المسلمون في حروبهم، فجربوا الدخان لعمل الغازات الخانقة والسامة بدخان الكبريت على مهب الريح، حتى يفسد الهواء على عدوهم ويعرقلوا سيره وتقدمه، فضلاً عن رائحة الزرنيخ مع الكلس، الذي يُغشي غباره الأبصار، كما يتصاعد إلى أنف الجندي، فلا يستطيع القتال في ميدان الحرب، فينكبّ العدو، وينقلب على عقبيه وهو يصلى ناراً.
* الأسلاك الشائكة*
هي شوك من الحديد ذو ثلاث شعب، يلقى حول المعسكر، فكانوا يتخذون منه حديداً مدبّباً مثل المثلث والمربع. إذ كيفما وقع على الأرض برز منه سن مرتفعة، ومنه المسدس ويكون في شوكات قائمة، فإذا داسه جواد أو إنسان عطب، وكان ينشر حول الخنادق لتحصينها، وتارة يضعونه وراء الجيش منعاً للهزيمة إذ يحول بين الجند وبين الفرار.
* الاستحكامات العسكرية*
كما استعمل المسلمون الطوابي والاستحكامات العسكرية التي تعرف بالمراقب، ذلك أن وظيفة الجندي فيها مراقبة العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوهم أخطروا مركز القيادة لاتخاذ الحيطة والحذر، والتهيؤ للاقتحام والاشتباك وإحراز الظفر.
*ترتيب الجيوش*
ويختتم الطرطوسي كتابه بذكر ترتيب الجيوش "فمنها الأصول وقد أجمعوا عليها، والفروع وقد اختلفوا فيها، فالأصول كالفروض الواجبة، والفروع كالنوافل غير اللازبة، والفروض منها: أن يعبأ الخميس قلباً وميمنة وميسرة، والفروع كالجنحة والطلائع والكمناء، يقف الراجل أمام الفارس، ليكون له كالحصن المانع، ويُنْصبُ أمام كل راجل منهم طارقة أو ستارة تكف عنه شر من يرمونه بسيف أو رمح أو سهم واقع، وبين كل راجلين رامٍ إما بقوس أو نبال، ليرمي إذا لاحت له الفرصة في الأعداء، وليردوا بسهامهم حملة الحامل عليهم إذا أشرعوا في التوجه إليهم. ولتكون الخيالة والأبطال وقوفاً من ورائهم، والشجعان خلفهم ينتظرون الحملة فإذا هموا بها، فتح لهم باب يحملون منه بانضمام الرجالة إلى بعضها، وعندما تعود الفرسان من حملتها وتنكفئ إلى مراكزها، تعود الرجالة إلى أماكنها على ذلك الكيان وترتص كالبنيان...
* * *
وهكذا نرى عبر هذه الجولة الخاطفة بين طيات التراث وملامحه ومخبآته المنثورة على صفحات الكتب أن لنا تراثاً عسكرياً في الماضي، متعدد الجوانب غني العطاء، عظيم الابتكار.. كانت لنا معامل أسلحة ومصانع ذخيرة، عرفت عندهم بالمسلحة (جمع مسالح)، لقد استعمل المسلمون في حروبهم مجموعة من الذخائر الحربية، استوقفت أوروبا في الوصول إلى بعضها، وقد سلطنا الأضواء على بعض هذه الذخائر من حيث أشكالها وأنواعها، وشرحنا بعض مسمياتها وأوصافها، وكانت المسالح ( أو الجبخانات) كما كانوا يطلقون عليها- لإنتاج الأسلحة وكل ما يحتاجون إليه من المهمات والمستلزمات وأدوات الدفاع والهجوم، فهل كان يمكن لهؤلاء القوم أن يبتكروا مثل هذه المعدات الحربية ويستعملوها ضد أعدائهم إلا أن تكون لهم مراكز عليا وقلاع وحصون ووزارة دفاع...
وأخيراً، هل رأيتم معنا- أن العربية، كما بدا لنا، في عصورها المتقدمة، استطاعت أن تتوسع في الدلالة، وتنتقل الكلمة من معنى إلى آخر أقرب إلى المصطلح العلمي، هذه اللغة صاغت من المواد العامة مواد جديدة أطلقت على الأدوات، وكان من جملة ذلك المعاجم بكل صنوفها وتفرعاتها وتبويباتها، وقد شملت ألفاظ السلاح شمولاً واسعاً، دل على فهم دقيق للعربية واستيعابها للجديد الذي طرأ، واستجد خلال العصور المتلاحقة، ومثل هذا يقال في سائر المواد اللغوية التي تنصرف إلى الموضوعات المتخصصة العديدة، وما أكثرها في حياتنا بين الماضي والحاضر.
(1) العنوان الكامل للكتاب، كما ورد في " الأعلام" للزركلي 7/203 ( ط4) هو : " تبصرة أرباب الأدباء في كيفية النجاة في الحروب من الأسواء، ونشر أعلام الأعلام في العُدد والآلات المعنية على لقاء الأعداء ( التحرير).
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 83-84
التعديل الأخير بواسطة المشرف: