هل رأى مُحمَّد ربَّه تبارك وتعالى ليلةَ الإسراء؟
الثابت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه تعالى ببصره في ليلة المعراج، وإنما رآه بفؤاده، ولم ير بعينيْهِ إلا النور، وهو قول أكثر أهل السنة.
فعن أبي ذر قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هَلْ رأيتَ ربَّكَ؟ قال: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ"، وفي رواية: "رأيتُ نوراً".
وعن مسروق قال: كنتُ متَّكئاً عند عائشةَ فقالت: يا أبا عائشة، ثلاثٌ مَنْ تَكلَّمَ بِواحدةٍ منهنَّ فقد أعظم على الله الفِرْية، قلتُ: ما هنَّ؟ قالت: مَن زَعَم أنَّ محمَّدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفِرية، قال: وكنت متكئا فجَلَسْتُ، فقلتُ: يا أم المؤمنين أنظِريني ولا تعجليني، ألم يقُلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]! فقالت: أنا أوَّل هذه الأُمَّةِ سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنَّما هو جبريل لم أرَهُ على صورته التي خُلِق عليها غَيْرَ هاتين المرَّتين، رَأَيْتُه منهبطاً من السماء سادّاً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض"، فقالت: أَوَلَمْ تسمع أنَّ الله يقول: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}؟ [الأنعام: 103] أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}؟ [الشورى: 51].
وفي رواية عند مسلم: سألتُ عائشةَ: هل رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالتْ "سبحان الله! لقد قفَّ شعري لما قُلْتَ"، وساق الحديث بقصَّتِه.
وفي رواية، قال مسروق لعائشة: فأينَ قولُه: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}، قالتْ: إنَّما ذاك جِبريل صلى الله عليه وسلم كان يأتيه في صورة الرجال وإنَّه أتاه في هذه المرَّة في صورته التي هي صورته، فَسَدَّ أُفُقَ السماء.
وعن أبي هريرة معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] قال: رأى جبريل. رواها جميعاً مسلمٌ في صحيحه.
.. ومِمَّا يؤكّد عدمَ رُؤْيَةِ النبيّ ربَّه بعينيه ليلة الإسراء حديثُ أبي موسى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهار وعَمَلُ النَّهارِ قبل عَمَلِ اللَّيْلِ، حجابه النور -وفي رواية أبي بكر: النَّار- لو كَشَفَهُ لأحرقتْ سُبُحاتُ وجْهِه ما انتهى إليه بصرُه من خَلْقِه".
وقد رُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ رأى ربَّه، ولكنَّ هذه الروايات المُطْلَقَةَ رُوِيَتْ مقيَّدةً بِرُؤْيَةِ القَلْبِ؛ فقد روى مسلمٌ عنِ ابن عباس قال: "رآهُ بفُؤَادِه مرَّتَيْنِ".
.. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأمَّا الرُّؤيَةُ فَالذِي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنَّهُ قال: رأى مُحَمَّدٌ ربَّه بفؤاده مرتين، وعائِشَةُ أنْكَرَتِ الرؤية، فمِنَ النَّاس مَنْ جمع بينهما فقال: عائشة أنكرتْ رُؤْيَةَ العين وابن عباس أثْبَتَ رُؤْيَةَ الفُؤَادِ، والألفاظ الثابتةُ عنِ ابن عباس هي مطلقة أو مقيَّدة بالفؤاد، تارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد، ولم يَثبُت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية وتارة يقول رآه بفؤاده.
ولم يَقُلْ أحدٌ أنَّه سَمِعَ أحمد يقول: رآه بعينه، لكنَّ طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمِعَ بَعْضُ النَّاسِ مُطْلَقَ كلام ابن عباس فَفَهِمَ منه رؤية العين، وليسَ في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينِه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نَفْيِه أدلّ؛ كما في صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ: قال: سَأَلْتُ رسولَ الله: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فقال: "نورٌ أنَّى أراهُ"، وقد قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] ولو كان قد أراه نفسه بعينه لكان ذِكْرُ ذلك أولى، وكذلك قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} [النجم: 18]، ولو كان رآه بعينه لكان ذِكْرُ ذلك أولى".
قال: "وقد ثبت بالنُّصوص الصحيحة، واتِّفاقِ سَلَفِ الأُمَّة أنه لا يرى اللهََََََ أحدٌ في الدنيا بعينِه إلا ما نازع فيه بعضُهم من رؤية نبيِّنا محمَّدٍ خاصَّة، واتَّفقوا على أنَّ المؤمنين يرون الله يوم القيامة عيانا كما يرون الشمس والقمر".أ.هـ. (مجموع الفتاوى ج: 6 ص: 509 - 510).
.. قال ابن القيم في كتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية): "وقد حكى عثمانُ بْنُ سعيدٍ الدَّارِميّ في كتاب الرؤية له إجماعَ الصحابة على أنه لم يَرَ ربَّه لَيْلَةَ المِعراج، وبعضُهُمُ استَثْنَى ابْنَ عبَّاس فِيمَنْ قال ذلك، وشيخُنا يقول ليس ذلك بخلافٍ في الحقيقة؛ فإنَّ ابن عباس لم يقُلْ رآه بعَيْنَيْ رأسِه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الرِّوايَتَيْنِ؛ حيث قال: "إنه رآه عزَّ وجلَّ" وَلَمْ يَقُلْ بِعَيْنَيْ رأْسِه، ولفظُ أحمد لفظُ ابن عبَّاس رضي الله عنهما، ويدلُّ على صِحَّة ما قال شيخُنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله في الحديث الآخر: "حجابه النور"، فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه رأيْتُ نوراً.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): "الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة، رضي الله عنهم، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب"، والله أعلم.
الشيخ خالد عبد المنعم الرفاعي