منهج الإمام البخاري

Steyr AUG

نـمــر الـخـلــيـــج
إنضم
14 يوليو 2009
المشاركات
2,242
التفاعل
163 0 0
بعد أن نطق الرويبضة وأنبرى الجهلة الأطفال في المشاغبة على الامام البخاري كمن يحاول ان يهدم جبلا برمي الحصى عليه


مستندين الى بعض الشبه سأقوم بنشر هذا الكتاب وأبتغي بذلك وجه الله تعالى عسى الله ان ينفع به الأخوة الأعضاء في المنتدى كمستند ومرجع لكل ما يتعلق بهذا العلم الدقيق وشكرا لمن وجهني الى هذا الكتاب الالكتروني بصيغة الرورد



منهج الإمام البخاري


في


تصحيح الأحاديث وتعليلها


( من خلال الجامع الصحيح )



إعداد


أبو بكر كافي



إشراف

الدكتور حمزة عبد الله المليباري


( أستاذ علوم الحديث في كلية الدراسات الاسلامية في دبي )
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
رد: منهج الإمام البخاري

استطيع وضع رابط pdf للكتاب ولكن أفضل نشر هذا الكتاب للأعضاء ولغيرهم حتى تسهل القراءة وحتى يسهل عليهم الوصول الى المعلومة دون تكبد عناء البحث ولينشر هذا الكتاب
المهم في الشبكة العنكبوتية ( شتان بين الاكتفاء بوضع رابط وبين النشر )
سأبدا بشنر الكتاب من الغد على شكل دفعات
وشكرا
 
رد: منهج الإمام البخاري

جزاك الله خير وجعله في موازن اعمالك ولك مني تقييم
 
رد: منهج الإمام البخاري

الله يجزآك بالخير ..
ولآكن من يستطيع أن يلطخ سيرة صآحب كتآب البخآري ، ومن يشكك في تخريجــه للأحآديث ، شخصٌ يسآفر من مكــه الى البصرهَ من أجل علوآ اٍلأسنآد ..

يَ رجل من تعلم التآريخ والأدب ودرس العلم بتمعنُ وإدرآك ورأء المنهج المسلم بشكل سوي ولو كآن مخالفٌ أو كآن خآرج دائرة الأسلام لأدركــ أن من يتكلم عنــه ُ شيخٌ جليلٌ جمع احآديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفوآه من سمعو عن من سمعو عن من سمعوآ احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
رحمه الله واسكنه الله فسسيح جنآتــهٍ ، وجزآه الله عنآ كل خير .
 
التعديل الأخير:
رد: منهج الإمام البخاري

الفصل الأول



الحديث وعلومه إلى عصر


الإمام البخاري


المبحث الأول : كتب السنة قبل الجامع الصحيح.
المبحث الثاني : علوم الحديث إلى عصر البخاري.
المبحث الثالث : ترجمة موجزة للإمام البخاري.
المبحث الرابع : التعريف بالإنتاج العلمي للإمام البخاري.














المبحث الأول


كتب السنة قبل الجامع الصحيح




إن الجامع الصحيح للإمام البخاري لم يأت من فراغ وإنما هو حلقة من سلسلة ممتدة من لدن العهد الأول لتدوين الحديث إلى عصر هذا الإمام، هذه الحلقة جاءت مكمّلة لتلك الحلقات ومتممة لها. وإن استفادة الإمام البخاري من جهود الأئمة الذين سبقوه كانت استفادة عظيمة سواء من حيث المادة أم من حيث الطريقة والمنهجية. فلقد عكف على مصنفات من سبقه فحفظها واستوعبها وضمن مقاصدها في كتابه حسب الشرط الذي وضعه له.

ولقد بين الإمام الدهلوي طريقة التصنيف في الحديث قبل الإمام البخاري فقال:
" أول ما صنف أهل الحديث في علم الحديث جعلوه مدوناً في أربعة فنون :
في السنة أعني الذي يقال له الفقه مثل موطأ مالك، وجامع سفيان، وفن التفسير مثل كتاب ابن جريج، وفن السير مثل كتاب محمد بن إسحاق، وفن الزهد والرقاق مثل كتاب ابن المبارك، فأراد البخاري – رحمه الله – أن يجمع الفنون الأربعة في كتاب ويجرده لما حكم له العلماء بالصحة قبل البخاري وفي زمانه، ويجرده للحديث المرفوع المسند وما فيه من الآثار وغيرها، إنما جاء تبعاً لا أصالة ولهذا سمي كتابه الجامع الصحيح المسند ".
فحركة التأليف والتصنيف في السنة في القرنين الثاني والثالث كانت جد نشيطة، وقد أثمرت هذه الحركة العشرات بل المئات من كتب السنة، وهذه الكتب على كثرتها يمكن حصرها في المجموعات التالية :
كتب السنن، والمصنفات، والجوامع، والمسانيد، وكتب التفسير، وكتب المغازي والسير، والأجزاء المفردة في أبواب مخصوصة، وفيما يلي تعريف موجز بأهم هذه المصنفات ومناهجها ومادتها لنقف على مدى استفادة الإمام البخاري من هذه الكتب في صحيحه.


أ – كتب السنن :

وهي الكتب المرتبة على الأبواب الفقهية من الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة إلى آخرها وليس فيها شيء من الموقوف لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة ويسمى حديثاً، وهذا تعريف بأهم وأشهر كتب السنن إلى عصر البخاري :
1) سنن أبي الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي (ت 151)ذكرها الكتاني في الرسالة المستطرفة، ولا تفيدنا المصادر عنها شيء.(ص 22).
2سنن سعيد بن منصور (ت 227هـ)
طبعت بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، ولكن النسخة غير كاملة، والمقدار الموجود منها يشتمل على (2978) حديثاً تبدأ بكتاب الفرائض ثم النكاح وما يتعلق به، ثم الطلاق ثم الجهاد، طبعت في مجلدين.
3) سنن محمد بن الصباح (ت 227هـ)ذكرها الكتاني في الرسالة المستطرفةولا تفيدنا المصادر عنها بشيء.
4سنن الدارمي (ت 255هـ)أسانيده عالية، وثلاثياته أكثر من ثلاثيات البخاري. وهو من شيوخ البخاري، وقد روى عنه في غير الجامع، ومنهم من يطلق عليها المسند لكون أحاديثها مسندة مطبوع عدة طبعات في مجلدين، وكان الحافظ العلائي يقول : (ينبغي أن يكون كتاب الدارمي سادساً للخمسة بدلاً من سنن ابن ماجة، فإنه قليل الرجال الضعفاء، نادر الأحاديث المنكرة الشاذة، وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه

وقال الحافظ : (لو ضم إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجة فهو أمثل منه بكثير)ب – المصنفات
ب الجوامع :

هي كتب مرتبة على الأبواب الفقهية مشتملة على السنن وما هو في حيزها أو له تعلق بهاوهي كثيرة نعرّف بأهمها وأشهرها.
1) جامع أبي عروة معمر بن راشد الأزدي ( 153هـ أو 154 هـ).
2) جامع سفيان الثوري( 161 هـ).
3) مصنف حماد بن سلمة(ت 167 هـ).
كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ).



وهو عبارة عن أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة في مسائل الفقه، طبع في مجلدين بتعليق الأستاذ أبو الوفا الأفغاني، ويشتمل على (268) أثراً وقد أفرد الحافظ ابن حجر جزءاً لطيفاً في تراجم رواته (ص 24) سماه الإيثار لمعرفة رواة الآثار، وهو مطبوع.
1) مصنف وكيع بن الجراح ( 197 هـ).
2) جامع سفيان بن عيينة(ت 198هـ).
3) مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ).
طبع في أحد عشر مجلداً بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ويشتمل على (21033) أثراً ويعتبر من أغنى المصادر بآثار السلف وفقه التابعين. وقد استمد منه البخاري كثيراً في الآثار التي يوردها كما يعلم من خلال " فتح الباري " و " تغليق التعليق " في وصل تلك الآثار.
4) مصنف أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ) وقد طُبع كتابه في خمسة عشر جزءاً تشتمل على
(19789) أثراً، وقد استفاد منه البخاري كثيراً في الآثار التي يوردها في صحيحه.
جـ – المسانيد :

وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدى صحيحاً كان أو حسناً أو ضعيفاً مرتبين على حروف المعجم وأسماء الصحابة كما فعله غير واحد، أو على القبائل، أو السابقة في الإسلام، أو الشرافة النسبية، أو غير ذلك. وقد يقتصر في بعضها على أحاديث صحابي

واحد كمسند أبي بكر أو أحاديث جماعة منهم كمسند الأربعة، أو العشرة، أو طائفة مخصوصة منهم جميعاً وصف واحد كمسند المقلين ومسند الصحابة الذين نزلوا مصر إلى غير ذلك.
والمسانيد كثيرة جداًفقلّ إمام إلا وله مسند وفيما يلي تعريف (ص 25) لأهمها وأشهرها إلى عصر الإمام البخاري :
1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) وهو أعلى المسانيد، وهو المراد عند الإطلاق وإن أريد غيره قيد، وقد طبع مراراً وقد أفاض العلامة أحمد شاكر في التعريف به في مقدمة تحقيقه.
2) المسند لأبي داود الطيالسي الحافظ(ت 203 أو 204هـ) ومسنده مطبوع في مجلد واحد وليس هو الجامع له بل جمعه بعض حفاظ خراسان : جمع فيه ما رواه يونس بن حبيب عنه خاصة
3 مسند أبي محمد عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي(ت 213هـ).
4مسند أبي إسحاق بن نصر بن إبراهيم المطوعي(ت 213هـ).

5) مسند أسد بن موسى الأموي المعروف بأسد السنة(ت 212هـ).
6) مسند مسدد بن مسرهد الأسدي البصري(ت 221هـ). (ص 26).
7) مسند إسحاق بن إبراهيم بن راهوية(ت 238هـ) وهو من كبار شيوخ البخاري.
8) – 9) مسند أبي بكرومسند عثمان ابني محمد بن أبي شيبة وهما من كبار شيوخ البخاري.

9) مسند أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي(ت 219هـ) وهو من كبار شيوخ البخاري.
وحتى الإمام البخاري فإنه صنف مسنداً يسمى بالمسند الكبير، وكذلك الإمام مسلم بن الحجاج له أيضاً مسند كبير على الرجال.


ر – كتب المغازي والسير :


وهي الكتب التي تهتم بذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته وذكر مبعثه وما قام به من غزوات ضد أعدائه وتفصيل ذلك، وسأذكر أهم الكتب في هذا المجال إلى عصر الإمام البخاري. ويمكن ترتيبها تاريخياً على أربعة طبقات :
الطبقة الأولى : ومن أبرز من اهتم بالسير والمغازي في العهد الأول : عروة بن الزبير (ت 94هـ) وأبان بن عثمان ( 105هـ) وقد ذكر ابن سعد في طبقاتهما يفيد أن أبان بن عثمان كان له تدوين في السير، ففي ترجمة المغيرة بن عبد الرحمن قال : " إنه ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من أبان بن عثمان، فكان كثيراً ما تقرأ عليه ويأمر بتعلمها " ولم يصلنا منها شيء.

الطبقة الثانية : ومن أبرز رجالها عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري(ت 135هـ)، اهتم بأخبار الوفود التي قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبار ردة القبائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. كما جمع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ورتبها تاريخياً. ومن رجال هذه الطبقة أيضاً عاصم بن عمر بن قتادة(ت 120هـ) وهو شيخ ابن إسحاق، ولمعرفته الوثيقة بالمغازي اختاره الخليفة عمر بن عبد العزيز ليحدث الناس بمسجد دمشق عن المغازي ومناقب الصحابة. وممن اهتم بالمغازي والسير في هذه الطبقة أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري(ت 124هـ).
الطبقة الثالثة : ومن أبرز رجالها موسى بن عقبة بن أبي عياش المدنيالتابعي الصغير (ت 141هـ) ومغازيه أصح المغازي كما قاله تلميذه مالك بن أنس، وقال الشافعي : ليس في المغازي أصح من كتابه مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره.
وقال أحمد : (عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة)وقد نقل الإمام البخاري عن مغازي موسى بن عقبة في مواضع من كتاب المغازي من جامعه منها : باب غزوة الخندقوباب غزوة بني المصطلق، باب غزوة الطائفومن رجال هذه الطبقة محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت 151هـ)، تتلمذ على يد الزهري واستفاد منه، ويقال أنه صنف كتابه " السيرة النبوية " بناء على طلب الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لابنه المهدي، وقد رواه عنه تلميذه زياد البكائي وعن البكائي أخذه ابن هشام، وقد ظل كتاب ابن إسحاق هذا موسوماً بالضياع إلى عهد قريب حيث عثر أحد الباحثين الأوربيين على عدة أوراق منه مكتوبة على أوراق البردي المصرية، ثم عُثر على جزء كبير منه بالمغرب ونشره معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بفاس سنة 1989م وحققه الأستاذ محمد حميد الله.
وقد نقل الإمام البخاري في صحيحه عن ابن إسحاق في مواضيع مختفةومن أبرز رجال هذه الطبقة أيضاً ابن هشام فقد نشأ بمدينة البصرة بالعراق ورحل إلى مصر حيث التقى بعلمائها منهم الإمام الشافعي. وفي مصر كتب " السيرة النبوية " وقد أخذ كتاب ابن إسحاق فهذبه وحذف منه كثيراً مما لا تعلق له بالسيرة أو شك في صحته ككثير من الأشعار والأنساب، أو أضاف إليه أشياء كثيرة.
ومخطوطات هذا الكتاب كثيرة، وأقدم نسخة منها يرجع تاريخها إلى القرن السادس الهجري (556هـ).
وكان المستشرق الألماني " وستنفلد " من أوائل المهتمين بطبع هذا الكتاب، فأخرجه سنة (1860هـ) في مجلدين مضبوطاً بالشكل وألحق به مجلداً يحتوي على تعاليق، وملاحظات وفهارس، ثم طبع هذا الكتاب اعتماداً على نسخة الإمام السهيلي، وهي المخطوطة التي أخذها عن شيخه ابن العربي ، وتوالت طبعاته، ومن أفضل طبعاته، وأكثرها دقة الطبعة التي حققها الأستاذ مصطفى السقا ومن معه.
الطبقة الرابعة : وهم المصنفون في السير والمغازي ممن عاصروا الإمام البخاري – رحمه الله – ومن أبرزهم :ابن سعد(ت 230هـ) ولم يفرد المسيرة بمصنف وإنما أفرد أول كتاب الطبقات لسيرة النبي ومغازيه في مجلدين تقريباً، وبقية الطبقات لتراجم الصحابة والتابعين والعلماء إلى عصره، وهو مطبوع.
ومن رجال هذه الطبقة أيضاً ابن أبي خيثمة(ت 279هـ) وكتابه مرتب على الطبقات ذكر فيه تراجم الرواة إلى عصره ومزجه بالتاريخ والسير مع النقد وعلل الحديث ومنهجه مثل منهج ابن سعد في طبقاته، وكتابه غير مطبوع.
ومن رجال هذه الطبقة أيضاً خليفة بن خياط العصفري
(ت 240هـ) له كتاب التاريخ وهو مرتب على السنوات، وكتاب الطبقات، كلاهما مطبوع، وخليفة بن خياط من شيوخ الإمام البخاري وقد روى عنه في الجامع الصحيح.

هـ – كتب التفسير :


وهي الكتب التي اهتمت بتفسير القرآن بالأثر وقد كانت هناك كتب كثيرة في القرنين الثاني والثالث في تفسير القرآن ومن أهمها :
تفسير مجاهد(ت 101هـ).

1) تفسير سفيان الثوري (ت 161هـ) : لم يفسر فيه الثوري جميع الآيات بل يفسر الآيات التي وصله شيء من تفسيرها عن السلف، وما عثر عليه من هذا التفسير يشتمل على 49 سورة من القرآن الكريم آخرها سورة الطور، وقد حققه الأستاذ امتياز علي العرشي وطبعه في رامبور الهند، ثم طبعته دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1403هـ.
2) تفسير عبد الرزاق الصنعاني(ت 211هـ).
3) تفسير إسحاق بن راهوية (ت 228هـ).
4) تفسير عثمان بن أبي شيبة (ت 239هـ).
5) تفسير أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235هـ).
6) تفسير ابن ماجه القزويني (ت 275هـ).
و – الأجزاء ا لمفردة في أبواب مخصوصة :
وهي كثيرة جداً نذكر منها:
1) الإيمان للإمام أحمد.
2) الإيمان لأبي بكر بن أبي شيبة.
3) الطهور لأبي عُبيد القاسم بن لام البغدادي اللغوي الحافظ
(ت 222هـ أو 223هـ أو 224هـ).

4) الصلاة لأبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي التميمي (ت 118هـ أو (ص 32) 119هـ) من شيوخ الإمام البخاري.
5) قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي.
6) الزكاة لأبي محمد يوسف بن يعقوب القاضي.
7) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام.
8) الإيمان والنذور، والنكاح، له أيضاً.
9) الجهاد لعبد الله بن المبارك (ت 181هـ) وهو أول من صنف فيه.
10) الاستئذان والبر والصلة له أيضاً.
11) الزهد للإمام أحمد، وهو من أحسن ما صنف في هذا الموضوع، لكنه مرتب على الأسماء.
12) الزهد لعبد الله بن المبارك، وهو مرتب على الأبواب، وفيه أحاديث واهية.
13)الزهد لهناد بن السري بن مصعب التميمي الحافظ (ت 243هـ).
14)الذكر والدعاء لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة (ت 182هـ).
15)الأمثال لأبي عبيد القاسم بن سلام.
16)العلم لأبي خيثمة زهير بن حرب النسائي البغدادي الحافظ (ت 234هـ) روى عنه الإمام مسلم أكثر من ألف حديث، وجزؤه هذا مطبوع بتحقيق الشيخ الألباني.
17)فضائل القرآن للشافعي.
ثواب القرآن لابن أبي شيبة

وغير ذلك مما لا يحصى من الأجزاء في مختلف الموضوعات، وقد أفاد منها الإمام البخاري سواء في جامعه أم في غيره من مصنفاته التي سيأتي التعريف بها في آخر مبحث من هذا الفصل.
من خلال هذا العرض السريع لأهم المصنفات الحديثية إلى عصر الإمام البخاري تتجلى لنا الحقائق العلمية التالية :¨ إن الإمام البخاري لم ينطلق في تصنيف جامعه من فراغ، بل يعتبر صحيحه حلقة من سلسلة ممتدة إلى المصنفين الأوائل كمالك وابن جريح والأوزاعي وابن المبارك وغيرهم.
إن الإضافة الجديدة التي أضافها الإمام البخاري تتمثل في :
¨ جعل كتابه جامعاً لأنواع علوم الإسلام من عقيدة وفقه وتفسير ومغازي وسير وزهد ورقاق وفضائل وآداب، بينما كان من سبقه يركز على علم من العلوم فالسنن والجوامع والموطآت كانت تهتم بما يتعلق بالأحكام الفقهية دون غيرها من العلوم. وكذلك كتب السير والمغازي. خاصة بهذا الفن ولا تتعرض لغيره. وكذلك كتب التفسير فهي موضوعة لهذا الجانب ولا تتعرض لغيره كالفقه والسير والمغازي. وأما الأجزاء الحديثية فكل جزء منها خاص بباب معين من أبواب العلم، بنما نجد الجامع الصحيح قد اشتمل على كل تلك العلوم وهذا السبب في تسميته بالجامع.
¨ كان من سبق من العلماء يجمع في كتابه الأخبار ولا يلتزم الصحة. فيذكر الصحيح والحسن والضعيف وقد يكون فيها الموضوع أحياناً، ولكن الإمام البخاري اقتصر في جامعه على الصحيح فقط لذا سماه الجامع الصحيح.

¨ كان من سبق من العلماء يجمع في كتابه الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، والمتصل والمنقطع على حد سواء، لكن البخاري خصّص كتابه لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة، وإن كان يذكر فيه الآثار والموقوفات على سبيل التبع للاستشهاد، وقد حوى جملة كثيرة من الموقوفات والآثار وعادة يرويها معلّقة، فهي ليست مقصودة أصالة وإنما بالتبع والاستطراد، لذا سمى البخاري كتابه الجامع الصحيح المسند.
¨ كان المصنفون يهتمون بمزج الحديث بالفقه كما فعل مالك في موطئه، ويذكرون آراء العلماء وفقهاء التابعين والأمصار، والإمام (ص 34) البخاري لم يهمل هذه الناحية، ولم يتوسع في ذكر فقه الحديث وإنما سلك طريقة مختصرة وهي أنه يضمن فقه الحديث في الترجمة حتى شاع على ألسنة العلماء أن فقه الإمام البخاري في تراجمه، ويعضد ما يذهب إليه بالآيات والآثار ثم يذكر أهم ما ورد في الباب من الأحاديث المرفوعة المسندة. لهذه السمات والخصائص كان صحيح البخاري أهم كتب الحديث. وهذه جملة من ثناء العلماء على صحيحه.
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي : " ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل وقال أبو جعفر العقيلي : " لما صنّف البخاري كتاب الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحي بن معين، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث ". قال العقيلي : "والقول فيها قول البخاري وهي صحيحه ".
وقال الحاكم أبو أحمد : " رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام، فإنه الذي ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل من بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم، فرق كتابه في كتابه وتجلد فيه حق الجلادة حيث لم ينسبه إليه "وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني : " لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء " وقال أيضاً : "إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل فيه مستخرجاً وزاد فيه أحاديث وما قاله الحاكم أبو أحمد والحافظ والدارقطني فيه إجحاف للإمام مسلم – رحمه الله – وإن كان قد استفاد من كتاب البخاري ومن علمه لكنه أضاف إليه مما ليس فيه وركز فيه على الأسانيد واختلاف الروايات ومتون الأحاديث وغيرها مما يتعلق بالصنعة الحديثية، مما لم يركز عليه الإمام البخاري في صحيحه.



يتبع ..






 
رد: منهج الإمام البخاري

بارك الله فيك اخي
oman tiger
المدرسة الشرعية في المغر ب العربي تقدم الامام مسلم على الامام البخاري
عكس المدرسة الشرعية في المشرق العربي التي تقدم الامام البخاري على الامام مسلم رضي الله عنهما
ولكل مدرسة وجهة نظرها في التقديم وهذا صحي
يجعل هناك تكامل في المشرق والمغرب فهم يرون بوجة نضرهم امور لا نرها نحن وكذلك العكس صحيح
وهنا تتكامل وتزيد تعم الفائدة بالاطلاع على وجهة نظر كلتى المدرستين الشرعيتين

واصل اخي وبارك الله فيك
 
رد: منهج الإمام البخاري

المبحث الثاني


النقد وعلوم الحديث إلى

عصر الإمام البخاري


لقد مر بنا في المبحث السابق أن علماء الحديث في القرنين الثاني والثالث الهجري قد بذلوا جهوداً عظيمة في تدوين السنة والحفاظ عليها بأنواع شتى من المصنفات، وطرق مناهج مختلفة في التأليف، والسؤال الذي يطرح هل كان إلى جانب هذا الجهد العظيم في الجمع والتصنيف، جهداً موازياً في النقد والتمحيص ؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال، نحدد المراد بالنقد لغة واصطلاحاً ثم ما هي عوامل ظهوره ثم نعرض بشيء من الاختصار إلى جهود المحدثين ومصنفاتهم في النقد الحديثي إلى عصر الإمام البخاري.
تعريف النقد :
فالنقد لغة : هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، وكذا تميز غيرها ومثل هذا المصدر في مدلوله، التنقاد والتنقد من انتقد وتنقد الدراهم : أي ميز جيدها من رديئهاوناقده : ناقشة في الأمرالنقد اصطلاحاً : هو دراسة الرواة والمرويات لتمييز جيدها من رديئها، وعلوم الحديث كلها تعتبر نتاجاً لهذه المهمة التي اضطلع بها المحدثون والحفاظ، ومن أبرز هذه العلوم علمي الجرح والتعديل وعلل الحديث.

دوافع النقد وعوامل ظهوره :
اختلفت عوامل ظهور النقد باختلاف المراحل التي مر بها، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين :
أ – المرحلة الأولى : وهي تتمثل في المرحلة التي سبقت ظهور الفتن والبدع ويقف وراء ظهور النقد في هذه الفترة عامل واحد وهو ما جبل عليه الإنسان من الوهم والخطأ والنسيان.
ب – المرحلة الثانية : وهي المرحلة التي ظهرت فيها البدع والفتن، ويقف إلى جانب العامل الأول عامل آخر كان وراء تطور حركة النقد ونشاطها، وهو الكذب، ولقد هيأ الله لهذه المهمة رجالاً قاموا بها أحسن قيام فقد وجد في كل عصر، وفي كل مصر من الجهابذة والحفاظ من يقوم بهذه الوظيفة من عهد الصحابة والتابعين إلى أتباعهم، يأخذ كل واحد منهم ما عند شيخه، ويضيف إليه ما توصل إليه بخبرته فتجمعت مادة علمية غزيرة في الكلام على الرواة والأحاديث إلى أن وصل الأمر إلى الأئمة الذين دوّنوا المصنفات المستقلة مثل : يحي ابن معين، والبخاري، وابن أبي حاتم وغيرهم.
والذي أريد التركيز عليه هو حركة التدوين في النقد وعلوم الحديث ويمكن تقسيمها إلى المراحل التالية:
المرحلة التمهيدية : وهو الشكل المبدئي والأولي للتدوين، إذ كان عبارة عن ملاحظات واستدراكات وتصويبات تدوّن بهوامش المرويات
يستفيدها التلاميذ من شيوخهم، وتعتبر هذه التدوينات النواة الأولى لما عرف فيما بعد بالمسانيد المعللة.
المرحلة الثانية : وتتمثل في المسانيد المعللة، وتعتبر هذه المسانيد أول علوم الحديث ظهوراً ونشأة، لأنها تضم خليطاً من المعارف الحديثة : توثيق الرواة، أو تضعيفهم، أو بيان وفاة، أو ضبط غريب، أو بيان شكل، أو توضيح كنية، أو نسبة، أو موطن، أو غير ذلك. ثم نمت بعض الشيء وبدأت تنفصل عن كتب الحديث لتأخذ تسميات خاصة كسؤالات فلان في الرجال، وكان طابع التدوين في هذه الفترة هو أن يقوم به التلاميذ عن الشيوخ ويحتفظون به، وهي في الحقيقة إنتاج الشيوخ ومؤلفاتهم، أو ما جمعوه عن شيوخهم في علوم الحديث.
وكما قام هؤلاء التلاميذ بجمع ما عند شيوخهم من علوم الحديث، قام هؤلاء الشيوخ أنفسهم بهذه المهمة، فدوّنوا عن شيوخهم كثيراً من المعلومات وأضافوا إليها، وهكذا كل طبقة عن التي تليها.
المرحلة الثانية : وتمثلها كتب هؤلاء النقاد أو الروايات عنهم، وهي وإن اختلفت مسمياتها فكلها تدور في فلك واحد، وهو نقد الرجال وعلل الحديث وما يتصل بهما من علوم الحديث. ويلاحظ هنا طابع التلازم بين نقد الرجال وعلل الحديث وهو سمة بارزة في مؤلفات ابن المديني ويحي بن معين والإمام أحمد – رحمهم الله تعالى –.
فالروايات عن يحي أخذت مسميات عدة هي : (التاريخ، معرفة الرجال، السؤالات) وأما عن أحمد بن حنبل : (العلل، العلل ومعرفة الرجال، التاريخ) وأما عن ابن المديني : (العلل، المسند بعلله، التاريخ). (ص 39).
وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت كتب مخصصة في هذه الفترة تناولت عدة فنون منها : الأسماء والكنى، الضعفاء والمدلسون، وأجزاء مستقلة لعلل أحاديث شيوخ معينين، وفي الوهم، وتفسير الغريب، والإخوة والأخوات، ومن عرف باللقب أو الاسم وهذه الكتب ذكرتها المصادر في مؤلفات ابن المديني.
ومن أحسن ما ألف في هذه المرحلة من حيث التنظيم والترتيب (طبقات ابن سعد)، وتعتبر من المصادر الأولى في علم الجرح والتعديل وعلم الرجال، وقد طبع في تسع مجلدات، وتغلب عليها الصبغة التاريخية، فمدلول كلمة تاريخ كان يشمل علم الرجال والنقد، إضافة إلى السير والمغازي، ثم اقتصر مدلوله بعد ذلك على الأحداث التاريخية، فقد سمى كل من الدوري والدارمي روايتيهما عن يحي بن معين باسم التاريخ، وكذلك أبو بكر بن أبي شيبة (ت235هـ)* سمى كتابه في الرجال والجرح والتعديل باسم التاريخ، وكذلك الإمام الحافظ خليفة بن خياط العصفري (240هـ) له كتاب التاريخ والطبقات، وكذلك نجد الإمام البخاري سمى كتابه في علم الرجال والجرح والتعديل والعلل بالتاريخ الكبير وله التاريخ الأوسط والتاريخ الصغير**.

¨ ذكر الجرح والتعديل وأحوال الرواة مضموماً إلى ذلك العلل في مناسبات تتصل بتراجمهم، والكتب السابقة تمثل هذا الاتجاه.
¨ والاتجاه الثاني : يتمثل في عرض الأحاديث التي تطرقت إليها العلل، ثم يتبع ذلك بيان حال الرواة، وجرحهم وتعديلهم والتوسع في ذلك، مع التطرق إلى ذكر أوطانهم أحياناً، ويمثل هذا الاتجاه المسند المعلل ليعقوب بن شيبة السدوسي
المرحلة الثالثة : وتمثل هذه المرحلة مؤلفات ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) وقد عمد إلى تلك المؤلفات التي وصلت إليه، فهذبها وأضاف إليها، وتعتبر كتبه نقلة نوعية في تدوين العلل والجرح والتعديل، فبعد أن كانت مادة العلل متداخلة في نقد الرجال، جرّدها وجعل كل واحدة مستقلة عن الأخرى.
وتتمثل تلك النقلة في اختيار العنوان أيضاً حيث سمى كتابه " الجرح والتعديل ومن هنا حددت أغراضه الأساسية، وهي ذكر ما وصل إليه الرواة من جرح أو تعديل، وقد اعتمد اعتماداً كبيراً على التاريخ الكبير للبخاري حيث ضمنه كتابه وأضاف إليه ومن ثم أصبح كتابه مصدراً مهماً في بابه. وقد جرده من مادة العلل وألف فيها كتاباً مستقلاً سماه " علل الحديث" واحتذى في هذا حذو الترمذي في تأليفه " العلل الصغير والكبير " والبزار في " مسنده العلل



 
رد: منهج الإمام البخاري

بارك الله فيك اخي
oman tiger
المدرسة الشرعية في المغر ب العربي تقدم الامام مسلم على الامام البخاري
عكس المدرسة الشرعية في المشرق العربي التي تقدم الامام البخاري على الامام مسلم رضي الله عنهما
ولكل مدرسة وجهة نظرها في التقديم وهذا صحي
يجعل هناك تكامل في المشرق والمغرب فهم يرون بوجة نضرهم امور لا نرها نحن وكذلك العكس صحيح
وهنا تتكامل وتزيد تعم الفائدة بالاطلاع على وجهة نظر كلتى المدرستين الشرعيتين

واصل اخي وبارك الله فيك


اعرف ذلك ولكن اجهل السبب سـأحاول معرفة السبب عن طريق احد الاخوة الدارسين للعلم الشرعي والجواب سيكون لأستاذ جزائري متخصص في علم الحديث
 
رد: منهج الإمام البخاري

المبحث الثالث


ترجمة الإمام البخاري

نسبه ومولده :
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي.
أسلم المغيرة على يد اليمان الجعفي والي بخاري، وكان مجوسياً. وقد طلب والد البخاري العلم.
قال البخاري :
" سمع أبي من مالك بن أنس، ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتا يديه "
وقد اختلف في ضبط اسم جده الأعلى (بردزبه).
فقد ضبطه الأمير بن ماكولابباء موحدة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم دال مهملة مكسورة، ثم زاي ساكنة ثم باء موحدة ثم هاء، وقال ابن حجر :" هذا هو المشهور في ضبطه ".

وقال ابن خلكان: " وقد اختلف في اسم جده فقيل : يزدبة بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وكسر الذال المعجمة، وبعدها باء موحدة ثم هاء ساكنة ".
وقال الذهبي في السير: " محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة، وقيل بذدزبة " وكذا ضبطه المزي في تهذيب الكمالوبردزبة بالبخاري، ومعناه بالعربية الزرّاع
وأما البخاري فهي نسبة إلى البلد المعروف بما وراء النهر يقال لها بخاري خرج منها جماعة من العلماء في كل فن يتجاوزون الحد، وصنف تاريخها أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الغنجار الحافظ البخاري وأحسن في ذلك وأما الجعفي فلأن أبا جده أسلم على يد الميمان الجعفي، فنسب إليه لأنه مولاه من فوق
ولد الإمام البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة وقد ذهب بصره في صغره فرأت والدته

في المنام إبراهيم الخليل فقال لها : " يا هذه قد رد الله على ابنك بصره (ص ) لكثرة بكائك أو دعائك "
طلبه للعلم :
طلب العلم وهو صبي، وكان يشتغل بحفظ الحديث وهو في الكتاب ولم تتجاوز سنه عشر سنين، وكان يختلف إلى محدثي بلده ويرد على بعضهم خطأه فلما بلغ ستة عشر سنة، كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع وعرف فقه أصحاب الرأي، ثم خرج مع أمه وأخيه أحمد إلى مكة، فلما حجّ رجع أخوه بأمه، وتخلف هو في طلب الحديث
شيوخه :
لقد أخذ البخاري عن شيوخ كثيرين قد ذكرهم من ترجم للبخاري. فمنهم من صنفهم على حروف المعجم كالمزي في تهذيب الكمال وحاول استقصاءهم، وذكرهم الذهبي في السير على البلدان، وذكرهم أيضاً على الطبقات، وقد تبعه الحافظ ابن حجر في ذكرهم على الطبقات
وهذه أسماء بعض منهم على البلدان :
سمع ببخاري قبل أن يرتحل من عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة.
ثم سمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وهو من عوالي شيوخه.
وسمع بمرور من عبدان بن عثمان، وعلي بن الحسين شقيق، وصدقة بن الفضل وغيرهم. وسمع بالري من إبراهيم بن موسى.
وسمع بنيسابور من يحي بن يحي وجماعة.
وببغداد من محمد بن عيسى الطباع، وسريج بن النعمان، وعفان، ومحمد بن سابق.
وبالبصرة من أبي عاصم النبيل، والأنصاري، ومحمد بن عرعرة وغيرهم.
وبمكة من أبي عبد الرحمن المقريء، وخلاد بن يحي، والحميدي وغيرهم.
وبالمدينة من عبد العزيز الأوسي، وأيوب بن سليمان بن بلال، وإسماعيل بن أبي أويس.
وبمصر من سعيد بن أبي مريم، وأحمد بن إشكاب، وعبد العزيز بن يوسف، وأصبغ وغيرهم.
وبالشام : من أبي اليمان، ومحمد بن يوسف الفرياني، وأبي مسهر، وأمم سواهم.
وقال رحمه الله : " كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس منهم إلا صاحب حديث. كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص "
تلاميذه :

روى عنه خلق كثير منهم : أبو عيسى الترمذي، وأبو حاتم، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، وصالح بن محمد جزرة، ومحمد بن عبد الله الخضري مطين، وإبراهيم بن معقل النسفي، وعبد الله بن ناجية، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وعمرو بن محمد بن بجير، وأبو كريب محمد بن جمعة، ويحي بن محمد بن صاعد ومحمد بن يوسف الفربري " راوي الصحيح " وأبو بكر بن أبي داود، والحسين والقاسم ابنا المحاملي، وعبد الله بن محمد بن الأشقر، ومحمد بن سلمان بن فارس، ومحمد بن عنبر النسفي وأمم لا يحصون، وروى عنه الإمام مسلم في غير " صحيحه
منزلته العلمية :
اشتهر البخاري في عصره بالحفظ والعلم والذكاء، وقد وقعت له حوادث كثيرة تدل على حفظه منها امتحانه يوم دخل بغداد وهي قصة مشهورة وكان – رحمه الله – واسع العلم غزير الاطلاع، قال وراقة ابن أبي حاتم : قرأ علينا أبو عبد الله كتاب " الهبة " فقال ليس في " هبة وكيع " إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوه وفي كتابي هذا خمسمائة حديث أو أكثر

وقال : " لا أعلم شيئاً يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب أو السنة. فقيل له : يمكن معرفة ذلك كله قال نعم "
وقال له بعضهم، قال فلان عنك لا تحسن أن تصلي، فقال : لو قيل شيء من هذا ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة
ثناء الأئمة عليه :
أثنى عليه أئمة الإسلام، وحفاظ الحديث ثناءً عاطراً واعترفوا بعلمه وفضله وخاصة في الرجال وعلل الحديث، وهذا شيء يسير من ثناء هؤلاء الأئمة عليه
قال الإمام البخاري رحمه الله : ذاكرني أصحاب عمرو بن علي الفلاس بحديث، فقلت : لا أعرفه فسُروا بذلك، وصاروا إلى عمرو فأخبروه، فقال : حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث.
وكان إسحاق بن راهوية يقول : اكتبوا عن هذا الشاب – يعني البخاري – فلو كان في زمن الحسن لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفقهه.
وقال الإمام أحمد : ما أخرجت خرسان مثل محمد بن إسماعيل.
وكان علماء مكة يقولون : محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خرسان.
وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت محمود بن النضر أبا سهل الشافعي يقول : دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم.
عبادته وورعه وصلاحه :
وكما جمع الإمام البخاري بين الفقه والحديث فقد جمع الله له بين العلم والعبادة. فقد كان كثير التلاوة والصلاة، وخاصة في رمضان فهو يختم القرآن في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة
وكان أحياناً يعرض له ما يؤذيه في صلاته فلا يقطعها حتى يتمها، فقد أبَّره زنبور في بيته سبعة عشر موضعاً وقد تورّم من ذلك جسده فقال له بعض القوم : كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبرك ؟ فقال : كنت في سورة فأحببت أن أتمها
كما كان – رحمه الله – ورعاً في منطقه وكلامه فقال رحمه الله : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً
وكان مستجاب الدعاء، فلما وقعت له محنته قال بعد أن فرغ من ورده : " اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك " فما تم شهر حتى مات

وقال رحمه الله : ما ينبغي للمسلم أن يكون بحالة إذا دعا لم يستجب له، فقالت له امرأة أخيه: فهل تبينت ذلك من نفسك أو جربت ؟ قال نعم، دعوت ربي مرتين فاستجاب لي، فلم أحب أن أدعو بعد ذلك، فلعله ينقص من حسناتي، أو يعجل لي في الدنيا ثم قال : ما حاجة المسلم إلى الكذب والبخلأخلاقه :
كان – رحمه الله – كريماً سمحاً كثير الإنفاق على الفقراء والمساكين، وخاصة من تلاميذه وأصحابه، ولا بأس أن أورد هذه القصة الدالة على أخلاقه العالية.
قال عبد الله بن محمد الصارفي : كنت عند أبي عبد الله في منزله، فجاءته جارية، وأرادت الدخول، فعثرت على محبرة بين يديه، فقال لها : كيف تمشين ؟ قالت : إذا لم يكن الطريق كيف أمشي ؟ فبسط يديه، وقال لها : اذهبي فقد اعتقتك. قال : فقيل له فيما بعد : يا أبا عبد الله أغضبتك الجارية ؟ قال : إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت
محنته وصبره :
لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، قال محمد بن يحي الذهلي لأهلها : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه. فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه. حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحي، فحسده
بعد ذلك وتكلم فيهفدسّ بعض من يمتحنه في (مسألة اللفظ بالقرآن) فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن ؟ مخلوق هو أم غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل : يا أبا عبد الله فأعاد عليه القول، ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال : القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغّب الرجل وشغّب الناس، وتفرقوا عنه، وقعد البخاري في منزله
قال يحي بن سعيد القطان : قال (أي البخاري) : أعمال العباد كلها مخلوقة فمرقوا عليه. وقالوا له بعد ذلك ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك قال : لا أفعل إلا أن يجيئوا بحجة فيما يقولون أقوى من حجتي. قال يحي : وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته
قال الحاكم : حدثنا طاهر بن محمد الوراق، سمعت محمد بن شاذل يقول : لما وقع بين محمد بن يحي والبخاري، دخلت على البخاري فقلت يا أبا عبد الله : أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحي ؟ كل من يختلف إليك يطرد. فقال : كم يعتري محمد بن يحي الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء، فقلت : هذه المسألة التي تحكى عنك .. قال : يا بني هذه مسألة مشؤومة رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة !
وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها.

قال الذهبي : " المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري، فوقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة واستدل لذلك ففهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه. وأخذه بلازم قوله هو وغيره وقد أظهر البخاري في هذه المحنة صبراً لا مثيل له. فقد كان كثيراً من أصحابه يقولون له : إن بعض الناس يقع فيك فيقول : } إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، ويتلو أيضاً : } ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله {([3]).وقال له بعضهم : كيف لا ندعو على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويتهمونك ؟ ! فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اصبروا حتى تلقوني على الحوض "([4]). وقال: " من دعا على ظالمه فقد انتصر "([5]).
وقال له بعضهم : يا أبا عبد الله إن فلاناً يكفرك فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما "([6]). وكان في هذه المحنة هجيراه من الليل يردد قوله تعالى:


} إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده {([1]).
قال أحمد بن سلمة : دخلت على البخاري فقلت : يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخرسان وخصوصاً هذه المدينة وقد لجَّ في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه. فما ترى ؟ فقبض على لحيته ثم قال : } وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد {([2]) اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً، ولا طلباً للرياسة، وإنما أبت عليَّ نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسداً لما آتاني لله لا غير، ثم قال لي : إني خارج غداً لتتخلصوا من حديثه لأجلي. قال فأخبرت جماعة أصحابنا، فوالله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد. وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره([3]).
وقد اقترح عليه بعض أصحابه، وهو أحمد بن سيار : ألا يظهر هذا القول عند العامة فإنها لا تحتمل منه هذا وبين له أنه لا يخالفه في قوله وإنما يدعوه إلى ستره. فقال البخاري : إني أخشى النار، أسأل عن شيء أعلمه حقاً أن أقول غيره فانصرف عنه أحمد بن سيار([4]).
ولقد كانت هذه المحنة سبباً للطعن في هذا الإمام العظيم، والقدح في عدالته عند بعض الأئمة المعاصرين له. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم
الرازي([1]) : " قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومائتين، وسمع منه أبي، وأبو زرعة، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحي أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق " قال الذهبي– رحمه الله - : " إن تركا حديثه، أو لم يتركا، البخاري ثقة مأمون يحتج به في العالم " ولم تكن محنة هذا الإمام لتنتهي بخروجه من نيسابور، بل قد وقعت له في بخاري محنة أخرى هي امتداد للأولى. إذ لما قام البخاري " بخاري " استقبله أهلها استقبالاً عظيماً، وبقي أياماً على الحفاوة والتكريم. فكتب بعدها محمد بن يحي الذهلي، إلى خالد بن أحمد أمير بخاري " إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة. فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا : لا نفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد، فخرجوقد ذكر المؤرخون سبباً آخر يمكن أن يكون هو السبب الحقيقي لنفرة هذا الأمير من البخاري. فقد طلب من البخاري لما قدم "بخارى" أن يحمل " الجامع " و " التاريخ " وغيرها من كتبه ليسمعها الأمير وأهل بيته، لكن البخاري اعتبر ذلك إذلالاً للعلم. وقال لرسوله : " أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلي شيء منه حاجة، فاحضر إلى مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم
القيامة لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من ناروفاته :
لما منع البخاري من العلم خرج إلى " خرتنك " وهي قرية على فرسخين من سمرقند، كان له بها أقرباء فبقي فيها أياماً قليلة، ثم توفي وكان ذلك ليلة السبت ليلة عيد الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ستة وخمسين ومائتين، وعاش اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماًوكانت حياته كلها حافلة بالعلم معمورة بالعبادة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

المبحث الرابع

الآثار العلمية للإمام البخاري

لقد ترك الإمام البخاري إنتاجاً علمياً غزيراً يدل على علمه وتمكنه، وقد استفاد ممن قبله واستفاد منه من جاء بعده فاقتدوا به في مصنفاته، واحتذوا حذوه. وساروا على طريقته. ولقد حفظت لنا كتب التاريخ والتراجم أسماء كتبه ومصنفاته، لكن الكثير منها فقد منذ أمدٍ بعيد، وهذه أسماء كتبه التي ذكرها العلماءوسأعرّف بالموجود منها.
1) الجامع الصحيح.
2) الأدب المفرد.
3) التاريخ الكبير.
4) التاريخ الأوسط.
5) التاريخ الصغير.
6) خلق أفعال العباد.
7) الرد على الجهمية.
8) الجامع الكبير. 9) المسند الكبير.
10)الأشربة.
11)الهبة.
12)أسامي الصحابة الوحدان.
13)المبسوط.

14) المؤتلف والمختلف.
15) العلل.
16) الكني.
17) الفوائد.
18) قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم.
19) رفع اليدين في الصلاة.
20) القراءة خلف الإمام.
21) بر الوالدين.
22) الضعفاء.



1 – الجامع الصحيح :

أ – دوافع تأليف :
من خلال ما تقدم عرضه – في المباحث السابقة – من كتب السنة والحديث التي سبقت ظهور الجامع الصحيح نلاحظ أن تلك المؤلفات لم تفرد الحديث الصحيح بالتأليف وإنما كانت تضم الصحيح والضعيف والمعلول وأحياناً الجرح والتعديل وغيرها من علوم الحديث كما تقدم بيانه سابقاً. وكان علماء الحديث يفعلون ذلك ثقة منهم أنه في إمكان أي محدث أو فقيه أن يميز هذا من ذاك، من غير تنصيص من هؤلاء المؤلفين. لكن يبدو أن هذا (ص 54) الأمر أصبح عسيراً في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. فقد استطال السند، وكثر الرواة، وتشعبت الطرق، فأصبح من العسير جداً على غير الأئمة النقاد التمييز بين الصحيح من عشرات الأحاديث والطرق الضعيفة أو المعلولة للحديث الواحد. وأصبحت الحاجة ماسة جداً إلى وضع كتاب يضم الصحيح فقط ويتحاشى الضعيف
والمعلول. وليس هذا فحسب، بل أن يكون مختصراً، إذ المؤلفات السابقة، كما مر في المباحث المتقدمة، كانت واسعة وكبيرة وخاصة الجوامع والمسانيد، وحتى لا يكون هذا لاختصار مخلاً فالإمام البخاري جعل كتابه شاملاً لأهم مقاصد تلك الكتب السابقة، ففيه ما يتعلق بالتوحيد، وفيه ما يتعلق بالفقه والأحكام، وفيه ما يتعلق بالتفسير، وما يتعلق بالسير والمغازي، والشمائل والمناقب، والطب والرؤيا، ومن ثمة كان حرياً أن يوصف بأحسن وخير كتب الإسلام كما وصفه بذلك الإمام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –([1]).
وقد أعلن هذه الحاجة المحدث الكبير شيخ الإمام البخاري. الإمام إسحاق بن راهوية في مجلس من مجالسه العلمية قال : " لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال الإمام البخاري : " فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح
وقد ظهر لي غرض آخر دفع البخاري إلى تأليف جامعه وهو تلك الموجة من البدع التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث، كالإرجاء والاعتزال والخروج ، والتجهم والنصب، والتشيع، وبدع سلوكية كالتصوف الغالي، وبدع مذهبية فروعية، كالتعصب لإمام ما والإقبال على استعمال الرأي وتكلف القياس وأطراح السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك كله جرد الإمام البخاري نفسه من خلال

جامعه للرد على كل هذه البدع بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكتاب " الإيمان " من " جامعه " قد ذكر فيه مذهب أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان من أنه قول وعمل، يزيد وينقص وضمنه الرد على المرجئة، وهذا واضح في كثير من تراجم هذا الكتاب منها :
" دعاؤكم إيمانكم "، " أمور الإيمان "، " من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، " علامة الإيمان حب الأنصار "، " تفاضل أهل الإيمان "، " الصلاة من الإيمان "، " اتباع الجنائز من الإيمان"، " زيادة الإيمان ونقصانه "، وكذلك ضمنه الرد على غلاة الخوارج والمعتزلة الذين يجعلون الأعمال ركناً من الإيمان يزول بزوالها. فيكفرون أهل الكبائر ويحكمون بخلودهم في النار، وهذا الرد في التراجم التالية : " كفران العشير، وكفر دون كفر " و " المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك "، " ظلم دون ظلم ".
وأما كتاب " فضائل الصحابة " وكتاب " مناقب الأنصار " فقد ضمنها الرد على الشيعة الروافض والناصبة، والخوارج وغيرهم من المنحرفين عن أصحاب رسول الله كلهم أو بعضهم، فقد أورد مناقب أبي بكر وعمر وعثمان، وفضل عائشة، ومعاوية وهذا رد على الشيعة. وأورد فيه ما يدل على فضل علي والحسن والحسين، ومناقب فاطمة وهذا رد على الخوارجوالنواصب().
وأما كتاب " القدر " فقد ضمنه الرد على القدرية النفاة
وأما كتاب " الفتن " فقد ضمنه الرد على من يرى الخروج على الأئمة بالسيف من الخوارج والمعتزلة، وأما كتاب " الأحكام " فقد ضمنه الرد على انحرافات الشيعة والخوارج فيما يتعلق بالإمامة كما ضمن كتاب " أخبار الآحاد "، وكتاب " الاعتصام بالسنة " الرد على من لا يرى قبول أخبار الآحاد من المعتزلة وغيرهم، وأما كتاب " الاعتصام بالسنة " فقد ضمنه الحث على التمسك بها، وهو رد على غلاة القياسيين، وأهل الرأي ومن تراجمه فيه : " باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس "، " باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عما لم ينزل عليه من الوحي فيقول لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي ولم يعمل برأي ولا بقياس لقوله تعالى : }بما آراك الله {، " تعليم النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل".
أما " كتاب التوحيد " فهو في بعض روايات الصحيح " كتاب التوحيد والرد على الجهميةوغيرهم " وضمنه مذهب أهل السنة
والجماعة في باب الأسماء والصفات، وفيه رد بالغ على الجهمية والمعتزلة ومن تابعهم في إنكار صفات الله عز وجل وأسمائه أو تأويلها على غير ما ورد به الشرع.
وقد أفرد في جامعه كتاباً للزهد والرقاق ضمنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع وفي كثير من أبوابه رد على غلو الصوفية الذين أحدثوا مناهج مبتدعة في تزكية النفوس، من هذه الأبواب : " القصد والمداومة على العمل "، " الرجاء مع الخوف ".
ب – الأغراض الفقهية للبخاري في صحيحه :
اشتمل الجامع الصحيح للإمام البخاري على (97) كتاباً و (3450) باباً مرتبة على المسائل الفقهية والعقدية وغيرها.
وكان رحمه الله يقطع الأحاديث ويختصرها ويكررها في مواضع مختلفة لتخدم الناحية الفقهية، من أجل ذلك نجد أن كتابه لم يتضمن الأحاديث الصحيحة المسندة فحسب، والتي هي أصل الكتاب. ومن أجلها صنفه، وإنما ضم إلى جانب ذلك الكثير من الآيات القرآنية التي لها صلة بموضوع الباب الذي يذكره، وأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وكثيراً من الأحاديث المعلقة وكثيراً مما يستنبطه من معاني الأحاديث من الفقه والأحكام. بما تقدم ذكره، وبتراجمه التي أودعها استنباطاته العجيبة، وبرده على كثير من المخالفين لأهل الحديث.
وقد اهتم الكثير من العلماء بالجانب الفقهي من صحيح البخاري ودوّنوا فيه مصنفات كثيرة.
جـ – عناية الأمة الإسلامية وعلمائها بصحيح البخاري :
لم يحظَ كتاب بعد كتاب الله من العناية ما حظيه صحيح البخاري، وكانت هذه العناية جهوداً علمية دقيقة في خدمة هذا الكتاب، فقد انتقل إلينا صحيح البخاري من مؤلفه إلى عصرنا عبر أيد علمية أمينة : سماعاً أو إجازة، أو مناولة، وميزوا بين الروايات المختلفة والنسخ وما بينها من فروق معزوة إلى أصحابها، وهذه الاختلافات سببها اختلاف الأوقات التي يسمع فيها تلاميذ البخاري منه، أو لبعض أخطاء النساخ وأشهر هذه الروايات هي : 1) رواية أبي ذر عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الهروي الحافظ
2) رواية ابن السكن : أبو علي سعيد بن عثمان الحافظ
3) رواية الأصيلي : أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي
4) رواية النسفي : أبو إسحاق إبراهيم بن معقل النسفي

والروايات الثلاث الأولى كلها عن طريق الفربريأما الرواية الرابعة فهي للنسفي عن البخاري، وقد سمع بعضه، وأجاز له من أول كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب.
ولقد اهتم العلماء بضبط هذه الروايات وتحريرها، وممن قام بهذا العمل الحافظ شرف الدين علي بن محمد بن عبد الله اليونينيعندما قام بضبط رواية البخاري وقابل أصله بأصل مسموع على الحافظ أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي، وبأصل أبي القاسم بن عساكر، وبأصل مسموع على أبي الوقت، وقد حضر معه في هذه المقابلة الإمام النحوي جمال الدين بن مالك، فكان إذا مر بلفظ يظهر أنه مخالف لقوانين العربية المشهورة، قال لليونيني، هل الرواية فيه كذلك ؟ فإن أجابه بأنه ثابت في الرواية شرع ابن مالك في توجيهها، وجمع هذه التوجيهات في كتاب سماه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح " وهو مطبوع. ولم يقصد اليونيني أن يرجع بهذه المقابلة ما هو ثابت في الأصول، ويخرج منها صورة مختارة – في نظره – لصحيح البخاري، وإنما قصد أن يجمع تلك الروايات كلها في صعيد واحد، تيسيراً لمن يريد الانتفاع بها من
العلماء، وإغناء له عن التنقيب عليها في مختلف المظان. وقد استعان بالرموز في الإشارة إلى اختلاف النسخ، حيث اختار من بعض حروف الهجاء علامات يضعها على مواطن الخلاف، وبذلك ضبط رواياتهم مجتمعة بأخصر طريق، وحرر ألفاظ الكتاب على نحو ما هو ثابت عند أصحاب الأصول الأربعة التي قابل عليها أصله.
والنص المطبوع الآن هو نسخة اليونيني هذه، مع مقارنة ببعض النسخ، وقد أرسل هذه الأصل إلى السلطان عبد الحميد لينشر في مصر، وقد طبع في مطبقة بولاق
وقد اهتم علماء آخرون بشرح صحيح البخاري ومن أبرز من قام بهذا العمل، الإمام أحمد بن محمد الخطابي (ت 386هـ)، ومحمد بن يوسف الكرماني (ت 788هـ) في كتابه " الكواكب الدراري " وهو مطبوع، ومنهم (ص 60) الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في كتابه " فتح الباري " ومحمود بن أحمد العيني (ت 855هـ) في كتابه " عمدة القاري "، وأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني (ت 923هـ) في كتابه " إرشاد الساري ".
وقد ذكر فؤاد سزكين في كتابه " تاريخ التراث العربي " (56) شرحاً. للجامع الصحيح، بعضها مخطوط وبعضها قد طبع عدة مرات كالكتب السابقة([2]).


وقد انصرف بعض العلماء إلى ضبط أسماء الرواة الوارد ذكرهم في الجامع الصحيح، والكلام عليهم جرحاً وتعديلاً. وقد أثمرت هذه الجهود كتباً كثيرة في هذا المجال أذكر منها ما يلي :
1) أسامي من روى عنهم البخاري : لعبد الله بن عدي بن عبد الله الجرجاني([1]) (ت 365هـ).
2) الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد لأبي نصر أحمد بن محمد الكلاباذي([2]) (ت 398هـ).
3) ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات عند البخاري ومسلم. للدارقطني([3]) (ت 385هـ). طبع بتحقيق بوران الصناري، وكمال يوسف الحوت، بمؤسسة الكتب الثقافية – بيروت لبنان.
4) تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم وما انفرد به كل واحد منهما، (ص 61) لأبي عبد الله الحاكم([4]) النيسابوري (ت 405هـ)، طبع بتحقيق كمال يوسف الحوت، بمؤسسة الكتب الثقافية – بيروت لبنان.

1) تقيد المهمل وتميز المشكل : لأبي علي الغساني الجياني([1]) (ت 409هـ).
2) الجمع بين رجال الصحيحين، لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي([2]) المعروف بابن القيسراني (ت 507هـ) وقد طبع في الهند، وتولت طباعته دائرة المعارف العثمانية سنة 1323هـ.
3) المعلم بأسامي شيوخ البخاري ومسلم لمحمد بن إسماعيل بن خلفون(ت 636هـ) وهو مخطوط.
4) رجال البخاري ومسلم لأحمد بن موسى الهكاري(ت 763هـ).
5) قرة العين في ضبط أسماء رجال الصحيحين لعبد الغني البحراني(ت 1174هـ) وهو مطبوع.
2 – التاريخ الكبير :

صنفه البخاري في سن مبكرة وسنه إذ ذاك ثماني عشرة سنة وقد قصد منه الاختصار فقد قال رحمه الله : " كل اسم في التاريخ إلا وعندي قصته، إلا أنني كرهت أن يطول الكتاب "فالكتاب مخصص لرواة الحديث عامة سواء أكانوا ثقات أم ضعفاء وقد اعتمد فيه البخاري على الروايات في إثبات الأسماء والأنساب والكنى، كما اشتمل على الكثير من الجرح والتعديل إلى مادة هامة في علل الحديث. وهذه الغزارة العلمية كانت ولا تزال سبباً في غموض منهجه وصعوبة الاستفادة منه. وقد أدرك هذا الغموض الإمام البخاري قبل غيره. قال رحمه الله : " لو نشر بعض أستاذي هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب التاريخ، ولو عرفوه "، وقال : " أخذ إسحاق بن راهوية كتاب التاريخ الذي صنفته فأدخله على عبد الله بن طاهر. فقال : أيها الأمير ألا أريك سحراً ؟! قال : فنظر فيه عبد الله، فتعجب منه وقال لست أفهم تصنيفه "لذا ينبغي أن يكون الكتاب موضع اهتمام الباحثين والدارسين لتقريب الاستفادة منه*.
اشتمل التاريخ الكبير على (12315) ترجمة كما في النسخة المطبوعة المرقمة، ولقد رتبه البخاري – رحمه الله على حروف المعجم لكن بالنسبة
للحرف الأول من الاسم والحرف الأول من اسم الأب لكنه بدأ الكتاب بأسماء المحمدين لشرف اسم النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه قدم في كل اسم أسماء الصحابة أولاً، دون النظر إلى أسماء آبائهم، ثم ذكر بعد ذلك بقية الأسماء ملاحظاً ترتيب أسماء آبائهمكما أورد فيه قسماً خاصاً بالكنى، ولم يراع الترتيب في الأسماء التي لم تكثر فيها التراجم.
ويذكر البخاري ألفاظ الجرح والتعديل، لكنه يستعمل عبارات لطيفة في الجرح. فيقول مثلاً: " فيه نظر "، أو " سكتوا عنه " وأشد ما يقوله من العبارات في الجرح " منكر الحديث " وكثيراً ما يسكت عن الرجل فلا يذكر فيه توثيقاً ولا تجريحاً.
ولما كان هذا العمل جهداً بشرياً فإنه لم يسلم من الأوهام والأخطاء. لكنها أخطاء يسيرة وأوهام معدودة تكلم عليها الحفاظ وبينوها. فمن هؤلاء الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه "موضح أوهام الجمع والتفريق " فالجمع عد الاثنين فأكثر واحداً، والتفريق : عد الواحد اثنين فأكثر ساق فيه أربعة وسبعين فصلاً غالبها في التفريق، وبعضها في الجمع، يورد في كل فصل عبارة التاريخ الكبير ثم يذكر رأيه ويستدل عليه بكلام الأئمة ويسوق الأسانيد التي تشهد له. والكتاب مطبوع وهو مفيد في بابه، وليس كل ما في مسلم له.
وانتقده من قبل الإمام ابن أبي حاتم الرازي في كتابه " خطأ الإمام البخاري في تاريخه " وهو مطبوع، كما انتقده أيضاً الحافظ عبد الغني في بعض الأوهام التي وقعت له، وهي أشياء يسيرة لا تتجاوز العشرة، وقد

طبعت كملحق في الجزء الثامن من التاريخ الكبير طبعة دار الكتب العلمية بيروت.
3 – التاريخ الصغير :
انتزعه البخاري من التاريخ الكبير، ولكن رتبه حسب الوفيات ويكاد ينقل عبارته في معظم الأحيان مع حرصه على الاختصار، ومع ذلك فيه (ص 64) إضافات لا توجد في التاريخ الكبير، ويعتبر التاريخ الصغير من مصنفات البخاري المتأخرة بدليل إيراده للتراجم التي توفي أصحابها قبل وفاة البخاري بقليل، وقد طبع في مجلدين بتحقيق محمود إبراهيم زايد، بدار المعرفة بيروت سنة 1406 – 1986.
4 – التاريخ الأوسط :
ذكر الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي([1])، أن هناك نسخة ناقصة منه في بنكيبور 12 : 32 رقم 687 وقد نقل منه الحافظ ابن حجر في التهذيب([2]).
5 – كتاب الكنى :
من الباحثين من يرى أنه كتاب مفرد مستقل عن التاريخ الكبير، كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر في مناسبات عدة، منها في أثناء تعديد مصنفات البخاري في مقدمة الفتح([3]) فتارة يسميه كتاب الكنى، وتارة الكنى المجردة، وتارة الكنى المفردة. ويرى الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي

– رحمه الله – بأنه جزء من التاريخ الكبير أو أنه متمم له([1]) وقد طبع بنهاية التاريخ الكبير، وقد اشتمل على (993) ترجمة’ وكانت استفادة العلماء من هذا الكتاب كبيرة وخاصة ممن ألف في هذا الموضوع ممن جاء بعد البخاري كالإمام مسلم في كتابه الكنى، والحاكم الكبير أبو أحمد.
6 – الضعفاء الكبير :
ذكره ابن النديم في الفهرست([2]) وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي (ص 65) وذكر أنه يوجد مخطوطاً في مكتبة بتنة بالهند تحت رقم (3937).
7 – الضعفاء الصغير :
وقد أفرده للضعفاء ومن لا يحتج بحديثهم، وهو كتاب مختصر ومفيد في بابه. طبع في الهند سنة 1325هـ، ونشر مع كتاب المنفردات والوحدان للإمام مسلم سنة 1323. كما طبع بحلب في دار الوعي سنة 1396هـ.
خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل :
موضوع هذا الكتاب هو الرد على المعتزلة والقدرية النفاة لقدر الله عز وجل. والقائلين بأن العبد يخلق أفعال نفسه. وكذلك الرد على الجهمية والمعطلة النافين لصفات الله عز وجل، وقد أفاض البخاري في الرد عليهم في مسألة كلام الله وبيان أن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقد تضمن هذا الكتاب (484) نصاً فيها الأحاديث المرفوعة، والموقوفة وآثار من كلام التابعين وأئمة السنة، وليس كل ما ورد فيه صحيح بل فيه الصحيح

والحسن والضعيف، وهو كتاب مهم لأنه حفظ لنا كثيراً من نصوص السلف في مسائل الاعتقاد، كما أنه شهادة صادقة على أن الإمام البخاري – رحمه الله – كان من أئمة أهل السنة والجماعة المتبعين لما كان عليه سلف الأمة في مسائل الاعتقاد، والرد على أهل البدع والأهواء. وقد طبع هذا الكتاب وقام بتخريج أحاديثه وتصحيح ألفاظه كل من أبي محمد سالم بن أحمد بن عبد الهادي السلفي، وأبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني الأبياني.
9 – الأدب المفرد :
موضوع هذا الكتاب أحاديث الآداب والأخلاق وقد اشتمل على عدد ضخم من الأحاديث في هذا المجال فيها الصحيح والحسن والضعيف وسبب تسميته بالأدب المفرد هو التمييز بينه وبين كتاب الأدب في الجامع الصحيح وقد طبع عدة مرات وقام بشرحه بعض العلماء. (ص 66).
10 – جزء القراءة خلف الإمام :
تعرّض فيه لمسألة قراءة الفاتحة في الصلاة. فالبخاري رحمه الله يرى وجوب قراءة الفاتحة في الصلوات كلها ما يجهر فيها وما يخافت، وقد ذكر في الجامع الصحيح باباً ضمن فيه بعض الأحاديث الدالة على وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم في جميع الصلوات سواء كانت سرية أم جهرية([1]). وقد توسع في هذا الجزء في ذكر أدلة هذه المسألة، والرد على المخالفين فيها، وهو مطبوع.
11 – جزء رفع اليدين في الصلاة :
تعرض فيه لمسألة رفع اليدين في الصلاة، فبين سنية الرفع عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وبين الركعتين، وتكلم على الأحاديث التي يحتج بها المخالفون في هذه المسألة وبيان ضعفها وعللها. وهو كتاب مفيد على صغر حجمه. وقد طبع في مصر والهند وغيرهما، وعليه تخريجات للشيخ أبي محمد بديع الدين السندي سماها قرة العين في تخريج أحاديث رفع اليدين.
هذه هي الكتب التي ما تزال موجودة من مصنفات الإمام البخاري والكثير منها لا يعرف حتى في زمن الحفاظ المتأخرين كابن حجر وغيره. فقد ذكر الحافظ الكتب السابقة ثم قال : " … وهذه الكتب موجودة مروية لنا بالسماع وبالإجازة .. " ثم ذكر الكتب الأخرى من خلال ما ورد في أقوال أو تصانيف الحفاظ المتقدمين كالبغوي وابن منده والترمذي([1]). (ص 67).
التأثير العلمي لمصنفات الإمام البخاري :
لقد ترك الإمام البخاري – رحمه الله – آثاراً بارزة، في من كان في عصره من العلماء والحفاظ أو من جاء بعدهم، فاحتذروا به في مصنفاتهم، واقتفوا أثره واستفادوا من علمه، ومن هؤلاء الأعلام:
1 – الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261هـ) :
لقد استفاد الإمام مسلم – رحمه الله – الكثير من الإمام البخاري فقد سار على طريقة البخاري في إفراد الأحاديث الصحيحة المسندة دون غيرها وألف في ذلك كتابه العظيم " المسند الصحيح ". ولم يكن الإمام مسلم مجرد مقلد للإمام البخاري بل كان إماماً مجتهداً له آراؤه الخاصة في

التصحيح والتعليل والتجريح والتعديل. فنراه في صحيحه يخرج لرواة تركهم البخاري، ويصحح أحاديث أعلها البخاري، ويعل أحاديث صححها البخاري، ويترك رواة روى لهم البخاري. كما استفاد منه في كتابه الكنى.
2 – الإمام الترمذي (ت 279هـ) :
يعد من أبرز تلاميذ البخاري، صنف كتابه " العلل الكبير " و " الجامع " وقد ملأهما بالنقل عن الإمام البخاري، وسؤاله عن علل الحديث وأحوال الرجال سؤالات مباشرة. كما استفاد من التاريخ الكبير ونقل منه في مواضع كثيرة، وقد صرح الترمذي بذلك في علله الصغير([1]).
3 – الإمام ابن خزيمة (ت 311هـ) :
لقد اقتدى بالبخاري فوضع كتاباً جرد فيه الصحيح. (ص 68).
4 – الإمام ابن حبان (ت 354هـ) :
لقد اقتفى أثر البخاري أيضاً ووضع كتاباً للصحيح، مع أنه ابتكر تقسيماً من عنده لم يسبق إليه.
5 – الإمام ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) :
لقد استفاد هو أيضاً كثيراً من مصنفات الإمام البخاري، وبنى كتابه المهم " الجرح والتعديل " على تراجم كتاب البخاري " التاريخ الكبير "، وله فيه إضافات وزيادات كثيرة.
6 – الإمام النسائي (ت 303هـ) :

تبع الإمام البخاري في تجريد الضعفاء والمتروكين في كتاب خاص، وهذا في كتابه " الضعفاء والمتروكين "، وهو مطبوع، ثم تتابع الحفاظ على تجريد الضعفاء والمتروكين بالتصنيف، وكثرت في هذا النوع المصنفات.
7 – الإمام البيهقي (ت 458هـ) :
اقتدى بالإمام البخاري في كتابه " جزء القراءة خلف الإمام " فوضع كتاباً بنفس العنوان ضمنه كتاب البخاري وزاد عليه وهو مطبوع.
هذه أمثلة قليلة لم أقصد منها الاستيعاب وإنما قصدت منها الدلالة على أن الإمام البخاري كان صاحب السبق في كثير من المصنفات.
وفي نهاية هذا المبحث نصل إلى النتيجة التالية : عبقرية الإمام البخاري وإمامته في الحديث والعلل والتي تجلت في كتابه " الجامع الصحيح " الذي يعد سلسلة متواصلة من جهود المحدثين في التأليف والتصنيف والنقد والتمحيص.



















 
رد: منهج الإمام البخاري

الفصل الثاني
منهج تصحيح الأحاديث
عند الإمام البخاري

المبحث الأول : عدالة الرواة.
المبحث الثاني : ضبط الرواة.
المبحث الثالث : اتصال السند.

المبحث الأول
عدالة الرواة
المطلب الأول : تعريف العدالة لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني : شروط العدالة وموقف البخاري منها.
المطلب الثالث : مسائل متعلقة بالعدالة وموقف البخاري منها.
المطلب الرابع : موقف البخاري من أحاديث أهل البدع والأهواء.
المطلب الخامس : موقف البخاري من الرواة المجاهيل.
المطلب السادس : الوحدان وموقف البخاري من رواياتهم.
المطلب الأول
تعريف العدالة
أ – تعريف العدالة لغة :
العدالة مصدر عَدُل بالضم، يقال عدل عدالة وعدولة، فهو عدل، أي رضا ومقنع في الشهادة، قال كثير :
وبايعت ليلى في الخلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع

ويقال رجل عدل، ورجلان عدل، ورجال عدل، ونسوة عدل، وكل ذلك على معنى رجال ذو عدل ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثني
ولا يجمع، ولا يؤنث فإن رأيته مثنى أو مجموعاً أو مؤنثاً فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذي ليس بمصدر. وأما العدل الذي ضد الجور. فهو مصدر قولك : عدل في الأمر فهو عادل، وتعديل الشيء تقويمه، يقال عدله تعديلاً فاعتدل، أي: قومته فاستقام، وكل مثقف معتدل، وتعديل الشاهد نسبته إلى العدالة وجاء في القاموس المحيط " عدل الحكم تعديلاً أقامه، وفلاناً زكّاه، والميزاه سواه فيظهر من خلال ما تقدم أن التعديل هو نسبة الرجل إلى العدالة، التي هي الرضا والقناعة بالشخص على أنه صالح للشهادة، وتزكيته.

ب – تعريف العدالة اصطلاحاً :

عرفها العلماء بتعريفات كثيرة أذكر منها ما يلي :
عرفها الإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ) نقلاً عن القاضي أبي بكر بن الطيب (ت 403هـ) بقوله : " العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامته من


1) الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها "
2) وعرفها الإمام أبو محمد بن حزم (ت 456هـ) بقوله :
" العدالة هي التزام العدل، والعدل هو الالتزام بالفرائض، واجتناب المحارم، والضبط لما روى وأخبر به فقط "وعرفها الغزالي (ت 505هـ) بقوله :
" العدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه "وعرفها الإمام الحازمي (ت 594هـ) بقوله : " وصفات العدالة هي اتباع أوامر الله تعالى، والانتهاء عن ارتكاب ما نهى عنه، وتجنب الفواحش المسقطة، وتحري الحق، والتوقي في اللفظ مما يثلم الدين والمروءة وليس يكفيه في ذلك اجتناب الكبائر حتى يجتنب الإصرار على الصغائر، فمتى وجدت هذه الصفات كان المتحلي بها عدلاً مقبول الشهادة وعرفها ابن الصلاح (ت 643هـ) بقوله : " أجمع جماهير أهل الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما


يرويه وتفصيله أن يكون مسلماً، بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة .
وعرفها الحافظ ابن حجر (ت 802هـ) بأنها "ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة
وتبعه على هذا التعريف الحافظ السخاوي (ت 902هـ) – رحمه الله
نلاحظ أن هذه التعاريف كلها تدل على معنى واحد وهو : أن العدالة هي الاستقامة في الدين بفعل الواجبات وترك المحرمات، كما نلاحظ أن جميع التعاريف لم تدخل الضبط والحفظ كشرط في العدالة إلا في تعريف ابن حزم – رحمه الله – ومن هنا نفرق بين نوعين من العدالة :
الأول : العدالة الدينية والمقصود بها الاستقامة في الدين.
والثاني : العدالة في الرواية والمقصود بها : حفظ الراوي وضبطه لما يرويه.
والنوع الأول هو المراد عند إطلاق المحدثين أو الفقهاء. كما نلاحظ أن هذه التعاريف قد تعرضت لذكر شروط العدالة إما على سبيل الإجمال أو على سبيل التفصيل، وهذه الشروط هي : الإسلام، البلوغ، العقل


السلام من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، وسأتعرض فيما يلي لهذه الشروط وموقف البخاري منها في صحيحه ومدى التزامه بها.
* * *
المطلب الثاني

شروط العدالة وموقف البخاري منها

أولاً : الإسلام :
لا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعاً. وقد حكى الإجماع على ذلك الغزالي في المستصفى والرازي في المحصول وغيرهما.
قال الخطيب البغدادي : " ويجب أن يكون وقت الأداء مسلماً لأن الله تعالى قال : } إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا{وإن أعظم الفسق الكفر، فإن كان خبر الفاسق مردوداً مع صحة اعتقاده فخبر الكافر بذلك أولىفالإسلام إذا شرط عند الأداء والتبليغ وليس شرطاً عند التحمل فيصح تحمل الكافر " وقد ثبت روايات كثيرة لغير واحد من الصحابة كانوا حفظوها قبل إسلامهم وأدوها بعده "وأضرب أمثلة على ذلك من صحيح البخاري – رحمه الله - :
1) رواية جبير بن مطعم، والتي أخرجها البخاري في صحيحه حيث قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور قال الحافظ رحمه الله : " وللمصنف في المغازي من طريق معمر في آبره قال : " وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي " واستدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة وروايته التي أخرجها الإمام البخاري أيضاً، قال رضي الله عنه : " أضللت بعيراً لي فذهبت أطلبه يوم عرفه فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات، فقلت : هذا والله من الخمس فما شأنه ها هنا "قال الحافظ – رحمه الله – بعد أن أورد طرق هذا الحديث – " وفيه : أضللت حماراً لي في الجاهلية، فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات مع الناس فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك. ثم قال الحافظ : أفادت هذه الرواية، أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور، وذلك قبل أن يسلم جبير "


1) حديث أبي سفيان بقصة هرقلالتي كانت قبل إسلامه فقد رواها البخاري في صحيحه كاملة في كتاب بدء الوحي ثم قطعها في مواضع كثيرة مستنبطاً منها في كل مرة حكماً فقهياً أو فائدة جديدة.
ثانياً : البلوغ :
هذا الشرط يتعلق بحالتين من حالات الراوي : حالة السماع والتحمل، ثم حالة الأداء والرواية.
ولقد تنازع العلماء والمحدثون قديماً في ذلك، فمنهم من اشترط سناً معيناً للتحمل، ومنهم من صحح سماع الصغير. وقد ذكر هذا الخلاف الخطيب البغدادي في الكفاية فقال : " قل من كان يكتب الحديث – على ما بلغنا – في عصر التابعين وقريباً منه إلا من جاوز حد البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم، وسؤالهم. وقيل إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد. وقال قوم : الحد في السماع خمس عشرة سنة، وقال غيرهم : ثلاث عشرة، وقال جمهور العلماء : يصح لمن سنه دون ذلك، وهذا هو عندنا الصواب "

وقد ذهب الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه إلى صحة سماع الصغير قبل البلوغ، وقد ترجم لهذه المسألة في كتاب العلم بقوله : "باب متى يصح سماع الصغير ؟" وأورد فيه حديثين :
أولهما : حديث ابن عباس قال : " أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف، فلم ينكر لك علي "وثانيهما : حديث محمود بن الربيع. قال : " عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطاً في التحمل. وأشار المصنف بهذا إلى الاختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحي بن معين، رواه الخطيب في الكفاية عن عبد الله بن أحمد وغيره أن يحي قال : أقل سن التحمل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر رد يوم أحد إذ لم يبلغها. فبلغ ذلك أحمد فقال : إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال. ثم أورد الخطيب أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم، وهذا هو المعتمد وقال العلامة العيني : " ومراده (أي بهذه الترجمة) الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطاً في التحمل "ومن المحدثين من قيده بخمس سنين. قال ابن الصلاح – رحمه الله - :
" والتحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث من المتأخرين … والذي ينبغي في ذلك أن يعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعاً عن حال من لا يعقل فهماً للخطاب ورداً للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس. وإن لم يكن كذلك لم نصحح سماعه وإن كان ابن خمس بل ابن خمسين "وقال الذهبي (ت 748هـ) – رحمه الله - : " واصطلح المحدثون على جعلهم سماع ابن خمس سنين سماعاً، وما دونها حضوراً، واستأنسوا بأن محموداً عقل مجة، ولا دليل فيه، والمعتبر إنما هو أهلية الفهم والتمييز وما اختاره ابن الصلاح والذهبي – رحمهما الله – هو المختار إن شاء الله، وعليه يدل صنيع الإمام البخاري في صحيحه فقد أخرج أحاديث مجموعة من الصحابة ممن تحملوا في صباهم كابن عباس، ومحمود بن الربيع، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وعائشة، ونحوهم وهؤلاء سمعوا وهم


دون البلوغ، وأخرج لمن دونهم في السن كالسبطين الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فالمحققون من أهل العلم على عدم اعتبار تحديد سن معين بل المعتبر عندهم هو العقل والتمييز
ثالثاً : العقل :
وهو من شروط العدالة المجمع عليها، حكى الإجماع على ذلك الخطيب البغدادي وغيره من العلماء قال رحمه الله :
" وأما الأداء بالرواية فلا يكون صحيحاً يلزم العمل به إلا بعد البلوغ، ويجب أيضاً أن يكون الراوي في وقت أدائه عاقلاً مميزاً، والذي يدل على وجوب كونه بالغاً عاقلاً، ما أخبرنا القاضي أبو عمر والقاسم بن جعفر قال ثنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، قال ثنا أبو داود قال ثنا موسى بن إسماعيل قال ثنا وهيب عن خالد عن أبي الضحى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ولأن حال الراوي إذا كان طفلاً أو مجنوناً دون حال الفاسق من المسلمين.
وذلك أن الفاسق يخاف ويرجو، ويجتنب ذنوباً، ويعتمد قربات، وكثير من الفساق يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعمد له ذنب كبير، وجرم غير مغفور، فإذا كان خبر الفاسق الذي هذه
حاله غير مقبول فخبر الطفل والمجنون أولى بذلك، والأمة مع هذا مجتمعة على ما ذكرناه لا نعرف بينها خلاف فيه رابعاً : السلامة من أسباب الفسق :
الفسق هو ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرةوقد أفاض العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة، وكيفية التمييز بين الصغائر والكبائر وعددها، بل هناك من أفردها بالتصنيفوالذي يهمنا هنا هو ذكر مسألتين وقع فيهما النزاع ومحاولة معرفة موقف البخاري منهما.
المسألة الأولى :
ما حكم التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب أكثر العلماء والمحدثين إلى أن التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل روايته. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك ورافع بن الأشرس، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، ويحي بن معين ووجه عدم قبول روايته – وإن حسنت توبته – أن ذلك تغليظاً وجزراً بليغاً عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة. بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة
وألحقوا بالكاذب المتعمد من أخطأ وصمم على خطئه بعد أن يبين له ذلك ممن يثق بعلمه لمجرد عناد لكن ذهب الإمام النووي – رحمه الله – إلى قبول رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي : الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة – أي كانوا كفاراً فأسلموا – وأجمعوا على قبول شهادتهم، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا، والله أعلم أما بالنسبة لصنيع الإمام البخاري فليس هناك ما يمكن أن نستنتج منه حكماً أو رأياً ننسبه إليه. إلا أن صاحب كتاب " أسباب اختلاف المحدثين " يرى بأن احتجاج الشيخين بإسماعيل بن أبي أويس، وهو ممن اتهم بالكذب يشهد لما ذهب إليه النووي ثم أورد أقوال بعض أئمة الجرح والتعديل فيه منها :
قول يحي بن معين فيه " مخلط يكذب ليس بشيء ".
وقول النضر بن سلمة المروزي " ابن أبي أويس كذاب ".
وما نقله ابن حزم في " المحلى " عن أبي الفتح الأزدي قال حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث.
وقال سلمة بن شبيب سمعت إسماعيل ابن أبي أويس يقول : " ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم ".
وقال الحافظ ابن حجر – بعد أن نقل الأقوال السابقة : " ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات. وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري والله أعلم " هذه جملة ما ارتكز عليه الأستاذ الفاضل ليرجح ما ذهب إليه النووي، وعليه ملاحظات :
الأولى : ينبغي التفريق بين ممن اتهم بالكذب وبين من اتصف فعلاً بالكذب، وإن كان كلاً من الوصفين من أوصاف الجرح. لكن لا يخفى أن الكذاب قد تحقق فيه الوصف فعلاً أما المتهم بالكذب فلم يتحقق فيه هذا الوصف، فهل إسماعيل بن أبي أويس تحقق فيه الكذب أم لا ؟
الثانية : ذكر الأستاذ أقوال الجارحين فقط لإسماعيل ولم يذكر أقوال المعدلين أو على الأقل بعض أقوالهم، مما يوهم أن التهمة بالكذب قوية ومتحققة، وليس الأمر كذلك فقد عدله جماعة من الأئمة النقاد وإليك أقوالهم:


قال أبو حاتم : " محله الصدق، وكان مغفلاً ".
وقال الحاكم : " عيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديثه، وقد احتجا به معاً، وغمزه من يحتاج إلى كفيل في تعديل نفسه أعني النضر بن سلمة، فإنه قال : كذاب ".
وأما يحي بن معين فقد اختلفت أقواله فيه : فمرة قال : " هو ووالده ضعيفان "، وقال مرة : " يسرقان الحديث "، وقال مرة : " إسماعيل صدوق ضعيف العقل ليس بذلك "، وقال مرة : "مختلط يكذب ليس بشيء "، وقال مرة أخرى : " لا بأس به ".
وقال أحمد أيضاً : " لا بأس به ".
وقال أبو القاسم اللالكائي : " بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه ".
فأنت ترى أن الأئمة لم يتفقوا على اتهامه، بل الظاهر من أمره أنه صدوق لا يتعمد الكذب، ولكن ضعيف الحفظ وكان يعتمد على حفظه في رواية الأحاديث فيقع في الأوهام وينفرد عن سائر أصحابه بأشياء ليست عندهم. فمن نظر إلى صدقه في نفسه، واعتبر حديثه بحديث غيره، وتأكد من صحة أصوله، قوي من أمره، وروى له، واحتج به، كالبخاري ومسلم، (ص 84) والدارمي وغيرهم من الحفاظ، بل روى مسلم عن رجل عنه، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ومن نظر إلى ضعف حفظه وكثرة غرائبه وهن من أمره فالدارقطني قال فيه : " لا أختاره في الصحيح " ومنهم من ضعف عنده جانب الصدق، واستكثر تلك الغرائب واستنكرها رماه بالكذب كالنسائي وغيره.
وقد لخص الحافظ حاله في التقريب فقال : " صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه
الثالثة : إذا لم يثبت أن إسماعيل كان يكذب ويضع الحديث، فكيف يتسنى لنا أن نقول أنه تاب ؟!، ومن ثم نبني على ذلك حكماً فنقول : تقبل رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس في الأمر إلا ما ذكره الحافظ – رحمه الله – وهو في معرض الدفاع عن صدق إسماعيل وعدالته " لعل ذلك كان في شبيبته ثم انصلح "فأنت تلاحظ أن الحافظ استبعد اتهامه بالكذب، وحاول الدفاع ونفي التهمة، ولم يجزم بذلك بل ذكره متردداً في معرض الدفاع لا غير.
ومن هنا لا يصح أن نبني عليه حكماً، حتى ولو غضضنا الطرف عن أقوال معدليه، وبنينا حكماً على ما ذكره الحافظ ابن حجر لما جاز لنا أن ننسب هذا الحكم للبخاري أو مسلم أبداً، لعدم ثبوت كذبه عندهما. فقد انتقيا من أحاديثه ما يتابعه عليه الثقات من أصحاب مالك. ثم إن إسماعيل هذا من شيوخ البخاري أي ممن جالسهم وعرفهم وسبر أحاديثهم وقد روى من أصوله كما ذكر ذلك الحافظ في هدي الساري
الرابعة : لو سلمنا بهذا المثال، ولم نعترض عليه بما تقدم – لما جاز لنا من الناحية العلمية أن نبني عليه حكماً، لأن الأحكام إنما تأخذ عن طريق التتبع والاستقراء، وإن لم يكن هذا الاستقراء تاماً فعلى الأقل


أن يكون تلخيصياً مبنياً على أكثر من مثال. وأنت ترى أن هذا مثالاً واحداً، وهو غير سالم من الاعتراضات.
الخامسة : ما ذكره الإمام النووي – رحمه الله – مبنياً على القواعد الأصولية حيث استعمل القياس لإثبات هذا الحكم، وهو قياس التائب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافر إذا أسلم، ومثل له بقبول الأئمة لرواية الصحابة، وقد كانوا كفاراً ثم أسلموا. لكن هذا القياس معترض، بأن الصحابة قد عدلهم القرآن الكريم وشهد بصدق إيمانهم وإسلامهم. وأما التائب من الكذب في حديث رسول الله. فأنى لنا أن نعرف صدق توبته، حتى نحكم بعدالته ونقبل روايته، كما أنه مبني على انعدام الفارق بين الرواية والشهادة، والفارق موجود هنا.
وقد سبق إلى انتقاد النووي في هذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد قال – بعد أن ساق كلام النووي السابق – :
" كنت أميل إليه، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصناً، ولا يحد قاذفه، وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف. والفرق بين الرواية والشهادة أن الرواية الكذب فيها أغلظ منه في الشهادة لأن متعلقها لازم لكل المكلفين، وفي كل الأعصار كما مر، مع خبر (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد
وأخيراً لا يمكن أن ننسب للإمام البخاري – رحمه الله – أنه يقبل رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم قيام الأدلة الكافية على ذلك، والأقرب أن يكون مع جمهور المحدثين في عدم قبولها – والله تعالى أعلم –.
المسألة الثانية :
التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق. هذا الصنف من الرواة قبل المحدثون رواياتهم إلا خلافاً لبعض الأصوليين كالسمعاني والصيرفي
ولا عبرة بهذا الخلاف لأن المعتبر هو إجماع أهل الفن وهم هنا المحدثون ولم ينقل عنهم خلاف في ذلك. وأما ما قاله الحافظ البلقيني : " وما نقل عن الصيرفي يقرب منه ما قال ابن حزم : من أسقطنا حديثه لم نعد لقبوله أبداً، ومن احتججنا به لم نسقط روايته أبداً، وكذا ما قاله بن حبان في آخرين ".
في الواقع أن ما ذهب إليه ابن حزم لا علاقة له البتة بما يراه الصيرفي فابن حزم ذكر هذا بصدد الرد على من يقبل روايات الضعفاء في الرقاق والفضائل ويتجنبها في الأحكام والحلال والحرام، كما هو مذهب كثير من أئمة الحديث، فهو يرى أن الراوي إما أن يكون من العدالة والضبط بحيث تقبل أحاديثه جملة، أو ينزل عن درجة القبول فترد أحاديثه جملة.
خامساً : السلامة من خوارم المروءة :
عرفت المروءة بتعاريف كثيرة، جلها يرجع إلى العادات الجارية بين الناس. فقال بعضهم : "المروءة كمال المرء كما أن الرجولة كمال الرجل ".
وقال بعضهم : " المروءة هي قوة للنفس تصدر عنها الأفعال الجميلة المستحقة للمدح شرعاً وعقلاً وعرفاً ".
وقال آخرون : " المروءة صون النفس عن الأدناس، ورفعها عما يشين عند الناس " وقيل : "سيرة المرء بسيرة أمثاله في زمانه ".
ومن أحسن تعاريفها " هي آداب نفسانية، تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات
واشتراط العلماء للمروءة سببه : أن الإخلال بها إما يكون لخبل في العقل، أو لنقصان في الدين، أو لقلة حياء وكل ذلك رافع للثقة بقوله
وقد جرى نزاع كبير واعتراض على من أدخل المروءة في شروط العدالة المتفق عليها
ومما يجدر التنبيه إليه هنا – وهو أن اشتراط المروءة والقدح في الراوي الذي يتصف بما هو من خوارمها، إنما هو موكول للعالم الناقد مع إضافة أسباب أخرى قد فصلها الإمام الخطيب البغدادي حيث قال :


" وقد قال الكثير من الناس : يجب أن يكون المحدث والشاهد مجتنبين لكثير من المباحات نحو التبذل والجلوس للتنزه في الطرقات، والأكل في الأسواق، وصحبة العامة الأرذال، والبول على قوارع الطرقات، والبول قائماً، والانبساط إلى الخلق(*) في المداعبة والمزاح، وكل ما قد اتفق على أنه ناقص القدر والمروءة، ورأوا أن فعل هذه الأمور يسقط العدالة ويوجب رد الشهادة.
والذي عندنا في هذا الباب رد خبر فاعلي المباحات إلى العالم والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنه مطبوع على فعل ذلك، والتساهل به، مع كونه
ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته، بل يرى إعظام ذلك وتحريمه، والتنزه عنه قبل خبره، وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالم واتهمه عندها، وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته "([1]).
فالأمر إذن موكول إلى الناقد، فإن أكثر الشخص من الأفعال المخلة بالمروءة وتكرر منه ذلك وأعلن به في الناس كان ذلك دليلاً على السفه وخفة العقل ورقة الدين، وهذا مما يسقط العدالة ويوجب رد الرواية.
وقد ساق الخطيب البغدادي نصوصاً عن الأئمة المتقدمين تدل على هذا منها قول الإمام مالك – رحمه الله - : " لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ عن سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذ جرب ذلك عليه، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من
صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث "([1]).
ومما يؤيد ما ذهب إليه الخطيب البغدادي – رحمه الله – من رد خبر فاعلي المباحات إلى العلم – صنيع الأئمة النقاد ومنهم الإمام البخاري – رحمه الله –.
فهذا المنهال بن عمرو تركه شعبة، لما سمع في داره صوت الطنبور([2])، وفي رواية أخرى أنه سمع قراءة لحان، فكره السماع منه([3]). قال ابن القطان : " هذا ليس بجرحه إلا أن يتجاوز إلى حد يحرم، ولم يصح ذلك عنه "([4]). (ص 89).
وقال السخاوي : " وجرحه بهذا تعسف ظاهر، وقد وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما كالنسائي وابن حبان، وقال الدارقطني : إنه صدوق "
لذا نجد الإمام البخاري قد احتج به في صحيحه.
روى له حديثين أحدهما : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين، وثانيهما في تفسير سورة فصلت


وروى له تعليقاً من طريق شعبه نفسه وفيه دليل على أن شعبة لم يترك الرواية عنه وذلك إما بما لعله سمعه منه قبل ذلك، أو لزوال المانع منه عنده.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الخطيب عن شعبة قال : " لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق فرأيته يلعب بالشطرنج فتركته فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه ".
قال الخطيب : " ألا ترى أن شعبة في الابتداء جعل لعبه بالشطرنج مما يجرحه، فتركه، ثم استبان له صدقه في الرواية، وسلامته من الكبائر، فكتب عنه نازلاً "
وفي ختام هذا المطلب نلاحظ أن شروط العدالة لقبول الروايات قد أخذت من شروط الشهادة، وقد أشار إلى هذا بعض أئمة الحديث المتقدمين كأبي نعيم الفضل بن دكين فإنه كان يقول : " إنما هي شهادات، وهذا الذي نحن فيه – يعني الحديث – من أعظم الشهادات وبهز بن أسد" كان إذا ذكر له الإسناد الصحيح قال هذه شهادات الرجال العدول بعضهم على بعض، وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء قال : هذا فيه عهدة، ويقول : لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم، ثم جحده لم


يستطيع أخذها منه إلا بشاهدين عدلين فدين الله أحق أن يؤخذ من العدولوقد أشار الإمام مسلم إلى ذلك أيضاً في مقدمة صحيحه
* * *



 
رد: منهج الإمام البخاري

اعتذر عن الانقطاع المؤقت
 
رد: منهج الإمام البخاري

المطلب الثالث


مسائل تتعلق بالعدالة وموقف البخاري منها


هناك مسائل لها علاقة بشروط العدالة. ومرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً، وقد جرى إدراكها في كتب علوم الحديث، ويلاحظ أن آراء الأصوليين هي الغالبة في تلك المباحث. كما يغلب عليها طابع التنظير دون التمثيل بواقع المحدثين وسأختار فيما يلي بعض تلك المسائل، وأحاول دراستها وربطها بالواقع العملي عند الإمام البخاري خاصة. وهذه المسائل هي :
1) إذا روى الثقة حديثاً فسئل عنه فنفاه، فهل يقدح في عدالته ؟
2) إذا كان المحدث يغشى السلطان، هل يقدح في عدالته ؟
3) إذا كان المحدث يأخذ الأجرة على التحديث، فهل يقدح في عدالته ؟
المسألة الأولى :
إذا روى الثقة حديثاً فسئل عنه فنفاه، فهل يقبل قوله ؟ ثم هل يؤثر ذلك النفي في عدالته الفرع الراوي عنه أم لا ؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء على خمسة أقوال نوجزها فيما يلي:
1) إذا كان النافي جازماً، وجب رد حديث الفرع.
2) عكس الأول تماماً، وهو عدم رد المروي، ولا يكون واحد منهما مجروحاً، لاحتمال النسيان.
3) نفس القول السابق، إلا أنه يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل.
4) أنهما يتعارضان، ويرجح أحدهما على الآخر. هذه الأقوال الأربعة إذا كان الأصل جازماً بالرد.
5) أما إذا قال الأصل – إذا روجه – " لا أعرفه " أو " لا أذكره " مما يقتضي جواز أن يكون نسبه، فذلك لا يقتضي رد رواية الفرع عنه.
والظاهر قبول رواية الفرع، وأن ذلك لا يقدح في عدالته، ولا عدالة الأصل.
وقد أورد الإمام البخاري – رحمه الله – في " صحيحه " حديث ابن عباس رضي الله عنه :
" ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير

فهذا الحديث مما أنكره الأصل على الفرع، فقد رواه الإمام مسلم في صحيحه أيضاً عن عمرو بن دينار عن أبي معبد مولى ابن عباس أنه سمعه يخبر عن ابن عباس قال :
" ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. قال عمرو : فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره، وقال : لم أحدثك بهذا ! قال عمر : قد أخبرتنيه قبل ذلك "([1]).
وهذا يدل على أن البخاري ومسلماً يذهبان إلى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلاً، وأن ذلك لا يقدح في عدالة أصل الراوي ولا في عدالة الفرع الراوي عنه.
المسألة الثانية :
إذا المحدث يغشى السلطان، أو يتولى شيئاً من أعمله، فهل ذلك يقدح في عدالته أم لا ؟
قد قدح كثير من الورعين في بعض الرواة بسبب علاقتهم بالسلطان، وخاصة إذا كان سلطان جور. ولكن ذلك في واقع الأمر لا يقدح في العدالة، ولا يوجب رد الرواية. ما كان الراوي متصفاً بالصدق مجانباً للكذب، وقدح من قدح فيهم، إنما كان على سبيل الهجر والتأديب الشرعي كي يكفوا عن إعانة الظلمة – لا غير – قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " أعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به. وكذا عاب
جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا، فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط. والله الموفق ". وهذا الذي قرره الحافظ هو الحق – إن شاء الله – ويشهد له صنيع الإمام البخاري – رحمه الله – فقد روى في " صحيحه " عن رجال كثيرين ضعفوا بسبب من هذه الأسباب، ولم ير ذلك قادحاً في عدالتهم وموجباً لرد رواياتهم. ومن هؤلاء : .
1 – أحمد بن واقد الحراني :
قال ابن نمير : تركت حديثه لقول أهل بلده.
قال الميموني : قلت لأحمد : إن أهل حران يسيئون الثناء عليه فقال : أهل حران قل أن يرضوا عن إنسان، هو يغشى السلطان بسبب ضيعه له. فأفصح أحمد بالسبب الذي طعن فيه أهل حران من أجله، وهو غير قادح، وقد قال أبو حاتم : كان من أهل الصدق والإتقان. وقد روى عنه الإمام البخاري، في الصلاة والجهاد والمناقب أحاديث شورك فيها عن حماد بن زيد، كما روى عنه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي
وابن ماجة2 – حميد بن أبي حميد الطويل :
مشهور من الثقات المتفق على الاحتجاج بهم، وقال يحي بن يعلي المحاربي : طرح زائدة حديث حميد الطويل. قال الحافظ : " إنما تركه زائدة

لدخوله في شيء من أمر الخلفاء "فلم يعتبر الأئمة ذلك قادحاً في عدالته، فقد روى له البخاري وسائر الجماعة.
3 – حميد بن هلال العدوي :
قال الحافظ فيه : " من كبار التابعين وثقة ابن معين، والعجلي والنسائي وآخرون وقال يحي القطان : كان ابن سيرين لا يرضاه. قلت : بين أبو حاتم الرازي : أن ذلك بسبب أنه دخل في شيء من عمل السلطان، وقد احتج به الجماعة .
4 – خالد بن مهران الحذاء :
أحد الأثبات، وثقة أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد، وتكلم فيه شعبة وابن علية. إما لكونه دخل في شيء من عمل السلطان، أو كما قال حماد بن زيد، قدم خالد قدمة من الشام، فكأنما أنكرنا حفظه "فلم يعتبر ذلك البخاري ولا غيره قادحاً فيه، فقد روى له هو وسائر الجماعة.
5 – عاصم بن سليمان الأحول :
ثقة، حافظ. وثقة أحمد وابن معين، والعجلي وابن المديني وغيرهم، وتركه وهيب لأنه أنكر بعض سيرته. قال الحافظ : " كان يلي الحسبة بالكوفة قال ابن سعد ونجد الإمام البخاري قد وثقه وروى له في صحيحه ولم يلتفت إلى ما قيل فيه.



6 – عبد الله بن ذكوان :
أبو الزناد المدني : أحد الأئمة الأثبات الفقهاء، ويقال إن مالكاً كرهه لأنه كان يعمل للسلطان لكن نجد البخاري قد وثقه وروى له، وكذا سائر الجماعة.
7 – مروان ابن الحكم :
تكلم فيه من أجل الولاية، لكن لم ير الأئمة ذلك قادحاً في عدالته، فقد روى له البخاري أحاديثه التي رواها عنه سهل بن سعد الساعدي، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وقد اعتمد مالك رأيه وحديثه وكذا بقية الجماعة سوى مسلم
المسألة الثالثة :
أخذ الأجرة على التحديث.
في هذه المسألة قولان للعلماء : قول بالمنع، وآخر بالجواز. القول الأول :
من أخذ على التحديث أجراً فلا تقبل روايته، وإليه ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية، وأبو حاتم الرازي، وحماد بن سلمة، وسليمان بن حرب وغيرهم
القول الثاني :
البغوي، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وطاووس، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهشام بن عمار وغيرهم
والظاهر أنه لا تعارض بين هذه الأقوال إذ المنع مرتب على ما يمكن أن يجر إليه خذ العوض على التحديث من التكثر في الرواية المفضي إلى الكذب، والجواز محمول على من هو ثقة ثبت له عذر في أخذ العوض كأن يكون فقيراً، وله عيال يجب عليه مؤونتهم، وانقطاعه للتحديث يؤدي إلى ترك الكسب لهم، وإلى هذا نبّه الإمام السخاوي – رحمه الله – حيث قال : " قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله – يعني الإمام أحمد – يقول : شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما ، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كبير أحد، مثل ما قاما به : عفان، وأبو نعيم. يعني بقيامهما عدم الإجابة في المحنة، وبكلام الناس من أجل أنهما كانا يأخذان على التحديث. ووصف أحمد مع هذا عفان بالمتثبت. وقيل له : من تابع عفان على كذا ؟ فقال : وعفان يحتاج إلى أن يتابعه أحد، وأبا نعيم الحجة الثبت، وقال مرة أنه يزاحم به ابن عيينة، وهو على قلة روايته أثبت من وكيع، إلى غير ذلك من الروايات عنه، بل وعن أبي حاتم في توثيقه وإجلاله، فيمكن الجمع بين هذا، وإطلاقهما كما مضى أولاً، عدم الكتابة بأن ذلك في حق من لم يبلغ هذه المرتبة في الثقة والتثبت، والأخذ مختلف في الموضعين "
وواضح أن الإمام البخاري يذهب إلى هذا الرأي، فقد روى عن شيوخ يأخذون الأجرة على التحديث منهم :
1) أبو نعيم الفضل بن دكين
2) عفان بن مسلم
3) يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدروقي : الحافظ المتقن صاحب المسند. فقد روى النسائي عنه – في سننه – حديث يحي بن عتيق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. رفعه : " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم… "، وقال عقبة : إنه لم يكن يحدث به إلا بدينار، ومع ذلك روى له البخاري والجماعة.
4) هشام بن عمار: قال ابن عدي : سمعت قسطنطين يقول : حضرت مجلسه فقال له المستملي من ذكرت ؟ فقال له : بعض مشايخنا، ثم نعس فقال له المستملي : لا تنتفعون به. فجمعوا له شيئاً



فأعطوه فكان بعد ذلك يملي عليهم، بل قال الإسماعيلي عن عبد الله بن محمد بن سيار. إن هشاماً كان يأخذ على كل ورقتين درهمين ويشارط، لذلك قال ابن وارة : عزمت زماناً أن أمسك عن حديث هشام. ل أنه كان يبيع الحديث، وقال صالح بن محمدإنه كان لا يحدث ما لم يأخذومع هذا كله لم ير الإمام البخاري ذلك قادحاً في عدالته فقد روى له في "صحيحه ". وكذا روى له أصحاب السنن.

 
رد: منهج الإمام البخاري

المطلب الرابع


موقف البخاري من أحاديث أهل البدع والأهواء

من المسائل التي لها تعلق بشرط العدالة. وهي شرط أساسي في صحة الحديث – الرواة الذين طعن في عدالتهم بسبب البدع والأهواء، وذلك لأن القدح في الراوي يكون بعشرة أشياء. خمسة تتعلق بالعدالة وخمسة تتعلق بالضبط، فقد بينها الحافظ فقال : " ثم الطعن إما أن يكون لكذب الراوي،
وعلى الرغم من تباين هذين الاتجاهين من حيث التوسع والتضييق في مفهوم البدعة إلا أن الواقع العملي في إطلاق البدعة عند علماء الجرح والتعديل المقصود به دائماً ما هو مذموم من الآراء والاعتقادات والأعمال، مما يكون سبيله التأويل الفاسد المستند إلى الشبهات. قال السخاوي – رحمه الله - : " البدعة هي ما أحدث على غير مثال متقدم، فيشمل المحمود والمذموم لكن خصت شرعاً بالمذموم، مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمبتدع من اعتقد ذلك لا بمعاندة، بل بنوع شبهة
أقسام البدعة :
قسم العلماء البدعة إلى قسمين هما : البدعة المكفرة، والبدعة المفسقة.
1 – البدعة المكفرة :
ما يخرج صاحبها عن دائرة الإيمان وهي نوعان :
أ – ما اتفق على تكفير أصحابها : كمنكري العلم بالمعدوم القائلين : ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، أو منكري العلم بالجزئيات، أو الإيمان برجوع سيدنا علي إلى الدنيا، أو حلول الإلهية في علي أو غيره.
ب – ما اختلف في تكفير أصحابها : كالقائلين بخلق القرآن، والنافين لرؤية الله تعالى يوم القيامة.
أما في الاصطلاح : فقد اختلفت أنظار العلماء، وتنوعت تعاريفهم، فمنهم من توسع في مدلولها، ومنهم من ضيق. ومن هنا يمكن حصر التعاريف الاصطلاحية للبدعة في اتجاهين.
1 – الاتجاه الأول : وهو التوسع في مدلول البدعة لتشمل كل أمر لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يأت شيء في القرآن والسنة يدل عليه، سواء أكان دينياً أم دنيوياً، محموداً كان أم مذموماً، وهو مطابق تماماً للتعريف اللغوي ويمثل هذا الاتجاه جماعة من الأئمة منهم: الإمام الشافعي، وابن حزم، والعز بن عبد السلام، والقرافي وغيرهم.
2 – الاتجاه الثاني : وهو التضيق في مدلول البدعة لتنحصر في الجديد (المحدث) المخالف للسنة، ومنهم من ضيق أكثر فقال : البدعة كل محدث مخالف للسنة ينسب إلى الدين ويتعبد به ويمثل هذا الاتجاه جماعة من العلماء منهم : ابن رجب الحنبلي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، والزركشي وغيرهم، وأما من اعتبر قيد المخالفة للسنة والتدين بهذا المحدث، فعلى رأس هؤلاء الإمام الشاطبي. وقد ناقش في كتابه " الاعتصام " أصحاب الرأي الأول مناقشة علمية، وأبطل تقسيمهم للبدع إلى محمود ومذموم، وعرف البدعة بقوله : " البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية. يقصد بالسلوك عليها، المبالغة في التعبد لله تعالى .
2 – البدعة المفسقة :
وهي التي لا تخرج صاحبها عن دائرة الإيمان : مثل بدع الخوارج، والروافض الذين لا يغلون ذاك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافاً ظاهراً لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ.
مناقشة التقسيم السابق :
هذا التقسيم – الذي ذكره العلماء للبدع – يترتب عليه إشكال كبير وذلك أننا اشترطنا في حد العدالة " السلامة من أسباب الفسق " ثم مثلوا للبدع المفسقة ببدع الخوارج وغيرها من الفرق المخالفين لأصول السنة، ومقتضى ذلك الحكم عليهم بالفسق ورد رواياتهم، والصواب – فيما أرى- أن هذا التقسيم نظري فحسب وذلك أن الحكم بالكفر أو الفسق أو
البدعة، إنما يكون بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة، فمن وقع في شيء من البدع فلا نجرؤ على تبديعه أو تفسيقه أو تكفيره، فإذا كان متأولاً أو جاهلاً، فهو معذور بجهله أو تأويله، لكن من بلغته الحجة، وكشفت له الشبهة، فأصرّ على قوله المخالف لأصول السنة، فهو معاند، ولا شك في فسق هذا النوع، لأنه مخالف لأوامر الله وأحكامه، والفسق هو الخروج عن طاعة الله، ولا فرق في ذلك بين العمليات والأخبار، وإلى هذا المعنى أشار الإمام مسلم في " مقدمة صحيحه " فقال – رحمه الله - : " أعلم أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها أن لا يروي إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع . والإمام مسلم – صحيحه – ملآن بأحاديث المبتدعة ممن تصنف بدعهم في البدع المفسقة، وليس هناك تناقض بين قوله وفعله، إذا تأملنا القيد السابق، لأن هؤلاء المبتدعة كانت بجعهم عن تأويل وشبهة لا بعناد.
مذاهب العلماء في الرواية عن أهل البدع والأهواء :
اختلف العلماء من أئمة الحديث ونقاده في حكم الرواية عن أهل البدع والأهواء، اختلافاً كثيراً وخاصة عند المتأخرين منهم. وقد تباينت أنظارهم تبايناً واضحاً، فمنهم من ذهب إلى رد رواية المبتدع رداً كاملاً ولم يقبلها سواء أكان هؤلاء من الغالين أم من غير الغالين، من الدعاة أ غيرهم، ومنهم من قبلها حتى من الغالين، والدعاة منهم، وسأذكر تفصيل ذلك حسب نوعي البدعة.
أما بالنسبة للمبتدعة الذين بدعتهم مكفرة. فللعلماء في رواياتهم ثلاثة مذاهب :
الأول : القبول مطلقاً وإن كانوا كفاراً أو فساقاً بالتأويل، إليه ذهب جماعة من أهل النقل والمتكلمين.
الثاني : يقبل خبرهم إذا كانوا يعتقدون حرمة الكذب، وقد ذهب إليه جماعة من الأصوليين، كأبي الحسن البصري المعتزلي
وفخر الدين الرازي، والبيضاوي.
الثالث : الرد مطلقاً، وقد حكى النووي الاتفاق على أن المكفرين ببدعهم لا يحتج بهم ولا تقبل روايتهم وما سبق ينقض قوله.
وقد حقق الحافظ رحمه الله هذه المسألة وأتى فيها بقول فصل موافق لما عليه أئمة الحديث ونقاده فقال – رحمه الله - : " والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته، لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف. فالمعتمد : أن الذي ترد روايته : من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين
بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه، فلا مانع من قبوله .
وأما بالنسبة للمبتدعة الذين لم يكفروا ببدعتهم. فللعلماء في رواياتهم خمسة مذاهب :
الأول : الرد مطلقاً : وممن ذهب إليه مالك بن أنس، وابن غُيينة، والحميدي، ويونس بن أبي إسحاق، وعلي بن حرب، وقد وجه الحافظ ابن رجب هذا المذهب بقوله : " والمانعون من الرواية، لهم مأخذان : أحدهما تكفير أهل الأهواء وتفسيقهم، وفيه خلاف مشهور. والثاني : الإهانة لهم، والهجران، والعقوبة بترك الرواية عنهم، وإن لم نحكم بكفرهم أو فسقهم. ولهذا مأخذ ثالث : وهو أن الهوى والبدعة لا يؤمن معه الكذب ولا سيما إذا كانت الرواية مما تعضد هوى الراوي .
الثاني : يحتج بهم إن لم يكونوا يستحلون الكذب في نصرة مذهبهم، سواء أكانوا دعاة أم لا، وممن قال به الشافعي وابن أبي ليلى وسفيان الثوري وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة، وحكاه الحاكم في المدخل عن أكثر أئمة الحديث.
الثالث : تقبل رواية المبتدع إذا كان مرويه مما يشتمل على ما ترد به بدعته، وذلك لبعده حينئذ عن تهمة الكذب.
الرابع : تقبل روايته إذا كانت بدعته صغرى، وإذا كانت كبرى فلا تقبل فالبدعة الصغرى كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، والكبرى كالتشيع مع الغلو والطعن وسب الصحابة.
الخامس : تقبل أخبار غير الدعاة إلى بدعهم، وترد أخبار الدعاة منهم، وقد صرح الخطيب وغيره بأنه مذهب الكثير من العلماء16]).
بعد أن سردت أقوال الأئمة ومذاهبهم في الرواية عن أهل البدع والأهواء، فقد تبين أن مذاهبهم متباينة جداً. امتزجت فيها أقوال المحدثين بآراء علماء الكلام والأصول. فلا بد من استجلاء الموقف العملي للمحدثين من خلال مصنفاتهم، ومن هؤلاء الإمام البخاري – رحمه الله – فكيف تعامل مع روايات أهل البدع في صحيحه ؟
إذا تأملنا رجال البخاري – رحمه الله – نجد جملة كبيرة منهم قد رموا ببدع اعتقاية مختلفة وقد أورد الحافظ في " هدي الساري "من رمي من رجال البخاري بطعن في الاعتقاد فبلغوا راوياً، ومن خلال التتبع لهؤلاء الرواة يمكن أن نستخلص المعايير التي اعتمدها البخاري في الرواية عن أهل البدع ويمكن أن نجملها في النقاط التالية :
- ليس فيهم من بدعتهم مكفرة.
- أكثرهم لم يكن داعية إلى بدعته، أو كان داعية ثم تاب.
- أكثر ما يروي لهم في المتابعات والشواهد.
- أحياناً يروى لهم في الأصول لكن بمتابعة غيرهم لهم.
- كثير منهم لم يصح ما رموا به.
إذن فالعبرة إنما هي صدق اللهجة، وإتقان الحفظ، وخاصة إذا انفرد المبتدع بشيء ليس عند غيره.

وما ذهب إليه البخاري هو مذهب كثير من المحدثين، ومن هؤلاء تلميذه وخريجه الإمام مسلم، فقد روى في صحيحه عن أهل البدع والأهواء المعروفين بالصدق والإتقان، وخاصة إذا انضم إلى ذلك الورع والتقوى، وما ذهب إليه الشيخان هو رأي أكثر الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وإنما توقف من توقف منهم في الرواية عن أهل البدع إما لأنه لم يتبين لهم صدقهم، أو أرادوا محاصرة البدعة وإخمادها حتى لا تفشوا، ولكن شاء الله تعالى أن تكثر البدع وتفشو، وتبناها كثير من العلماء والفقهاء والعباد فلم يكن من المصلحة ترك رواياتهم، لأن في تركها، اندراساً للعلم، تضييعاً للسنن. فكانت المصلحة الشرعية تقتضي قبولها ما داموا ملتزمين بالصدق والأمانة. قال الخطيب البغدادي – بعد أن ذكر أسماء كثير من الرواة احتج بهم وهم منسوبون إلى بدع اعتقادية مختلفة : ". دون أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم، فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقارنة الصواب
وقال علي بن المديني : " لو تركت أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي خربت الكتب
* * *



المطلب الخامس


موقف البخاري من الرواة المجاهيل


قبل الخوض في بيان موقف الإمام البخاري من الرواة المجاهيل لابد من تعريف الجهالة لغة واصطلاحاً وبيان أسبابها.
تعريف الجهالة لغة :
المجهول في لغة العرب هو :
1) كل شيء غير معلوم الحقيقة.
2) أو غير معلوم الوصف على وجه الدقة.
3) أو في معرفته تردد أو تشكك.
تعريف الجهالة اصطلاحاً :
عرف الخطيب المجهول بقوله : " هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد .
أسباب الجهالة :
للجهالة سببان بينهما الحافظ ابن حجر بقوله
" أحدهما : أن الراوي : قد تكثر نعوته، من اسم أو كنية، أو لقب، أو صفة، أو حرفة، أو نسب فيشتهر بشيء منها، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض من الأغراض فيظن أنه آخر فيحصل الجهل بحاله. والأمر الثاني : أن الراوي قد يكون مقلاً من الحديث، فلا يكثر الأخذ عنه، وقد صنفوا فيه الوحدان، وهو من لم يرو عنه إلا واحد، ولو سمي .
والتعريف الذي أورده الخطيب البغدادي للمجهول، قد اعترض عليه غير واحد ممن كتب في المصطلح كابن الصلاح، والنووي، والعراقي. كما أن الواقع التطبيقي عند الأئمة النقاد يخالفه، فحكم من راو حكموا عليه بالجهالة وقد روى عنه جماعة، وفيهم من حكموا عليه بالوثاقة وليس له إلا راو واحد، وكثير ممن ليس له إلا راو واحد اختلفوا في الحكم عليه بين موثق ومضعف ومجهل، وعليه نستطيع القول أن الجهالة غير مرتبطة بعدد الرواة بقدر ما هي مرتبطة بالشهرة، ورواية الحفاظ.
وقد سبق إلى هذا الإمام ابن رجب – رحمه الله – فقال : " وظاهر هذا أنه لا عبرة بتعدد الرواة، وإنما العبرة بالشهرة، ورواية الحفاظ
فمقدار مرويات الرجل لها دور بارز في الحكم عليه، فكلما كثرت مرويات الرجل وكانت مستقيمة حكم عليه بالوثاقة، وكلما قلّت وكانت
مخالفة لروايات الثقات فحكم عليه بالضعف، وإن قلّت رواياته، ولم يتداولها العلماء، فلا يمكن الحكم عليه، وبقي في حيز الجهالة.
وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن رجب – رحمه الله – يخالف إطلاق محمد بن يحي الذهلي – الذي حكاه عنه الخطيب في الكفاية – وتبعه عليه المتأخرون من أنه لا يخرج الرجل من الجهالة إلا برواية رجلين فصاعداً عنه ، وإن كان الخطيب – رحمه الله – قد صرح باعتبار شهرة الراوي بالطلب، وكذلك صرح بأن أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك.
ومع ذلك نجد أن كثيراً من المتأخرين لم يعتبروا الشهرة بالطلب في الراوي، لكي يرتفع عنه وصف الجهالة، وهذا النوع من الرواة الذين اشتهروا بطلب العلم وعرفوا به بين العلماء يزول عنهم وصف الجهالة ويثبت لهم بذلك وصف العدالة. وقد نبّه على هذا الحاكم النيسابوري فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر حيث قال :
" زاد الحاكم في علوم الحديث في شرط الصحيح أن يكون راوية مشهوراً وهذه الشهرة قدر زائد عن الشهرة التي تخرجه عن الجهالة. وقد استدل الحاكم على مشروطية الشهرة بالطلب بما أسنده عن عبد الله بن عون " لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له عندنا بالطلب " والظاهر من تصرف صاحبي الصحيح اعتبار ذلك، إلا أنهما حيث يحصل للحديث طرق كثيرة يستغنون بذلك عن اعتبار ذلك .
نفهم من كلام الحاكم – رحمه الله – أن هناك نوعين من الشهرة :
شهرة شخص الراوي وهذه تنفي عنه جهالة العين، وشهرته بالطلب وهذه تتنفي عنه جهالة الحال. وقد أشار الحاكم إلى أن راوي الصحيح لابد أن يكون معروفاً بطلب العلم وقد استظهر الحافظ ذلك من صنيع الإمامين البخاري ومسلم في صحيحيهما. فكل رواة الصحيحين مشهورون بطلب العلم، وقد تداول أحاديثهم الحفاظ، وحيث يكون الراوي مقلاً ولم
يتداول الحفاظ حديثه، يكون ذلك الحديث الذي يرويه عنه أصحاب الصحيح قد تعددت طرقه وانتشرت فيكون ذلك قائماً مقام الشهادة بثقته وضبطه.
ومع هذا نجد بعض رواة البخاري قد وصفوا بالجهالة من طرف بعض أئمة الجرح والتعديل، فما مدى تحقق هذا الوصف في هؤلاء الرواة ؟
قال الحافظ – رحمه الله - : " أما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راوية معروفاً بالعدالة، فمن زعم أن أحداً منهم مجهول، فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه غير معروف، ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته، لما مع المثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا نجد في رجال الصحيح أحداً ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً .
وفيما يلي تراجم هؤلاء الرواة :
1 – أحمد بن عاصم البلخي :
معروف بالزهد والعبادة، له ترجمة في حلية الأولياء، وقد ذكره ابن حبان : فقال : روى عنه أهل بلده. وقال أبو حاتم الرازي : مجهول. روى
عنه البخاري حديثاً واحداً في كتاب الرقاق، وهو في رواية المستملي وحده.
2 – إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المدني :
قال ابن القطان الفاسي : لا يعرف حاله. وفي ما قاله نظر فإن إبراهيم هذا قد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وروى عنه أيضاً ولده إسماعيل والزهري وليس له في صحيح البخاري إلا حديثاً واحداً في كتاب الأطعمة في دعائه صلى الله عليه وسلم في تمر جابر بالبركة حتى أوفى دينه وهو حديث مشهور له طرق كثيرة عن جابر منها :
عامر الشعبي عن جابر من طريق زكريا بن زائدة. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.
ومن طريق مغيرة عن الشعبي، أخرجه البخاري في كتاب البيوع.
ومن طريق فراس عن الشعبي، أخرجه البخاري في كتاب الوصايا.
ويرويه عن جابر أيضاً، وهب بن كيسان، أخرجه البخاري في كتاب الصلح.
ويرويه عن جابر أيضاً، ابن كعب بن مالك، أخرجه البخاري في الاستقراض والهبة.
ويرويه عن جابر نبيح العنزي، أخرجه الإمام أحمد
ومما سبق يتبين أن جهالة إبراهيم بن عبد الرحمن المخزومي – على التسليم بها – لا تضر في صحة هذا الحديث لكثرة طرقه، واشتهار مخرجه، وهذا يؤيد ما نقلته عن الحافظ من أن كثرة الطرق يستغنى بها عن شهرة الراوي بالطلب عند الشيخين.
3 – أسامة بن حفص المدني :
قال الحافظ : ضعفه الأزدي، وقال أبو القاسم اللالكائي : مجهول. له في الصحيح حديث واحد في الذبائح بمتابعة أبي خالد الأحمر والطفاوي. وقرأت بخط الذهبي في ميزانه، ليس بمجهول فقد روى عنه أربعة والظاهر من حال أسامة بن حفص أنه غير مشهور بالراوية. وذلك أن الإمام البخاري لما ذكره في تاريخه لم يزد على ما في هذا الإسناد حيث قال : " أسامة بن حفص المديني، عن هشام بن عروة، سمع منه محمد بن عبيد الله ولم يذكره ابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل ".
ويظهر من صنيع الإمام البخاري أنه لم يحتج به لأنه قد أخرج هذا الحديث من رواية الطفاوي وغيره ويؤخذ من صنيعه أيضاً أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون رواية من أهل الضبط والإتقان. أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك وصح الحديث على شرطه.
4 – أسباب أبو اليسع :
قال أبو حاتم فيه : مجهول. روى له البخاري حديثاً واحداً في البيوع من روايته عن هشام الدستوائي مقروناً.
5 – بيان بن عمرو البخاري العابد :
شيخ البخاري اثنى عليه ابن المديني ووثقه ابن حبان وابن عدي. وقال أبو حاتم : مجهول. قال الحافظ : ليس بمجهول من روى عنه البخاري وأبو زرعة، وعبد الله بن واصل ووثقه من ذكرنا.
فمثل هذا لا يصح أن يطلق عليه لفظ " مجهول " لأن من عرفه وعلم حاله حجة على من لم يعرفه ويخبر حاله.
6 – الحسين بن الحسن بن يسار :
صاحب ابن عون، قال أبو حاتم : مجهول. وقال أحمد بن حنبل : كان من الثقات، احتج به مسلم والنسائي، وروى له البخاري حديثاً واحداً في الاستسقاء توبع عليه.
7 – الحكم بن عبد الله :
قال ابن أبي حاتم عن أبيه : مجهول. قال الحافظ : " ليس بمجهول من روى عنه أربعة ثقات ووثقه الذهلي. ومع ذلك ليس له في البخاري سوى حديث واحد في الزكاة أخرجه عن أبي قدامة عنه عن شعبة عن الأعمش
عن أبي وائل عن أبي مسعود في نزول قوله تعالى : } الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين … ، وأخرجه في التفسير من حديث غندر عن شعبة
8 – عباس بن الحسين القنطري :
قال ابن أبي حاتم عن أبيه : مجهول. قال الحافظ : " ليس بمجهول إن أراد العين فقد روى عنه البخاري وموسى بن هارون الحمال. والحسن بن علي المعمري وغيرهم. وإن أراد الحال فقد وثقه عبد الله بن أحمد بن حنبل. قال : سألت أبي عنه فذكره بخير، وله في الصحيح حديثان قرنه في أحدهما وتوبع في الآخر .
9 – محمد بن الحسن المروزي :
من شيوخ البخاري لم يعرفه أبو حاتم فقال : إنه مجهول. قال الحافظ : " قد عرفه البخاري وروى عنه في صحيحه في موضعين. وعرفه ابن حبان فذكره في الطبقة الرابعة من الثقات .
10 – خالد بن سعد الكوفي :
مولى أبي مسعود الأنصاري، وثقة ابن معين. وقال ابن أبي عاصم : مجهول. أخرج له البخاري حديثاً واحداً في الطب من روايته عن أبي عتيق عن عائشة في الحبة السوداء، وله عنده شواهد.
مما سبق يتضح لنا أن الإمام البخاري لم يرو في صحيحه عن مجهول قط. وذلك لأن جهالة الراوي لا يمكن معها تحقيق عدالته، التي هي شرط في صحة الحديث، أما بالنسبة للرواة غير المشهورين فالبخاري لم يعتمد على أحاديثهم، وما يرويه لهم أحاديث يسيرة جداً لها طرق وشواهد كثيرة.
المطلب السادس


الوحدان وموقف البخاري من رواياتهم


سأتناول في هذه المطلب مسألة الوحدان، وموقف الإمام البخاري من رواياتهم. وهي مسألة لها تعلق كبير بمسألة الجهالة. أي هل هؤلاء الرواة يعدون في المجاهيل أم لا ؟
تعريف الوحدان :
وحدان لغة جمع واحد، ويجمع على أحدان، كشاب وشبان، وراعٍ ورعيان.
واصطلاحاً : هو من لم يرو عنه إلا واحد ولو سُمي.
وقد اهتم العلماء بهذا النوع من الرواة وصنفوا فيه كالإمام مسلم والحسن بن سفيان وغيرهما ومنهم من ذكره في أنواع علوم الحديث كالحاكم في معرفة علوم الحديث، وابن الصلاح في كتابه
قد اختلفت أنظار العالم حول موقف البخاري من روايات الوحدان، فمنهم من نفى تخريج البخاري لرواياتهم في صحيحه، ومنهم من أثبت وجودها ومنهم من توسط في الأمر وذهب إلى أن البخاري لم يخرج لهم إلا شيئاً يسيراً لملابسات خاصة وإليك التفصيل.
ذهب الإمام الحاكم أبو عبد الله النيسابوري (ت 405هـ) إلى أن الإمام البخاري لم يرو عن الوحدان في صحيحه، وهذا في معرض كلامه على الحديث الصحيح في كتابه " المدخل في أصول الحديث " فقد قسم الحديث الصحيح إلى عشرة أقسام : خمسة متفق عليها من أحاديث الصحيحين يقول رحمه الله : " فالقسم الأول من المتفق عليها اختيار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى من الصحيح. ومثاله الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان، ثم يرويه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان، ثم يرويه عن أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً متقناً مشهوراً بالعدالة في روايته فهذه الدرجة الأولى من الصحيح .
ويلاحظ هنا أن الحاكم عدَّ الصحابي الذي ليس له إلا راو واحد ليس مشهوراً. ومن هنا لا يصل حديثه إلى الدرجة العالية من الثقة التي تجعل البخاري ومسلم يأخذان بحديثه وقد عد الحاكم حديث مثل هذا النوع في الدرجة الثانية من درجات الصحيح المتفق عليه ومثل له بحديث عروة بن مضرس الطائي أنه قال : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمزدلفة : فقلت يا رسول الله أتيتك من جبل طيء، أتعبت نفسي، وأكلت
مطيتي، ووالله ما تركت من جبل إلا وقد وقفت عليه، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى معنا هذه الصلاة وقد أتى عرفة قبل ذلك بيوم أو ليلة فقد تم حجه، وقضى تفثه .
ثم عدد الحاكم كثيراً من الصحابة الذين رووا أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لكل واحد منهم إلا راو واحد ثم قال : " والشواهد كما ذكرنا كثيرة ولم يخرج البخاري ومسلم هذا النوع من الحديث في الصحيح .
وقد عارض أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507هـ) الحاكم في هذا، وقرر أن البخاري ومسلماً لم يكن عندهما هذا الشرط ولا نقل على واحد منهما أنه قال بذلك وأن الحاكم لم يقدر هذا التقدير عن استقراء
يصل به إلى نتيجة صحيحة، أو يقين، وإنما قاله على الظن، لأن ما في الصحيحين على خلاف ذلك. ثم ساق الأمثلة التي تنقض ما ذهب إليه الحاكم.
فقد أخرج البخاري حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يذهب الصالحون أسلافاً، ويقبض الصالحون أسلافاً، الأول، فالأول، حتى تبقى حثالة كحثالة
التمر والشعير، لا يباهي الله عز وجل بهم شيئاً وليس لمرداس راو غير قيس.
وأخرج هو ومسلم حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب قال : " إن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال : أي عمي قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب "، فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به : " على ملة عبد المطلب " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنه " فنزلت : } ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم { ونزلت }إنك لا تهدي من أحببت { ولم يرو عن المسيب إلا ابنه سعيد بن المسيب.
وأخرج البخاري حديث الحسن البصري عن عمرو بن تغلب عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعطي الرجل، والذي أدع أحب إلي … الحديث ولم يرو عن عمرو غير الحسن البصري.
كما يقرر أبو الفضل المقدسي أن هناك أمثلة في البخاري غير هذه، كما يشير إلى أن الحاكم ليس أول من ذهب إلى هذا، ولكن أبا عبد الله بن محمد بن إسحاق بن منده (ت 395هـ) ذهب إلى ذلك، وهما متعاصران.
فقد قال : " من حكم الصحابي أنه إذا روى عنه تابعي واحد، وإن كان مشهوراً مثل الشعبي، وسعيد بن المسيب، ينسب إلى الجهالة، فإذا روى عنه رجلان صار مشهوراً واحتج به، وعلى هذا بنى محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج كتابيهما، إلا أحرفاً تبين أمرها .
ويرى المقدسي أن شرط البخاري ومسلم هو أنهما يخرجان " الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات والأثبات، ويكون إسنادة متصلاً غير مقطوع فإن كان للصحابي روايان فصاعداً فحسن، وإن لم يكن له إلا راو واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه .
وجاء بعد أبي الفضل المقدسي، الحافظ أبو بكر موسى بن موسى الحازمي (ت 584هـ) ففصل القول في رد دعوى الحاكم وأتى بأمثلة أكثر مما أتى به الأول.
ويرى ابن الأثير أن الحاكم لا يقصد ما فهمه المقدسي والحازمي وإنما يقصد أن يكون للصحابي راويان وإن كان الحديث الذي يحتج به في الصحيحين ليس له إلا راو واحد.
كما نجد أن الحافظ ابن حجر، أيضاً قد نبّه على خطأ الحازمي في فهمه لكلام الحاكم حيث قال : " وقد فهم الحافظ أبو بكر الحازمي من كلام الحاكم أنه أدعى أن الشيخين لا يخرجان الحديث إذا انفرد به أحد الرواة، فنقض عليه بغرائب الصحيحين، والظاهر أن الحاكم لم يرد ذلك وإنما أراد أن كل راو في الكتابين من الصحابة فمن بعدهم يشترط أن يكون له راويان في الجملة، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك بعينة عنه .
وما ذهب إليه الحاكم قد سبقه إليه الحافظ ابن منده – كما رأينا – ووافقه عليه أيضاً صاحبه ومعاصره الإمام البيهقي، فقد قال في كتب الزكاة من سننه عند ذكر حديث بهز عن أبيه عن جده (ومن كتمها فأنا آخذها وشرط ماله) ما نصه : " أما البخاري ومسلم فلم يخرجاه جرياً على
عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين .
وأما الحافظ ابن حجر فقد وقف من كلام الحاكم موقفاً وسطاً بحيث رد كلامه في حق الصحابة واعتبره فيمن بعدهم، قال – رحمه الله – معقباً على كلام الحاكم : " وهو وإن كان منتقضاً في حق الصحابة الذين أخرجا لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط .
قال السخاوي : " وقد وجدت في كلام الحاكم التصريح باستثناء الصحابة من ذلك وإن كان مناقضاً لكلامه الأول ولعله رجع عنه إلى هذا قال : الصحابي المعروف إذا لم نجد له راوياً غير تابعي واحد معروف احتججنا به، وصححنا حديثه، إذ هو صحيح على شرطهما جميعاً. فإن البخاري احتج بحديث قيس بن أبي حازم عن كل من مرداس الأسلمي، وعدي بن عمير به، وليس لهما راو غيره. وكذلك احتج مسلم بأحاديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه(، وأحاديث مجزأة بن زاهر عن أبيه. وحينئذ فكلام الحاكم قد استقام، وزال بما تممت به عن الملام .
وأما الصحابة الذين أخرج لهم البخاري ولم يرو عنهم سوى واحد فهم :
1) مرداس الأسلمي عن قيس بن أبي حازم.
2) حزن المخزومي تفرد عنه ابنه أبو سعيد المسيب بن حزن.
3) زاهر بن الأسود عنه ابنه مجزأة.
4) عبد الله بن هشام بن زهرة القرشي عنه حفيده زهرة بن معبد.
5) عمرو بن تغلب عنه الحسن البصري.
6) عبد الله بن ثعلبة بن صغير روى عنه الزهري قوله.
7) سنن أبو جميلة السلمي عنه الزهري.
8) أبو سعيد بن المعلى تفرد عنه حفص بن اصم.
9) سويد بن النعمان الأنصاري تفرد بالحديث عنه بشير بن سيار.
10)خولة بنت ثامر عنهما النعمان بن أبي عياش. فجملتهم عشرة .
وقد بنى على هذا الإمام أبو عمرو بن الصلاح قاعدة عامة – من تخريج البخاري ومسلم لأحاديث هؤلاء الصحابة الوحدان – وهي ارتفاع الجهالة والتعديل برواية واحد فقال : " قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم إلا راو واحد منهم مرداس الأسلمي لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم، وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد، منهم ربيعة بن كعب الأسلمي لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. وذلك مصير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً براوية واحد عنه ولقد اعترض على هذا الإمام النووي فقال : "مرداساً
وربيعة صحابيان، والصحابة كلهم عدول، فلا تضر الجهالة بأعيانهم لو تثبت .
ولقد تعقب العراقي النووي فقال : " لا شك أن الصحابة الذين بينت صحبتهم كلهم عدول ولكن الشأن هل تثبت الصحبة برواية واحد عنه أم لا تثبت إلا برواية اثنين. هذا محل نظر واختلاف بين أهل العلم. والحق أنه إن كان معروفاً بذكره في الغزوات أو فيمن وفد من الصحابة أو نحو ذلك فإنه تثبت صحبته وإن لم يرو عنه إلا راو واحد وإذا عرف ذلك فإن مرداساً من أهل الشجرة وربيعة من أهل الصفة فلا يضرهما انفراد راو واحد عن كل منهما .
وكان الصحابة الوحدان الذين روى لهم الإمام البخاري في صحيحه قد ثبتت صحبتهم لشهرتهم عند علماء السير والمغازي
فلا يضر انفراد واحد بالرواية عنهم بالرواية عنهم، لأن الصحابة عدول كلهم لكن بقي النظر فيمن ليس له إلا راو واحد من غير الصحابة ممن أخرج لهم الإمام البخاري في صحيحه وهؤلاء الرواة هم :
1) حصين بن محمد الأنصاري : لم يرو عنه غير الزهري.
2) عبد الرحمن بن نمر اليحصبي : لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم.
3) عمر بن محمد بن جبير بن مطعم : لم يرو عنه غير الزهري.
4) حماد بن حميد الخراساني : شيخ البخاري لم يرو عنه غيره.
5) عبيد الله بن محرز الكوفي : لم يذكروا له راوياً غير أبي نعيم الفضل بن دكين.
6) عطاء بن الحسن السوائي : روى عنه أبو إسحاق الشيباني. قال الحافظ : " ما وجدت له راوياً إلا الشيباني ولم أقف فيه على تعديل أو تجريح ".
7) عامر بن مصعب الذي يروي عن عائشة : لم يرو عنه – عند البخاري – إلا عبد الملك بن جريج.
8) أبو محمد الحضرمي : تفرد بالرواية عنه أبو الورد بن ثمامة بن حزن القشيري.
9) أبو نصر الأسدي، روى عنه خليفة بن حصين.
فهل انفرد البخاري بالتخريج لمثل هؤلاء " الوحدان " ؟ كلا، إن الإمام البخاري لم ينفرد بهذا، بل نجد أن الإمام مسلماً – رحمه الله – قد خرج لمثل هؤلاء أيضاً في " صحيحه " فقد وافق البخاري في التخريج للراويين الأولين، وانفرد عنه بالتخريج لرواة آخرين مثل :
1) أحمد بن سعيد التستري.
2) جابر بن إسماعيل الحضرمي.
3) حبيب الأعور المدني.
4) عبد الله بن كثير المطلبي السهمي.
وبمراجعة تراجم هؤلاء الرواة في التهذيب والتقريب وغيرهما من كتب الرجال يتبين لنا أنهم "وحدان" ومن ثم فهم مجهولون على حسب المصطلح الجاري بين علماء الحديث.
وكذلك نجد الإمام ابن حبان قد اقتفى أثر الشيخين في التخريج لمن ليس له إلا راو واحد ثقة وإليك بعض الأمثلة على ذلك :
1) بجير بن أبي بجير، ولم يرو عنه غير إسماعيل بن أمية.
2) ثابت الزرقي، لم يرو عنه غير الزهري.
3) عمر بن إسحاق، لم يرو عنه غير عون.
4) عيسى بن جارية، لم يرو عنه غير يعقوب بن عنبسة الرازي.
5) قدامة بن وبرة، لم يرو عنه غير قتادة.
6) نبيح العنزي، لم يرو عنه غير الأسود بن قيس.
فكل هؤلاء لا يعرف لهم إلا راو واحد ومع ذلك فقد ترجمعهم ابن حبان في كتابه الثقات وأخرج لهم في صحيحه.
وهذا يعني أن أصحاب الصحيح يخرجون لمن ليس له إلا راو واحد. لكن كيف يكون ذلك؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكون بتخريج أحاديث هؤلاء الرواة جميعاً وتتبعها ودراستها وهذا يحتاج إلى وقت طويل وعمل علمي مستقل، لكن سأحاول – إن شاء الله – دراسة رواة البخاري الذين ليس (ص 122) لهم إلا راو واحد ثقة من خلال رواياتهم في الجامع الصحيح للوصول إلى موقف علمي مبني على الاستقراء والتتبع.
1 – حصين بن محمد الأنصاري السالمي :
وهو أحد بني سالم، وهو من سراتهم سأله الزهري عن حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك فصدقه بذلك، وليس له في الصحيحين إلا حديث واحد وهو ما يرويه ابن شهاب الزهري عن محمود بن الربيع الأنصاري حدثه أن عتبان بن مالك حدثه أنه أتى رسول الله فقال : يا رسول الله قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى .. قال ابن شهاب ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري – وهو أحد بني سالم ومن سراتهم – عن حديث محمود بن الربيع فصدقه بذلك.
وواضح أن الإمام البخاري لم يعتمد على حديث حصين بن محمد الأنصاري وإنما ذكر حديث محمود بن الربيع معتمداً عليه وعضده بتصديق حصين بن محمد له. وسواء ذكر حصين أو لم يذكر فلا أثر له في تضعيف هذا الحديث، بل ذكره يستفاد منه نوع قوة – والله أعلم -.
2 – عبد الرحمن بن نمر اليحصبي :
أبو عمر الدمشقي، ثقة لم يرو عنه غير الوليد بن مسلم من الثامنة روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. هكذا لخص حاله الحافظ ابن حجر. وقد تباينت فيه أقوال أئمة الجرح والتعديل.
قال عباس الدوري عن يحي بن معين : ابن نمر الذي يروي عن الزهري ضعيف.
وقال دحيم صحيح الحديث عن الزهري، وكذا قال ابن الجنيد عن ابن معين.
وقال أبو حاتم ليس بقوي لا أعلم روى عنه غير الوليد بن مسلم.
وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال : من ثقات أهل الشام ومتقنيهم.
وذكره العقيلي في " كتاب الضعفاء "، وكذا ذكره ابن عدي " الكامل " وقال : " … وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء، وابن نمر هذا له عن الزهري غير نسخة وهي أحاديث مستقيمة .
فالظاهر من حاله أنه يصلح للمتابعة وأن أحاديثه عن الزهري صحيحة.
والبخاري قد أورد له في صحيحه حديثاً واحد متابعة. وقد رواه أيضاً الإمام مسلم وليس له عندهما غير هذا الحديث.
قال البخاري رحمه الله : " حدثنا محمد بن مهران قال حدثنا الوليد قال أخبرنا ابن نمر سمع ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، وإذا رفع من الركعة قال : سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات".
وقال الأوزاعي وغيره : سمعت الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : " أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً بالصلاة جامعة، فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات وأخبرني عبد الرحمن بن نمر سمع ابن شهاب مثله، قال الزهري : فقلت : ما صنع أخوك ذلك، عبد الله بن الزبير ما صلى إلا ركعتين مثل الصبح إذ صلى بالمدينة، قال : أجل، إنه أخطأ السنة، تابعه سفيان بن حسين وسليمان بن كثير عن الزهري في الجهر .
فابن نمر لم ينفرد بهذا الحديث بل تابعه عليه الأوزاعي، وليس فيه عند البخاري ذكر الجهر وقد ثبت الجهر في رواية الأوزاعي عند أبي داوود والحاكم من طريق الوليد بن مزيد عنه.
وقد أشار البخاري إلى متابعة سليمان بن كثير، وسفيان بن حسين، لابن نمر، وروايته للجهر عن الزهري.
ورواية سليمان وصلها أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث عنه بلفظ " خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ثم كبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة " وفي أبي داود الطيالسي عن سليمان بن كثير بهذا الإسناد مختصراً " أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف " وأما رواية سفيان بن حسين فوصلها الترمذي والطحاوي بلفظ " صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها " وقد تابعهم على ذكر الجهر عن الزهري عقيل عند الطحاوي. وإسحاق بن راشد عند الدارقطني.
وهذه طرق يعضد بعضها بعضاً ويفيد مجموعها الجزم بذلك لذا فالإمام البخاري صحح هذا الحديث لكثرة طرقه ومتابعاته، وعلمنا من صنيعه هذا أنه لم يعتمد على ابن نمر وحده بل بالصورة المجموعة ومن ثم جزم بمدلول الحديث وترجم بما يدل على رجحان الجهر في الكسوف.
3 – عمر بن محمد بن جبير بن مطعم :
ثقة ما روى عنه غير الزهري وهو أصغر من الزهري من السادسة روى له البخاري فقطولم يرو له إلا حديثاً واحداً.
قال : " حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم أن محمد بن جبير قال : أخبرني جبير بن مطعم أنه بينما يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من حنين فعلقت الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً "
قال الحافظ رحمه الله : " وهذا مثال للرد على من زعم أن شرط البخاري أن لا يروي الحديث الذي يخرجه أقل من اثنين، فإن هذا الحديث ما رواه عن محمد بن جبير غير ولده عمر، ثم ما رواه عن عمر غير الزهري، هذا مع تفرد الزهري بالرواية عن عمر مطلقاً، وقد سمع الزهري من محمد بن جبير أحاديث، وكأنه لم يسمع هذا منه فحمله عن ولده والله أعلم . فهذا الحديث صحيح عند الإمام البخاري لأنه لا يشترط عنده وعند أهل السنة التعدد في طبقات الإسناد حتى يقبل الحديث خلافاً لمن زعم أنه شرط الصحيح أن لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين كأبي علي الجيّاني المعتزلي (ت 303هـ).
هذا وقد ذكر الحافظ – رحمه الله – أن عمر بن شبة (ت 262هـ) قد أورد في " كتاب مكة " – له – أثراً مرسلاً عن عمرو بن سعيد فذكر
نحو من حديث جبير بن مطعم ثم إن هذا الحديث ليس أصلاً من الأصول وإنما هو قصة تدل على جوده وحلمه وشجاعته صلى الله عليه وسلم وقد صحّ في ذلك شيء كثير جداً يشهد لهذه القصة، والله تعالى أعلم.
4 – عبيد الله بن محرز الكوفي :
قال الحافظ : " ما رأيت له راوياً غير أبي نعيم، وما له في البخاري سوى هذا الأثر، ولم يزد المزي في ترجمته على ما تضمنه هذا الأثر .
والأثر الذي يعنيه الحافظ هو ما رواه البخاري في صحيحه قال : " قال لنا أبو نعيم حدثنا عبيد الله بن محرز جئت بكتاب من موسى بن أنس قاضي البصرة، وأقمت عنده البينة أن لي عند فلان كذا وكذا وهو بالكوفة، وجئت به القاسم بن عبد الرحمن فأجازوه .
فواضح أن مثل هذا الراوي مجهول أي غير مشهور، والإمام البخاري لم يرو له سوى هذا الأثر. (
5 – عطاء أبو الحسن السوائي :
قال الحافظ : " ما وجدن له راوياً إلا الشيباني، ولم أقف فيه على تعديل ولا تجريح روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي حديثاً واحداً.
عن أسباط بن محمد القرشي عن أبي إسحاق الشيباني، عن عكرمة عن ابن عباس. قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السوائي ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس } يا أيها الذين آمنوا لا يحل .. ما آتيتموهن { قال : " كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها. فنزلت هذه الآية في ذلك ".
ونلاحظ أن البخاري لم يعتمد على رواية عطاء أبي الحسن السوائي، بل ذكره مقروناً بغيره معضداً به رواية عكرمة عن ابن عباس.
6 – عامر بن مصعب :
شيخ لابن جريج لا يعرف، قرنه بعمرو بن دينار، وقد ثقه ابن حبان على عادته. وقد روى له البخاري والنسائي حديثاً واحداً مقروناً بغيره. عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار وعامر بن مصعب أنهما سمعا أبا المنهال يقول : سمعت البراء بن عازب، وزيد بن أرقم قال : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال:
" ما كان يداً بيد فلا بأس به، وما كان نسيئة فلا يصلح "
قال الحافظ : " وعامر بن مصعب ليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد .
والبخاري لم يعتمد على روايته وإنما قرنه بعمرو بن دينار.
7 – أبو محمد الحضرمي :
يقال : إنه أفلح مولى أيوب، روى عن أبي أيوب، وروى عنه أبو الورد ابن ثمامة بن حزن القشيري، روى له البخاري حديثاً واحداً معلقاً.
بعد أن أورد حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من قال عشراً (أي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل " قال البخاري : رواه أبو محمد الحضرمي عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال الدارقطني : " لا يعرف أبو محمد إلا في هذا الحديث وليس لأبي محمد الحضرمي في الصحيح إلا هذا الموضع . وقد وصله الإمام أحمد والطبراني من طريق سعيد بن إياس الحريري عن أبي الورد ثمامة بن حزن القشيري.
فالبخاري لم يعتمد على حديثه وإنما ذكره تعليقاً على سبيل المتابعة فقط
8 – أبو نصر الأسدي :
بصري روى عن عبد الله بن عباس، وروى عنه خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم المنقري. وروى له البخاري تعليقاً.
قال أبو زرعة : " أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس ثقة .
والبخاري إنما روى له أثراً واحداً في كتاب النكاح من صحيحه، عقيب حديث عكرمة عن ابن عباس إذا زنى بها (يعني أم امرأته) لا تحرم عليه امرأته. ويذكر عن أبي نصر أن ابن عباس حرمه، ثم قال : وأبو نصر هذا لم يعرف سماعه من ابن عباس([93]).
فالبخاري لم يعتمد على حديثه. فقد أورده بصيغة التمريض ليدل على ضعفه ثم صرح أنه لم يسمع من ابن عباس فحديثه إذاً منقطع.
مما سبق في هذا المطلب نستخلص النتائج التالية :
1) الإمام البخاري لم يرو لهؤلاء الوحدان شيئاً تفردوا به.
2) لم يعتمد على رواياتهم بل ذكرها متابعة واستشهاداً معلقة غير مسندة.
3) لم يسند لهم إلا شيئاً يسيراً جداً ويقرنهم بغيرهم من المشهورين.
ومما سبق يتضح أن ما قاله الحاكم – رحمه الله – ليس مردوداً على إطلاقه كما ذهب إليه الحازمي والمقدسي وغيرهما، وليس مقبولاً على إطلاقه، والصواب تقييده بما قيده به السخاوي. والحافظ ابن حجر حيث يقول : " وهو إن كان منتقضاً في حق بعض الصحابة، الذين أخرجا له فإنه
 
رد: منهج الإمام البخاري

المبحث الثاني

ضبط الرواة


المطلب الأول : تعريفه وأهميته وآثار اختلاله وكيفية معرفة ضبط الراوي، ومراتب الرواة من حيث الضبط.
المطلب الثاني : موقف الإمام البخاري من الرواة الضعفاء.
المطلب الثالث : مراتب الرجال الصحيحين من حيث الضبط.
المطلب الرابع : نماذج من روايات الضعفاء ومنهج البخاري في تصحيحها.
المطلب الأول


تعريف الضبط وأهميته وآثار اختلاله

بعد أن تحدثت عن العدالة وما يتعلق بها من مسائل، وموقف الإمام البخاري منها أتحدث في هذا المبحث عن الشرط الثاني من شروط صحة الحديث، وهو الضبط وقبل الخوض في مباحثه يجدر بنا أن نقدم تعريفه وأهميته وآثار اختلاله، وكيفية معرفة ضبط الراوي، ومراتب الرواة من حيث الضبط.
أ – تعريفه في اللغة والاصطلاح :
الضبط لغة لزوم الشيء وحبسه، ضبط عليه وضبطه يضبطه ضبطاً وضباطه.
قال الليث : الضبط لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء.
وضبط الشيء : حفظه بالحزم، والرجل ضابط، أي حازم
وفي اصطلاح المحدثين : نوعان ضبط صدر، وضبط كتاب.
أما ضبط الصدر : فهو أن يثبت الراوي في صدره ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
أما ضبط الكتاب : فهو صيانة الراوي لكتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه
ب – أهميته وآثار اختلاله :
إن توفر الضبط في الراوي شرط أساسي في قبول حديثه، فلا يكفي أن يكون ديّناً مستقيماً حتى يضاف إلى ذلك حفظه وعلمه بما يحدث، وتثبته في الأخذ والرواية. ومن هنا كان اختلال الضبط سبباً في رد المروي.
قال الإمام ابن الصلاح – رحمه الله - : " لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع، وكمن لا يحدث بأصل مقابل صحيح ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث، ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه .. ولا تقبل رواية من عرف بالسهو في رواياته إذ لم يحدث من أصل صحيح. وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وضبطه
جـ – كيفية معرفة ضبط الراوي :
يعرف ضبط الراوي بسبر أحاديثه وعرضها على أحاديث غيره من الرواة لتعرف مدى الموافقة والمخالفة لهم، وقد لخص الإمام ابن الصلاح – رحمه الله – هذه الطريقة معتمداً في ذلك على صنيع الأئمة وصريح أقوالهم. فنذكر قوله. ثم نتبعه بأقوال أئمة النقد.
قال – رحمه الله - : " يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة لهم ولو من حيث المعنى لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبتاً، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلاف ضبطه ولم يحتج بحديثه
وهذا الذي ذكره ابن الصلاح قد صرح به الأئمة وعلموا به.
قال الإمام الشافعي مشيراً إلى شروط الراوي الذي تقوم به الحجة : " إذا شارك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم "
وقال الإمام أيوب السختياني (ت 131هـ) من صغار التابعين : " إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره
وقال ابن المبارك : " إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضها ببعض

وقد صرح بهذا الإمام مسلم في صحيحه، فقال : " وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل
الحفظ والرضى، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعمله "
د – مراتب الرواة من حيث الضبط :
إن رواة الحديث ليسوا على درجة واحدة من حيث الضبط والإتقان، ففيهم من هو في الذروة العالية في الحفظ عديم الإتقان والضبط. وبينهما
رواة وسط، وهؤلاء منهم من يقترب من الطبقة الأولى وفيهم من ينزل إلى الطبقة الدنيا، لكن أحسن منهم حالاً.
وقد بيّن الإمام ابن رجب الحنبلي ذلك فقال : " إن الرواة ينقسمون أربعة أقسام :
أحدهما : من يتهم بالكذب.
والثاني : من لا يتهم لكن الغالب على حديثه الوهم والغلط.
والثالث : من هو صادق ويكثر في حديثه الوهم، ولا يغلب عليه.
والرابع : الحفاظ الذين يندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل.
فأما القسم الأول فمتفق عليى تركه وعدم الاحتجاج به. وأما القسم الأخير فمتفق على الاحتجاج به. وأما القسم الثاني فأكثر المحدثين لا يحتجون بهم. ووقع الخلاف في القسم الثالث، فقد روى عن يحي بن معين أنه لا يحتج بهم، وعن ابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم، وهو أيضاً رأى سفيان وأكثر أهل الحديث المصنفين في السنن والصحاح كمسلم بن الحجاج وغيره، وعلى هذا المنوال نسج أبو داود والنسائي والترمذي. مع أنه خرج لبعض من هو دون هؤلاء وبين ذلك ولم يسكت عنه، وإلى طريقة يحي بن سعيد يميل على ابن المديني وصاحبه البخاري
المطلب الثاني

موقف الإمام البخاري من الرواة الضعفاء

سبق في المطلب الأول نقل كلام الإمام ابن رجب حول موقف ابن المديني وتلميذه الإمام البخاري من الرواة المتصفين بالصدق ويكثر في حديثهم الوهم ولكن لا يغلب عليهم. حيث ذكر أن البخاري وابن المديني لا يخرجان لمثل هؤلاء الرواة. فهل ما ذكره ابن رجب صحيح ودقيق ينطبق مع الواقع العملي عند الإمام البخاري في صحيحه ؟
إن الرواة الضعفاء (أو الذين ضعفوا) من رواة الجامع الصحيح عددهم كبير. وبمراجعة ما ذكره الحافظ في مقدمة الفتح يمكن أن نصفهم إلى خمسة أصناف.
الصنف الأول :
رواة ضعفوا بسبب بعض الأحاديث التي انفردوا بها، وهذه الأحاديث لا يعرج عليها البخاري في صحيحه. ومن هؤلاء الرواة :
1 – أفلح بن حميد الأنصاري المدني :
أحد الأثبات، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وابن سعد، وقال ابن عدي : كان أحمد ينكر على أفلح حديث ذات عرق، ولم ينكر عليه أحمد غير هذا. وقد انفرد به عن أفلح المعافي ابن عمران، وأفلح صالح، وأحاديثه مستقيمة.
قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : لم يحدث يحي القطان عن أفلح.
وروى أفلح حديثين منكرين : أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر، وحديث وقت لأهل العراق ذات عرق.
والبخاري لم يخرج له شيئاً من هذا – ولله الحمد – بل له عنده حديث واحد في الطهارة، وثلاثة في الحج، ورابع في الحج علقه، ووافقه مسلم على تخريج الخمسة وكلها عندهما عنه عن القاسم عن عائشة.
2 – بدل بن المحبر التميمي البصري :
وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم وغيرها، وضعفه الدارقطني في روايته عن زائدة. قال الحاكم. وذلك بسبب حديث واحد خالف فيه حسين بن علي الجعفي صاحب زائدة، قال الحافظ : وهو تعنت، ولم يخرج عنه البخاري سوى موضعين عن شعبة أحدهما في الصلاة والآخر في الفتن، وروى له أصحاب السنن
3 – بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري :
وثقه ابن معين والعجلي والترمذي وأبو داوود، وقال النسائي ليس به بأس، وقال مرة ليس بذاك القوي، وقال أبو حاتم : ليس بالمتين يكتب حديثه، وقال ابن عدي : صدوق وأحاديثه مستقيمة، وأنكر ما روى : حديث إذا أراد الله بأمة خيراً قبض نبيها قبلها. ومع ذلك فقد أدخله قوم في صحاحهم، وقال أحمد : روى مناكير.
قال ابن حجر : احتج به الأئمة كلهم وأحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة
الصنف الثاني :
رواة ضعفوا في شيوخ معينين. والبخاري لا يروي لهم عن هؤلاء الشيوخ فمن هؤلاء الرواة:
1 – الربيع بن يحي بن مقسم الأشناني أبو الفضل البصري :
من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم الرازي : ثقة ثبت، وقال
الدارقطني : يخطئ في حديثه عن الثوري وشعبه. لكن البخاري لم يخرج له إلا من حديثه عن زائدة فقط.
2 – سلام بن أبي مطيع الخزاعي أبو سعيد البصري :
قال أحمد : ثقة صاحب سنة. وقال ابن عدي : ليس بمستقيم الحديث عن قتادة خاصة، ولم أرَ أحداً من المتقدمين نسبه إلى الضعف. وقال ابن حبان : كان سيء الأخذ لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
وقال الحاكم : ينسب إلى الغفلة وسوء الحفظ.
والبخاري لم يرو له عن قتادة، كما روى له بمتابعة غيره له، وليس له في البخاري سوى حديثين أحدهما في فضائل القرآن وفي الاعتصام بمتابعة حماد بن زيد وغيره له، عن أبي عمران الجوني عن جندب، والآخر في الدعوات بمتابعة أبي معاوية وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
3 – معمر بن راشد : صاحب الزهري :
كان من أثبت الناس فيه. قال ابن معين وغيره : ثقة إلا أنه حدث من حفظه بالبصرة بأحاديث غلط فيها. قاله أبو حاتم وغيره. وقال العلائي عن
يحي بن معين : حديث معمر عن ثابت البناني ضعيف. وقال ابن أبي خيثمة : إذا حدثك معمر عن الزهري، وابن طاووس فحديثه مستقيم، وما عمل في حديث الأعمش شيئاً، وإذا حدث عن العراقيين خالفه أهل الكوفة والبصرة، قال ابن حجر : " أخرج له البخاري من روايته عن الزهري وابن طاوس وهمام بن منبه ويحي بن أبي كثير، وهشام بن عروة، وأيوب وثمامة بن أنس وعبد الكريم الجزري.
ولم يخرجوا من رواية أهل البصرة عنه إلا ما توبعوا عليه، واحتج به الأئمة كلهم .
الصنف الثالث :
رواة ضعفوا في حالات خاصة كالاختلاط والتغير. والإمام البخاري لا يخرج لهم ما روى عنهم في تلك الحالات. ومن أمثلة هؤلاء :
1 – جرير بن حازم :
أبو نصر الأزدي البصري وثقه ابن معين. وضعفه في قتادة خاصة ووثقه العجلي والنسائي، وقال أبو حاتم صدوق. وقال ابن سعد : ثقة إلا أنه اختلط في آخر عمره.
قال الحافظ ابن حجر : " ما ضره اختلاطه لأن أحمد بن سنان قال : سمعت ابن مهدي يقول: كان لجرير أولاد فلما أحسّوا باختلاطه حجبوه، فلم يسمع منه أحد في حال اختلاطه شيئاً، واحتج به الجماعة، وما أخرج له البخاري من روايته عن قتادة إلا أحاديث يسيرة توبع عليها .
2 – حجاج بن محمد الأعور المصيصي :
أحد الأثبات، أجمعوا على توثيقه، وذكره أبو العرب الصقلي في الضعفاء بسبب أنه تغير في آخر عمره واختلط. لكن ما ضره الاختلاط فإن إبراهيم الحربي حكى أن يحي بن معين منع ابنه أن يدخل عليه – بعد اختلاطه – أحداً. وروى له الجماعة.
3 – حصين بن عبد الرحمن السلمي :
أبو الهذيل الكوفي متفق على الاحتجاج به إلا أنه تغير في آخر عمره وقد أخرج له البخاري من حديث شعبة والثوري وزائدة وأبي عوانة، وأبي بكر بن عياش وأبي كدينة، وحصين بن نمير، وهشيم وخالد الواسطي وسليمان بن كثير العبدي وأبي زبيد عبثر بن القاسم وعبد العزيز العمي، وعبد العزيز بن مسلك ومحمد بن فضيل.
فأما شعبة والثوري وزائدة وهشيم وخالد فسمعوا منه قبل تغيره. وأما حصين بن نمير فلم يخرج له البخاري من حديثه عنه سوى حديث واحد. وأما محمد بن فضيل ومن ذكر معه فأخرج من حديثهم ما توبعوا عليه.
الصنف الرابع :
رواة ضعفوا بسبب خلل وقع لهم في الأخذ والتحمل كالرواية بالإجازة أو الوجادة أو بسبب خلل في الأداء كالإرسال أو التدليس، ومن أمثلة هؤلاء :
1 – أوس بن عبد الله أبو الجوزاء :
تكلم فيه للإرسال. ذكره ابن عدي في الكامل وحكى عنه البخاري أنه قال : في إسناده نظر ويختلفون فيه، ثم شرح ابن عدي مراد البخاري فقال : يريد أنه يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما لا أنه ضعيف عنده. قال ابن حجر : " أخرج له البخاري حديثاً واحداً من روايته عن ابن عباس. قال : كان اللات رجلاً يلت السويق. وروى له الباقون "
2 – ثمامة بن أنس :
تكلم فيه من أجل روايته من الكتاب، روى عن جده، وثقة أحمد والنسائي والعجلي، وقال ابن عدي : أرجو أنه لا بأس به، وروى عن أبي يعلي أن ابن معين أشار إلى لينه.
قال الحافظ : " قد بين غيره السبب في ذلك وهو من أجل حديث أنس في الصدقات ليكون ثمامة قيل أنه لم يأخذه عن أنس سماعاً، وقد بينا أن ذلك لا يقدح في صحته .
3 – الحكم بن نافع أبو اليمان الحمصي :
مجمع على ثقته. اعتمده البخاري وروى عنه الكثير. وروى له الباقون بواسطة. تكلم بعضهم في سماعه من شعيب فقيل إنه مناولة، وقيل : أنه إذن مجرد. وقد قال الفضل بن غسان سمعت يحي بن معين يقول : سألت أبا اليمان عن حديث شعيب فقال : ليس هو مناولة، المناولة لم أخرجها لأحد، وبالغ أبو زرعة الرازي. وقال لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلا حديثاً واحداً.
قال الحافظ : " إن صح ذلك فهو حجة في صحة الرواية بالإجازة إلا أنه كان يقول في جميع ذلك أخبرنا ولا مشاححة في ذلك إن كان اصطلاحاً له "
4 – خلاس بن عمرو الهجري :
وثقه ابن معين وأبو داود والعجلي. وقال أبو حاتم : يقال وقعت عنده صحف عن علي وليس بقوي. وقال أحمد بن حنبل كان القطان يتوقى حديثه عن علي خاصة. واتفقوا على أن روايته عن علي بن أبي طالب وذويه مرسلة.
وقال أبو داود عن أحمد : لم يسمع من أبي هريرة.
قال الحافظ : روايته عنه عند البخاري، أخرج له حديثين، قرنه فيهما معاً بمحمد بن سيرين وليس له عنده غيرهما
الصنف الخامس :
رواه ضعفوا بسبب المذهب العقدي أو الفقهي :
وهؤلاء لا أثر لتضعيفهم بذلك. إذا كانوا ثقات وقد سبق في المبحث الأول بيان موقف الإمام البخاري من رواية أهل البدع والأهواء وجل من وصف بالبدعة وضعف بسبب ذلك هم مندرجون في هذا الصنف. لكن أذكر هنا بعض الرواة الذين ضعفوا بسبب المذهب الفقهي، فمن هؤلاء :
1 – ربيعة بن أبي عبد الرحمن :
تكلم فيه بسبب الإفتاء بالرأي
قال الحافظ فيه : " ثقة فقيه مشهور، قال ابن سعد : كانوا يتقونه لموضع الرأي .
والبخاري لم يعتمد بهذا التضعيف فقد روى له في صحيحه وكذا سائر الجماعة.
2 – محمد بن عبد الله بن المثني :
أبو عبد الله الأنصاري البصري القاضي، من قدماء شيوخ البخاري ثقة. وثقه ابن معين وغيره، وقال أحمد وغيره : ما يضعفه عند أهل الحديث إلا النظر في الرأي، أما السماع فقد سمع
والبخاري لم يعتد بهذا التضعيف فقد روى له في صحيحه وكذا سائر الجماعة.
فهؤلاء هم أصناف الرواة الضعفاء الذين خرج لهم البخاري في صحيحه. ولقد بيّن العلامة المعلمي كيف يخرج الشيخان للرواة المتكلم فيهم فقال :

" إن الشيخين يخرجان لمن فيهم كلام في مواضع معروفة.
أحدهما : أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذلك الكلام لا يضره، في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.
الثاني : أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذلك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقروناً أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك.
ثالثها : أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما سمع منه من غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنه وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس.
فيخرجان للرجل حيث يصلح، ولا يخرجان له حيث لا يصلح "
وهذا تلخيص جيد لا مزيد عليه.

* * *

المطلب الثالث

مراتب رجال الصحيحين من حيث الضبط

إن رجال الصحيحين ليسوا على مرتبة واحدة من حيث الضبط. ففيهم الحافظ الثقة وفيهم دون ذلك.
وسأسوق من أقوال العلماء ما يدل على ذلك.
قال الإمام الذهبي (ت 748هـ) – رحمه الله – :
" من أخرج له الشيخان أو أحدهما على قسمين :
أحدهما ما احتجا به في الأصول، وثانيهما : من أخرجا له متابعة وشهادة واعتباراً.
فمن احتجا به أو أحدهما، ولم يوثق ولا غمز، فهو ثقة حديثه قوي، ومن احتجا به أو أحدهما وتكلم فيه : فتارة يكون الكلام فيه تعنتاً، والجمهور على توثيقه، فهذا حديثه قوي أيضاً، وتارة يكون في تليينه وحفظه له اعتبار، فهذا حديثه لا ينحط عن مرتبة الحسن التي قد نسميها : من أدنى درجات الصحيح.
فما في " الكتابين " بحمد الله رجل احتج به البخاري أو مسلم في الأصول ورواياته ضعيفة بل حسنة أو صحيحة.
ومن خرج له البخاري أو مسلم في الشواهد والمتابعات. ففيهم من في حفظه شيء وفي توثيقه تردد، فكل من خرج له في " الصحيحين " فقد قفز القنطرة فلا معدل عنه إلا ببرهان بين.
نعم الصحيح مراتب والثقات طبقات فليس من وثق مطلقاً كمن تكلم فيه، وليس من تكلم في سوء حفظه واجتهاده في الطلب كمن ضعفوه، ولا من ضعفوه ورووا له كمن تركوه ولا من تركوه كمن اتهموه وكذبوه ).
وقد سبق إلى هذا الحافظ الحازمي (ت 524هـ). فإنه قال بعد أن قسم الرواة إلى خمس طبقات وجعل الطبقة الأولى مقصد البخاري. ويخرج أحياناً من أعيان الطبقة الثانية.
" فإن قيل : إذا كان الأمر على ما مهدت، وأن الشيخين لم يودعا كتابيهما إلا ما صح، فما بالهما خرجا حديث جماعة تكلم فيهم، نحو فليح بن سليمان، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وإسماعيل بن أبي أويس عند
البخاري ومحمد بن إسحاق وذويه عند مسلم. قلت : أما إيداع البخاري ومسلم " كتابيهما " حديث نفر نسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يرد به حديثهم .
ومعنى هذا أن الإمام البخاري يروي عن الضعفاء الذين لم يصلوا إلى حد الترك ولكن لا يروي لهم إلا ما صح من حديثهم.
وتعرف صحة حديثه بأمرين :
الأول : موافقة هذا الراوي لغيره ومتابعتهم له.
وهذا أمر يلاحظ في صحيح البخاري فإنه يكثر من ذكر المتابعات والشواهد. فإنه يروي الحديث ثم يقول : تابعه فلان وفلان … إذا كان راوية ضعيفاً، أو كان الراوي ثقة لكن وقع فيه اختلاف في سنده ومتنه. كما سيأتي توضيحه في " منهج البخاري في تعليل الأحاديث ".
الثاني : مراجعة أصول الراوي والنظر فيها. فإنه ولو كان ضعيفاً في حفظه فإنه يقبل حديثه الموجود في أصوله. إذا كان الراوي صدوقاً في الجملة. ومثال هذا أحاديث إسماعيل بن أبي أويس.
وهذا المنهج يعرف بمنهج الانتقاء من أحاديث الضعفاء، أي أن حديث الضعيف لا يرد جملة ولا يقبل جملة. وإنما يقبل ما صح من حديثه فقط. كما أن الثقة لا تقبل أحاديثه مطلقاً فيقبل ما أصاب فيه ويرد ما أخطأ فيه.
قال الإمام ابن القيم وهو يرد على من عاب على مسلم إخراج أحاديث الضعفاء سيئي الحفظ كمطر الوراق وغيره : " ولا عيب على
مسلم في إخراج حديثه لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع أحاديث الثقة، ومن ضعف جميع أحاديث سيئي الحفظ. فالأولى : طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية : طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله. وطريقة مسلم. هي طريقة أئمة هذا الشأن .
وهذه هي طريقة الإمام البخاري – رحمه الله – أيضاً ولكن قد يختلف اجتهاد الأئمة في تقدير ضعف الراوي ومرتبته. فقد يكون الراوي ضعيفاً متروكاً عند مسلم بينما يكون عند البخاري ضعيفاً ضعفاً يسيراً محتملاً، أو على العكس كل بحسب اجتهاده وقد صرح الإمام ابن الصلاح بهذا حيث قال :
" شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، سالماً من الشذوذ والعلة. وهذا حد الصحيح، فكل حديث اجتمعت فيه هذه الشروط فهو صحيح بلا خلاف بن أهل الحديث، وما اختلفوا في صحته من الأحاديث : فقد يكون بسبب اختلافهم أنه هل اجتمعت فيه هذه الشروط أم انتفى بعضها. وهذا هو الأغلب في ذلك كما إذا كان الحديث في رواته من اختلف في كونه من شرط الصحيح، فإذا كان الحديث رواته كلهم ثقات، غير أن فيهم أبا الزبير المكي مثلاً أو سهيل بن أبي صالح، أو العلاء بن عبد الرحمن، لكون هؤلاء عند مسلم ممن اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة، ولم يثبت عند
البخاري ذلك فيهم. وكذا حال البخاري فيما خرجه من حديث عكرمة مولى ابن عباس وإسحاق بن محمد الغروي وعمرو بن مرزوق وغيرهم ممن احتج بهم البخاري ولم يحتج بهم مسلم .
وواضح من كلام الإمام ابن الصلاح أن الأئمة لم يختلفوا في حد الصحيح وشرطه المعتبرة وأركانه من : إتقان الرواة، واتصال السند، والسلامة من الشذوذ والعلل، وإنما الخلاف بينهم في تطبيق تلك الشروط على الرواة والأحاديث ومن ثم تختلف اجتهاداتهم، وليس بسبب الاختلاف في الأسس والمنهج كما يفهمه – خطأ – الكثير وإنما الخلاف في التطبيق وتنزيل تلك الشروط.
وقد ظن الكثير أن للبخاري شرطاً خاصاً به في الصحيح، وكذلك أن لمسلم شرطاً متميزاً وكذلك أن لابن حبان ولابن خزيمة شروطاً خاصة بهما وهكذا للحاكم شرط للصحيح خاص به. أي إن لكل إمام وناقد شروطاً في الصحيح تختلف تماماً عن شروط الآخرين وهذا مخالف للواقع العملي التطبيقي عند النقاد، والسبب في الوقوع في هذا الخطأ المنهجي الخطير هو تلك الألفاظ المجملة التي أطلقها الحازمي والمقدسي والحاكم في كتبهم وهم لا يعنون أبداً ما فهمه هؤلاء.
ومن هنا فإن التعريف المتداول للحديث الصحيح وهو : (ما يرويه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه وسلم من الشذوذ والعلة القادحة) فيه قصور إذ لا يشمل أحاديث العدول الذين خف ضبطهم أو بعبارة أخرى لا يشمل أحاديث الضعفاء التي صحت.
ولهذا يرى الحافظ ابن حجر أن يكون تعريف الحديث الصحيح على هذا النحو : (هو الحديث الذي يتصل بإسناده بنقل العدل التام الضبط أو القاصر عنه إذا اعتضد – عن مثله إلى منتهاه – ولا يكون شاذاً ولا معللاً)
وقد استند الحافظ في هذا إلى تتبعه واستقرائه لأحاديث الصحيحين قال – رحمه الله - :
" وإنما قلت ذلك لأنني اعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتم عليها الحكم بالصحة إلا بذلك ثم ذكر أمثلة على هذا (ص 146)
فمن ذلك حديث أبي بن العباس بن سهل بن سعدعن أبيه
رضي الله عنه في ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فرس يقال لها اللحيف. قال أبو عبد الله وقال بعضهم : اللخيف
وأبي هذا قد ضعفه لسوء حفظه أحمد بن حنبل ويحي بن معين والنسائي. ولكن تابعه عليه أخوه عبد المهيمن بن العباس
أخرجه ابن ماجه من طريقه. وعبد المهيمن فيه ضعف. فاعتضد. وانضاف إلى ذلك أنه
ليس من أحاديث الأحكام، فلهذه الصورة المجموعة حكم البخاري بصحته
وكذا حكم البخاري بصحة حديث معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة – رضي الله عنها – أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم : " جهادكن الحج والعمرة ومعاوية ضعفه أبو زرعة ووثقه أحمد والنسائي
وقد تابعه عليه عنده حبيب بن أبي عمرة فاعتضد.
في أمثلة كثيرة قد ذكر الحافظ كثيراً منها في مقدمة شرحه للبخاري ويوجد في كتاب مسلم منها أضعاف ما في البخاري..
وقال الحافظ ابن حجر – مبيناً مراتب الرواة من حيث الضبط – عند الإمام البخاري :
" وأما الغلط فتارة يكثر في الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط، ينظر فيما أخرج له، إن وجد مروياً عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، علم أن المعتمد أصل الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقة فهذا قادح يوجب التوقف فيما هذا سبيله – وليس في الصحيح – بحمد الله، من ذلك شيء، وحيث
يوصف بقلة الغلط، كما يقال سيء الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك .
ومن هنا يتبين لنا أن منهج البخاري في تصحيح الأحاديث هو النظر في الحديث بمجموع طرقه وأسانيده، وليس النظر في خصوص كل إسناد على انفراده، وليس هذا منهجاً للإمام البخاري فحسب بل هو منهج كل المحدثين النقاد كالإمام مسلم والترمذي وغيرهم، لذلك نرى الإمام مسلم يورد في صحيحه بعض الأحاديث التي في إسنادها ضعف ثم يورد لها الشواهد والمتابعات فيكون ذلك الحديث صحيحاً بمجموع تلك الطرق، وكذلك الإمام الترمذي فإنه يورد في كثير من الأحيان أحاديث في رواتها ضعف، ويتكلم على أولئك الرواة فيقول مثلاً : " فلان ليس بالقوي "، أو "ليس بذاك " ونحوها من عبارات التليين، ثم يحكم على الحديث بالصحة أو الحسن أو هما معاً، باعتبار شواهده ومتابعاته لأنه يعقب على ذلك الحكم غالباً بقوله وفي الباب عن فلان وفلان … وشرح هذا الأمر وذكر الأمثلة عليه يطول، ومن ينظر في الجامع الصحيح للإمام مسلم وجامع الإمام الترمذي بتمعن يتبين له ذلك، والذي أركز عليه هو ذكر أمثلة ونماذج من صحيح الإمام البخاري، قواها البخاري وصححها بمجموع طرقها لا بخصوص أسانيدها.
المطلب الرابع

نماذج من أحاديث الضعفاء ومنهج


البخاري في تصحيحها

1 – أحاديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي :
له في البخاري ثلاثة أحاديث، ولو نظرنا إلى ترجمته في كتب الرجال
نجد أنه ليس من الحفاظ المتقنين الذين هم من شرط الصحيح.
فقد وثقه ابن المديني.
وقال أبو حاتم : صدوق إلا أنه يهم أحياناً.
وقال ابن معين : لا بأس به.
وقال أبو زرعة : منكر الحديث.
وأورد له ابن عدي عدة أحاديث وقال : إنه لا بأس به.
فهذا الراوي واضح أنه ليس في الدرجة العليا من رجال الصحيح، بل ليس من رجال الصحيح حسبما استقرت عليه كتب المصطلح، فإن من قيل فيه صدوق يهم، ولا بأس به، فحديثه حسن، ومن قيل فيه منكر الحديث فحديثه ضعيف، إذن فأحاديث الطفاوي تكون ضعيفة ضعفاً محتملاً أو حسنة على الاصطلاح المتداول، والآن ندرس أحاديثه وكيف صححها الإمام البخاري – رحمه الله - .
الحديث الأول :
قال البخاري – رحمه الله - : " ثنا أحمد بن المقدام العجلي ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة قالوا : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا الله وكلوه .
لو نظرنا إلى خصوص سند هذا الحديث لحكمنا عليه بالضعف، وفي أحسن الأحوال بالحسن الاصطلاحي، لكن الإمام البخاري صححه وأورده في صحيحه محتجاً به، والجواب على ذلك أنه وإن كان خصوص سنده فيه مقال لكن له متابعات تقويه وترفعه إلى درجة الصحة، وهذه المتابعات هي :
1 – متابعة أبو خالد الأحمر : وصلها المصنف في كتاب التوحيد، قال البخاري – رحمه الله – " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال : سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قال : قالوا : يا رسول الله إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك يأتونا بلُحْمَانٍ لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال : اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ".
تابعه محمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص.
وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأزدي الكوفي، قال فيه الذهبي : " صاحب حديث وحفظ، روى عباس عن بن معين : صدوق ليس بحجة، وقال علي بن المديني : ثقة، وقال أبو حاتم، صدوق، روى له أحاديث
خولف فيها – هو كما قال يحي : صدوق ليس بحجة، وإنما أوتي من سوء حفظه.
قلت : الرجل من رجال الكتب الستة، وهو مكثر يهم كغيره .
وقال فيه الحافظ : " صدوق يخطئ .
وقد ذكره العقيلي في كتابه الضعفاء، فهو صالح للمتابعة.
2 – متابعة أسامة بن حفص : وصلها المصنف في كتاب الأضاحي، قال البخاري :
" ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أسامة بن حفص المديني عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة – رضي الله عنها – أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن قوماً يأتوننا … ".
تابعه علي عن الدراوردي، وتابعه أبو خالد والطفاوي.
وأسامه بن حفص شيخ لم يزد البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير على ما في هذا الحديث حيث قال : " أسامة بن حفص المديني، عن هشام بن عروة سمع منه محمد بن عبد الله .
ولم يذكره أبو حاتم في كتابه، وقال فيه الذهبي : " صدوق، ضعفه أبو الفتح الأزدي بلا حجة، وقال اللالكائي : مجهول، قلت روى عنه أربعة يعني انتفت عنه الجهالة بذلك، فمثله يصلح للمتابعة.
لهذه المتابعات صحح الإمام البخاري هذا الحديث وأورده في كتابه محتجاً به مستنبطاً منه مسائل في الفقه والعقيدة، وقد أخذ منه الحافظ ابن حجر أن تقوية الحديث الذي يرويه الضعيف إذا كانت له متابعات هو أمر يشهد له صنيع البخاري، قال – رحمه الله – :
" ويؤخذ من صنيعه أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون راويه من أهل الضبط والإتقان أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك، ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك، وصح الحديث على شرطه

الحديث الثاني :
قال الإمام البخاري : " حدثنا محمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي حدثنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطيت مفاتيح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي.
وطريق الطفاوي هذا قال فيه البغوي فيما ذكر عنه الإسماعيلي : " لا أعلم حدث به عن أيوب غير محمد بن عبد الرحمن ، وهذا الحكم من
مثل هذا الإمام له قيمته العلمية لأنه مبني على التتبع والاستقراء لذا لم يذكر الحافظ في مقدمة الفتح متابعات لحديث الطفاوي وكذا لم يفعل في شرحه لهذا الحديث في الفتح، مع سعة إطلاع الحافظ – رحمه الله – وتبحره في معرفة الطرق والروايات، وشدة دفاعه عن الصحيح ورجاله، ومن هنا أستطيع أن أقول إن هذا الحديث لو طبقنا عليه قواعد المصطلح بخصوص إسناده لحكمنا عليه بالغرابة والضعف، لكن الإمام البخاري أورده في جامعه الذي اشترط فيه الصحة معتمداً عليه، والإمام البخاري لم يحكم على خصوص هذا الإسناد وإنما باعتبار ما لهذا الحديث من شواهد منها :
الشاهد الأول : ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه قال : " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بُعثت بجوامع الكلم … .
والشاهد الثاني : ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه قال : " حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بجوامع الكلم ونُصرت بالرعب … .
فهذه الشواهد أو بعبارة أدق هذه المتابعات القاصرة، تدل على أن هذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة يرويه عنه محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب.
ويرويه عن سعيد بن المسيب، ابن شهاب الزهري، ويرويه عن الزهري، إبراهيم بن سعد وعقيل.
وأما محمد بن سيرين فيرويه عنه أيوب، ولم يروه عن أيوب إلا الطفاوي كما تقدم.
فأصل الحديث إذن ثابت وصحيح لا مرية فيه.
لكن ما هو الغرض العلمي الذي دفع البخاري إلى إخراج هذا الحديث من طريق الطفاوي؟ ظهر لي غرضان هما :
أولاً : هذا الإسناد رواته كلهم بصريون، كما صرح به الحافظ وكما يعلم من تراجمهم، إذن فهذا الإسناد وإن كان فيه تفرد محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب، الذي قد يثير شبهة الغرابة، وخاصة أن المتفرد ليس من الحفاظ، لكن لما كان هذا المتفرد إنما انفرد به شيخه وبلديه، والحديث مشهور بالبصرة متداول بين علمائها، فهذه الشهرة تدفع تلك الغرابة الآتية من تفرد الطفاوي به.
ثانياً : هذا الطريق أعلى سنداً من غيره فبين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم خمسة رجال، بينما الطريق الذي أورده في كتاب الجهاد فبينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم ستة رجال، فطريق الطفاوي جمع بين العلو وتسلسل الرواة باعتبار بلدهم وهذا مما يُعنى به المحدثون، ولا يكون هذا كله إلا إذا تأكد لديهم صحة أصل الحديث، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث الثالث فهو حديث ابن عمر " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل .. ".
قال البخاري : " حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي عن سليمان أو عمش قال : حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيميني فقال : كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل .
قال الحافظ : " فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي وهو من غرائب الصحيح وكأن البخاري لم يشدد فيه لكونه من أحاديث الترغيب والترهيب .
" وقد أخرجه أحمد والترمذي من رواية سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل من طريق الحماد بن شعيب عن أبي يحي القتات عن مجاهد، وليث وأبو يحي ضعيفان والعمدة على طريق الأعمش وللحديث طريق آخر أخرجه النسائي من رواية عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر مرفوعاً وهذا مما يقوي الحديث المذكور .
2 – أحاديث فضيل بن سليمان النميري : أبو سليمان البصري، تكلم في حفظه كثير من الأئمة.
قال الساجي : كان صدوقاً، وعنده مناكير.
وقال عباس الدوري عن ابن معين : ليس بثقة. وقال أبو زرعة : لين الحديث.
وقال أبو حاتم : يكتب حديثه وليس بالقوي. وقال النسائي : ليس بالقوى.
وقد لخص الحافظ حاله فقال : " صدوق له خطأ كثير .
فواضح أن مثل هذا الراوي ليس من شرط الصحيح، ومع ذلك نجد الإمام البخاري قد انتقى من حديثه ما يتابعه عليه غيره، منها :
1 – حديثه عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر في إجلاء اليهود.
ساق البخاري سنده فقط في كتاب الحرث والمزارعة وذكر عقبة متابعة ابن جريج من طريق عبد الرزاق معلقاً وقد وصل مسلم طريق ابن جريج، وأخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه بتمامها، وقد ساق البخاري لفظ فضيل بن سليمان في كتاب الخمس.
2 – وحديثه بهذا الإسناد أيضاً في قصة زيد بن عمرو بن نفيل تابعه عليه عبد العزيز بن المختار عند أبي يعلي.
3 – وحديثه عن مسلم بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جابر عمن (ص سمع النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه عليه عند البخاري سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر وسمي المبهم أبا بردة بن نيار.
4 – وحديثه عن منصور بن عبد الرحمن عن صفية عن عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من الحيض … تابعه عليه ابن عيينة ووهيب وغيرهما.
5 – وحديثه عن أبي حازم عن سهل بن سعد في حفر الخندق قال البخاري – رحمه الله - :
" حدثني أحمد بن المقدام العجلي حدثنا الفضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب، وبصر بنا، فقال : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة .
وقد تابعه على حديثه هذا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل.
6 – وحديثه أيضاً بهذا الإسناد " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً … "
بذلك، ولما أنكر أبو زرعة
على مسلم روايته عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري، قال : إنما أدخلت من حديث أسباط، وقطن، وأحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منه بنزول، فاقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات "
وما أجاب به ابن الصلاح عن الإمام مسلم هو نفسه الجواب عن الإمام البخاري.
* * *

تابعه عليه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أيضاً([80]).
فهذه أمثلة ونماذج لم أقصد منها الاستيعاب، وإنما قصدت توضيح منهج البخاري في تقوية أحاديث الضعفاء، وأنه لا يعتمد على خصوص الأسانيد وإنما يحكم للحديث بمجموع طرقه.
والسؤال الذي يمكن أن يُطرح : لماذا يخرج البخاري لمثل هؤلاء الضعفاء مع أن الحديث قد يكون مروياً بإسناد آخر أقوى منه ؟ ونفس الإشكال يُطرح أيضاً على الإمام مسلم.
وقد أجاب الإمام ابن الصلاح عن هذا فقال ما ملخصه :
" عاب عائبون مسلماً بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح.
والجواب : أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها.
أحدها : أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده.
الثاني : أن يكون ذلك واقع في الشواهد والمتابعات.
الثالث : أن يكون صنف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه، باختلاط حدث عليه غير قادح فيما رواه من قبل في زمان سداده واستقامته.
الرابع : أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده برواية الثقات نازل فيذكر العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن
 
عودة
أعلى